تمهيد

«لا يُظهِر الإنسان عظمتَه حين يلمس طرفًا واحدًا، بل حين يلمس الطرفَين معًا في آنٍ واحد، ويشغل كل ما يقع بينهما من فراغ.»

باسكال
(أعمال بليز باسكال، طبعة ليون برونشفيج، القسم السادس، ص٢٦٧، ١٣، الفكرة الثانية، ٣٥٣)
بينما كنَّا نعمل في هذا الكتاب جاءنا النبأ الفاجع بوفاة ألبير كامي في حادثٍ مؤلم.١ قُدِّر للعمل الواعد، الذي قال عنه الكاتب الفيلسوف ذات مرةٍ بعد عشرين عامًا من الجهد والخَلْق المتصل إنه لم يكَد يبدأ بعدُ،٢ أن يُسدل عليه الستار، كما قُدِّر على الباحث أن يكتفي بما وجدَه أمامه، وإن كان أبعدَ الأشياء عن أن يُمثِّل كلمتَه الأخيرة.

إن أعمال كامي وشخصيته — وهو في هذا يزيد عن أيِّ كاتبٍ معاصر — يُمثِّلان وحدةً متكاملة، لا يُمكِن الفصلُ فيها بين الكاتب الروائي والمسرحي، وبين المفكِّر الفيلسوف، بين رجل السياسة، وبين رجل المجتمع والأخلاق؛ فلا يستطيع المرء أن يفصل بين كامي الإنسان الذي ساهم في خلال الحرب الأخيرة في المقاومة السريَّة للاحتلال الألماني مساهمةً فعَّالة، ووقف في عديدٍ من القضايا الاجتماعية موقفَ المُكافِح الباسل، ووضَع نفسَه، كما يقول، في صفوف الضحايا والمعذَّبين والمحتقَرين، وحلَّل الداء الروحي الذي انتشر في كيانِ عصره وحاول أن يجد له الدواء، وعاش في ألوان الصراع التي كابدها جيله إلى حدِّ التوتُّر والتمزُّق، أقول لا يمكن للمرء أن يفصل هذا الإنسان عن شخصياتٍ مثل سيزيف وميرسو وريو، ممن ساروا في طريق الأمانة والعذاب إلى أقصى مداه؛ فمن الخطأ، إن لم يكن من الخطر أيضًا، أن ننظُر إلى الكاتب والمفكِّر بمعزلٍ عن الإنسان الذي يقف على أرض الواقع أو الصحفيِّ الذي ينبض قلبه بمأساة الجيل.

إن المهمة التي حدَّدها كاتبُ السطور لنفسه في هذا الكتاب تخرج عن حدود الدراسة الأدبية والفنية، وتقتصر على استخراج اللحظاتِ الفلسفيةِ في فكر كامي وعَرضِها من خلال التيار الديالكتيكي الذي يدفعُها ويبُثُّ فيها الحياة. وقد كان من الواجب في سبيل ذلك أن يدرس العمل ككل؛ فلا «الغريب» يناقض «الوباء»، ولا «أسطورة سيزيف» تتعارض مع «المتمرد». لا فلسفة المُحال تكون فلسفةً مستقلة مقفلة على نفسها، ولا فلسفة التمرد تنفيها أو تُبطِلها، وإنما الكلُّ وحدةٌ ديالكتيكية متشابكة، تجمع بين الطرفَين المتقابلَين وتؤلِّف بينهما في وحدةٍ عضويةٍ حيَّة ستُحاول الصفحاتُ القادمة أن تكشف عن جوهرها فيما سوف نُسمِّيه بالتوتُّر والتمزُّق، وليس معنى هذا أننا سنُنكِر التطوُّر المستمر في فكر ألبير كامي، وهو ما لا سبيل في الواقع إلى إنكاره، بل معناه أننا سنعتبر هذا التطوُّر لونًا من اتساع الأُفق أو امتداد المجال، تسير فيه حركةُ الفكر من «المُحال» إلى «التمرُّد» ثمَّ من هذا إلى «التضامن»، دون أن تُلغي مرحلةٌ منها المرحلةَ التي تليها، أو تُحاوِل «رفعها»، كما يقول أصحاب المنطق.٣

في هذه الصورة الكليَّة يُصبِح المُحال ضروريًّا ضرورةَ التمرُّد، كما يُصبِح التضامُن بغير التمرُّد على المُحال في أشكاله الميتافيزيقية والتاريخية المختلفة أمرًا يصعُب تصوُّره أو التفكير فيه. بهذا نُحاول أن نفسِّر الفكر من خلال الفكر نفسه، أعني بغير حاجةٍ إلى أن نُضيف إليه أفكارًا أو ألفاظًا أخرى غريبةً عليه، وسوف يرى القارئ، دون حاجةٍ إلى التأكيد من جانبنا، أننا لم نُحاول أن «نُمذهِب» هذا الفكر — فما أبعدَه عن أن يكون مذهبًا مغلقًا مكتفيًا بنفسه! — ولا أن نحشُره في زمرة الفلسفات الوجودية أو فلسفات الوجود، وهو الخطأ الذي يقعُ فيه الكثيرون في هذه الأيام، والذي طالمًا أبعدَه كامي عن نفسه في أحاديثه وكتاباته.

لقد حمَل كامي آلام العصر على كتفَيه، وبيَّن أن التاريخ حقيقةٌ لا سبيل إلى إنكارها، لها من الواقعية والأهمية ما لعناصر الطبيعة نفسها. هي حقيقةٌ قاسية، مريرة، حاسمة، هي السعيُ المستميت الذي يبذلُه الناس كل يومٍ لكي يخلعوا على أحلامهم الشفَّافة شكلًا وصورة،٤ ولا بُد للإنسان الموهوب من الاختيار؛ فإمَّا أن يكون شاعرًا أو مكافحًا. وإذا كانت حياة كامي قد علَّمتنا شيئًا، فقد علَّمتنا أن من الممكن أن يجتمع الشاعر والمكافح في شخصٍ واحد. لقد أثبتَت أن في كل إنسانٍ جزءًا من الأبدية الخالدة وجزءًا من التاريخ المتغير. ولا بد للإنسان من أن يغوص في التاريخ بكُليَّته. إنه لا يستطيع أن يهرب منه؛ لأنه غارقٌ فيه إلى أذنَيه، شاء ذلك أم لم يشأ. وعليه أن يكافح فيه، لكي يحافظ على ذلك الجزء الخالد من طبيعته الذي لا يمتُّ للتاريخ بصِلة؛ فهناك التاريخ، وهناك أيضًا شيءٌ آخر، هو السعادة البسيطة، والجمال الطبيعي، والمشاركة بالقلب والعاطفة في كل ما ينبضُ بالحياة، وكلها جذورٌ عميقةٌ في كيان الإنسان لا يعرف التاريخ عنها شيئًا.٥

بقيَت ملاحظةٌ صغيرةٌ أُحب أن أسوقها بين يدَي هذا الكتاب؛ فلمَّا كان المقصود منه أن يكون بحثًا في الفكر الفلسفيِّ عند كامي لا دراسة في أدبه وفنِّه، فقد رأينا ألا نتعرض للأعمال الأدبية إلا بمقدار ما تُبيِّن الموقف الفلسفي أو تُلقي عليه مزيدًا من النور. ولا شك أن مُحبي أدب كامي وفنِّه سيأسفون لهذا الشر الذي كان لا بد منه، حتى لا يتجاوز الكتاب حدوده المرسومة، ولكن لا شك أيضًا أنهم سيجدون في الترجمات الأمينة التي تتوالى في السنوات الأخيرة على نحوٍ جديرٍ بالحمد والثناء عوضًا عن هذا القصور، كما سيجدون في غيرِ هذه الدراسة ما يُشبِع شوقهم إلى البحث والتفكير.

فلتكُن هذه المحاولة خطوةً متواضعةً لفهمِ واحدٍ من أكثر المفكِّرين في عصرنا الحديث نبلًا وشجاعةً وأمانة، واحد من أولئك الذين يفتخر الإنسان بأنه كان له الشرف أن ينبض قلبه وإياهم في زمنٍ واحد.

١  في يوم الإثنين ٤ من يناير ١٩٦٠م.
٢  مقدمة الطبعة الجديدة لكتابه الأول «الظهر والوجه»، باريس، جاليمار، ١٩٥٨م، ص٣٤٠.
٣  قارن على سبيل المثال كتابه مشكلات معاصرة Actuelles الجزء الأول، التشاؤم والشجاعة، ص١١١.
٤  مشكلات معاصرة، الجزء الثاني.
٥  عن مقدمة بيت الشعب للويس جيو Louis Guilloux; La maison du Peuple.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤