حياة كامي

«إن مملكتي كلها من هذا العالم.»

(الظهر والوجه، ص٦٦)

«منعني البؤس من أن أعتقد بأن كلَّ ما تحت الشمس وكلَّ ما في التاريخ حسن؛ الشمس علَّمَتني أن التاريخ ليس هو كل شيءٍ.»

(مقدمة «الظهر والوجه»)

«لم أستطع أن أُنكر النور الذي وُلِدتُ فيه، ولكنني لم أُرِد في الوقت نفسه أن أهرب من التزامات عصرنا.»

(الصيف: عودة إلى تيباسا)
وُلد ألبير كامي في اليوم السابع من نوفمبر عام ١٩١٣م، في مدينة موندوفي التابعة لمديرية قسطنطينة بالجزائر. كانت أمه تنحدر من أصلٍ إسباني، وكان أبوه لوسيان عاملًا زراعيًّا، قُتل بعد ولادة ابنه الثاني ألبير بأقل من عامٍ واحدٍ في معركة المارن في الحرب العالمية الثانية: «مارن؛ جمجمةٌ مفتوحة. أعمى. أسبوعٌ طويل في صراعٍ مع الموت؛ … كان قد سقط في ميدان الشرف، كما اعتادوا أن يقولوا لها … وفضلًا عن ذلك فقد أرسَل المستشفى العسكري إلى الأرملة شظيةً صغيرة عثَر عليها في جسَده الممزَّق.»١ ورقد الأب في مقبرة سانت-بريوك في مقاطعة بريتاني، بعيدًا عن زوجته التي انتقلَت من موندوفي إلى مدينة الجزائر. لم تكن تملكُ ما تعول به طفلَيها سوى معاش زوجها الصغير وجهد يدَيها. وراحت تعمل في بيوت الأغنياء، تغسل وتنظِّف، ثم تعود إلى مسكنها الضيِّق في حي بلكور المُزدحِم بسكَّانه من العرب والأوروبيين. وفتح الصغير عينَيه على شمس الجزائر الباهرة، وتعرَّف على عادات أهلها وطبائعهم، وشعَر بعاطفة الحُب التي لم تتخلَّ عنه يومًا من أيام حياته القصيرة نحو طبيعتِها الشابَّة وأهلِها الذين لم تُفسِد المدنية فطرتَهم الأصيلة.

ودخل المدرسة الأوَّلية في بلكور عام ١٩١٩م، ليبقى فيها حتى عام ١٩٢٤م، وكان من عادة الأطفال في سنِّه وطبقته الاجتماعية بعد فراغهم من هذه المدرسة أن يلتحقوا بعملٍ يدويٍّ يكسبون منه قوتَ يومهم، لولا أن موهبة الصغير لفتَت نظر أستاذه لوي جرمان الذي اقترح له مِنحةً تُعينه على دخول المدرسة المتوسِّطة. ويظل كامي يتردَّد على هذه المدرسة حتى يحصل على شهادة البكالوريا في عام ١٩٣٠م. ويشترك في فريق كرة القدم، ويهتم بالمسرح، ويطمح إلى دراسة الفلسفة، ويُصاب للمرة الأولى في حياته بالتهاب في الرئة يؤدي إلى إصابته بمرض السلِّ الذي أثَّر على شخصيته وأعماله فيما بعدُ. إنه يصف ذلك بنفسه في مقدمة كتابه الأول «الظهر والوجه» (نور وظل، طبعة ١٩٥٨م): «أضاف هذا المرض بالطبع أغلالًا جديدةً شاقةً إلى الأغلال التي كانت تُقيِّدني بالفعل، ولكنه في نهاية الأمر قد زاد من تلك الحرية التي يتمتَّع بها القلب، وذلك الزهد في اهتمامات الناس الذي حفظَني من كل إحساس بالمرارة.» ودخل الجامعة، وتعرَّف على أستاذه جان جرنييه — وقد قام بتدريس الفلسفة في جامعة القاهرة في عامَي ١٩٤٩م و١٩٥٠م — الذي ظل يعترف بفضله عليه مدى حياته. ويتقدَّم للامتحان النهائي في الفلسفة في جامعة الجزائر، ولكن الفحص الطبي يُعفيه منه مرتَين، وبذلك يحفظُه من احتراف التدريس، كما يدفعه إلى حياة الفن والاشتغال فترةً من الوقت بالصحافة.

ويُعدُّ رسالة «الليسانس» في الفلسفة عن العلاقات بين الهيلينيَّة والمسيحية في أعمال أفلوطين وأوغسطين، ويُقبل على قراءة أبيكتيت، وباسكال، وكيركجارد، ومالرو، وجيد، وبروست، ودستويفسكي، ويشترك في جولةٍ مسرحيةٍ مع فرقة الإذاعة في الجزائر، ويُشارِك في تمثيل المسرحيات الكلاسيكية. ويؤسِّس فرقةً مسرحيةً من الهُواة سمَّاها فرقة ليكيب L’equipe كان يقوم فيها بدور المُمثِّل والمؤلِّف والمُخرِج والمُلقِّن، ويكتشف صوت الفنان في ضميره يُحدِّد له حياته ورسالته، ويعرف أن مصيره قد ارتبط حتى النهاية بالجزائر، أرض الشباب والبحر والشمس التي لا يجد الحزن فيها مكانًا يختبئ فيه، وأن واجبه يحتِّم عليه أن يساهم في بزوغ حضارةٍ جديدة، ذات شخصيةٍ فريدة، يشترك في خلقها العرب والمستوطنون الفرنسيون. لقد استطاع على هذه الأرض نفسها أن يكتشف الحقيقة المزدوجة، أن يُساهِم في أعياد الجمال، وأن يحترق بلهب المأساة، أن يملأ قلبه وعينَيه من دفء الشمس، ويرى مع ذلك ظلَّ الموت يُخيِّم على كل لحظةٍ يعيشها، ويتحدَّى هذه «المغامرة المُفزِعة القذرة» التي ظلَّت تتربَّص به حتى قضت عليه في النهاية.

ويتزوَّج في العشرين من عمره زواجًا لا يلبث أن يفشل بعد وقتٍ قصير، ويدخل الحزب الشيوعي ولكنه يستقيل منه بعد صدور الأوامر إلى أعضائه بتغيير موقفهم من مسلمي الجزائر والكفِّ عن تأييدهم، على أثَر زيارة لافال رئيس الوزارة الفرنسية آنذاك لستالين.

كانت سنواتٍ شاقة، مارس فيها مختلف الحرف الممكنة، واضطُرَّ أن يتخلى عن وظيفةٍ صغيرةٍ في بلدية المدينة، بعد أن كتب تقريرًا عن سكان منطقة القبائل فضح فيه البؤس والتخلُّف والجوع الذي يُعاني منه أهل هذه المنطقة من العرب. لقد رأى ذات صباحٍ في «تيزي أوزو» كيف يتضارع أطفالٌ عرب مع الكلاب على محتويات صندوقٍ من القمامة، وتبيَّن له الفارق الهائل بين أجور العمال العرب والأوروبيين، وراح يُعلِن أن من المُخجِل الزعم بأن شعب القبيلة يعرف كيف يتكيَّف مع البؤس، ومن الخزي الزعم بأنه لا يُحسُّ بنفس الاحتياجات التي يُحسُّ بها الأوروبيون.٢ وتردَّد صدى هذا النداء الإنساني في الأسماع، وأُتيح للناس أن يقرءوا لرجلٍ يُطالِب بالعدل والمساواة بين العرب وبين الفرنسيين، ويرفض أن يعيش أولئك على الصدقات التي يُنعِم بها عليهم هؤلاء، ويستنكرُ الظلم من بلدٍ تعلن أنها تُحارِب الظلم في غيرها من البلاد. ونُشر التقرير في سلسلة مقالاتٍ في صحيفة «ألجيررببليكان» التي اشترك مع باسكال بيا في تأسيسها في عام ١٩٣٨م، والتي وقفَت في شجاعةٍ في وجه السياسة الفرنسية الرسمية في الجزائر، وطالبَت بالمساواة العادلة بين العرب والمستوطنين. لم يكن الأمر في هذا التقرير وفي غيره من المقالات التي نشرها في هذه الجريدة أمر رثاءٍ أو تعاطُفٍ مع المغلوبين، ولا مجرَّد دفاعٍ عن المظلومين والمهانين، بل شيئًا مختلفًا كل الاختلاف؛ فليس في الوجود شيءٌ أهدر للكرامة من رؤية إنسانٍ يُعامل معاملةً منحطةً خالية من الإنسانية، ولكنَّ المستوطنين الذين أعماهم التعصُّب لم يستطيعوا أن يفهموا رسالته، أو يُدرِكوا الأخطار التي يندفعون فيها بوحشيَّتهم وأنانيتهم، فراحوا يُطالِبون بإبعاده عن الجزائر. قال الرؤساء إن التقرير لم يُكتَب بأسلوبٍ إداريٍّ صِرف، ووقَّع الحاكم العام لمدينة الجزائر بالفعل أمرًا بطرد كامي من المدينة، وهو ما يُوازي حرمانه من سُبل الحياة في الجزائر كلها.
واضطُرَّ كامي إلى الرحيل إلى بارس، يحمل وصيةً من زميله باسكال بيا إلى إدارة تحرير صحيفة «باري سوار» التي استطاع أن يُعيَّن فيها مخبرًا صحفيًّا. كان ذلك في ربيع عام ١٩٤٠م، وكانت الحرب العالمية قد اشتعلَت وأوروبا قد أذهلَها الزحف الألماني الذي يَزرَد بلدًا بعد بلد. واحتل الألمان فرنسا. وانتقلَت الصحف إلى داخل البلاد، وانسحب مُحرِّرو «الباري سوار» إلى «كليموفيران» Clemont-Ferran في مقاطعة الأوفيرن Auvergne، ومعهم كامي الذي كان يحمل في حقيبته مخطوطةَ روايته الأولى «الغريب» التي كان يُريد أن يطبعها في باريس. وما لبث أن تخلَّى عن عمله الصحفي؛ لأنه لم يُرِد أن يقف في صف حكومة فيشي المؤقَّتة الذليلة، أو يتعاون مع نظامٍ يكرهه من أعماق قلبه. وترك صحيفة «الباري سوار» ورواح يبحث عن مأوًى في مدينة ليون. وبقي في هذه المدينة ثلاثة شهور، قفل بعدها راجعًا إلى الجزائر ليعيش مع أُسرة زوجته في أوران. واستقبلَته المدينة في غير اكتراث؛ لا عمل، ولا مال، وسخرية القدَر المُعتِم على الكتفَين. ويُسافِر إلى باريس، ويستمدُّ من وحدَته القوة في إتمام أعماله، وانتظار النصر الأدبي الذي يقترب منه.

كانت رواية «الغريب» قد تمَّت، ومسرحية «كاليجولا» تفرض نفسها عليه منذ عام ١٩٣٨م، و«سوء فهم» تنضج في ضميره، والصفحاتُ الأولى من «أسطورة سيزيف» تتزايد يومًا بعد يوم، والمُحال يقيم أسواره الجرداء من حوله. وامتدَّ الاحتلال الألماني لفرنسا أربعَ سنوات، وكامي يتحدَّاه ويُكافِحه في السرِّ والعلن، ويُواجهه بالجبهة النقية، والنظرة الهادئة، والكلمة الشجاعة.

ويستدعي الناشر جاليمار كامي إليه — وكان قد أرسل إليه روايته «الغريب» — ويعرض عليه وظيفة قارئٍ في دار النشر المشهورة. وينضم كامي بطبيعة الحال إلى حركة المقاومة السرية في باريس، ويرأس تحرير جريدة «كومبا» (كفاح)، التي جعلَت شعارها «من المقاومة إلى الثورة». ويظل كامي يكتب مقالاتها الافتتاحية، ويظل الفرنسيون ينتظرونها كل صباحٍ، تدعوهم إلى مكافحة الظلم، وتذكِّرهم بأن يحرصوا على العدل؛ فما من شيءٍ يُهدى إلى الإنسان، والقليل الذي يمكنه أن يغزوه، لا بد أن يدفع ثمنه بالموت الظالم، ولكن عظمة الإنسان لا تكمن في ذلك، بل في إرادته أن يكون أقوى من القدَر البشري، وإذا كان القدَر البشري ظالمًا، فليس أمامه غير وسيلةٍ واحدةٍ ليتغلَّب عليه، وهي أن يكون هو نفسُه عادلًا.

ولكن البلد الذي بدا في مظهر الضحية النقية المقدَّسة مدَّ يده إلى السكين، والمظلوم الذي عانى وطأة الظلم أربع سنواتٍ مريرة لم يلبث أن أمسك بسوط الجلَّاد في مدغشقر والجزائر وفي أعمال الانتقام الوحشي ممن اتُّهِموا بالتعاون مع العدو، وعادت سُحب الكذب والحقد والصراع على السلطة بين الأحزاب المختلفة تتلبَّد في سماء باريس. كان النصر على العدو الخارجي أمرًا سهلًا لا يُقاس إلى النصر على العدو الباطن في النفوس، الذي يستلزم المزيد من الشجاعة والألم ودم القلب. وراح كامي في كتاباته وخطبه وأحاديثه يُدافع عن كرامة الروح، ويُوقِظ في النفوس معنى العدل، ويدعو إلى تجديد الفكر السياسي بالشجاعة والتفاهُم والنُّبل.

ولكن كامي كان يُقاوِم طوفانًا أقوى منه. توقَّفَت صحيفة الكومبا بعد ثلاثة أعوامٍ مشرقةٍ تحت رئاسته، لم تخُن فيها قضيةً واحدة من القضايا التي دافعَت عنها. واستقال من رئاسة تحريرها واعتزل الصحافة، وإن ظل دائمًا يُعبِّر عن آرائه في القضايا الملحَّة في أكثر من مناسبة وفي أكثر من قضية، في مقالاتٍ جمعها فيما بعدُ في كتابه «مشكلات معاصرة» Actuelles، وتكشف جميعها عن جوهره الحق الذي تُلخِّصه كلمة «الأمانة». إنها جميعًا وثائقُ من عصرنا، لم تترك مشكلةً من المشكلات التي تزيد من عذاب البشر في هذا الزمان، بغير أن تُدلي فيها برأي، وبغير أن تفصل بين السياسة والأخلاق، أو قل بغير أن تُحاول إعادة السياسة مرةً أخرى إلى حَرَم الأخلاق. إنه يستنكر العنف والطغيان في كل صُوَره وفي أي معسكرٍ كان، كما يستنكر كل فعلٍ يؤدي إلى موت الإنسان، مهما تكُن طبيعة الأسباب التي تُساق دائمًا لتبريره. بهذه الروح العادلة المطلَقة عالج مشكلات التسلُّح الذري والحرب الباردة واستنكَر الإرهاب الاستعماري في مدغشقر والجزائر، وأيَّد الثورات الوطنية في قبرص وألمانيا الشرقية والمجر وبولندا، واحتجَّ على الرعب في كل صُوَره وأشكاله، لا يكتفي بتأكيد المبادئ، بل يُقدِّم دائمًا الحلول العملية المباشرة المعتدلة.
كان كامي يحمل في كيانه كل صراعات العصر ويتجاوزُها بفضل الحماس المتوهِّج الذي عاناها به. وكان حسُّه الأخلاقي الشجاع، كما قال له سارتر في رسالته المشهورة بعد النزاع الذي نشب بينهما،٣ يذكر الناس بأنه آخرُ خلفاء شاتوبريان وأكثرُهم موهبةً، وأنه يقف في صف الأخلاقيين الفرنسيين الكبار في القرنَين السابقَين، بجدِّه وحكمتِه وجُرأته. وأَلِف الناسُ كلماتٍ مثل العدل والأمل والعظمة والنُّبل تخرج من فمه وتسيل من قلمه، وتُبشِّر بسعادةٍ بشريةٍ من نوعٍ جديد، وإن كان القدَر الإنساني القاتم الأليم لا يغيب عن أُفقها لحظةً واحدة.

وظهَرَت في عام ١٩٤٧م رواية الوباء معبِّرة عن مأساة العصر، واضعةً أحداثه في إطار الأسطورة أو الرمز المتحرِّر من الزمن والمكان، الذي يتطلَّبه كل عملٍ فنيٍّ صادق. وكانت الرواية بفصولها الخمسة الكبرى تراجيديا أكثر منها رواية بالمعنى المألوف، ولعل ذلك هو سِرُّ عظمتها ونجاحها في آنٍ واحد.

ولكن الطوفان كان أقوى منه كما قدَّمنا، والعصر بدا كأنه قد أفلَت من كل حدٍّ وفقَد النظرة الموضوعية للأمور، وسار كالأعمى على الشعار المألوف: الغاية تبرر كل وسيلة. وتتابَع الهجومُ عليه من اليمين واليسار، من المحافظين والماركسيين بل ومن أولئك الذين هبَّ للدفاع عن حقوقهم. ونَشِب النزاع المؤسف المشهور بينه وبين صديقه سارتر، هذا يتهمه بأنه برجوازيٌّ رجعي، وذلك يردُّ عليه بأن يُهادِن الشيوعيين والأمريكيين، ويزِن بميزانَين في آنٍ واحد. وامتَدَّ النزاع فصار هجومًا مُرًّا على صفحات مجلة «سارتر» «الأزمنة الحديثة» على كتاب كامي «المتمرِّد» وأُلقيَت التُّهَم الشخصية عليه ممَّا أدمى قلبه بجراحٍ عميقة، وأثَّرَت فيه تأثيرًا جعله يأوي إلى الوحدة والصمت طوال أعوامٍ طويلة. لم يكَد يخرج عن هذا الصمت إلا ليُظهِر روايته الفريدة «السقطة» (١٩٥٦م)، ويُعِدَّ اقتباساتِه المسرحية لرواياتٍ من فولكنر (جناز لراهبة) ودستويفسكي (الممسوسون)، ويُعيدَ كتابة وإخراج مسرحيات لكالديرون (التبتُّل للصليب) ولوب دي فيجا (فارس أولميدو)، ويدوِّنَ الصفحات الأولى من روايةٍ جديدةٍ لم تتم (الإنسان الأول)، ويخطِّطَ لمسرحيةٍ جديدةٍ لم تَتِم أيضًا «دون جوان».

كان فيما يبدو قد نفَض يديه إلى الأبد من متاعب السياسة العفِنة، وأقبل بكل كيانه على الواجب الأساسي لكل كاتبٍ فنان، ألا وهو الخلق والإبداع، وتتابعَت الأزمات الشخصية عليه، وهاجمه داء السُّلِّ القديم في عام ١٩٤٩م زمنًا طويلًا، وتوالَت الصدمات والمتاعب فألجأَته إلى الوحدة الإسبانية الراقدة في أعماق قلبه، التي لم يكن يخرجُ منها لحظاتٍ إلا ليقفل راجعًا إلى جزيرته، على حدِّ قوله في مذكِّراته اليومية لعام ١٩٥١م.٤

ولكن المُتوحِّد الغائب كان حاضرًا دائمًا في أذهان الناس وفي قلوبهم. كانوا في كل حدثٍ يقابلهم يسألون أنفسهم تُرى ما هو رأي كامي؟ ماذا عساه سيقول الآن؟

غير أن كامي لم يُقدَّر له أن يقول كلمته الأخيرة؛ ففي يوم الإثنين الرابع من يناير عام ١٩٦٠م، وفي الساعة الثانية والربع ظهرًا، اصطدمَت عربةٌ تسير في سرعةٍ مجنونةٍ على طريق سانس باريس بشجرة اصطدامًا مُروِّعًا. وبين حُطام العربة عثَر الناس على امرأتَين في حالة إغماء، وسائقٍ جريحٍ مات بعد الحادث بأربعة أيام — وكان هو الناشر ميشيل جاليمار — ومسافرٍ رابعٍ مات للحظته، كانت عيناه قد برزَتا قليلًا، والدم تناثَر على رقبته، وعلى وجهه أماراتُ الهدوء والدهشة. وحين فتَّشوا جيوبه وجدوا فيها تذكرة سفر بالسكة الحديدية لم يستعملها صاحبها، كما قرءوا في بطاقته هذه الكلمات: «ألبير كامي. كاتب. وُلِد في ٧ نوفمبر ١٩١٣م، في موندوفي، مديرية قسطنطينة.»

وكأن الناس لم يتَّحدوا في ذلك اليوم في شيءٍ كما اتَّحدوا في حزنهم على كامي. وكأن صرخةً واحدة هي التي خرجَت من بين شفاههم: هذا الموت الظالم. هذا الموت المُحال.

١  ألبير كامي، بين نعم ولا، في المقالات الأدبية، نور وظل، (الظهر والوجه).
٢  راجع في هذا كله مورفان ليبسك، ألبير كامي (نُشرَت الطبعة الألمانية التي بين أيدينا في عام ١٩٦٠م لدى الناشر (روفولت، هامبورج).
٣  جان بول سارتر، «الأزمنة الحديثة»، أغسطس ١٩٥٢م، ص٣٤٥، ٣٤٦.
٤  عن نص أوردَته جرمين بريه في كتابها «ألبير كامي»، ص٥٧، نيوبرونشفيك، مطبعة جامعة رتجرز، ١٩٥٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤