خاتمة

حاولنا في هذا الكتاب أن نستخلص اللحظات الفلسفية في فكر ألبير كامي وأن نعرضها من خلال تطوُّرها العام في صورةٍ كليةٍ شاملة. وقد يتبيَّن لنا الآن أن من الخطأ أن ننظر إلى التطور الفكريِّ عند كامي كما لو كان يسير في خطٍّ مستقيم، يرتفع من المُحال إلى التمرُّد، ومن التمرُّد إلى التضامُن. كما أن من الخطأ أن ننظر إلى هذا التطوُّر وكأن التمرُّد ينتصر على المُحال ويُلغيه إلغاء؛ فالواقع أن هاتَين اللحظتَين يرتبطان ببعضهما ارتباطًا وثيقًا، ويكوِّنان ذلك التوتُّر الأساسيِّ الذي يُضفي على الكل طابعه الديالكتيكي. والذي يتحقَّق بالفعل هو ما شئنا أن نسمِّيه بالاتساع في المجال، الذي يبرُز فيه الإيجاب من النفي نتيجةً للالتقاء مع الواقع الجديد، بكل ما يحمل من مشكلاتٍ وأسئلةٍ جديدة.

الأمر إذن، كما نرجو أن يكون قد تبيَّن بوضوحٍ من الصفحات السابقة، هو أمر ديالكتيك، أو منهجٍ جدلي، يُعدُّ في حقيقته بحثًا متصلًا مُعذبًا عن التوازُن في المركَّب والتأليف.١ وإذا كان كامي لم يصف نفسه في أي موضعٍ من كتاباته بأنه مفكرٌ ديالكتيكي بالمعنى المنطقيِّ لهذه الكلمة، فقد كان من اليسير دونما حاجةٍ إلى مزيد من الجهد أو حدَّة النظر أن نتتبَّع الطابع الديالكتيكي الذي يميِّز تفكيره الفلسفي في كل مراحله.
لقد رأينا كيف أن فلسفة كامي تبدأ من التناقُض وتتلقَّى منه دفعة الحياة. ولم يكن هذا التناقُض من النوع المنطقي الصوري، بل كان تناقُضًا ديالكتيكيًّا وجوديًّا، تناقضًا مُعاشًا ممزقًا للقلب، هو نقطة انطلاق الفكر الفلسفي وقمته في آنٍ واحد. إن النفي كامنٌ في صميمه، ولكنه النفي الذي ينطوي في ذاته على الإيجاب ويُظهِره للوجود؛ فكل نفيٍ يحتوي على ازدهار النَّعم،٢ وكل «لا» تفترضُ وجود «نعم» سابقةٍ عليها.٣
كان المُحال سالبًا ونافيًا بمقدار ما كان يُمهِّد الطريق للوصول إلى يقينٍ واضحٍ بيِّن، ويُعدُّ الوجدان للوعي بقيمةٍ كليةٍ شاملة، وأعني بها الطبيعة الإنسانية. وكان التمرُّد سالبًا ونافيًا، بمقدار ما بيَّن لنا من خلال الحركات الثورية في تاريخها الطويل ما يُخالِف حقيقتَه، أي ما ليس بتمرُّد. ومرَّت أمام أبصارنا صور التمرد التي انبثقَت في الأصل منه، ثم ما لبثَت بعد ذلك أن حادت عنه وانحرفَت إلى التمرُّد الميتافيزيقي والثورة التاريخية. وهكذا لم يتيسَّر لنا أن نتعرَّف على حقيقة التمرُّد إلا بعد التعرُّف على كذب الثورة.٤
إن فكر كامي الفلسفي يؤكِّد وينفي، ويوافق ويرفض في آنٍ واحد. إنه يحاول أن يحافظ على الحدِّ والمقياس الذي يحقِّق التوازن بين الطرفَين المتضادَّين.٥ فالثنائية الأصيلة المشحونة بالتوتُّر، ثنائية النعم واللا، والوجود والتحول، والذات والموضوع، والحياة والموت، والسعادة والمأساة، والحب للحياة واليأس منها، والنور والظل، والحد والانفلات من كل الحدود، وفكر الظهيرة وفكر منتصف الليل، والديالوج والمونولوج، والبحر والسجون … إلخ.٦ هذه الثنائية الحاسمة للحظتَين متضادتَين هي التي تكوِّن علاقة التوتُّر الديالكتيكي الكامنة في الوجود نفسه، التي سمَّيناها بالتمزُّق، وقلنا عنها إنها هي جوهر التمرُّد. إن كل لحظةٍ منهما تشغل مكانها داخل توتُّرٍ ذي قطبَين، لا تتلقى معناها من ذاتها وحدها، بل تتلقاه كذلك من القطب المضاد لها، أو من علاقة التضادِّ نفسها. هذا الاستقطاب الديالكتيكي يتخلل أعمال كامي ويطبعُها بطابعه. إن في الحرمان الامتلاء، كما أن في الفرحة اليأس، وفي مُحالية الحياة زيادة الإقبال على الحياة، كما أن في النفي التأكيد، وفي التمرُّد الموافقة والترحيب. وما المُحال والتمرُّد سوى قطبَين متقابلَين لنفس علاقة التوتُّر الديالكتيكي التي لا سبيل إلى رفعها أو التغلُّب عليها.
يعلِّمنا الديالكتيك أن الوحدة تأتي بعد التضاد.٧ والحقُّ أننا نلمح في تفكير كامي محاولةً تهدف إلى تحقيق المركَّب الخلَّاق،٨ تتبيَّن لنا في الديالوج وفي الإبداعِ الحيِّ في مجالات الفن والعمل والأخلاق. غير أن هذه المرحلة الثالثة والأخيرة من كل تطورٍ ديالكتيكي، التي تسعى إلى الوصول إلى وحدة الأضداد في الفكر والشعور، وتبغي حلَّ المتناقضات في التاريخ والفن، مرحلةٌ لم يصل إليها تفكير كامي ولا كان في استطاعته أن يصل إليها؛ فطبيعة تفكيره نفسها تحول بينه وبين بلوغ الانسجام بين الأضداد أو التخفيف من حدَّة الصراع الناشب في قلب الوجود نفسه. إن الحقيقة تتطور فيه على نحوٍ ديالكتيكيٍّ وجودي، يُعبِّر عن قلق الفكر المتمرد الذي يُصارع المُحال في مظاهره الميتافيزيقية والتاريخية المختلفة؛ ومن ثَم كان تفكير كامي في صميمه محاولةً لغزو هذه الحقيقة التي تُعذِّبه في كل لحظة غزوًا متجددًا، وإلقاء الضوء عليها بكل ما يملك من وسائل الفن والتعبير.٩

هذه الحقيقة تتكشَّف من خلال الصراع الدائم بين التمرُّد والمُحال. وليس المُحال والتمرُّد — وما هما بالرفض المطلَق ولا الموافقة المطلَقة بل ينطويان عليهما جميعًا — في نهاية الأمر إلا التمزُّق المتصل الذي يُعانيه الإنسان الباحث عن التوازُن في عالمٍ يفيض بالاضطراب، وعن الحدِّ والمقياس في عصرٍ أفلَت من كل حدٍّ ومقياس. إنهما معًا يظلان أسيرَي علاقة التضاد الحادة التي أشرنا إليها.

إن الموقف المُحال الذي يُحيط بالوجود الإنساني والتمرُّد المتصل عليه يتميَّزان بطابع التضادِّ الأساسي. وكون هذا التضادِّ لا يقبل «الرفع» هو الذي يميِّز طبيعته. وكل من يقبل الموضوع ويرفضُ نقيضه إنما يُهدِر معنى الموقف الإنساني كله. وكل من يحاول الوصول إلى مركَّب التأليف، إنما يُحطِّم في الوقت نفسه هذا الموقف ويُفقِده معناه. وليس للموقف من معنًى إلا أن يُعاش التضادُّ فيه بكل ما ينطوي عليه من حدة وتوتُّر؛ فالحياة في المُحال (الذي يشتمل دائمًا على بذرة التمرُّد) معناها الحياة في التمزُّق، فما الحياة نفسها إلا هذا التمزُّق.١٠
بهذه النظرة تكون الحياةُ محاولةً متصلةً يبذلُها الإنسان لكي يحافظ على هاتَين القوتَين المتضادتَين المتصارعتَين، ونعني بهما العاطفة الملتهبة للحياة والوعي الناصع بمُحاليتها. وليست حقيقة الوجود، المقتصر بكليته على حدود هذه الأرض — فليس خارج هذا العالم نجاة١١ — إلا الوحدة التي تتألَّف من اجتماع الضدَّين؛ النفي والتأكيد، الرفض للواقع والموافقة عليه؛ أي المُحال والاحتجاج الواعي عليه عن طريق التمرُّد. وها هو وكامي يعلن للمرة الأخيرة عن غُربة الإنسان في العالم وعُرس زفافه عليه، عن عاطفته المتحمِّسة للحياة وكرهه العنيد للموت، عن عظمة الإنسان وعن تعاسته: «هنالك عرفتُ كيف ترقدُ الموافقة في صميم تمرُّدي.»١٢
مثلما يجتمع السكون والحركة في القوس المشدود، كذلك يتلامس الطرفان هنا في آنٍ واحد، ولعلنا لا نجد شيئًا يُعبِّر عن فكر كامي خيرًا مما تُعبِّر عنه فكرة باسكال التي يقول فيها: «إن الإنسان لا يُظهِر عظمتَه حين يلمس طرفًا واحدًا، بل حين يلمسُ الطرفَين معًا في آنٍ واحد، ويشغل كل ما يقع بينهما من فراغ.»١٣
١  بسبالوف، عالم المحكوم عليه بالموت، في مجلة «أسبري»، السنة الثامنة عشرة، يناير ١٩٥٠م، ص١٦.
٢  أعراس، ص٨٩.
٣  مشكلات معاصرة، الجزء الأول، ص٢٢٩.
٤  قارِن الرسالة الثانية إلى صديقٍ ألماني: ربما سألت: «ما هي الحقيقة؟ نعم، ولكننا نعلم على الأقل ما هو الكذب. وربما تسأل: وما هي الروح؟ ولكننا نعرف العكس المقابل له، وذلك هو القتل» (رسائل إلى صديق ألماني، ص٤٢).
٥  إن ثنائية الذات والموضوع مثلها مثل غيرها ثنائيةٌ لا سبيل إلى ردِّها، كما يقول الفلاسفة، أو لا سبيل إلى التغلُّب عليها؛ فالموضوع يظلُّ بالنسبة للذات الإنسانية التي يهدِّدها ظل الموت على الدوام شيئًا لا سبيل إلى مناله، اللهم في لحظاتٍ قليلةٍ نادرةٍ وعابرة؛ ولذلك تحاول نماذج المُحال، وبالأخص دون جوان والغازي، أن تنتزع من يد الموت القاسية أقصى ما تستطيع انتزاعه، وأن تسعى إلى المزيد من الحياة والمزيد من الامتلاك لكل ما هو فانٍ بطبيعته؛ دون جوان عن طريق الحب الذي لا يرتوي، والغازي عن طريق الفعل الذي لا يمتلك. أما فيما يتعلق بسيزيف وبصورته الحديثة التي تنعكس في الدكتور ريو فهمًا لا يملكان في الواقع أية موضوع؛ إذ إن الموضوع يسيل من أيديهما إن صح هذا التعبير. إن الصخرة لا تكاد تبلُغ القمة حتى تتدحرج إلى الوادي من جديد، وعلى سيزيف أن يدفعها إلى القمة مرةً بعد مرة؛ فموضوعه قريبٌ منه وبعيدٌ عنه في آنٍ واحد. والدكتور ريو يبذل كل ما في وسعه لكي يشفي الناس من مرض لا شفاء منه في الحقيقة. إنه يعلم ما خفي على الجماهير الفرِحة المتهلِّلة والذي يعلمه هو أن ميكروب الوباء لا يموت أبدًا. كلاهما إذن إنسانٌ أمين في مفهوم كامي. وأمانتهما في أنهما يُكرِّران عملًا يعرفان سلفًا أنه لا فائدة فيه ولا مخرج منه. هذه المُحالية التي تتميز بها أفعال معظم الشخصيات عند كامي هي التي تحول بينهم وبين الانتصار الكامل على ثنائية الذات والموضوع.
٦  عنوان كتاب عن كامي لروجير كوييو، ظهر في دار النشر جاليمار، باريس، ١٩٥٦م.
٧  روبرت هايس، ماهية الديالكتيك وأشكاله، ص١٥١.
٨  المتمرد، ص٣٣٧.
٩  حديث في السويد (ألقاه على طلبة جامعة استكهولم، في ١٠ ديسمبر ١٩٥٧م، بمناسبة الإنعام عليه بجائزة نوبل)، ص٥٤–٥٦.
١٠  قارن على سبيل المثال أسطورة سيزيف ٣٨، ٧١؛ والمتمرد، ص٣٠٨، ٣٥٣، ٣٧١–٣٧٢؛ والوباء، ص٢٦٦–٢٦٧؛ وسوء فهم، الفصل الأول، المشهد الرابع.
١١  أعراس، ص٩٩.
١٢  أعراس، ص٩٢.
١٣  أعمال بليز باسكال، الفكرة رقم ٣٥٣، نشرة ليون برنشفيج، القسم السادس، ص١٣، ٢٦٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤