الفصل الثاني

الانتقال إلى التمرُّد

تمهيد

«العالم جميل، وخارجه لا تُوجد ثمَّة نجاة.»

«أعراس»

«العالم، العذاب، الأرض، الأم، الناس، الصحراء، الشرف، البؤس، الصيف، البحر.»

(ردٌّ على سؤالٍ وجِّه إلى كامي عن الكلمات العشر التي أحبها أكثر من غيرها)

(١) الوعي في التمرُّد المُحال

  • (أ)

    الوعي بوجهٍ عام.

  • (ب)

    الوعي بالمُحال يفترض وجود التمرُّد.

  • (جـ)

    الوعي في قصة «الغريب».

  • (د)

    منطق المُحال عند كاليجولا.

(أ) الوعي بوجهٍ عام

رأينا كيف يقتصر كامي في أعماله الأُولى على الوصف الخالص للتجربة الإنسانية، سواء في ذلك أكانت الذات واعيةً بهذه التجربة (كما في «أعراس»)، أو كانت لا تصل إلى مثل هذا الوعي إلا في حالاتٍ نادرةٍ وربما لا تصل إليه أبدًا (كما في «الغريب» الذي يعيش في التجربة الخالصة، ويجد في هذه المعيشة تحقيق حياته). على أن الإنسان يسأل نفسه بإزاء كلمة التجربة الخالصة: ألا تفترض هذه التجربة، لكي تظهر أصلًا في خلوصها وصفائها، درجةً معينة من الوعي والشعور،١ ثم ألا يحتاج هذا الوعي أو الشعور إلى أن يعمد الإنسان بإزائه إلى نوعٍ من الاختيار الفلسفي بين ممكناتٍ عدة حتى يميِّز الخالص من غير الخالص؟ إن وصف التجارب الإنسانية في تفكُّكها وزوالها يجعل من السهل على المرء أن ينتهي إلى القول بأنها مُحال. ومع ذلك فإن كل هذا يتوقَّف على ما نفهمه تحت كلمة التجربة.
الواقع أن من الصعب تحديدَ المقصود من هذه الكلمة، خاصةً إذا تذكَّرنا ما يقوله كامي من أن التجربة لا يمكن تحديدها، وإنما يمكن تجربتُها فحسبُ بحيث لا يستطيع الانسان أن يُحدِّدها حتى يكُف عن تجربتها. وإذا أردنا أن نوضِّح المراد من تصوُّر التجربة عند كامي وجب علينا أن نستبعد اتجاهَين متطرفَين:٢
  • (أ)

    أوَّلهما أن نفهم التجربة باعتبارها المتلقَّى من الخارج؛ ذلك أننا نكون هنا بإزاء عيانٍ تجريبي، الإنسان فيه لا يزيد على أن يكون مجرد متلقٍّ سلبيٍّ، تشُده الإحساسات الخالصة إليها وتُغرِقه المدركات الحسية بطوفانها، فالتجربة بهذا المعنى حالةٌ وجدانية.

  • (ب)

    وثانيهما أن نفهم التجربة على أنها بناءٌ عقلي؛ فنحن هنا نكون بإزاء عيانٍ مثاليٍّ أو رؤيا عقلية ترفع الأشياء — إن صحَّ هذا التعبير — أو تستبعدها، وتُحيل التجربة إلى نشاط عقليٍّ داخلي، فالتجربة بهذا المعنى فعلٌ عقلي.

وفي كلتا الحالتَين نكون بصدد نوعٍ من العزل أو الاستبعاد؛ فالإنسان في الحالة الأولى شيء بين الأشياء، وهو في الحالة الثانية ذاتٌ بين الذوات. وكلاهما على انفرادٍ يُلغي الوجود الحق. أما التجربة عند كامي فهي تضع نفسها بين الطرفَين، وتجمع الاتجاهَين. إنها هي علاقة الموجود بالعالَم أو علاقته بنفسه عن طريق توسُّط العالم بينه وبينها. وقد يشعر الإنسانُ بهذه العلاقة شعورًا واعيًا وقد لا يشعُر بها. على أن كل تجربة، تستحق هذه التسمية، إنما تفترض في الحقيقة نوعًا من الفاعلية العقلية، فإذا أراد الإنسان أن يصف المُعطَى الخالص بما هو كذلك؛ أعني قبل كل وعيٍ بالمُحال (كما حاول كامي في أعماله الأولى وفي قصة الغريب وإلى حدٍّ ما في أسطورة سيزيف) فلا بد له بالضرورة من أن يُسقِط أحد طرفَي هذه العلاقة؛ إذ إن هذه العلاقة لا يمكن الشعور بها إلا في الوعي. ومعنى هذا أننا سنُحاول عندئذٍ أن نستبعد «الفعل» لصالح «الحال»، ونستبعد النشاط العقلي لنُبقي على الإحساس الخالص. ومع ذلك فلن نستطيع أن نسلُك كامي في عداد الإحساسيين والتجريبيين. حقًّا إن عالمه هو عالم «الأجساد والنجوم»، والصور والألوان والأنغام، ولكنه وإن كان يبدأ من الإحساس والمدركات والصور الحسيَّة إلا أنه لا يريد أن يُقيم منها مذهبًا أو نظامًا يُفسِّر النزعة السيكولوجية فيها أو يُبرِّرها، وذلك هو أهم ما يميِّزه عن أولئك التجريبيين والحسِّيين. إن تجريبيته تظل تُعاني من حكمٍ ميتافيزيقيٍّ سابق؛ فهو منذ البداية يعُدُّها صادقةً وكاذبةً في آنٍ واحد. إنه يتبع، كما رأينا من قبلُ، منهجًا ظاهريًّا (فينومينولوجيًّا) يُحاول به أن يصف الظواهر خالصة من كل حكمٍ عقلي، مبُرَّأة من كل معرفةٍ سابقة، ولكن هذا المنهج نفسه يظل مُعوقًا منذ البداية؛ لأنه يؤكِّد الواقع وينفيه، ويرى بقاءه وزواله في آنٍ واحد. هذه النزعة التجريبية لا يمكن أن يكون لها هدفٌ آخر غير تبرير الأخلاق الكَميَّة، التي نعلم أن عالمها عالم مُحال، وأن هدفها تمرُّد مُحال كذلك.٣
من هذا كله نرى أن الوعي بالمُحال كان حاضرًا على الدوام، حتى في تلك اللحظات التي أردنا أن نقصُر أنفسنا فيها على المعطى الخالص، والتجربة المُعاشة البحتة. غير أن الوعي بالمُحال لم يكن ذلك الوعي الحقيقي الذي يعرف نفسه ويُدرِك حدوده وطاقاته. والأَولى أن يُقال إنه كان نوعًا من الانتباه الخالص للظواهر السابقة عليه: «إنني أتنفس السعادة الوحيدة التي أملك القدرة عليها، وعيًا منتبهًا صديقًا.»٤ لذلك لم يكن التمرُّد، الذي كان يكمن في الوعي منذ البداية، تمرُّدًا حقيقيًّا، بل تمرُّدًا مُحالًا، كما سنوضِّح ذلك فيما بعدُ.
وهنا ينبغي علينا أن نُلاحظ أن كامي لا يهتم بالتأمُّلات الذاتية، ولا يعبأ بالبحث الموضوعي عن الواقع الذي يقع وراء التجربة الواعية. إن ما يهمُّه قبل كل شيءٍ هو الاتصال الشخصي بالموجود؛ فالحقائق التي يريد أن يتوصَّل إليها ينبغي أن تكون من ذلك النوع الذي يمكن أن يقبض الإنسان عليه بيدَيه. ليست حقائقَ أبدية بل يمكن أن تفسد وتموت في نهاية الأمر.٥ والإنسان بعد كل شيءٍ موجود من لحمٍ ودم ووعي، يحتل مركز الصدارة من تفكير كامي، ويهبُه حماسة الحياة وحرارة الانفعال بها.

ولكن ما هو هذا الوعي الذي تحدَّثنا عنه فطال الحديث؟

إنه ليس من هذا العالم. ليس جزءًا منه، كما تكون الشجرة بين الأشجار، أو القطة بين الحيوانات.٦ وليس شيئًا من الأشياء، ولا موجودًا من الموجودات. وقد نتصوَّر حين نستحضر في أذهاننا العبارة التي أوردناها من قبلُ ونعني بها: «كل شيءٍ يبدأ بالوعي، وما من شيءٍ له قيمة إلا من خلال الوعي.»٧ أن في وسع الإنسان أن يعلو فوق العالم عن طريق الوعي، ولكننا نُخطئ التصوُّر كما نُخطئ في التقدير؛ ذلك أن الوعي لا يقف بمفرده؛ فلا هو «الوعي الخالص» الذي يتحدث عنه كانْت، ولا هو «الوعي المطلق» الذي تعتبر المثالية الألمانية أنه هو الوجود الحق ولا شيء سواه، ولا يمكن أن ننسبَ إليه حقيقةً ميتافيزيقيةً من أية نوع؛ فليس الوعي غير الاتصال بالعالم وبالجسد. إنه — إن جاز التعبير — هو عين الجسد المعذَّب واللحم المستسلم لمباهج الإحساسات الخالصة؛ فعلى أعلى قمة النشوة يصبح اللحم واعيًا.٨ إن مجال الوعي هو اللحم، وبعدَه لا يتعدَّى الجسد.

ولكن كيف يصبح هذا الوعي وعيًا بالمُحال ومن ثَم وعيًا بالتمرُّد؟

(ب) الوعي بالمُحال يفترض التمرُّد

استطعنا حتى الآن أن نتبيَّن اللحظات التالية على طريق الوعي بالمُحال:٩
  • (١)

    الحياة عذابٌ وتمزقٌ، ولكي يُتاح للمُحال أن يحيا، دون الرضا به أو الموافقة عليه، ينبغي أن يبقى الوعي حيًّا. وكان أن رفَض الانتحار رفضًا حاسمًا. وكان الموقف الوحيد الممكن إزاء المُحال هو مواجهته مواجهةً تنبض بالتوتُّر وتفيض بالقلق والتمزُّق.

  • (٢)
    الحرية عنادٌ وتحدٍّ.١٠ هي حرية «كما لو …»١١ وأُفقها الممكِن هو الحاضر، باعتباره الجهة modalité الأساسية للزمن. والنفي الحاسم للأبدية يتحول إلى تجربةٍ وجودية ﺑ «الأبدية الفانية»، أبدية اللحظة العابرة. والوعي بالمُحال يُحرِّر الإنسان من كل خضوعٍ لمعنًى متعالٍ ويُعلِن عُرس زواجه بالعالم. بهذا الوعي يرتبط رفضُ الإنسان لكل متعالٍ (ترانسندنس) ولكل أملٍ فيما هو خالد وباقٍ وراء الزمان.
  • (٣)
    التمرُّد الذي يضع العالم في كل لحظةٍ موضع السؤال، لا لكي يُنكِر هذا العالم أو ينفيَه، بل لكي يزداد له امتلاكًا وبه إحساسًا ويبسط ذراعَيه على التجربة بأكملها.١٢
  • (٤)
    هذا التمرُّد حاضرٌ في تفكير كامي منذ البداية. ولقد رأينا كيف اجتمع الظل والنور واللا والنعم، والنفي والإيجاب، وحب العالم واليأس من فَنائه في وحدةٍ ديالكتيكية متشابكة الأطراف. لقد استطاع أن يقول في «أعراس»: «لستُ أرى ما يمكن أن ينالَه العقم من تمرُّدي، ولكنني أشعر بوضوحٍ بمقدار ما يضيفه إليه ويُثريه به.»١٣ وفي موضعٍ آخر من نفس الكتاب وهو يتحدث عن فلورنسا فيقول إنها أحد الأماكن الأوروبية التي فهم فيها كيف ينعَس الرضا في أعمق أعماق تمرُّده.١٤

وقبل أن نستطرد في هذا الحديث الذي سيأتي تفصيله فيما بعدُ نُحب أن نسأل: ما علاقة المُحال بالتمرُّد؟ هل يستبعد أحدهما الآخر أو يُكمِله وهل يمكن ردُّ أحدهما إلى الآخر؟ وكيف لنا أن نفهم أن التمرُّد كان كامنًا على الدوام في أعماق الشعور بالمُحال؟

لقد رأينا كيف ينشأ المُحال في نهاية المطاف عن وعي بالحد؛ الحد الذي يصطدم به الإنسان فيُضطَر إلى الإحساس بمحدوديته أمام اللامتناهي، بالأسوار الغاشمة المُعتِمة التي يرتطم بها في كل مرةٍ يُحاوِل فيها أن يبحث عن الوحدة والوضوح في عالمٍ يسوده الاضطراب والظلام؛ فالإنسان يعي وجود هذا الحد حين يدرك من ناحيةٍ ما هو بالفعل (غربته في العالم، موته الذي لا مفر منه، علاقته الشخصية الفانية بالموجود، معرفته النسبية الجزئية … إلخ)، ومن ناحيةٍ أخرى ما ليس عليه ولكن يتمنَّى أن يكونه أو يصل إليه (الوحدة، المعرفة الكلية، إلْف العالم، الوضوح … إلخ)، فالمُحال إذن في جوهره هو الوعي الناصع بحدٍّ يفصل بين الإنسان كما هو كائن وبينه كما يشتهي أن يكون؛ أي بين النسبيِّ المحدود، وبين المطلَق الشامل. وعن هذا التناقُض الذي يُفرِّق بين ما هو كائن وبين ما لم يتحقَّق (أو لن يتحقَّق) له كيان، نشأَت ضرورة تحديد «أسوار المُحال». ولقد رأينا كيف أن كل محاولةٍ تهدف إلى الوصول إلى المطلَق محاولةٌ لا تنتهي إلى الإخفاق فحسب، بل إنها أشبه بقفزة المُنتحِر، بل لعلها أن تؤدي كذلك إلى القتل والجريمة (كما يشهد بذلك كاليجولا ومارتا). على الإنسان إذن أن يحيا مع متناقضاته خلف الأسوار، وألا يُحاوِل تجاوُزَها إلى ما وراءها، وأن يقنع بما هو كائن وما يُمكِنه أن يكون. هذه القناعة لا تعني العزوف أو الصدود؛ فالإنسان الذي يفاجئه الإحساس بقدَره المُحال وهو يسير ذات يومٍ على منعطف طريقٍ ليس حتمًا عليه أن يلعن قدَره أو يذوق مرارته. إن كل ما يُحسُّ به هو ظلم هذا القدَر المُحال، وكل ما يملكه هو أن يرفضه؛ فمن طبيعة المُحال ومن أخصِّ خصائصه أن يرفُضه الوعي. وعلى هذا الرفض يقوم التمرُّد، الذي يقوم بدوره على الوعي الناصع بالمُحال وحدوده.

ونستطيع أن نسأل الآن إن كان الوعي الناصع هو شرط التمرُّد، أو إن كان الوعي يتمُّ أول ما يتمُّ عن طريق فعل التمرُّد نفسه. وعلينا قبل الإجابة على هذا السؤال أن نؤكِّد أهمية النصوع Lucidité؛ فالنصوع ينبغي دائمًا أن يفهم على أنه هو الوعيُ الباهر الشفَّاف بالمُحال وحدوده التي عاهد نفسه بالوقوف عندها. في هذا النصوع تتحد الحرية والتمرد وعاطفة الحب للحياة، وفيه يرى كامي قيمة الإنسان وكبرياءه؛ فالوعي الناصع بالمُحال هو الذي يستثير التمرُّد العنيد المتحدِّي لهذا المُحال نفسه. ولولا نصوع الوجدان لغرق الناس «بعيونٍ مغمضةٍ مهزومة» في سباتٍ أسودَ كئيب، على نحوِ ما جرى لهم في رواية «الوباء»؛ فالنصوع تحرُّر من حالة فقدان الوعي السلبية وانطلاقٌ من كل ما يشلُّ الوعي ويثقل الوجدان؛ من عدم المبالاة، من إيقاع الحياة اليومية الرتيب، من الأمل والعزاء، من الاستسلام لقدَرٍ محتومٍ ولكنه ظالم.

ونعود إلى سؤالنا الأول فنقول إننا لا نستطيع في الواقع أن نفصل التمرُّد عن الوعي الناصع. إنهما معًا يُمثِّلان كُلًّا لا يتجزأ؛ ففي وسعنا أن نقول إن الوعي الناصع بالمُحال يؤدي إلى التمرُّد، وفي وسعنا كذلك أن نقول إن التمرُّد هو الخطوة الحاسمة على الطريق المؤدي إلى الوعي الناصع. ومع ذلك فلا بد من القول بأن هذا التقرير سابقٌ لأوانه. إننا لم نبيِّن بعدُ على التحديد ماهية التمرد الذي نتحدَّث عنه، وسنُحاوِل الآن أن نتحدث عمَّا نُسمِّيه «بالتمرُّد المُحال» تمييزًا له عن التمرُّد الحق الذي سيأتي الكلام عنه بالتفصيل في فصلٍ قادم، فما هو هذا التمرُّد المُحال؟

سنُحاوِل الإجابة على هذا السؤال بتحليلٍ موجزٍ لطبيعة الوعي في قصة «الغريب»، والإشارة إلى ما نُسمِّيه بمنطق المُحال عند كاليجولا، في مسرحية كامي المعروفة بهذا الاسم.

(ﺟ) الوعي في قصة «الغريب»

يقول كامي إن مرسو — وهو الشخصية الرئيسية في روايته القصيرة «الغريب» — عندي إنسانٌ مسكينٌ عارٍ، يُحب الشمس التي لا تترك وراءها ظلًّا.١٥ والحق أن مرسو تتجسَّد فيه «الحساسية بالمُحال» التي عَرضَها علينا المقال الفلسفي المطوَّل «أسطورة سيزيف»؛ فشخصية مرسو إذ يصف لنا هذا الإحساس الذي لا سبيل في الحقيقة إلى وصفه، تُعَدُّ من هذه الناحية، كما يقول سارتر بحق، تطبيقًا لنظرية رواية المُحال. إنها تُبيِّن لنا لماذا يتمسَّك كبار الروائيين بالظاهرات العينية المعطاة. ولماذا يُعبِّرون عن أنفسهم بالصور المحسوسة Images بدلًا من التأمُّلات والأحكام العقلية والمنطقية. وهي بهذه المثابة تعبير عن فكرٍ محدودٍ مُتناهٍ، متمرِّد بطبيعته؛ فمرسو حين يُسلِم نفسه للمعطيات الخالصة، وللتجربة الحية المباشرة يرفض في الحقيقة كل أنظمة التفسير والتعليل، ويُلقي بنفسه، إن جاز التعبير، في صحراءَ خاليةٍ من كل دلالةٍ أو معنًى. ما من شيءٍ له قيمة بالنسبة إليه غير الواقع الحاضر المتعين، باعتباره سلسلةً من اللحظات المنفصلة العابرة. وحيث لا يكون ثمَّة معنًى ولا دلالة، فإننا نجد أنفسنا في مملكةٍ غنيةٍ بالصور والألوان والمشاعر لا يربطها رابطٌ ولا توحِّد بينها فكرة. كل شيءٍ مهما تضاءلَت قيمتُه تصبح له قيمةٌ متميزة، وكل صورةٍ وإن بدت منفردةً منعزلة يكون لها شأنها ومعناها.

إن مرسو يتحدث عن نفسه كما لو كان هو «الآخر»، والأنا عنده تصبح كما لو كانت «هو». كل عبارةٍ ينطق بها تقف وحيدةً منفردة، لا تربطها بالعبارة التي تليها علاقةٌ سببية، ولا يجمعها وإياها جامع معنًى أو دلالة؛ إن العبارات أقرب إلى أن تكون إيماءاتٍ حركية من أن تكون وحداتٍ لغوية أو فكرية، إنها تصبح مجموعةً من المشاعر والمُدرَكات المستقلَّة بنفسها، وُضعَت إلى جانب بعضها البعض، لا ينتظمُها نسقٌ فكريٌّ محدد. وبين كل عبارةٍ وأخرى هوَّة من الصمت، والعدم.

إن مرسو يظلُّ في القسم الأول من الرواية، وحتى يصدُر الحكم عليه بالإعدام، فاقد الوعي بالمُحال. وإذا كان هذا الوعي بالمُحال يُخالِج أحدًا فهو يُخالج القارئ الذي يَجرِفه هذا الإحساس اليائس الغريب بالمُحال، والذي لا يستطيع أن يتشبَّه بمرسو أو لا يريد أن يتشبه به. وإذا كان لا بُد من الكلام عن الوعي عند مرسو، فهو في هذه المرحلة نوعٌ من الانتباه المباشر، أشبه ما يكون بجهاز الإسقاط١٦ الذي نُسمِّيه بالفانوس السحري، يُسلِّط ضوءه في كل مرةٍ على صورةٍ تختلف عن الصورة التي قبلها. وتظل الصور مفكَّكةً معزولة عن بعضها البعض، كما نرى في شريطٍ سينمائي، لا تجمع بينها رابطةٌ علِّية. ولعل هذه الهُوى الموحشة الصامتة التي تفصل بين الصور والعبارات، وتجعلها تقف كالمخلوقات العارية المرتعشة في برد الشتاء، هي السبب الذي نُحسُّ من أجله عند قراءة هذه الرواية بالوحدة العميقة الجارفة.

إن مرسو يهَب نفسه للتجربة الخالصة، للسعادة التي تمنحها اللحظة المباشرة، وكأنه طفلٌ كبيرٌ يفتح عينَيه لأول مرة على براءة النور، ويفرح من قلبه بعُرس الألوان، ويرتعش لنبض الحياة في كل الموجودات. لقد أُلقي به في عالم لا يعرفه، وحُكم عليه بالحياة في مجتمعٍ لا يفهم لغته، وارتبط مصيره بأناسٍ تبدو له أفكارهم وتصوُّراتهم وعاداتهم شيئًا غريبًا لا يستطيع ولا يريد أن يألفه. إنه يحيا كالغريب بين غُرباء. وهو بالنسبة لنا، نحن الذين نقرأ عنه ونتتبَّع قدَره، إنسانٌ غريبٌ أيضًا، لا نعرف له موضعًا يُناسبه في أنظمتنا الجاهزة من القيم والمعايير. إننا نُحِس بغربته وبراءته في آنٍ واحد، ولكنه إحساسُ يختلط فيه السخط والخوف والرثاء؛ فنحن لا ندري ماذا نفعل إزاء هذا الإنسان المدهش الذي يبدأ من الصفر ويريد ألا يتحوَّل عنه.

والحقُّ أن مرسو إنسانٌ بريءٌ بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى. وقمة براءته وتهمته في وقتٍ واحدٍ هي أنه عاش حياته حتى الآن بغير أن يُثير الريبة من ناحيته في نفس إنسان. إن الرصاصة التي تنطلق من مسدسه لتُرديَ الأعرابي قتيلًا هي التي تفتح الأعيُن عليه. هذه الجريمة التي ألقت بها الصُّدَف العمياء في طريقه هي بالنسبة لوكيل النيابة نتيجةٌ لا بداية. لقد سلَّطَت الأضواء على حياته التي قضاها حتى الآن في غير اكتراث، وتُصبِح السيجارةُ التي دخَّنها بغير قصدٍ منه أمام تابوتِ أمه المسجَّاة في ملجأ العجزة، والدموعُ التي لم يذرفها وهم يوارونها التراب، واللحظاتُ القليلة التي تسلَّل فيها النوم إلى جفونه، والفيلمُ الذي شاهدَه في صحبة عشيقته بعد ذلك بأيامٍ قليلة؛ كل ذلك يصبح جريمةً لا يريد أحدٌ أن يغفرها له. لقد كان مرسو إذن مجرمًا عريقًا في الجريمة. وذنبُه الأكبر أنه لم يعتقد في «الذنب» أو لم يفهم له معنًى، وأنه ظلَّ يقف من مواضعات المجتمع وتقاليده موقفَ مَن لا يُبالي بشيء. إنه الآن في نظر المحقِّق والقاضي «وحش» و«عدو للمسيح».

ويظل مرسو يُراقب القضية وكأنهم يحاكمون إنسانًا آخر لا تربطه به صلة. ويظلُّ الوعي بالمُحال راقدًا في نفسه لا يستيقظ. ومع أن هذا الفرد الوحيد يصطدم بالمجتمع، ممثَّلًا في أشخاص المحقق والقضاة والمحلِّفين وقسيس السجن وكل القيم الأخلاقية التي يدافعون عنها من عدالةٍ وواجبٍ وحبٍّ ووفاء … إلخ، فإن هذا الإحساس بالمُحال لا يصل عنده إلى مرحلة الوعي. إن كل كلمة يقولها مرسو تشفُّ عن إحساسٍ وعن صورةٍ وراءها، في حين أن كل كلمةٍ ينطق بها المحقِّق تدُل على معنًى أو تصوُّر أو شكلٍ من أشكال النظام المدنيِّ والاجتماعي. ويبقى مرسو غريبًا أمام نفسه وأمام المجتمع الذي يتهمه ويشدُّه إلى المقصلة.

ولكن حكم الإعدام يسقُط كسيف الجلَّاد. ويزوره قسيس السجن في زنزانته. ويصطدم مرسو به فيستيقظ الوعي بالمُحال الذي ظلَّ كامنًا فيه. وبينما يتشبَّث مرسو بسعادةٍ من هذا العالم، نجد القسيس يَعِدُه بسعادةٍ أخرى في عالمٍ آخر، ويزيِّن له «القفزة» التي حرَّمها على نفسه الإنسانُ الذي يعيش في المُحال ويُخلِص له.١٧ ويرفض مرسو هذا الأمل السهل، وينقَضُّ على القسيس ليصرخ به: إن كل اليقين الذي تَعِدني به لا يساوي شعرةً واحدةً في رأس امرأة. إن تمرُّده ليس هو التمرُّد الحق الذي يثور فيه الإنسان باسم إخوته جميعًا من البشر، ولا باسم الطبيعة الإنسانية، بل هو تمرُّدٌ باسم السعادة الأرضية التي تمتَّع بها حتى هذه اللحظة دون أن يدري: «أحسستُ أنني كنتُ سعيدًا وأنني لم أزل سعيدًا.»١٨ إنها هي بعينها تلك السعادة التي تحدث عنها كامي في «أعراس»١٩ والتي تنبُع من التعاسة المتصلة.
بقي مرسو حياته وحيدًا غارقًا في وحدته. لم يستيقظ إحساسه بوجود الآخرين إلا وهو على عتبة الموت. إنه الآن يفكِّر في أمه، التي اتهموه بأنها لم يحبَّها، كما يفكِّر في الناس، الذين سيموت بينهم. إن أقصى ما يتمنَّاه اليوم، لكي يقل إحساسُه بأنه وحيد، أن يرى في طريقه إلى المقصلة عددًا كبيرًا من المتفرِّجين «يستقبلونه بصرخات الحقد».٢٠

(د) منطق المُحال عند كاليجولا

تتجسَّد في شخصية كاليجولا، في مسرحية كامي المعروفة بهذا الاسم، تجربة الإنسان الذي يملك القوة التي تُمكِّنه من أن يحوِّل منطقه المُحال إلى واقعٍ فعلي؛ فالمُحال عنده ليس مجرَّد شعورٍ أو عاطفة، بل فكرةٌ فلسفية تُسيطر على كيانه. لقد اكتشف كاليجولا فجأة، على أثَر وفاة شقيقته أو حبيبته درزيللا، أن العالم مُحال. هذا الاكتشاف الذي توصَّل إليه يلخِّصه في هذه العبارة: «الناس يموتون وهم ليسوا سعداء.»٢١ حقًّا إن الناس لا يعلمون شيئًا عن هذه الحقيقة البالغة البساطة والوضوح، الحمقاء إلى حدٍّ ما. غير أن كاليجولا يملك «الوسائل» التي يستطيع بها أن يُجبِرهم على أن يعيشوا فيها.
كاليجولا يرى أن العالم مُحال، وأن كل شيءٍ قد خلا من المعنى والغاية. وحيث لا يكون لشيءٍ من معنًى، يصبح كلُّ شيءٍ سواء (فعظمة روما تتساوى لديه مع أوجاع النقرس التي يُحسُّ بها رئيس البلاط في قصره)، كما يصبح كل شيءٍ مُباحًا. والذي يُبيح لنفسه كل شيءٍ يتوهم أنه حرٌّ من كل شيء. وهنا تكمن حُرِّية كاليجولا الفاسدة؛ حريته في أن يجعل المستحيل ممكنًا، أن يقبض على القمر بيدَيه، ويأمر الشمس أن تغرُب في الشرق، ويمنع الناس من أن يموتوا. هذه الحرِّية المستحيلة التي لا تعرف حدودها تجعله يقول: «أنا الحرُّ الأوحد في الإمبراطورية الرومانية بأَسْرها.»٢٢ وهي التي تجعل التعسُّف يحكُم في مكان القانون. إن القوة التعسُّفية هي الوسيلة الوحيدة التي يريد بها كاليجولا أن يُوقِظ الناس من سُبات عاداتهم ويضعهم وجهًا لوجه أمام مصيرهم. ولقد كان في الإمكان أن تكفي هذه القوة في إيقاظ الوجدان لو أنها تقيَّدَت بالحدود التي وضعها لنفسه الإنسانُ الذي يعيش في المُحال؛ أعني لو أنها تقيَّدَت بحدود الممكن وحده دون أن تُحاوِل أن تتعدَّاها. كان في استطاعة هذه القوة المتعسِّفة أن تُوقِظ وجدان الناس، ولكنها ما كانت لتستطيع أن تُحقِّق ما يريده منها كاليجولا، ولا أن تسير مع منطقه إلى نهايته.

كيف السبيل إلى تمييز الممكن عن المستحيل؟

لعلَّ هذا هو السؤال الأساسي الذي نسي كاليجولا في غمرة يأسه وطموحه أن يُوجِّهه إلى نفسه. إنه يحسب أن التجربة وحدها هي التي تستطيع أن تُعطيَه المعيار الذي يفصل بينهما. هذا الوهم يدفعه إلى أن يسير بمنطقه المُحال إلى نهايته: «المنطق، يا كاليجولا، المنطق ينبغي أن يُتابع طريقه!»٢٣ وهكذا يُحسُّ في نفسه بالحاجة التي تُلحُّ عليه أن يُدرِك المستحيل، أن يمدَّ ذراعه فتلمس القمر، أن يصل إلى السعادة والخلود، إلى شيءٍ ربما كان طائشًا مجرَّدًا من كل معنًى، ولكنه ليس من هذا العالم.٢٤ إنه يريد أن يغيِّر نظام الأشياء، يريد من الشمس أن تغرُب في الشرق، ومن العذاب أن يختفي من أرض البشر، ومن الموت أن يكُفَّ يده عن الناس٢٥ وهكذا يستطيع أن يقول: «إن فائدة القوة تكمُن في أنها تتيح للمستحيل أن يحقِّق بعض الإمكانيات.» وأن يقول: «إن حُريتي لم يعُد لها حدٌّ تقف عنده.» بل أن يذهب إلى حدِّ الادِّعاء بأنه «ما من شيءٍ في هذا العالم، ولا في العالم الآخر يمكن أن يُقاس بمقياسي.»٢٦
يريد كاليجولا أن يُبرهن على حريته المطلقة، وينظِّم عدم اكتراثه، فيُلقي بالناس في أتونٍ من العذاب، إنه يختلق مجاعةً ضارية، وينتهك حرمات النساء أمام عيون أزواجهن. ويريد كاليجولا أن يمتلك الناس كل الامتلاك فيأمر بقتلهم؛ ذلك «لأن الناس الذين قتلناهم، يصبحون معنا.»٢٧ إنه يعتقد أنه لو استطاع أن يُدرِك المستحيل وأن يضمَّ القمر بين يديه، فسوف ينجو الناس من الموت، غير أنه يأمر بأن يموت الناس لكي يحول دون الموت، سبب تعاستهم الرئيسي، وبذلك يُناقض نفسه بنفسه، ولكن المستحيل لا يتمُّ على ظهر الأرض، وكاليجولا لا يستطيع أن يلمس القمر بيدَيه، وهو لذلك يصرُخ مادًّا ذراعَيه نحو السماء، لكي يهرب من وحدته. إنه يقوم على المستوى الفرديِّ العدَمي بما سوف يقوم به الوباء على المستوى الجمعي-الميتافيزيقي.
وتُرهِق الناسَ حياةُ الذلِّ والخطر التي يضعهم فيها كاليجولا فتُوقِظ فيهم صحوة الوجدان، ولكنها صحوةٌ من سُبات الجهل والغفلة، لا صحوة الوعي الحقيقي التي يمكن أن تدفعهم إلى التمرُّد. إن بعضهم يعلن رضاه بالمُحال واستسلامه له؛ أعني إلغاءه لوجود المُحال نفسه (إذ المُحال لا يحيا إلا بمقدار ما نعلن سخطنا عليه وتحدِّينا له). وهم باعترافهم بالمُحال يتنكَّرون للتمرد، حتى يصل بهم الأمر إلى الحد الذي يجعلهم يرفعون القيصر الروماني — الذي يتجسَّد المُحال الآن في شخصه — إلى مصافِّ الآلهة، هؤلاء الانتهازيون الضعاف لا يفعلون ذلك عن إرادةٍ شريرة، بل عن جهلٍ أو غفلة. وأما الفريق الآخر منهم فهم يدبِّرون مؤامرةً على حياة القيصر؛ لأنهم يكرهون السعادة المستحيلة ويخافون منها. يقول «كيريا» مُوجِّهًا كلامه لكاليجولا: «إنني أُحسُّ في نفسي بالشوق إلى أن أحيا وأن أكون سعيدًا، وفي رأيي أن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى شيءٍ منهما إذا سار في المُحال إلى أقصى مداه.»٢٨ فليس في استطاعة أحدٍ من الناس أن يتبع هذا المنطق المُحال ويهنأ مع ذلك بالحياة أو يبلُغ السعادة.
و«كيريا» كذلك إنسان يعيش في المُحال، ولكن الشيء الذي يميِّزه عن كاليجولا هو أنه يرفض أن يسير مع منطقه المُحال إلى نهايته. إنه يؤمن بإمكان الحياة في المُحال، ولكنه يؤمن كذلك باستحالة البرهنة عليه. وهو بذلك يبقى على إخلاصه للمُحال، فيعترف بحدوده، ولا يُحاوِل أن يتخطَّى أسواره. لقد عرف كيريا أن منطق كاليجولا لا بد أن يؤدِّي به إلى القتل في صورتَيه: الانتحار والقتل بالجملة. ولقد عرف أيضًا أن الحقائق الواضحة البيِّنة بذاتها (والمُحال لا شك إحدى هذه الحقائق) لا تُفسرَّ إلا بذاتها ومن ذاتها، وأنها لا تحتاج إلى قيمةٍ خارجية عنها للاستعانة بها على تفسيرها؛ فوضع قيمة كهذه يُشبِه الإقدام على «القفزة» التي حرَّمها على نفسه إنسانُ المُحال. والإقدام على مثل هذه القفزة ليس مجرَّد مسلكٍ فاسدٍ في الفكر والشعور كما رأينا فحسب، بل هو قبل كل شيءٍ جريمةٌ لا تُغتفَر. وسنرى كيف أقدمَت نظم الطغيان السياسي المختلفة على مثل هذه الجريمة حين جعلَت للتاريخ قيمةً مطلقةً (كما في التأكيد المطلَق عند الماركسية)، أو حين جرَّدَته من كل معنًى وقيمة (كما في النفي المطلَق عند الفاشية والنازية).٢٩ إن كلا النظامَين ينتهي إلى الانتحار أو إلى القتل بالجملة تبعًا لتأكيده لمعنى التاريخ أو نفيه عنه. وكلاهما ينبع عن وعيٍ غير حقيقيٍّ بالمُحال؛ إذ الوعي الحقيقي به لا بد وأن يؤدي في نهاية المطاف إلى التمرُّد الحق؛ أي التمرُّد المعتدل.
وإذن فالسعي إلى المستحيل يحمل في ذاته خطر إلغاء تلك الحقائق التي تأدَّت عن الوعي الناصع بالمُحال ونفي كل قيمةٍ عنها. وسعيُ كاليجولا إلى المستحيل يحمل في ذاته أيضًا خطرًا لا ينفصل عن ذلك، هو خطر اعتبار الناس جميعًا مذنبين، سواء في ذلك الذين يقلِّدون فعله فينفون ويدمِّرون، أو الذين يتمرَّدون عليه فيُضطَرون إلى الإقدام على الجريمة «أنا في حاجة إلى مذنبين. وهم جميعًا في نظري مذنبون.» هكذا يقول كاليجولا. ويستطرد في منطقه الذي يتألَّف في مجموعة من أقيسةٍ خاطئة خادعةٍ فيقول: كل من يُذنِب يموت. وكل من هو من رعية كاليجولا فهو مُذنِب. إذن فالجميع مذنبون. ينتج عن هذا أنهم جميعًا محكومٌ عليهم بالموت. إن المسألة مسألةُ زمنٍ فحسب.٣٠

ولكن كاليجولا، على الرغم من كل ما يؤكِّده، لم يَسِر في منطقه المُحال إلى آخر نتائجه؛ فلو فعل لكان لِزامًا عليه أن يُقْدِم على الانتحار. لقد عجز كاليجولا عن تحقيق المستحيل وظل وحيدًا طول حياته؛ لم يلمس القمر ولم يدرك الخلود.

أما «مارتا» (بطلة مسرحية سوء فهم) فهي الوحيدة التي سارت مع منطق المُحال إلى آخر مداه. إنها تكتشف بعد أن قتلَت أخاها أنها فقدَت السعادة إلى الأبد، وفقدَت معها البحر والشمس، ولكن المُحال لا ينفصل عن السعادة؛ أعني أن المُحال لا سبيل إلى احتماله إلا حيث تكون السعادة ممكنة. وإذا كانت قد فقدَت السعادة، فقد فقدَت معها المقدرة على الوقوف في وجه المُحال، ولم يَبقَ أمامها إلا الانتحار.٣١ بهذا تكون «مارتا» قد تجاوزَت الحد الذي يتبيَّن لنا بالوعي الناصع بالمُحال، وأقدمَت على «القفزة المميتة» التي لا بد أن تنتهي بصاحبها إلى الموت.

إذن فالوعي الحق بالمُحال، وبالتالي بالتمرد، لم يُشرِق بعدُ عند كاليجولا ولا مارتا ولا مرسو؛ فعلى الرغم من أن مرسو يحيا حياةً «مُحالية» بحتة، حتى ليتمنى قبل أن يُنفَّذ فيه حكم الموت لو أمكنه أن يعود فيحياها مرةً ثانية، وبالرغم من أن مارتا وأمها بعد أن قتلا الأخ والابن يقفان على هاوية المُحال ويثبِّتان أعينهما في أعماقها، وبالرغم كذلك من أن كاليجولا لا يهب عاطفته وحياته كلها للمُحال، فإنهم جميعًا يجعلوننا نُحسُّ بجو المُحال دون الوعي الحقيقي به. حتى سيزيف، الذي يشهد ﺑ «العزَّة الميتافيزيقية» التي تجعل الإنسان يحتمل مُحالية العالم والذي يواجه قدَره الظالم بوجدانٍ ناصع ووعيٍ مضيء، لم يزل محصورًا في دائرة هذا التمرُّد الفردي الذي سمَّيناه بالتمرُّد المُحال. فتمرُّده كُرهٌ للموت وحماسٌ للحياة في وقتٍ واحد، نفيٌ للآلهة وتحدٍّ للمُحال. إنه في وقفته الوحيدة على قمة الجبل الوحيد، لا يجد ملجأً يأوي إليه إلا قرارةَ جرحه، ودفعَه للصخرة إلى قمة الجبل وتركَها تسقط إلى الوادي لكي يدفعَها من جديد، في فعلٍ عابثٍ لا جدوى منه ولا نهاية له. إن سيزيف لا يعرف التمرُّد الحقيقي، الذي هو في جوهره احتجاج على قدَرٍ ظالمٍ غير مفهوم؛ ذلك أنه لا يحتجُّ، بل يحتمل، لا يثور، بل يُعانِد. ووعيه الناصع الذي يجعله يُواجِه المُحال ويتحدَّاه هو الذي يُبرِّر لنا أن نتحدث عن تمرُّده «المُحال» الذي لم يصل بعدُ إلى مستوى التمرُّد الحق.

تستوي في هذا نماذج المُحال (سيزيف، الممثل، العاشق، الفنان) والغريب (مرسو)، والقاتلتان (مارتا وأمها) وكاليجولا. إن التمرد عندهم جميعًا ليس إلا عاطفةً متحمسةً للحياة، وعنادًا، ورفضًا مريرًا لكل عزاءٍ يأتي من «فوق الطبيعة»، وكبرياءَ تجعل الإنسان يؤكِّد قيمة حياته بالتحدِّي والعناد والإصرار. إنهم جميعًا يدورون حول تجربة المُحال كتجربةٍ «نادرةٍ»، شخصية، مباشرة، يعانيها الفرد وحده، دون أن يستطيع تجاوُز الأفق الفردي الذي تتحرك فيه، ودون أن تتمكَّن من إدخال عنصر «الآخر» إليها؛ ولذلك كان تمرُّدهم الفردي هو ما سمَّيناه بالتمرُّد المُحال، تمييزًا له عن التمرُّد الحقيقي الذي يُحرِّر الفرد من وحدته. هنالك تُصبِح الخطوة الأولى التي يقوم بها العقل الذي تصدمه غربة العالم هي الاعتراف بأنه يشارك جميع الناس في الإحساس بهذه الغربة. ويُصبِح الداء الذي كان يعانيه فردٌ بمفرده وباءً مشتركًا.٣٢
هذا التمرُّد الحقيقي الذي عَرضَه كامي عرضًا فلسفيًّا في كتابه «المتمرِّد» (١٩٥١م) قد صوَّره من قبلُ تصويرًا شاعريًّا في روايته «الوباء» وفي مسرحيته «حالة حصار».٣٣

(٢) الانتقال إلى التمرد

  • (أ)

    الوعي في مسرحية «حالة حصار».

  • (ب)

    الوعي في رواية «الوباء».

(أ) الوعي في مسرحية «حالة حصار»

تصوِّر هذه المسرحية سكان المدينة الإسبانية كاديز الذين يعيشون حياتهم الطبيعية الخصبة فاقدي الوعي مُسلِّمين بها تسليمًا لا يقبل المناقشة، في ظلِّ نظامٍ تقليديٍّ عاجز لا أثَر له، يمثِّله الحاكم والقاضي والكنيسة. وذات يومٍ يُنشِب الوباء مخالبه في جسد المدينة، فيفرض عليها نظامًا بيروقراطيًّا جامدًا مجرَّدًا كأنه القدَر. ويُحطِّم الوباء حياة المدينة كما حطَّم طغيانُ كاليجولا مدينة روما؛ فيشلُّ الوجدان، ويقتل الحرية والحب والمغامرة. وتصبح العدالة انتقامًا، والحب كُرهًا، والشرف جبنًا، وينقطع تيار الحوار الإنسانيِّ الذي يُعبِّر به البشر عن مخاوفهم وآلامهم، عن أحزانهم وأفراحهم، عن أسئلتهم وأجوبتهم. ويسود حكم الصمت؛ أعني حكم المونولوج. ويظل هذا الحكم سائدًا حتى يتشجَّع الطالب والعاشق الشاب دييجو فيصرخ صرخة الاحتجاج والتمرُّد، وينزع القناع عن وجهه، ويُحرِّر سكان المدينة من خوفهم، وينقذ حبَّه، بعد أن يدفع حياته ثمنًا له.

إن التمرُّد على المُحال (ممثَّلًا في صورة الوباء) يتجسَّد في شخصية دييجو. إنه يزيل أكوام الكسل والخوف وعدم الاكتراث، ويؤجِّج شرارة الحياة والقوة والحرية في نفوس سكان كاديز. لقد سقط شعب كاديز ضحية نظامٍ سلبيٍّ مجرَّد، كما حدث من قبلُ لحاشية كاليجولا ولسكان مدينة أوران (في رواية الوباء). وكان يكفي أن يقهر واحدٌ منهم خوفه من الموت لكي يصل إلى درجةٍ من الوعي تندلعُ منها شرارة التمرُّد. تقول سكرتيرة الوباء: هل ما زلتَ تُحسُّ بالخوف؟ فيجيبها دييجو قائلًا: لا. وتردُّ عليه السكرتيرة قائلة: إذن فلستُ أملك شيئًا ضدَّك.٣٤ إن «دييجو» غازٍ كذلك الذي تحدَّثنا عنه في «نماذج المُحال»، يتغلَّب على الموت في نفسه وفي نفوس من يشاركونه في الحياة والمصير، لا عن غرورٍ أو كبرياء، بل عن وعيٍ بموقفه اليائس الذي لا مخرج منه، الذي يزيد فيه الموتُ من وطأة الظُّلم.٣٥ إن المتمرِّد الشاب دييجو لا يريد أكثر من أن يكشف لسكان مدينته عن معنى قدَرهم الذي خلا من كل معنًى. إنه يريد أن يُوقِظ حياتهم التي غاصت في السلبية واللاوعي، وعدم الاكتراث. تمرُّده دعوةٌ إلى الوعي الناصع بالمُحال، وحثٌّ لهم على تحدِّيه وجهًا لوجه، والتصدِّي له وعدم الهروب منه؛ فتعليم الناس أن كل شيء محُالٌ معناه في الوقت نفسه التمرُّد على حكم الوباء، والتغلُّب عليه في الوجدان قبل الانتصار عليه في الواقع؛ ذلك لأن الوباء سيظل يفرض سلطانه المتعسِّف المجرَّد ما بقي الناس في كاديز ينعمون في سُباتٍ من فقدان الوعي. وهو يستطيع أيضًا أن يُحافظ على سلطانه لو استيقظ الناس من نُعاسهم واختاروا العدمية الميتافيزيقية (التي تتمثل في شخصية نادا، ومعناها العدَم في الإسبانية) موقفًا لهم.

ليس فقدان الوعي مجرَّد نقصٍ في درجة الوعي بقَدْر ما هو نقص في الوعي بمُحالية العالم وعدَم جدواه. إنه يمثِّل ذلك الأُفق الضبابي الغائم الذي تدور فيه كل المغامرات الميتافيزيقية العدَمية (مثل الانتحار الذي تُقدِم عليه مارتا وأمها، ومثل القتل بالجملة الذي يأمر به كاليجولا وينظِّمه الوباء)؛ ولذلك نستطيع أن نُسمِّي الانتحار، الذي يرفضه كامي في «أسطورة سيزيف» ويُسمِّيه بالهروب والنكوص، نقصًا في الوعي الناصع بالمُحال. إن كل نقصٍ في نصوع الوعي فهو في الوقت نفسه نقصٌ في الوعي الناصع بالمُحال، وبالتالي عقبةٌ تحول دون التمرُّد. إن نصوع الوعي بالمُحال شرطٌ للتمرُّد، كما أن التمرُّد نفسَه شرطٌ لنصوع الوعي.

(ب) الوعي في رواية (الوباء)

يُحسُّ سكان المدينة الجزائرية البائسة أوران، كما يصفهم لنا راوية الوباء الطبيب ريو، إحساسًا ضئيلًا بالواقع. إنهم لا يشعرون بالخير ولا بالشر، وهذا ما يسمح للوباء بأن ينتشر بينهم، ويتمكَّن شيئًا فشيئًا من نفوسهم وأبدانهم. إنه ينظِّم الشر في الحياة الإنسانية حتى يصبح نظامًا متماسك البنيان، يقوم على العذاب، والموت، والفِراق، والخوف، والوحدة. وهو يدمِّر كل ما هو خير في هذه الحياة؛ الحرية والأمل والتعاطُف والحب. ويزحف فتستسلم له المدينة التي استسلمَت قبله لحالةٍ من السلبية وفقدان الوعي. وينتشر مملًّا كالتجريد٣٦ يفضَح نفسه بعلاماتٍ سلبية.٣٧ وليس الوباء مجرَّد رمزٍ لشرٍّ يُصيب المدينة من خارجها، بل هو النتيجة المنطقية الأخيرة لتلك القيم السلبية التي عاشت كامنةً في ضمير سكان أوران٣٨ وانطوت في موقفهم السلبيِّ الذي فقد كل عناصر الوعي والمقاومة. وسواء كانت نظرتنا إلى الوباء نظرةً فرديةً أم سياسية أم اجتماعية أو ميتافيزيقية، فإن الرمز الذي يُعبِّر عنه يؤكِّد الارتباط الضروري بين الشرِّ وبين النقص في مستوى الوعي والوجدان.
إن الوباء في نظر تارُّو والدكتور ريو — وهما الشخصيتان الرئيسيتان في هذه الرواية — هو في جوهره موقفٌ لا مخرج منه،٣٩ ينبغي مواجهته بالوعي الناصع العنيد. إنه كالمُحال عند سيزيف عودٌ على بدء٤٠ لا نهاية له ولا جدوى من ورائه. إنهما يكافحانه بكل ما يملكان من قوة، على الرغم من إيمانهما بأن جرثومة وباء الطاعون لا تموت ولا تختفي كل الاختفاء،٤١ وأن الإنسان سينهزم في نهاية الأمر دائمًا أمام سلطان الوباء الذي لا يُهزَم. كلاهما يرفع راية الكفاح على طريقته؛ فريو يمارس مهنته كطبيب في شرفٍ وأمانة (إن الوسيلة الوحيدة لمكافحة الوباء هي الأمانة).٤٢ ويرفض حتى الموت أن يُحبَّ الخليقة التي يتعذَّب فيها الأطفال،٤٣ وتارُّو يُصمِّم على أن يرفض كل ما يقتُل أو يُبرِّر القتل. إنهما يقفان أمام هذا المُحال الجديد وجهًا لوجه، ويرفضان أن يفِرَّا من أمامه أو يحنيا له رءوسهما،٤٤ وهما بموقفهما هذا يرفضان كذلك أن يعيشا في العدمية الميتافيزيقية التي تعيش فيها شخصيةٌ يائسةٌ مثل كوتار، كما يأبيان أن يقفزا القفزة المميتة التي لا ينفك الأب بانيلو يمجِّد فيها ويُزيِّنها للناس في خُطبه ومواعظه، ونعني بها التماس العزاء والخلاص في حياةٍ أبديةٍ غير هذه الحياة. إنهما يعيشان كما عاش سلفهما القديم سيزيف في تناقُضٍ دائم مع نفسهما وفي تمزُّقٍ باطنيٍّ لا يهدأ عذابه.٤٥ ومع ذلك فإن عذابهما عذابٌ من أجل الآخرين، والألم الفردي الذي لم يكُن سيزيف يعرف ألمًا غيره قد أصبح ألمًا جمعيًّا «هنالك اختفت المصائر الفردية، ولم يَبقَ إلا تجربةٌ واحدةٌ مشتركة، هي تجربة الوباء والمشاعر التي يُحِس بها الجميع.»٤٦
إن فكرة «الآخر» تظهر هنا لأول مرة، باعتبارها عنصرًا أساسيًّا في بناء الوعي الناصع المتمرِّد على المُحال. ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب؛ فإن فكرة الآخر قد أصبحَت تدعمها كلمة «نحن» التي تَرِد الآن على لسان راوية الوباء «الدكتور ريو»،٤٧ فيُعبِّر بها عن جماعة من الضحايا والمقهورين، يكافحون قدَرًا ظالمًا مشتركًا قد خلا من كل معنًى.

رواية الوباء ومسرحية حالة حصار تُصوِّران هذا الانتقال من الأنا إلى النحن، من الفردية إلى التضامُن، ومن التمرُّد المُحال إلى التمرُّد الحقيقي المعتدل. هذا الانتقال لا يحدُث إلا في الوعي والوجدان. وبذلك يتسع مجال الفكر من «أسطورة سيزيف» إلى «التمرُّد»، ومن مشكلة الانتحار إلى مشكلة القتلِ الجمعي، ومن أخلاق الكَم إلى أخلاق الكَيف، ومن نزعةٍ عدمية شاملةٍ شعارها هو كل شيءٍ أو لا شيء إلى نزعةٍ تؤمن بالحد والمقياس، ومن تمردٍ طائشٍ مُحال إلى آخرَ معتدلٍ وفيٍّ لمنبعه الأصيل.

ويمكننا أخيرًا أن نلخِّص ما سبق في الحقائق التالية:
  • (١)
    إن التفكير المُحال وهو يواجه ما لا معنى له يفترض التمرُّد بالضرورة؛ فالحقيقة الأولى، والبيِّنة الوحيدة التي تؤدِّي إليها تجربة المُحال هي التمرُّد.٤٨
  • (٢)

    الوعي الناصع بالمُحال يبعث على التمرُّد، كما أن التمرُّد يزيد من نصوع الوعي ويؤكِّد شفافيته.

  • (٣)

    بالوعي يقف الإنسان أمام العالم وجهًا لوجه، كأنهما ضدَّان متقابلان، ويُصبِح الإنسان كائنًا من غير هذا العالم. وكونُه من غير هذا العالم يعني أنه يعلو عليه. هذا العلو لا سبيل إلى فهمه إلا عن طريق التضامُن والديالوج، اللذَين يقوم التمرُّد الحق عليهما، وهو ما سنتعرَّض له في الفصلَين القادمَين.

  • (٤)

    مسرحيتا «كاليجولا» و«سوء فهم» يُبيِّنان حدود الفكر المُحال وإمكانياته؛ فالذي يؤمن بالمُحالية المُطلقة لا بد أن ينتهي بالضرورة إلى ارتكاب جريمة الانتحار أو جريمة القتل؛ ومن ثَم فالتمرد على مثل هذه المُحالية لا يمكن إلا أن يكون مثلها تمرُّدًا محالًا، ما أبعدَ الفارقَ بينه وبين التمرُّد الحق!

  • (٥)

    تُثبِت نماذج المُحال التي يسير أشخاصها في سلوكهم وفقًا لمبادئه الأخلاقية، أن الإخلاص للمُحال لا يكفي وحده للوصول إلى التمرُّد الحق؛ فلا بد دون ذلك من وجود فكرة «الآخر» كعنصرٍ جوهريٍّ لا غنى عنه في بناء الوعي، وذلك لكي يتمكَّن الإنسان من العُلوِّ على الفردية والوصول إلى أفقٍ إنسانيٍّ شامل يؤكِّد وجود طبيعةٍ إنسانيةٍ مشتركة يقوم عليها التمرُّد الحق. هذا الانتقال الذي تناولناه في الأعمال الفنية سنُحاوِل الآن أن ندرُسه في التمرُّد نفسه.

١  تعبير الوعي أو بالأحرى امتلاك الوعي Prendre Conscience de تعبيرٌ شائع في اللغة والتفكير الفرنسي، ربما ساعد على شيوعه في لغة علم النفس بخاصة قانون إدوارد كلاباريد المعروف ﺑ «قانون الوعي» (١٩١٨م). هذا القانون يقول: يتأخر وعي الفرد بعلاقةٍ ما ويزداد صعوبةً كلما كان اشتمال سلوكه على الاستعمال التلقائي لهذه العلاقة مبكرًا وطويل المدى ومتكررًا (راجع أ. لالاند، المعجم الفني والنقدي للفلسفة، الطبعة السابعة، باريس، المطابع الجامعية الفرنسية، ١٩٥٦م، ص٨٣٠).
وإذا كنا هنا نتحدث عن الوعي فلا نقصد بذلك أن نتناوله وأحواله وخبراته وأحداثه تناولًا سيكولوجيًّا، بل إن قصدنا أن نبيِّن درجات الوضوح المختلفة في حال الوعي، وهي التي تبلُغ ذروة هذا الوضوح فيما يصعب ترجمتُه إلى العربية وقد نسمِّيه بالنصوع Lucidité؛ فسكان مدينتَي أوران وكاديز الذين أصابهم الوباء (وذلك في روايتَي الوباء والحصار) يعيشون في حالةٍ من فقدان الوعي. ولكنهم عن طريق فعل الوعي الذي سنُعبِّر عنه بالتمرُّد (في الحالة الأولى عن طريق الدكتور ريو وتارو وبنسبةٍ أقل عن طريق بانيلو وكوتار، وفي الحالة الثانية عن طريق الطالب دييجو) سيصلون إلى درجةٍ معيَّنةٍ من درجات الوضوح في الوعي، تجعلهم ينتبهون إلى وجود طبيعةٍ إنسانيةٍ يشتركون فيها جميعًا، تُحفِّزهم إلى الدفاع عن «هذا الشيء» الذي يبقى في نفس الإنسان فلا تستطيع أن تمحُوَه يد الظلم والطغيان.
٢  يمكن أن نصف المُحال، قبل تمام الوعي به، بأنه ذلك الذي يسبق كل وصف؛ أعني ما يسبق كل دلالةٍ ومعنًى. هذه المُحالية التي لم تنفُذ إلى الوعي كل النفاذ، يمكننا أن نجدها على الخصوص في الجزء الأول من قصة الغريب، كما نجدها بدرجاتٍ متفاوتة في الكتابَين المبكِّرَين لكامي وهما الظهر والوجه وأعراس (راجع في ذلك أندريه نيكولا، الفكر الوجودي عند ألبير كامي، ص٢٣، ٣٩، ٤٠).
٣  أندريه نيكولا، المرجع السابق، ص٣٠–٣١.
٤  الظهر والوجه، ص٩٦.
٥  أسطورة سيزيف، ص١٢٢؛ أعراس، ص٦٠.
٦  أسطورة سيزيف، ص٧٤.
٧  أسطورة سيزيف، ص٢٧.
٨  أعراس، ص٧٨–٧٩.
٩  أسطورة سيزيف، ص٨٨–٨٩.
١٠  أسطورة سيزيف، ص٧٩.
١١  أسطورة سيزيف، ص١١٩.
١٢  أسطورة سيزيف، ص٧٧.
١٣  أعراس، ص٨١.
١٤  أعراس، ص٩٢.
١٥  عن مقدمة الطبعة المدرسية الأمريكية لرواية الغريب، ص٨، نيويورك، ١٩٥٥م، إيلتون سنتشري.
١٦  أسطورة سيزيف، ص٦٣.
١٧  الغريب، ص١٥٦.
١٨  الغريب، ص١٥٨–١٥٩.
١٩  أعراس، ص٨٤.
٢٠  الغريب، ص١٥٩.
٢١  كاليجولا، ص١١١.
٢٢  كاليجولا، ص١٢١.
٢٣  كاليجولا، ص١٧٦.
٢٤  كاليجولا، الفصل الأول، المشهد الرابع، ص١١١.
٢٥  كاليجولا، الفصل الأول، المشهد الحادي عشر، ص١٢٣.
٢٦  كاليجولا، ص٢١٠.
٢٧  كاليجولا، ص١٥٧؛ وسوء فهم، ص٩٤.
٢٨  كاليجولا، ص١٧٩.
٢٩  المتمرد، ص٥٤–٥٧، ٨٤–١٠٥.
٣٠  كاليجولا، ص١٢٤.
٣١  أسطورة سيزيف، ص١٢٩.
٣٢  المتمرد، ص٣٦.
٣٣  راجع في هذا كله أيضًا مقالَين لكاتب السطور بعنوان: وداع ألبير كامي، المجلة، مارس ١٩٦٠م؛ وقبل أن يفوت الأوان، نظرات في روايات ألبير كامي، مجلة الكاتب، أغسطس ١٩٦٣م.
٣٤  حالة حصار، ص١٧٩.
٣٥  أسطورة سيزيف، ص١٢٣.
٣٦  الوباء، ص٨٤، ٢٥٦.
٣٧  الوباء، ص١٣٠.
٣٨  جرمين بري، كامي، مطبعة جامعة رتجرز، نيوبرونشفيك، ١٩٥٩م، ص١١٥.
٣٩  الوباء، ص٦٣.
٤٠  الوباء، ص١٤٩.
٤١  الوباء، ص٢٨٣.
٤٢  الوباء، ص١٥١.
٤٣  الوباء، ص١٩٩.
٤٤  الوباء، ص٢٣١.
٤٥  الوباء، ص٢٦٦–٢٦٧.
٤٦  الوباء، ص١٥٣.
٤٧  «أصبح الوباء منذ هذه اللحظة أمرًا يعنينا جميعًا.» كما يقول الدكتور ريو (ص٦٢، ٨٠) «هذه الحكاية تخصُّنا جميعًا.» كما يقول الصحفي رامبير (ص٢٩٠).
٤٨  أسطورة سيزيف، ص٥٤، ٢١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤