الفصل الثالث

التمرُّد

«الإنسان فانٍ، هذا جائز، ولكننا نريد أن نفنى ونحن نُقاوِم، وألا نُعطيَ للعدم، إن كان ينتظرنا حقًّا، أيَّ مظهرٍ من مظاهر العدالة.»

(سيناكور: «أوبرمان»)
نصٌّ اقتبسه كامي ووضعه شعارًا للرسالة الرابعة إلى صديقٍ ألماني.
  • (أ)

    بناء التمرد.

  • (ب)

    التمرُّد والثورة: التاريخ.

  • (جـ)

    الانحراف عن التمرُّد: النعم المطلَقة.

  • (د)

    التمرد المعتدل وفكرة الحدِّ والمقياس.

  • (هـ)

    إستطيقا التمرد.

  • (و)

    تلخيصٌ عام.

(أ) بناء التمرُّد

كان همُّ كامي في أعماله المبكِّرة أن يصور جانبي الظلِّ والنور في الوجود الإنساني وأن يُبِرز مُحاليته على المستوى الفردي. وكانت كرامة الإنسان وعزَّته في احتمال هذه المُحالية، ومواجهتها في تحدٍّ وأمانة وشجاعة. أما مشكلة الموت، ممثلةً في مشكلة الانتحار التي جعل لها الأولوية على سائر المشكلات، فكانت هي التناقُض الممزِّق للقلب الذي انطلق منه فكره الفلسفي كله. وأما الموت الذي تُبرِّره الحُجج العقلية، وتدعمه المذاهب الفلسفية والعقائد الأيديولوجية، ممثلًا في صورة القتل بالجملة، فلم يكن قد التفت إليه بعدُ.

كانت مُحالية الحياة، كما رأينا، أمرًا لا غنى عنه لتأسيس الحرية. ولقد رفض الانتحار رفضًا حاسمًا؛ لأن الانتحار معناه التخليِّ عن الوعي، والوعي هو القيمة الحقيقية الوحيدة التي يملكها الإنسان، وهو الذي ينبغي عليه بإزاء المُحال أن يحافظ عليه، في أعلى درجات التوتُّر والنُّصوع والصفاء. ولم يكن واجب الإنسان قاصرًا على أن يحيا فحسب، لكي يتيح الحياة للمُحال، بل كان الواجب عليه أن يزيد من الحياة. مزيدًا من الحياة؛ تلك كانت القاعدة الأخلاقية التي اتخذها «نماذج المُحال» شعارًا لحياتهم ومقياسًا لسلوكهم. وقد جعلَتهم يُقدِّمون الكمَّ على الكيف، لا بل يجرِّدون القيم الكيفية من كل معنًى أو دلالة. وقد يذهبون إلى أبعدَ من هذا، فيرَونَ أن القيم الكيفية تُزيِّف الحياة، وتملؤها بالأوهام، وتُبرِّر القتل على اختلاف صوره تبريرًا أيديولوجيًّا (والغازي، وكاليجولا، ومارتا وأمها أمثلةٌ واضحة على ذلك). كانت القيم الوحيدة التي تحتفظ بمعناها هي القيم المتجسِّدة أو «حقائق اللحم»١ التي تحدَّثنا عنها فيما تقدَّم، والتي لا يُخالِج أحدًا أن يشُك في صدقها ويقينها. وكانت إستطيقا المُحال، أو «الخَلق بلا صباح» هي تسجيل تمرُّد الإنسان على ظروف حياته المحالة في لحظةٍ سمَّيناها ﺑ «الأبدية الفانية». وكما استند سيزيف على صخرته التي كُتِب عليه أن يدفعها إلى قمة الجبل في عودٍ على بدءٍ لا نهاية له ولا رجاء فيه، فقد استند الإنسان أيضًا على صخرة الموت الذي لا حيلة له فيه ولا مفَر له منه. وكان أقصى ما يستطيعه هذا التمرُّد المُحال هو الصبر، والشجاعة، والكبرياء، وأن يستنفد كل جهده في تحدِّي قدَرٍ ظالمٍ مُحال. لقد خنقَت «النعم»، إن صحَّ هذا التعبير، صرخةَ «اللا».

كل هذا قد عرفناه في السطور السابقة.

غير أن الإنسان لا يظل إلى الأبد «غريبًا» في هذا العالم، ولا في مقدوره أن يُغلِق وجدانه دون الاتصال بوجدان الآخرين. وهو حين يموت لا يكون موتُه دائمًا نتيجةَ ضرورةٍ عمياءَ تُحتِّمها الطبيعة أو يُدبِّرها القدَر المُحال. وحين ينتزع الموت حياته لا يكون ذلك نتيجة إرادته الحرة المختارة دائمًا. إن إنسانًا آخر قد يسلبُه وجوده الحق (كما هو الحال في علاقة السيد-بالعبد) فيتركه جثةً تسير على قدمَين، أو يطمس هذا الوجود ويُلغيه إلغاء. والموت قد يُصبِح شرفًا يفتخر به الجلادون، ويُبرِّرونه بالنظريات والمبادئ، وبالأساطير والعقائد المذهبية. ويصبح كذلك من المستحيل تفسيرُ مثل هذا الموت في حدود دائرة المُحال، ومن خلال الأفق الذي تدور فيه مشكلاتُه. إننا الآن نواجه مشكلةً أخرى غير مشكلة الانتحار الذي يُقدِم عليه الفرد فيتحمَّل وحده مسئوليته، ويُقاسي وحده آلامه. إن مشكلة «القتل» تجعلُنا نُواجه موقفًا جديدًا نحتاج معه إلى قيمٍ جديدة.

وهكذا يتبع السؤال الأول: هل يجوز لي أن أقتل نفسي؟ سؤالٌ جديدٌ: هل يجوز لي أن أقتل غيري؟ إن حتمية الموت أو «رياضته الدموية» التي كانت من أهم عناصر التفكير المُحال، لم تعُد هي المشكلة الأساسية التي تشغل الفكر المتمرِّد. إن الناس جميعًا يموتون، وتلك مشكلةٌ لا نملك أن نفعل إزاءها شيئًا. أما أن الناس يُقتلون فتلك مشكلةٌ أخرى، يجب علينا ألا نقف حيالها مكتوفي الأيدي. مشكلة الموت إذن باقية على الحالَين. لم يُقضَ عليها، ولكن اتسعَت دائرتها، ووُضعَت في مجال تجربةٍ إنسانيةٍ أوسع، هي تجربة التمرُّد.

إن فكرة التمرُّد، كما يُطبِّقها كامي في بداية مقاله الفلسفي الكبير المتمرِّد، ليست إلا فرضًا يُحاوِل به أن يُفسِّر اتجاه عصرنا تفسيرًا جزئيًّا، كما يُحاوِل أن يفسر به انفلاتَه من كل الحدود تفسيرًا يُشبِه أن يكون شاملًا.٢ إنها تُصوِّر تاريخ الكبرياء «الأوروبية»٣ وتُعبِّر عن غرورها وطيشها وتخبُّطها. والبحث في مواقف هذا التاريخ ومطامحه، في نجاحه وفشله، هو وحده الذي يمكِّن للتمرُّد من أن يفتح لنا أفقًا جديدًا ظلَّ حتى الآن مغلقًا دون التفكير المُحال، وكان لا بد أن يظل كذلك.
ولكن ما هو التمرُّد؟ إن كامي يُعرِّفه على النحو التالي: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يرفُض أن يكون على ما هو عليه،٤ أو بمعنًى آخر هو الكائن الذي لا يرضى أبدًا عن كيانه؛ فهو دائم السعي إلى تغييره والعلو عليه؛ فالتمرد بهذا المعنى موجودٌ في كل تجربةٍ إنسانية؛ لأن كل تجربةٍ إنسانية جديرة بهذا الاسم تحتوي على نوعٍ من الرفض للواقع كما هو عليه. ولكن هل يستنفد التمرُّد طاقته في هذا الرفض؟ وهل يكون المتمرِّد مجرَّد إنسانٍ يقول «لا»؟
الحق أن التمرُّد ينطوي على «اللا» و«النعم» ويضمُّ الموافقة والرفض في وقتٍ واحد؛ فالمتمرد الذي يقول لا يؤكد وجود حدٍّ لا يجوز لأحد أن يتخطَّاه. يقول العبد لسيِّده والمضطهَد لمن يضطهِده: «إنك تتجاوز الحد.» أو يقول: «لا تذهَب إلى أبعدَ من هذا.»٥ إنه يقول «لا» لمن يدوس حقوقه بقدمَيه، ولكنه في الوقت نفسه يقول «نعم» لهذه الحقوق نفسها. ويتجاوز بذلك النفي الخالص إلى توكيدٍ خالص. العبد الذي تسلَّل شعاع الحرية لأول مرة إلى زنزانة وجوده المُعتِمة لا يحتجُّ فحسب، بل يؤكِّد كذلك ويوافق. إنه يكشف لمُضطهِده عن جزءٍ من نفسه، يُريد له أن يُحترم ويرفُض له أن يُهان. وفعل الرفض في حدِّ ذاته قيمةٌ أخلاقية، كما هو أيضًا حُكمٌ بالوجود؛ فالعبد الذي يستنكر وجود العبيد يعترف في الوقت نفسه ﺑ «سببٍ أعمقَ يدعوه إلى الحياة.»٦ ذلك أن التسليم الصامت بوجود العبيد معناه التخلِّي عن تلك القيمة، والتضحية بذلك الجزء من نفسه، الذي ينبغي أن يظلَّ مقدَّسًا لا يمسُّه أحد.
لقد سمعنا من قبلُ صرخةَ الاحتجاج يُطلِقها الإنسان في وجه المُحال، ولكن السبب الأعمق الذي يدعو الإنسان إلى الحياة لم يكن في هذه المرحلة يتعدَّى تلك الصرخة اليائسة المتكبِّرة التي تُدوِّي في سمعِ عالمٍ أخرسَ أصمَّ مجرَّدٍ عن كل معنًى: «إنني أصرُخ قائلًا إنني لا أومن بشيء، وإن كل شيءٍ مُحال، ولكنني لا أستطيع أن أشُكَّ في صرختي، ولا بُد لي على الأقل أن أومن باحتجاجي.»٧ ولكن هذا الاحتجاج الفردي المسجون بين جدران الذات قد استنفَد نفسه، كما رأينا، في التمرُّد المُحال. والتمرُّد المُحال قد أنشب كالوحش الجريح الثائر أنيابَه في جسَده، فلم يستطع أن يخرج من حدود ذاته، ولم يستطع أن يؤسِّس قيمةً عامةً شاملة.
ولكن ها هي التجربة قد اتَّسع مجالها، والضرورة تستدعي وجود قيمٍ جديدةٍ. المُضطهَد المغلوب على أمره قد شعَر في أثناء ذلك بذاته (لعلَّ السبب في ذلك هو لقاؤه بالواقع الجديد، أو لعلَّه هو المشاركة الإيجابية في حركة المقاومة السريَّة لجيوش الاحتلال، والانفعال العميق بآلام الحرب). إنه يخاطب الآن مُضطهِدَه مخاطبة الندِّ للند. وديالكتيك «إمَّا الكل أو لا شيء على الإطلاق.»٨ (الذي كان دائمًا شعار التمرُّد المُحال عند العدميين من أمثال الطاغية كاليجولا واليائسة الحالمة مارتا) قد اتضح الآن في ضوءٍ جديد؛ فالضحية تصرخ في وجه جلَّادها هاتفة: إمَّا أن تحترم ما أنا عليه، وإما أن أُوثِر ألَّا أكون على الإطلاق. فما هو هذا الكيان الذي تريد الضحية أن تحافظ عليه من بطش جلَّادها، وما هذا الوجود الذي يريد المضطهَد أن يؤكِّده في وجه من يضطهِده؟ إنه قبل كل شيءٍ الوعي والحرية، وكلاهما يكوِّنان جوهر التمرُّد. ثم ما هو هذا «اللاكيان» أو «اللاوجود» الذي يجعل منه المتمرِّد البديل الوحيد للكيان والوجود؟ إن كلمته لمُضطهِده تعني هذه العبارة: «إذا كنتَ تراني على استعدادٍ لأن أموت، فإن ذلك هو البرهان على أنني أؤكِّد وجود قيمة تعلو على وجودي ويشترك فيها جميع الناس.»٩ فما هي هذه القيمة التي يشترك فيها جميع الناس على السواء، وما هذا الوجود الذي يختار المتمرِّد العدم في سبيل الدفاع عنه؟ إننا نقترب بسؤالنا هذا من فكرة الطبيعة الإنسانية التي سيأتي الحديث عنها فيما بعدُ، والتي تُعبِّر عن شيءٍ يبقى وراء التغير، وقيمة تعلو على وجود الأفراد.
التمرُّد حتى الآن يحتوي على التوتُّر الدائم بين النعم واللا، بين التأكيد والرفض، وبين الوجود والعدم. ويكشف التحليل لمعنى التمرُّد عن خصائصه الجوهرية الأخرى؛ فهو إلى جانب هذا التوتُّر المتصل كرمٌ وشهامة؛ فالأمر في التمرُّد أمرُ قيمةٍ قد يستدعي الدفاع عنها وتأكيد وجودها أن يُضحِّي الإنسان بحياته في سبيلها. وهي بذلك أيضًا عكس الأنانية.١٠
وفي التمرُّد يتحد المضطهَد مع كل المضطهَدين، وتتحقَّق «الهوية» التي تجمع بين الإنسان وأخيه الإنسان. والتمرُّد كذلك تضامُن؛ ففيه يعلو الإنسان على نفسه، ويتجاوزها إلى الآخر. وفيه يعي الإنسان وجوده، كما يعي وجود الآخرين. وعن طريق هذا الوعي يعرف تضامُنه مع كلِّ من يشاركونه في الإنسانية، وفي نفس الوجود، سواء في ذلك توصَّلوا إلى ذلك الوعي أو لم يتوصَّلوا إليه. والتمرُّد كذلك نقي؛ لأن المتمرد لا يشتهي أن يملك شيئًا لا يملكه غيره. وهو لذلك أيضًا لا يمكن أن يختلط بالإحساس بالمرارة،١١ الذي يفترس الإنسانُ فيه نفسه بالحسَد والحقد والندَم. وهي نقيةٌ؛ لأن الإنسان في فعل التمرُّد يهَب نفسه لما يكون جوهر الإنسان على الإطلاق، ويستعدُّ للتضحية بوجوده في سبيل تأكيد هذا الوجود نفسه. وهو أخيرًا نقي لأنه بريء؛ فكل تمرُّدٍ هو في حقيقته شوقٌ إلى البراءة.١٢ يشتبه في ذلك الإنسان المتمرد بإنسان المُحال؛١٣ فكلاهما بريءٌ في حقيقته وجوهره. هذه البراءة هي التي يُعبِّر عنها «دييجو» بطل مسرحية «حالة حصار» حين يُخاطِب الوباء قائلًا:

دييجو: نحن أبرياء! البراءة، أيها الجلَّاد، هل تفهم ما هي البراءة؟

الوباء: البراءة؟ أبدًا، لم أسمع عنها.١٤

ليس التمرُّد مجرَّد احتجاجٍ يقوم به العبد ضد سيده الذي يضطهده، ولا هو مجرَّد الثورة التي يُعلِنها إنسانٌ على من يُنكِر حقَّه في الحرية. إن التمرُّد أعمقُ من ذلك وأكثرُ شمولًا. والحق أن هناك إلى جانب تمرُّد العبد على سيده تمرُّدًا آخر يختلف عنه، وينبغي أن نفصل بينهما فصلًا واضحًا، وإن كان ذلك لا يمنع من القول بأنهما يسيران في خطَّين متوازيَين. ذلك هو «التمرُّد الميتافيزيقي»، فإذا كان العبد يتمرَّد على من يُنكِر عليه قيمةً يعرف الآن أنها مشتركةٌ بينه وبين جميع الناس، فإن الإنسان في التمرُّد الميتافيزيقي إنما يتمرَّد قبل كل شيءٍ على الموت والفَناء الذي قُدِّر عليه بما هو إنسان، على الخليقة كلها وعلى تلك القوة التي يُحمِّلها مسئولية الموت والتعاسة و«فضيحة» المصير الإنساني الذي كُتب عليه أن يلقاه.

إنه بذلك يفترض وجود الله في نفس اللحظة التي يُنكِره فيها. إنه ينتزع هذا الكائن العليَّ من ديمومته الأبدية ويُدخله في وجوده الذي يرى أنه مُحال، ويُلقي به في دوَّامة التاريخ. بذلك يريد التمرُّد أن يؤكِّد أن كل موجودٍ متعالٍ فهو على الأقل في مستواها متناقضٌ مع نفسه.١٥

هنا يواجهنا السؤال العسير: ما هي علاقة المتمرِّد بالله؟

الحق أن المتمرِّد لا يُنكِر وجود الله؛ فهو يتَّهمه بالظلم، ولا يطمح إلى الانتصار عليه؛ ففي ذلك خروج على الحد يكافحه أينما كان. إنه يرفض وجود الله ويتحدَّاه، والإنسان لا يرفض ما لا وجود له، ولا يتحدَّى وهمًا ولا عدمًا. وطالما كان المتمرد يضع نفسه في موقف الاختيار بين إلهٍ قادرٍ على كل شيء ولكنه شرِّير، أو بين إلهٍ طيبٍ ولكنه عقيم،١٦ فإننا لا نستطيع أن نقول عنه إنه ملحدٌ athéiste، بل أقصى ما نستطيع أن نقوله عنه أنه مناهضٌ للربوبية antihéiste. إنه يرفض وجود الله باسم الإنسانية الدنيوية التي ترى أن مشكلة الإنسان الحقيقية — كما تعبر عن ذلك شخصية تارُّو في رواية الوباء — أن يُحاول أن يكون قِديسًا بغير إلهٍ ولا دينٍ يرتبط به، وأن يُعلِن ثورتَه على الوجود الذي تُعذَّب فيه الأطفال وتموت، دون أن يرفع عينَيه إلى سماءِ يصمت فيها الله، كما تُعبِّر عن ذلك شخصية الطبيب ريو في الرواية نفسها؛ فالتمرد على الله ليس هو الأصل في التمرُّد الميتافيزيقي الذي عرفنا أنه تمرُّد على المصير الإنسانيِّ الذي كُتب فيه الفناء على الإنسان، بل الأَولى أن يُقال إن التمرُّد على الله مشتقٌّ من التمرد الميتافيزيقي. إن الإنسان الذي يجد نفسه مُلقًى به في عالمٍ محكومٍ عليه بالموت، ويرى الأطفال الأبرياء يتعذَّبون ويموتون أمام عينيه، يتمرَّد على الله الذي يعتبره أصل العذاب كله، ويرى أنه هو «أب الموت» و«أكبر الفضائح».١٧
إن التمرُّد على الله ليس في حقيقته غير صورةٍ من صور التمرُّد على المطلَق؛ فالإنسان الذي يعرف أنه عاجزٌ عن الوصول إلى المطلَق،١٨ يرى أن واجبه الأول هو أن يعي حدوده ولا يتعدَّاها بحالٍ من الأحوال، فإذا تمرَّد فإنما يتجه بتمرُّده أول ما يتجه إلى كل مَن يتجاوز حدود الإنسانية ويرفع نفسه إلى مصافِّ الآلهة. وهو في ذلك إنما يسير على هَدْي القاعدة التي يضعها كل متمردٍ حقيقيٍّ نُصبَ عينَيه: «أن يتعلَّم الإنسان كيف يحيا وكيف يموت، وأن يرفُض أن يكون إلهًا لكي يظل إنسانًا.»١٩
إن التمرُّد، مثله في ذلك مثل المُحال، هو في جوهره نوعٌ من المواجهة أو التقابُل الحادُّ بين الوعي الناصع وبين العالم غير المعقول، لا لأنه غريبٌ، وغامضٌ، ولا سبيل إلى فهمه ومعرفته فحسب، بل لأن الشر والعذاب والموت يتحكَّمون فيه؛ ومن ثَم يكشف المُحال عن وجهه التاريخي الذي لم نتبيَّنه من قبلُ. ويظل التمرُّد، الذي يُعبِّر دائمًا عن صرخة الاحتجاج في وجه هذا المُحال في صورته التاريخية، هو مطمح الإنسان إلى «الوحدة السعيدة».٢٠ حتى العبد الذي يتمرَّد على سيده يطمح إلى الوحدة والوضوح — وهذا المطلب الدائم للوحدة شيءٌ جوهريٌّ بالنسبة لوعي الإنسان؛ ففي الوحدة دوام، وعدل، وشفافية، وفيها السعادة التي يرى أن من حقه أن يسعى إليها ما بقي موجودًا على هذه الأرض. هذه الوحدة السعيدة التي ينشُدها وراء المظاهر الفانية المعذَّبة، هي التي يريد المتمرِّد أن يواجه بها العالم المُحال الذي ينهشُه الفَناء في كل لحظة، والمصير الإنساني الذي يهشِّمه الشر والظلم على مرِّ التاريخ، وهي المطلب المتواضِع الذي يواجه به طموحَ مَن يريدون «كل شيءٍ أو لا شيء»، ويَسعَون عبثًا إلى تحقيق حريةٍ مستحيلة وعدالةٍ مستحيلة، تذهب ضحيَّتَها أجيالٌ وراء أجيال.
وليس السعي إلى الوحدة (وهو في الوقت نفسه نشدانٌ للوضوح والبراءة والنقاء) إلا محاولةً للرجوع إلى منبع التمرُّد الحق، والتماس الحدِّ والمقياس إبقاءً على معنى «النسبي» وفرارًا من غلوِّ «المُطلَق».٢١ وهو كذلك محاولةٌ لحل تلك المتناقِضات التي وقعَت فيها الثورات التاريخية حين حادت عن معنى التمرُّد الأصيل.

قلنا الثورة وقلنا التمرُّد، فما الذي نفهمه من هاتَين الكلمتَين؟ وما هو الحد الفاصل بينهما؟ وهل الثورة كما يبدو من العبارة الأخيرة عكس التمرُّد؟ وكيف فقدَت في مسار التاريخ نقاءها وبراءتها؟

لا بد قبل الإجابة على هذه الأسئلة من أن نتَّفق أولًا على معنى «التاريخ» كما يفهمه كامي.

(ب) التمرُّد والثورة: التاريخ

يُكثِر كامي من استخدام كلمة التاريخ في سياق كتابه الكبير «المتمرِّد»، ولكن مفهومه لها يظل غامضًا مُحيرًا في معظم الأحيان؛ لذلك كان من الضروري أن نحاول تحديدها بقَدْر الإمكان.

يردُّ كامي في مواضعَ عديدةٍ من كتابه على نُقَّاده الذين يأخذون عليه أنه رفض التاريخ رفضًا مسبقًا على كل تجربة، ولكنه إن كان لا يرفض التاريخ ولا ينكره فهو على الأقل لا يُعفيه من الاتهام؛ فهو عنده حامل الثورة التاريخية التي تنكَّرَت للتمرُّد الأصيل وحادت عن محجَّته. وقبل أن نوضِّح ذلك بالتفصيل نرى لزامًا علينا أن نتتبَّع مفهومه للتاريخ في أعماله السابقة على المتمرِّد.

ففي أسطورة سيزيف نجده يقول: «عند الاختيار بين التاريخ وبين الأبدي آثرتُ أن أختار التاريخ؛ لأنني أحب الحقائق اليقينية.»٢٢ كما نجده يتحدث عن الزمن الذي صمَّم على أن يتحد معه،٢٣ ويغوص فيه إلى أعماقه. هذا الزمن الذي اختار أن يعيش فيه، والذي رآه يجري أمام عينَيه جريان النهر أمام هيراقليط، قد دفعَه إلى اليقين بأن الموجودات كلها فانية،٢٤ وأن المستقبل لا سبيل إلى التنبؤ به، وأن التذكُّر عقيم.
ليس التاريخ هنا غير الزمانية المتصلة، فهي الحاضر المباشر، وهي الضد المقابل للأبدية واللازمانية. وهذا المفهوم من الزمانية باعتبارها الحضور المتصل للحظة العابرة المنفصلة، وباعتبارها المملكة الوحيدة الممكنة للأخلاقية التي جعلَت شعارها «مزيدًا من الحياة»، هي التي جعلت إنسان المُحال يقف من الأبدية موقف التحدِّي وهي التي جعلَته يقول في «الريح في جميلة»:٢٥ «ماذا تعنيني الأبدية؟» ويُحاوِل أن يبحث عن الخلود بين جدران هذه المملكة الفانية. مثلُ هذا التاريخ المغزول من نسيج اللحظات العابرة الفانية، لا يتهمه كامي ولا يرفضه. بل الأَوْلى أن يُقال إنه يتشبث بكل لحظةٍ فيه ويُحاوِل أن يعتصر منها سعادته الوحيدة الممكنة. إنه قبل كل شيء «منفيٌّ في الزمن»،٢٦ يلجأ إليه إنسان المُحال، كأنه واحدٌ من تلك الأسوار القاسية التي فرض على نفسه أن يتحصَّن وراءها. إنه هنا يعيش في الحاضر وحده جاهلًا بمستقبله، منقطع الصلة عن ماضيه.

إن مفهوم التاريخ يتأرجح معناه بين التاريخية البحتة من ناحية وبين الحتمية التاريخية من ناحيةٍ أخرى، ولكي نوضِّح ذلك يجب علينا أولًا أن نُحاوِل الإجابة على هذا السؤال: ما هي العلاقة بين التمرُّد والزمن؟ ما موقف التمرُّد من هذا الزمن في أبعاده الثلاثة؛ الماضي والحاضر والمستقبل؟

كلما ذكرنا التمرُّد ذكرنا معه البراءة والنقاء؛ فالطلب الذي لا ينفك المتمرِّد يطالب به نفسه وغيره هو المحافظة على نقاء التمرُّد؛ أعني على قربه من منبعه الأصيل. وكل فكرةٍ تستقي من الماضي أو تتنبأ بالمستقبل (وبالتالي تحدِّده) فهي فكرةٌ غريبةٌ على روح التمرُّد الحق، غير وفيَّة لها. وعلى العكس من ذلك كل فكرة تنبُع من الحاضر وتتجنَّب المتعالي (الترانسندنس) على اختلاف صوره، فهي تحتفظُ بقيمتها. مثلُ هذه الفكرة الأخيرة لا تتطلَّب من الإنسان أن يخضع لها؛ أعني أن يفقد حريته في سبيلها. إن على التمرُّد الذي يريد أن يُحافظ على نقائه أن يخلُق نفسه في كل لحظةٍ من جديد؛ لأنه في صيرورة لا ينقطع تيَّارها. حتى إذا غاص في الزمن (باعتباره المسار التاريخي الذي يتجه نحو غايةٍ لا يمكن التكهُّن بها)، لم يستطع أن يخلق قيمةً حقيقيةً واحدة. عندئذٍ يصبح التمرد ثورةً تاريخية، ويصبح بروميثيوس الوحيدُ الذي ثار على الآلهة من أجل البشر قيصرَ الوحيدَ الذي يُملي إرادته على الرعية الصامتة. وعندئذٍ أيضًا يصبح الإنسان شيئًا، يُعامَل معاملة الأداة التي يُراد بها تحقيق غايةٍ غيبيةٍ أخيرة. هنالك يصبح المتمرِّد هو الضحية؛ لأنه يريد أن يحيا في الحاضر وحده: «إن السخاء الحقيقي تجاه المستقبل هو في إعطاء الحاضر كل شيء.»٢٧
«أن نفعل، كما لو كان في استطاعتنا أن نُصلح الإنسان والأرض.»٢٨ كان ذلك هو الدرس الذي أخذناه عن تجربة المُحال. غير أن إصلاح الإنسان (وهي في حد ذاته فعلٌ محكومٌ عليه بالفشل دائمًا، كما يرى كامي) لا يعني أن نفرض على الإنسان معنًى أعلى أو نُسلِّط عليه أية متعالٍ (ترانسندنس) من أي نوعٍ؛ فلو أننا فعلنا ذلك لألغينا الإنسان وألغينا هدفه الحقيقي في الوقت نفسه؛ لأن «الإنسان» هو الهدف الحقيقي الوحيد للإنسان.٢٩
فما هو إذن هذا الهدف الذي يسعى إليه الإنسان؟ هو في حقيقته مساعدة الإنسان على الحياة، لكي يثور في وجه الموت، وإعطاؤه السعادة، لكي يحتجَّ على شقاء العالم الذي أُلقي به فيه، وتأكيد العدالة، لكي يكافح الظلم الأبديَّ المحيط به من كل جانب، وأن نتوخَّى في أفعالنا أن يعثُر الناس على تضامُنهم من جديد، لكي يشتركوا معًا في التمرُّد على مصيرهم.٣٠
بذلك يكون التمرد على مستوى التاريخية تمردًا نفسيًّا-ميتافيزيقيًّا خالصًا.٣١ إنه لا يشغل نفسه في شيءٍ بالمجتمع ولا بالحياة الاجتماعية، بل يتحرك في اللحظات المباشرة المتلاحقة من الحاضر العابر، هادفًا إلى تحقيق سعادة الإنسان في موقفٍ محدَّد؛ فعالَم الشقاء الذي يحتجُّ عليه المتمرِّد ليس هو العالَم الاجتماعي، أو ليس كذلك بالدرجة الأولى. إن احتجاجه مُنصبٌّ على الطبيعة «الكثيفة» غير المبالية، التي يعيش الإنسان فيها غريبًا محكومًا عليه بالموت، وتمرده يتجه أوَّل ما يتجه إلى السماء الصامتة إلى الأبد.
هنا نستطيع أن نفهم سِرَّ النقد الشديد الذي وجَّهه سارتر إلى كامي؛ ففي رأي سارتر٣٢ أن كامي قد رفض التاريخ رفضًا مُقدمًا على كل تجربةٍ تاريخية. ورفضُه له لا يرجع إلى أنه قد تعذَّب فيه أو كشف عن وجهه المُفزِع من خلال الرعب والقسوة (الأمر الذي لا يستطيع أحدٌ أن ينكره على كامي المكافح الشجاع) بل إلى أنه قد وضع القيم الإنسانية بأسْرِها في كفاح الإنسان ضد السماء، حيث يصمتُ الإله إلى الأبد. هذا الكفاح الذي يُعلِنه الإنسان على قدَره الظالم المُحال يظل خارج التاريخ، بعيدًا عن كل تاريخيةٍ ممكنة؛ ومن ثَم لا يمكن أن يُعَدَّ كفاحًا على الإطلاق. إنه يعلو على التاريخ أو بالأحرى يتعالى عليه؛ ذلك لأنه لمَّا كان الظلم أبديًّا؛ أعني لما كان غياب الله مستمرًّا خلال التاريخ، فإن العلاقة المتجدِّدة أبدًا من جانب الإنسان الذي يبحث عن المعنى بهذا الإله الذي لا يخرُج عن صمته الأبدي لا بد أن تكون هي نفسها علاقةً متعالية على التاريخ، خارجةً عنه.
الحق أن نقد سارتر يمكن أن يكون على صوابٍ لو أن التمرُّد كان يهدف إلى النقاء المطلق أو البراءة المطلقة؛ فالحقيقة أن التمرد، كما سنرى فيما بعدُ، لا يصل بطموحه إلى أبعد من «الذنب المحسوب» أو «الخطيئة النسبية».٣٣ إنه لا يطمع في البراءة المستحيلة، بل يريد أن يكتشف مبدأ الذنب المعتدل المعقول.٣٤ وهو إذن لا يستطيع أن ينكر التاريخ أو يرفضه؛ لأن التاريخ هو نفسه الذي يحمل مسعاه إلى اكتشاف الحدِّ والمقياس على كتفَيه والمتمرِّد مهما بلغَت مشقة الجهد الذي يبذلُه لا يمكن أن يطمح إلا إلى تقليل كمية الألم في هذا العالم: «إن القيمة الأخلاقية التي يخلقها المتمرِّد لا تعلو في آخر الأمر فوق الحياة والتاريخ، ولا التاريخ والحياة يعلُوان عليها؛ فالحق أنها تكتسب واقعيَّتها في التاريخ حين يبذل إنسانٌ حياته من أجلها، أو حين يكرِّس لها حياته.»٣٥ وإذا اضطُرَّ المتمرد في لحظة من لحظات حياته إلى قتل إنسان، فإنما يفعل ذلك لإنقاذ حياةِ وسعادةِ مَن يشتركون معه في الإنسانية، لا في سبيل إنسانيةٍ لم تُوجد بعدُ؛ فهي لذلك مجرد فكرة أو تجريد.
ننتهي من هذا إلى أن كامي لا يُلغي التاريخ ولا يرفضه (فلو صحَّ ذلك لكان فيه إلغاء الواقع نفسه). وإنما يرفض ذلك الاتجاه الفكري (ونعني به الحتمية التاريخية) الذي يُحاوِل أن يجعل من التاريخ شيئًا مطلقًا. وهو لا يُنكِر التاريخ (وكيف يستطيع أن يُنكِره؟) وإنما يُنكِر موقفًا عقليًّا يختار التاريخ والتاريخ وحده، وبذلك يختار العدَمية ويتجاهل حكمة التمرُّد كلها.٣٦

ما هي الآن علاقة التمرُّد بالثورة؟ هل يُكمِّلان بعضهما البعض أو هل يستبعد أحدهما الآخر؟ وإذا صحَّ أن الثورة قد حادت عن منبع التمرُّد الأصيل، وانحرفَت عن قيمها الحقَّة، فما الذي يستطيعه التمرُّد الذي يظل على وفائه لنفسه؟ وماذا يستطيع أن يقدِّمه لنا لكي يفسِّر سلوكَ الإنسان ويُضفيَ عليه معنًى وقيمة؟ هذه كلها أسئلةٌ يجب علينا أن نمتحنها عن كثَب؛ فكامي يتحدث عن الثورة فيبدو من حديثه كأنها هي مسخُ التمرد، بل كأنها الضد المقابل له.

وأول ما نلاحظه في هذا الصدد هو أن المتمرد لا يكون شيئًا حتى يكون ثائرًا.٣٧ والعكس صحيح؛ فالثائر الذي لا يكون في الوقت نفسه متمردًا، لا يتسنَّى له أن يكون ثائرًا بحق. إنه حين يحيد عن منبع التمرد وقيمه لا يعدو أن يكون موظَّفًا أو رجلًا من رجال البوليس، تُلغي أفعاله التمرُّد في حقيقته ومعناه، فإذا كان الثائر في الوقت نفسه متمردًا — وهنا يكون التناقُض الفريد بين التصوُّرَين — فهو إمَّا أن ينتهي إلى الجنون وإما أن يصمِّم على الوقوف في وجه الثورة. نحن مُضطَرون إذن أن نُقرِّر تزامُن٣٨ هذَين التصوُّرَين وتناقُضهما في آنٍ واحد، وذلك إلى أن نوضِّح الفروق بينهما على وجه التحديد.

ماذا عسى أن يحدُث للمتمرد الذي يريد أن يجد مخرجًا من هذه المُعضِلة؟ إنه بالضرورة إما أن يعصي مبادئ التمرد أو يضطهد غيره لتحقيق ما يعتقد أنه يوافق تلك المبادئ؛ أعني أنه سيُضطَر في لغة كامي أن يدخل التاريخ المحض. الموظَّف أو رجل البوليس، الجنون أو الاضطهاد، تلك هي المعضلة التي تُواجه الإنسان المتمرِّد وتجعله على الحالَين في تناقُض مع نفسه.

على أن هذا التقابُل بين المتمرد والثائر يقوم على تقابلٍ أصليٍّ آخر؛ ونعني به التقابُل بين التمرُّد والثورة. ولن نستطيع أن نُدرِك ماهية التمرُّد وحقيقته حتى نحدِّد الفرق بينه وبين الثورة. ونودُّ قبل أن نقوم بذلك أن نسجِّل الملاحظات التالية:
  • (١)
    كل تمرُّد، كما أشرنا إلى ذلك في الصفحات السابقة، فهو في حقيقته شوقٌ إلى البراءة، وكل متمردٍ فهو من ناحية المبدأ إنسانٌ بريء. غير أن الشوق يمدُّ يدَيه ذات يوم فيقبض على السلاح ويحمل الذنب الشامل على كتَفيه؛ أي القتل والعنف والظلم.٣٩

    ولقد ظلَّت الثورات التاريخية والثورات الميتافيزيقية، من ثورة العبيد على يد اسبارتاكوس في نهاية العصور القديمة إلى الثورات التي قتلَت الملك والإله على مدى القرنَين الأخيرَين، تتحمل عن عمدٍ ذنبًا ظلَّ يتضخَّم شيئًا فشيئًا بمقدارِ ما كان هدفها في التحرُّر الشامل يزداد يومًا بعد يوم.

  • (٢)
    ما من ثورة إلا وهي ثورةٌ سياسيةٌ تهدف إلى نظامٍ جديدٍ للحكم، وفي هذا تختلف عن التمرد اختلافًا أساسيًّا؛ فبينما التمرد حركةٌ تصدُر عن تجربة الفرد وتؤدي إلى الفكرة، نجد الثورة تبدأ من الفكرة وتحاول أن تُدخلها في التجربة التاريخية وأن تُشكِّل الفعل بما يتفق مع هذه الفكرة حتى تخلق عالمًا جديدًا تضعه في إطارها النظري؛ أي إن التمرد يظل احتجاجًا لا يدخل في مذهبٍ ولا يعرف عقيدة ولا يتذرَّع بمبدأ، ولا يحكُمه الترابُط المنطقي.٤٠
  • (٣)
    المتمرد لا يريد في الأصل سوى أن يكتسب وجوده ويؤكِّده أمام الله،٤١ حتى إذا قامت الثورة التاريخية — ابتداءً من الثورة الفرنسية إلى الثورة الشيوعية الروسية — نسي الأصل، وفقد الصلة التي كانت تربط به، وراح يسعى جاهدًا إلى إقامة المملكة العالمية، وبسط السلطة الشاملة على طريقٍ دامٍ يزدحم بجرائم القتل التي لا حصر لها.
  • (٤)
    يكافح التمرُّد في سعيه إلى «الوحدة السعيدة» ضد الشر والموت، محاولًا تحقيق عدالةٍ ملائمةٍ وحريةٍ ممكنة. أما الثورة التاريخية التي بلغَت ذروتها في القرن العشرين فهي تطالب بالشمول، وتهدف إلى بلوغ مملكةٍ عالميةٍ، تتحقق فيها العدالةُ المستحيلة والحرية التي لا تعرف حدًّا،٤٢ وتكون هي تاج التاريخ وغايته الأخيرة. والسعي إلى الوحدة يحاول أن يصالح بين اللامعقول والمعقول وأن يجمعهما على صعيدٍ واحد، والمطالبة بالشمول تطمس اللامعقول إذ تعتقد أن المعقول وحده يكفيها لكي تغزو العالم.٤٣

ولكن هل يمكن للطريق المُوصل إلى الوحدة أن يمرَّ أولًا بالشمول؟ وهل كان بحث التمرُّد الميتافيزيقي والثورة التاريخية — وهي النتيجة المنطقية التي ترتَّبَت عليه — عن الوحدة بحثًا يتفق مع روح التمرد؟

ذلك هو السؤال على الحقيقة. الإجابة عليه تكشف عن حقيقة التمرد، وتُحيي جذوته التي كادت تخمدُ تحت ركام الأحداث. وفي سبيل ذلك يُخضع كامي التمرُّد لبحثٍ تاريخيٍّ يحاول أن يفتِّش فيه عن ذاته؛ لأنه لن يجد أصوله ومبادئه إلا في هذه الذات.٤٤ ولكي يُقرِّر كامي ما هو التمرُّد نجده يبدأ بحثه بما ليس بتمرُّد؛ أعني أنه يسير من عدم الوجود إلى الوجود. وهكذا يُحاول أن يكشف عن التسَلسُل المنطقي الذي سار فيه التمرُّد، ويوضِّح موضوعاته الرئيسية التي لا تتغير، عن طريق تحليله لبعض الحقائق الثورية التي استقاها من التاريخ الغربي. وليس كتابه الكبير «المتمرد» سوى محاولةٍ لدراسة بعض الحركات الثورية بمقدار انحرافها عن حقيقة التمرُّد. هذه الانحرافات التي يعرضُ علينا آثارها المُفزِعة من خلال سرده لتاريخ التمرُّد الميتافيزيقي والثورة التاريخية لا يمكن أن تُنسب إلى التمرد؛ فهي انحرافاتٌ لا تظهر إلَّا عندما ينسى المتمرد منابعه الأصيلة، ويسقُط مُتعبًا من التوتُّر المتصل بين «اللا» و«النعم»، حتى ينتهي بالاستسلام للنفي المطلَق أو بإلقاء نفسه بين أحضان التأكيد المطلَق. والتمرُّد يحيد عن منبعه حين يمجِّد أحد القطبَين المتضادَّين في تجربته ويصل به إلى ذروة التطرف. وسوف نحاول الآن أن نقصُر أنفسنا على النظر في اثنَين من هذه الانحرافات، دون التعرُّض للتفصيلات التاريخية المُضنِية التي يزدحم بها كتاب «المتمرد»، آملين أن نقترب عن طريقهما من منبع التمرُّد وحقيقته.

(ﺟ) الانحراف عن التمرد: اللا المطلقة والنَّعَم المطلقة

قلنا منذ البداية إن اللا والنعم مرتبطان في فعل التمرُّد ارتباطًا لا ينفصم؛ فاللا تضرب بجذورها، إن صحَّ هذا التعبير، في النعم، والنعم بدورها كامنةٌ في أعماق اللا. ولقد تتبَّعنا هذا البناء الديالكتيكي لفكر كامي في أعماله المبكِّرة في المرحلة السابقة على ظهور المُحال، كما كشفنا عنه في بناء المُحال نفسه، ثم وجدنا أنه يُميِّز موقف التمرُّد الحق، الوفي لأصله ومنبعه، الذي لا يجعل من اللا ولا النعم شيئًا مطلقًا، بل يعيِّن لكلٍّ منهما الحد والمقياس الذي ينبغي له أن يقف عنده فلا يتجاوزه. ورأينا بذلك أن التمرد يتميز عن موقفَين متطرفَين يمكن تحديدهما على النحو التالي:
  • (٥)

    اللا المطلقة أو نزعة النفي المطلقة.

  • (٦)

    النعم المطلقة أو نزعة التأكيد والموافقة المطلقة.

وقبل الحديث عن هاتَين النزعتَين اللتَين تظهران في مراحل التمرُّد الميتافيزيقي والثورة التاريخية نُحب أولًا أن نفرِّق بينهما ونوضِّح ما نقصده بالتمرُّد الميتافيزيقي؛ فقد بدأ التمرُّد الميتافيزيقي يدخل في تاريخ الفكر المعاصر عند نهاية القرن الثامن عشر. ومن الطبيعي أن نُقابله في مرحلةٍ مبكرة، لدى رائد المتمردين جميعًا في كل العصور، ونعني به بروميثيوس؛ فبروميثيوس، مثله مثل الإنسان المتمرد في العصر الحديث، يكافح الموت، ويحمل رسالة، ويثور حبًّا للبشر. غير أن اليونان الذين لم يتطرَّفوا في شيءٍ ولم يكن من طبعهم أن يُثيروا النزاع حبًّا في النزاع، قد جعلوا منه بطلًا، تُغفَر له خطيئته في النهاية. وكلمة البطل نفسها تدُلنا على أنه كان نصفَ إلهٍ اختلف مع الآلهة، والأمر عنده لا يزيد عن كونه مجرد شقاقٍ عائليٍّ يمكن أن يسوِّي في يومٍ من الأيام؛ فقد كانت لليونان تأمُّلاتهم الميتافيزيقية التي تختلف عن تأمُّلاتنا. كانوا يؤمنون بالقدَر، ولكن إيمانهم بالطبيعة التي كانوا يعُدُّون أنفسهم جزءًا منها كان أقوى وأشد؛ ومن ثَم فقد كان التمرُّد على الطبيعة شيئًا مستحيلًا في نظرهم لأنه سينقلب تمرُّدًا على ذواتهم. حقًّا إن اليأس بدأ يعرف طريقه إلى النفس اليونانية في شتاء الفكر اليوناني، ولكن هذا الصَّدع في الانسجام الشامل بين الطبيعة والإنسان لم يظهر إلا في كتابات أبيقور ولوكريس. وما هو إلا قليلٌ حتى ظهرَت بظهور المسيحية فكرةُ الإله الواحد المتشخِّص، الذي يخلِّص بدمه عذاب الإنسان وخطاياه.

نحن إذن من وجهة النظر هذه أبناءُ قابيل أكثر من أن نكون أتباعَ بروميثيوس.٤٥ فبظهور قابيل يتحد التمرُّد الأول مع الجريمة الأولى، وهكذا يصبح إله العهد القديم هو الذي يحرِّك طاقة التمرد. وحين يُتمُّ العقل المتمرد دورته، يكون عليه — كما فعل باسكال — أن يستسلم في خضوعٍ لإله إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ ومن ثمَّ يصبح العهد الجديد محاولةً للرد مقدمًا على كل قابيل يظهر في هذا العالم، بإظهار الإله في صورةٍ رحيمةٍ عطوفة، ووضع وسيطٍ بينه وبين الإنسان.

فهناك إذن إله العهد القديم المُفزِع في جانب، وهناك إله العهد الجديد الذي حلَّ في جسد إنسانٍ ومات على الصليب. غير أنه يكفي أن تُوضع المسيحية موضع الشك وأن تُثار الريب حول ألوهية المسيح، حتى يصبح يسوع المخدوع بريئًا جديدًا وتنشقَّ الهوة بين السادة والعبيد من جديد. وهكذا يصبح كل شيء معدًّا لهجومٍ عاصفٍ عظيم على سماءٍ معادية للإنسان؛ هذا الهجوم هو الذي يتتبَّعه كامي في مراحله الثلاثة التي سنقف عندها فيما بعدُ بالتفصيل، ونعني بها اللا المطلقة أو النفي المطلق، ورفض النجاة، والنعم المطلقة أو نزعة التأكيد المطلق. ولكل مرحلةٍ منها بطلها ورائدها؛ صاد، وإيفان كرامازوف، ونيتشه.

أولًا: اللا المطلقة أو النفي المطلق

يُعَد المركيز دي صاد والحركة الرومانتيكية مَثلَين جيدَين على هذه النزعة. إن الطبيعة الإنسانية تُلغى فيهما، والإنسان ينحطُّ حتى يصبح موضوعًا للتجربة والمحاولة؛ ومن ثَم كان تطرُّف التمرُّد وخروجه عن كل حدٍّ فيهما. إن «صاد» يريد أن يؤسس الحرية الكاملة على سُعار الشهوة والغريزة، ولذلك فهو لا يستطيع أن يحقِّق تمرده إلا بالنفي المطلق للواقع بأَسْره. وكما كان كاليجولا يأمُر بقتل الناس لكي يُتاح له في رأيه أن يمتلكهم كل الامتلاك، وينظِّم بذلك ما يمكن أن نسمِّيه بالانتحار الجماعي، فإن الحرية الشاملة التي تنطلق فيها الغرائز عند «صاد» تصبح نوعًا من التدمير الشامل، وتنتهي حتمًا إلى القتل. وكاليجولا وصاد، على اختلاف الدافع والغاية بينهما، قد سارا مع منطق التمرُّد المُحال إلى نهايته، واستخلصا منه أقصى نتائجه. كلاهما قد سعى في تمرُّده الجامح نحو الشمول بدلًا من أن يطلب الوحدة.

ومن المعلوم عن المركيز دي صاد أنه ليس بالكاتب ولا بالفيلسوف ذي المكانة المرموقة. ولعل مرجع شهرته إلى أنه قضى بين جدران السجن سبعة وعشرين عامًا. هذا السجن الطويل هو الذي يفسِّر أعماله؛ إنها صخرةٌ وحيدةٌ تُطلِقها الطبيعة، صرخة الدافع الجنسي، الذي أثاره السجن الطويل وكبَتَه وعاقبَه. إنها تُنكِر وجود الله كما تنفي وجود الأخلاق، وتطالب الإنسان بأن يذهب في المتعة والامتلاك الكامل إلى حدود التدمير الشامل الرهيب. الطبيعة عنده هي الجنس. وهذا المنطق يدفع به إلى عالمٍ عاطلٍ من القانون، تتحكَّم فيه طاقة الشهوة وحدها. إنه عالم الحرية المطلقة من كل قيد، طُردَت الفضيلة منه بغير عودة؛ ومن ثَم فالحرية هي الجريمة، وإلا فليست حرية على الإطلاق. وضرورة الجريمة تتطلب ضرورة التنظيم، وتدفع صاد إلى تخيُّل أماكن مغلَقة «قلاعًا تحوطُها الأسوار سبع مرات» يستطيع فيه المجتمع الجديد، مجتمع الشهوة والجريمة، أن يلبِّي صيحة الطبيعة طبقًا لنظامٍ قاسٍ مرير. إنه على العكس من روسُّو وأصحابه من الجمهوريين «الفاضلين» في عصره يكشف عن نزعة الشر الطبيعية في الإنسان، ويصبُّها في قالب القوانين. هو إذن الإلحاد الخالص، الرغبة المدمِّرة التي جعلَت شعارها «كل شيءٍ مُباح». غير أن أديرة الرذيلة التي تجلدُ فيها الشهوةُ أجسادَ البشر، والتي يصبح عبدُ اللذة حاكمها المطلَق وإلهها الأوحد، لم تلبث أن اصطدَمَت بالتناقض الكامن في ذاتها، وتحوَّلَت إلى أديرة للرهبنة الحزينة، والعفَّة اليائسة الممسوخة. ولم يلبث السجين العجوز المخبول، الذي ظلَّ يحلُم بعالمٍ يسجُد للذة، أن راح يحلُم بالكارثة الدموية التي تَسحَق هذا العالم، ويعيش أيامه الأخيرة كالممثل الهزلي المجنون الذي لا يسلِّي غير المجانين.

لم يَعدَم صاد من يخلُفه؛ فالرجل الذي اخترع حصونَ الرذيلة التي تُعدُّ الأب الشرعي لمعسكرات الاعتقال في القرن العشرين، كان يحلُم ببشرية تتجرَّد من إنسانيتها عن طريق العقل البارد. ويمكن اليوم أن يُقال إن حلمه قد تحقَّق، ولكن مع تغييرٍ بسيط؛ فبينما كان يتصور الجريمة في التحرُّر المطَلق من العادات والقوانين الأخلاقية (وينبغي أن نذكُر إنصافًا له أنه كان ينبذ الجريمة الاجتماعية التي تتسلَّح بالمقصلة) راح خلفُه يشرِّعون للجريمة بكل سبيل. والجريمة التي كان يريد لها أن تكون ثمرةً شهيةً غير عاديةِ للرذيلة المنطلقة من قيودها، لم تعُد اليوم إلا عادةً مُفزِعة لفضيلةٍ بوليسية (وتلك هي مفاجآت الأدب كما يقول كامي!)٤٦
وشبيهٌ بنزعة «صاد» نزعةُ الحركة الرومانتيكية التي تتميَّز بإيثارها للشرِّ وتمجيدها للفرد الوحيد.٤٧ فالبطل الرومانتيكي يُحِسُّ باضطراره إلى فعل الشر مدفوعًا بشوقه إلى خيرٍ مستحيل التحقيق. والموقف الرومانتيكي ينبع من الكبرياء؛ فالإنسان الذي لا يملك أن يكون إلهًا، يجعل من نفسه مخرِّبًا مطلقًا، لكي يتوصل إلى السعادة المستحيلة في حدود عالمٍ ممكن (وهذا شبيه بموقف كاليجولا)؛ ومن ثَم لم يستطع الرومانتيكيون أن يتجنَّبوا السقوط في هاوية العدَمية؛ فالبحث عن سعادةٍ ممكنة، أعني سعادةً محدودة ونسبية، هو وحده الذي يستطيع أن يقي صاحبه من التردِّي في ظلام العدَمية. ولقد علَّمنا التاريخ أن العدمية الرومانتيكية ليست مجرَّد نزعةٍ مشبوبةٍ من وجدان معذَّبٍ حسَّاس، بل إن الموت والقتل كامنان في أعماق القيمة العليا عند الرومانتيكيين؛ ونعني بها الغضب المجنون Frénésie.٤٨
وإيفان كرامازوف (في رواية دستويسكي المشهورة الإخوة كارامازوف) هو الشخصية المضادة للرومانتيكيين. إنه لا ينكر وجود الله، بل يرفضه باسم مبدأٍ أخلاقيٍّ أعلى. وهو ينبذ النجاة، الخلود، والنعمة لأنه يعتقد أنه اعترافه بها معناه الاعتراف بالموت والعذاب، وبذلك يضع العدالة فوق الألوهية.٤٩ إنه يريد أن يجد النعمة والمحبة في العدالة، ولكنه سيمضي في رفضه لوجود الله، الذي يحمِّله وحده مسئولية موت الأبرياء.
مثل هذا التمرُّد الطائش النبيل يخضع للديالكتيك الذي يميِّز العدَمية في كل مكانٍ وزمان: «كل شيءٍ أو لا شيء»: طالما أن النجاة ليست من نصيب جميع الناس، فإنني أرفُض النجاة لنفسي. وحيث تختفي العدالة ويسود الظلم، يفقد كل شيءٍ معناه، ويُصبِح كل شيءٍ مباحًا. وتاريخ العدمية في الزمن الحديث يبدأ في الحقيقة من هذه العبارة: «كلُّ شيءٍ مُباح».٥٠ من هذه العبارة التي أطلقَها إيفان كارامازوف بدأ التمرُّد الميتافيزيقي يخطو الخطوة الأولى على طريق الفعل. إنه يجعل شعاره الآن «كل شيء أو لا شيء»، وهو شعارٌ يُقرِّر بدوره أن كل شيء جائزٌ ومُباح، فيسعى إلى أن يخلُق العالم خلقًا جديدًا، يؤكِّد ملك الإنسان ويضمن ألوهيته على هذه الأرض.٥١ كل شيء مباح، وكل شيء جائز، فالجريمة إذن مباحة، والقتل جائز. إن الإنسان الذي يريد أن «يكون»، يصمِّم الآن على أن «يفعل»، فليحكُم إذن، وليَغْز، وليُسيطِر.
هذه اللامعقولية المتطرفة التي تُصاحِب النزعة العدَمية تترك أثَرها على المجالَين الاجتماعيِّ والسياسي، وتُدخِل فيهما التناقُض والتضادَّ الذي لا سبيل إلى رفعه أو التغلُّب عليه، اللهم إلا بالفَناء التام والخراب الشامل؛ أي إن قوى الدم والغريزة المُعتِمة تُصبِح هي القيم الوحيدة الصالحة، وتأكيد الفعل بكل ثمنٍ يصبح هو المبدأ الذي لا مبدأ سواه.٥٢ ولقد أسَّس هتلر وموسوليني دولتَهُما على الفكرة التي تقول إنه ليس لشيءٍ من معنًى وإن التاريخ ليس إلا صدفةً عارضة ولدَتها القوة والسيطرة.٥٣ وإذا بالطاقة المحضة والحركة الخالصة هما التبرير الوحيد لكل شيء،٥٤ وإذا بهذه الطاقة المحضة لا تجد لها متنفَّسًا إلا في الغزو المتصل. ويتجه الغزو إلى الداخل فيُصبِح «دعاية» لا تهدأ؛ أعني استبعادًا للعقل واضطهادًا للروح، فإذا اتجه إلى الخارج لم يَعدَم له عدوًّا، ووجد المبرِّر الذي يدعوه إلى تعبئة الجيوش وإصدار الأوامر بالزحف. وتتضخَّم العلاقة الفردية القديمة بين السيد والعبد فيُسيطِر سيدٌ واحدٌ على ملايين من العبيد.٥٥
إن النفي المطلق يُحطِّم ديالكتيك التمرُّد حين يمجِّد أحد طرفَيه (اللا) ويستبعد الآخر (النعم). والنتيجة المباشرة لذلك هي الجريمة؛ فالذي ينفي كل شيءٍ ينفي معه الطبيعة الإنسانية ويصل إلى الإيمان بأن كل شيءٍ مباح. والذي يُبيح كلَّ شيءٍ يُبيح لنفسه كذلك أن يقتل الآخرين ويُلغي وجود الوعي، أثمن ما في الوجود، بل الوجود الحق نفسه. إنه يُلغي هذه القيم جميعًا حتى يُصبِح «انعدام القيم» هو نفسه القيمة الوحيدة الباقية له. وإذا كان النفي المطلَق معناه العبودية المطلقة، فليست الحرية الحقيقية إلا الخضوع الباطني المختار لقيمةٍ تشمخُ بجبهَتها في وجه التاريخ ونجاحه.٥٦

ثانيًا: النعم المطلَقة أو التأكيد المطلَق

تمثِّل هذه النزعةَ فلسفتا شتيرنر٥٧ ونيتشه؛ فالفردية الأنانية تصل مع شتيرنر إلى ذروتها؛ فليس هناك إلا حريةٌ واحدة هي قُوَّتي، وليس هناك إلا حقيقةٌ واحدة هي الأنا المفردة. ويُصبِح التأكيد المطلَق أشبه بطوفانٍ يجرفُ معه كل نفيٍ أو اعتراض.٥٨

وإذا كان الله قد مات بظهور نيتشه فقد وضع شتيرنر من قبلُ بكتابه «الفرد وملكيته» (الذي ظهر في عام ١٨٤٥م) أساس العدَمية الشاملة، وبدأ يسير في المتاهة التي ينبغي الآن عبورها، ويكشف عن الفراغ المفزِع الذي ينبغي الآن أن يُملأ بقانونٍ جديد.

كان شتيرنر يريد أن يُميت في الإنسان كل فكرةٍ عن الله. ولم يُكافِح الله وحده، بل كافح مادية فويرباخ، والروح المطلقة عند هيجل، وتجسُّدها التاريخي؛ أي الدولة. كل هذه الأصنام قد وُلدت في رأيه من «نزعةٍ منغولية» واحدة. وهي الاعتقاد في الأفكار الأبدية الخالدة؛ ومن ثَم فقد استطاع أن يكتب فيقول: «لقد أقمت قضيتي على العدم.» إن الله بالنسبة إليه هو العدو الأول. وهو يذهب في التجديف إلى أبعدِ حدٍّ ممكن: «ابتلِع الوحش، وبذلك تتخلَّص منه.» ولكن الله ليس إلا إحدى المظاهر الأجنبية للأنا. سقراط، ويسوع، وديكارت، وهيجل، كل الفلاسفة والأنبياء لم يزيدوا عن اختراع صورٍ مختلفةٍ من المظاهر الأجنبية عن هذه الأنا التي تكوِّن وجودي، والتي لا تستطيع الأسماء أن تسمِّيها، لأنها شيءٌ فريدٌ ووحيد. وليس تاريخ العالم إلا انتهاكًا مُتصلًا لهذا المبدأ الوحيد، المتجسِّد، الحي، الذي يكوِّن وجود الأنا لديَّ، مبدأ الانتصار الذي أرادوا له أن يخضع تحت نِير التجريدات المتعاقبة، سواءٌ أكانت هي الله، أو الدولة، أو المجتمع، أو الإنسانية، أو ما شاءوا لها من أسماء. الأبدية كلها كذبةٌ كبيرة. والأنا الأوحد هو الحقيقة الوحيدة، هو عدوُّ كل ما هو أبدي، وعدوُّ كل ما يعوق شَهوتَه في السيادة والتحكُّم.

وهكذا يُصبِح النفي، الذي يحيا عليه كل تمرُّد، عند شتيرنر طوفانًا يجرف معه كل تأكيدٍ وإيجاب. إنه يُزيل من طريقه كل ما حاول الإنسان أن يضعه في مكان الله، ويملأ به ضميره. حتى الثورة يمجُّها هذا المتمرِّد الغريب؛ فلا بد للإنسان لكي يكون ثائرًا من أن يؤمن بشيء؛ حيث لا شيء هناك يمكنه أن يؤمن به: «لقد انتهت الثورة (الفرنسية) إلى الرجعية، وهذا يبيِّن ما هي الثورة في الحقيقة.» والخضوع للإنسانية يصبح شيئًا عقيمًا، مثله في ذلك مثل الخضوع لله. وإذن فما من حريةٍ في نظر شتيرنر إلا «قوَّتي»، وما من حقيقةٍ إلا «الأنانية الرائعة للنجوم».٥٩

المتمرِّد لا يلتقي مع غيره من الناس إلا بمقدار ما تتفق أنانيتُهم مع أنانيته. إن حياته الحقَّة في الوحدة؛ حيث يُشبِع شهوته غير المحدودة إلى الوجود.

هكذا تصل الفردية إلى قمَّتها. إنها نفيٌ لكل ما يُنكِر الفرد، وتمجيدٌ لكل ما يُسبِّح بحمده ويضع نفسه في خدمته. الخير عندها هو كل ما تستطيع أن تستخدمه في صالحها، وكل ما تقدر عليه فهو من حقِّها. وإذا كانت الأنا بطبيعتها تقف من الدولة والشعب موقف المجرم، فلنتعلَّم أن الحياة مساويةٌ للتعدي على الحياة. ولا مفر لمن لا يريد أن يموت من أن يقتُل، حتى يكون وحيدًا. وهكذا يؤدي التمرد مرةً أخرى إلى تبرير الجريمة. ويصبح القتل نوعًا من الانتحار الجمعيِّ بالجملة، وتسقُط الروح المتمردة في ليل العماء، لتُفتِّش هناك عن متعتها الكئيبة المُفزِعة فوق أطلال العالم المنهار. ولا يعود ثمَّة عزاءٌ إلا في العدَم الشامل أو في البعث الجديد. ولا يبقى أمام شتيرنر وأمثاله من المتمرِّدين العدَميين إلا أن يندفعوا إلى هذا الحدِّ الأخير، نشاوى من خمرة الدمار والتخريب.

وأما فلسفة نيتشه فهي عند كامي أصدقُ تعبيرٍ عن التأكيد المطلَق. ليست فلسفةَ تمرُّد بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، بقَدْرِ ما هي فلسفةٌ مبنيةٌ على التمرُّد. إنها تدور حول مشكلة التمرُّد، أو هي، بعبارةٍ أدق، تشرع في أن تكون تمرُّدًا.٦٠ و«النعم» التي يُطلِقها نيتشه إنما تتعلَّق بالأرض وحدها، التي هي في نظره الحقيقة الوحيدة التي يملكها الإنسان، والتي حُكِم عليه أن يعيش فوقها، ووجَب عليه أن يظل وفيًّا لها:٦١ «لا يكاد الإنسان يرتدُّ عن إيمانه بالله وبالحياة الأبدية حتى يصبح مسئولًا عن كل ما تختلج فيه الحياة، عن كل ما يُولَد مقترنًا بالألم، وكل ما يُلقَى به في عذاب الحياة.»٦٢
إذا رحَّب الإنسان بكل شيءٍ وقال لكل شيءٍ «نعم» فهل يعني ذلك أنَّ عليه أن يتخلَّى عن المبدأ القائل إن كل شيءٍ مُباح؟ الأمر في الحقيقة كذلك. لقد عرف نيتشه أن حُرية العقل والروح ليست بالأمر الهيِّن المريح، بل هي العظمة التي تتطلَّب كفاحًا شاقًّا مُضنيًا، كما عرف أنه لا وجود للحرية بغير القانون.٦٣ إنه يستبدل عبارة إيفان كارامازوف «إذا لم يكن هناك شيءٌ حق فكل شيءٍ إذن مباح.» بهذه العبارة: «إذا لم يكن هناك شيءٌ حق فليس هناك شيء مباح.» والواقع أن الإنسان، لكي يُبيح لنفسه فعلًا من الأفعال أو يحرِّمه عليها، إنما يحتاج إلى قيمةٍ وإلى هدف، فإذا لم يكن ثمَّة معنًى، وإذا انعدمَت القيم ورأى الإنسان أن كل شيءٍ ممكنٌ بالنسبة إليه، فالواقع أنه ما من شيءٍ في هذه الحالة مباح؛ لأنه لا وجود للقيم التي يُحدَّد الفعل على أساسها، وبالتالي فكل شيءٍ مستحيل.

ما هو أثَر هذه النزعة الإيجابية التي ترحِّب بكل شيء وتُبارِك كل شيءٍ على المستوى التاريخي؟

من يقول نعم لكل شيءٍ لا يقولها للحياة والخير والحق والجمال وحدها، بل لابد أن يقولها أيضًا للموت والشر والظلم والقبح. ومن يقول نعم للأرض يُوافِق على العذاب والموت كما يُوافِق على الفرح والحياة. وأهمُّ من هذا كله أنَّ الذي يبارك كل شيء، بما في ذلك التناقُض والألم، يُسيطر في الحقيقة على كل شيءٍ٦٤ فتأكيد كل شيء هو بمثابة حكمٍ مُسلَّط على كل شيء: «إن قول نعم للأرض الجادَّة المعذبة، ورفعها وحدَها إلى مرتبة الألوهية، معناها تشجيع الإنسان على أن يقذف بنفسه في الكون مستعينًا ﺑ «إرادة القوة»، لكي يتسنَّى له أن يعثُر على ألوهيته الأبدية من جديد. قولُ نعم للأرض قولًا مطلقًا ينتهي بملئها بالبشر-الآلهة.»٦٥ إن الإنسان يُلقي بنفسه في خِضمِّ العالم ليُصبح ديونيزيوس جديدًا. وبذلك يبلغ تأليه الإنسان أعلى ذروته.
إن في فلسفة نيتشه، كما في كل فلسفةٍ عظيمة، شيئًا يمكن أن يُستخدَم ضدَّها، لا بل أن يؤدِّي إلى مسخها وتشويهها. وإذا كان نيتشه يقول «نعم» للصيرورة والتاريخ، فهو يقولها أيضًا — وهذا هو جانب الخطورة في فلسفته — للإنسان الأعلى ولبشر فوق البشر. بذلك تحبِّذ موافقته المطلَقة منطق السادة والعبيد، ولا تقتصر على تبرير العبودية والعذاب بين البشر، بل تتجاوزُهما إلى تبرير الجريمة والقتل، سواء في ذلك أكان الإقدامُ عليهما باسم الحاضر أم باسم التحوُّل الحتميِّ للتاريخ. كانت كلمة نعم التي أطلقَها نيتشه في أصلها تأكيدًا للحياة والطاقة، حتى إذا أُسيء استخدامُها وفهمُها أصبحَت تأكيدًا للقسوة والعنف والطغيان. وتحوَّلَت الحياة التي طالما تحدَّث عنها بالخوف والرعشة والإجلال إلى نوعٍ من «القيصرية البيولوجية»،٦٦ وانعكَسَت الشجاعة فصارت قسوة، وانحطَّت الطاقة فصارت عنفًا. وبينما كان نيتشه يطالب بأن ينحني الفرد أمام أبدية النوع ويندمج في دورة الزمن الكبيرة، إذا بهم يجعلون من الجنس حالةً خاصة للنوع، ويَحْنون رأس الفرد أمام هذا الإله القذِر.

بذلك أنكر تمرُّد نيتشه كل حدٍّ ولم يملك الوسيلة التي تجعله يضع لنفسه مثل هذا الحد. وبذلك أيضًا بقي تمرُّده تمردًا ميتافيزيقيًّا يُنكِر كل ألوان «العالم الآخر» التي سلَّمَت بها أجيال الفكر الغربيِّ من قبله، ولكن ماذا يُجديه هذا الإنكار إذا كان يستبدل مطلقًا بمطلق؟ أليس يضع المطلَق الأفقي (الآتي بعدُ) مكان المطلَق العمودي (العالم الآخر) على حدِّ قول الفلاسفة؟ وأي نفعٍ يعود عليه من ورائه إذا كان تمرُّده يقترب من الثورة، لا ليُعيد إليها الحياة أو يعيِّن لها الحدود التي ينبغي عليها أن تلزمها، بل لكي يذوب فيها ذوبانًا تامًّا؟

لقد انتهت فلسفةُ نيتشه على الرغم منها إلى نوعٍ من القيصرية البيولوجية على عهد النازية والفاشية. وكامي لا يُدين نيتشه ولا يستطيع أن يُدينه بأنه أراد ذلك، ولكن الحقيقة التي تقول إن مذهبًا سياسيًّا بعينه قد لجأ إلى فلسفته لتبرير أهدافه في القوة والغزو والسيطرة تكفي عنده لإدانته واتهام فلسفته. والمنصف لا يجد في هذا الموقف تجنِّيًا من كامي على نيتشه؛ فكم قُدِّر على الفلاسفة والمفكِّرين أن يكونوا ضحيةً للطغاة والمستبدين. ولقد كان نيتشه ضحية هتلر كما كان ماركس ضحية ستالين.

من هذا كله نرى أن فلسفة نيتشه قد انحرفَت عن التمرُّد الأصيل لأسبابٍ ثلاثة:
  • (١)

    لأنها تستبعد «اللا» وتحطِّم بذلك الديالكتيك الباطني للتمرُّد، الذي لا يمكن أن تنفصل فيه النعم عن اللا، ولا الإيجاب عن النفي؛ فتمرُّد نيتشه حين يُغفِل هذه اللا الأصلية إنما يُنكِر التمرُّد نفسه الذي يرفض الوجود على ما هو عليه، ويحتجُّ على الخليقة التي تسمح بالموت والشر والعذاب.

  • (٢)

    لأنها غير وفيةٍ لتجربة المُحال التي يقوم عليها التمرد نفسه؛ إذ لا تمرُّد إلا أن يكون تمردًا على المُحال على اختلاف صوره. إن الوعي في فلسفة نيتشه يبسُط «النعم» على الطبيعة بأَسْرها، ويرضى بالعالم على ما هو عليه، وبذلك يرضى أيضًا عن العذاب والشر والموت.

  • (٣)

    لأنها غيرُ وفيَّةٍ للحاضر، باعتباره مجموعةً من اللحظات المنفصلة العابرة الفانية؛ إذ تجعل الإنسان يحيا في توتُّرٍ متصلٍ متطلعًا إلى مستقبلٍ لم يأتِ بعدُ، مشرئبًّا إلى إنسانٍ أعلى لم يتحقَّق له وجود.

وتبدأ نزعة التأكيد المطلَق ببداية الثورة التاريخية. والعام الحاسم في الثورة التاريخية هو عام ١٧٩٣م، أو على التحديد اليوم الواحد والعشرون من يناير ١٧٩٣م؛ ففي هذا اليوم انقلَب التمرُّد ثورة، وأُرسل الله — في شخص لويس السادس عشر ممثِّله على ظهر الأرض — إلى المِقصَلة.

إن فلاسفة حركة التنوير، وبالأخص روسو بعقده الاجتماعي، هم الذين سلَّموا رأسَ لويس السادس عشر إلى الجلَّاد. كان التمرُّد حتى ذلك الحين يُعلِن عن نفسه في إطار عقيدةٍ لم يذهب أشدُّ المتمردين إلى حدِّ انكارها كل الانكار. حتى الثائر الأسود اسبارتاكوس لم يستطع أن يمسَّ آلهة الجمهورية الرومانية، ولكن كل شيءٍ يتغيَّر بظهور «العقد الاجتماعي». كان الله حتى ذلك الحين هو الذي يصنع الملوك، الذين يصنعون بدورهم الشعوب. أما من الآن فصاعدًا فالشعوب قد أصبحَت هي التي تصنع نفسها بنفسها،٦٧ وفي اليوم الحادي والعشرين من عام ١٧٩٣م ينزع سان جوست، أحد أتباع روسو، عن التاريخ ثيابَه المقدَّسة، ويُقدِّم الملك للمِقصَلة. لقد مات دين، ولا بد أن يتبعه دينٌ جديد على الفور، هو دينُ العقل الذي أصبح هو والفضيلة شيئًا واحدًا. إنه يقول في خطبته المشهورة: «إن هدفنا هو أن نخلُق نظامًا للأشياء من شأنه أن تنشأ حركةٌ عامة تبتغي تحقيق الخير.» ولا يكاد ينطق بهذه الكلمات حتى يهبط عليه الإلهام بالوسيلة الوحيدة إلى تحقيقها. وهكذا يسقط في هوَّة الرعب من طالب العدالة بألَّا تُدين المتهم بل أن ترى ضعفه. إن تحقيق الخير يتطلَّب أن تتساقط الرءوس، والفضيلة لا تحتمل أن يبقى أعداؤها على قيد الحياة. ولكن لعل سان جوست قد أحسَّ بالتناقُض الهائل الذي تردَّى فيه، يدُل على ذلك صمتُه وهو يموت.

كانت الخطوة الحاسمة قد تمَّت؛ فقد صاغ اليعاقبة المبادئ الأخلاقية صياغةً جامدةً ومهَّدوا للنزعتَين العدميتَين السائدتَين في عصرنا؛ عدمية الفرد وعدمية الدولة. وفقد العقل صلته بإله، ولم يعُد يتعلَّق بشيءٍ إلا بما يُحقِّقه من نجاح. وبدأَت عجلات التاريخ تتحرَّك، ومملكتُه تنشُر سلطانها.

كانت العدالة والعقل والحقيقة لا تزال تلمعُ في سماء اليعاقبة؛ كانت هذه الكواكبُ الثابتةُ على الأقل مناراتٍ يُهتدى بها. غير أن فكرةً جديدة (غريبة على الفكر القديم كله) تبدأ ببداية القرن التاسع عشر؛ إن الإنسان لا يملك طبيعةً بشريةً أُعطِيَت إليه مرَّةً واحدة وإلى الأبد. إنه ليس مخلوقًا مكتملًا تامًّا، بل مغامرة يمكن أن يكون هو نفسه خالقها.٦٨ ويبدأ مع نابليون وهيجل، الفيلسوف النابليوني، زمنُ الفاعلية. الناس من قبلهما اكتشفوا عالم المكان، أما من بعدهما فقد راحوا يكتشفون عالم الزمان والمستقبل.
وهناك نوعٌ آخر من التأكيد المطلَق نجده عند هيجل، الذي يمكن أن نعبِّر عن موقفه بعبارته الآتية: «هذه هي الحقيقة، التي تبدو لنا مع ذلك كأنها هي الخطأ، والتي تكون لهذا السبب نفسه حقيقيةً لأن من الممكن أن يحدُث لها أن تكون هي الخطأ. لستُ أنا الذي سيُقدِّم البرهان على ذلك، بل التاريخ هو الذي سيُقدِّمه، بعد أن يُتمَّ تمامه.»٦٩

مثل هذا الموقف يؤدي إلى إمكانيتَين لا ثالثة لهما؛ فإما رفع كل تأكيدٍ وتأجيله إلى أن يتمَّ تقديم البرهان، أو تأكيد كل ما من شأنه أن يُصيب النجاح عَبْر التاريخ؛ أي جعل الفاعلية هي المعيار الوحيد لكل ما يحدُث وما يكون، وفي الحالتَين سقوط في العدمية.

إن أصالة هيجل التي لا سبيل إلى النزاع فيها ترجع في رأي كامي إلى تحطيمه لكل متعالٍ (ترانسندنس) عمودي وقضائه على تَعالي المبادئ بوجه خاصٍّ قضاءً تامًّا.٧٠ عرف هيجل بحقٍّ أن المبادئ الشكلية المطلقة التي نادى بها اليعاقبة في الثورة الفرنسية كانت تنطوي مقدَّمًا على الرعب والإرهاب. وكان لا بُد للقضاء على هذا التناقُض أن يتطلَّع الإنسان إلى مجتمعٍ واقعي، يستمد حياته من مبدأٍ غير شكلي، وتتصالَح فيه الحرية مع الضرورة. وينسجم الفكر والوجود. وكان أن وضع هيجل مكان العقل العام المجرَّد الذي دعا إليه سان جوست وروسو فكرةً أخرى خاليةً حقًّا من الشكلية، ولكنها مبهمةٌ مزدوجة المعنى هي التي سمَّاها ﺑ «العام المتعين».

ومن هنا غمَر العقل في تيار الأحداث، ودفع فكر هيجل الحقيقة، والعقل، والعدالة دفعةً تاريخية لا تُقاوَم، بعد أن ظلَّت مطلقةً ثابتة عند اليعاقبة، ولم تعُد هذه القيم علاماتٍ يُهتدى بها، بل أصبحَت أهدافًا وغاياتٍ لا تتحقَّق إلا في آخر التاريخ، بعد أن تتوقَّف طاحونته الرهيبة عن الدوران، وتبتلع في أحشائها كل التحوُّلات والمتناقِضات، ويعود أوديسيوس من مغامراته البعيدة إلى شاطئ الأمان. وأصبح الفكرُ من يومها طاقةً لا تكُفُّ عن الحركة، والعقلُ غزوًا وصيرورةً لا تنقطع.

ولن نستطيع أن نقدِّر مدى هذا الفكر الذي يُوافق على كل ما من شأنه أن يوصِّل إلى هذه الأهداف خلال تاريخٍ خلا من المتعالي (الترانسندنس)، ولن نستطيع أن نُدرِك أثَره وفاعليتَه حتى نقف وقفةً قصيرة عند الحتمية التاريخية في ثورة القرن العشرين، ونعني بها الثورة الماركسية؛ فما يؤكِّده هيجل عن التاريخ الذي يسير في طريقه إلى الروح المطلَق، يؤكِّده ماركس بصورة معكوسةٍ على هيئة التاريخ الاقتصادي الذي يسير في طريقه المحتوم إلى مجتمعٍ عديم الطبقات، يسمِّيه كامي بالدولة الشاملة أو المملكة العالمية التي يُؤلَّه البشَرُ فيها في نهاية المطاف.٧١
وينبغي علينا قبل أن نسترسل في هذا الحديث أن نُلاحِظ أن كامي لا يميل إلى عبارة «المادية الجدلية أو الديالكتيكية، بل يُؤثِر عليها المادية التاريخية للدالة على موقف ماركس الذي يحدِّد الإنسان بالحتمية الاقتصادية. وكامي في هذا يستند إلى رأي الفيلسوف الروسي الوجودي بيرديائيف الذي يرى استحالة التوفيق بين الديالكتيك وبين المادية. وليس السبب في هذا أنه لا يُوجد غير ديالكتيك واحد هو ديالكتيك العقل فحسب، بل سببه أيضًا أن فكرة المادية نفسها فكرةٌ غامضة مزدوجة المعنى؛ إذ إن تكوين الكلمة نفسها يقتضي منَّا التسليم بأنَّ في العالم شيئًا آخر يزيد على المادية.»٧٢
هذه المادية التاريخية، أو بعبارةٍ أدقَّ هذه الحتمية التاريخية، لا يمكنها أن تحترم الإنسان بما هو إنسانٌ. إنها تدمِّر حرِّيته وتردُّه إلى مجرد نتاجٍ اقتصادي. إنه بالنسبة إليها لا يزيد عن كونه عنصرًا منتجًا، لا شك في نشاطه وفاعليته، إلا أن هذه الفاعلية وذلك النشاط لا ينبُعان من ذاته المستقلَّة المُبدِعة، بل يتحكَّم فيهما ويُدبِّرهما المفتش العام.٧٣ الإنسان في نظرها لم يكن قط، ولم يتحقق له كيان بعد، بل لا بد له أن يكون بكل الوسائل؛٧٤ ومن ثَم كانت قابليته المطلقة للتشكُّل؛ وبالتالي إلغاء الطبيعة الإنسانية كقيمةٍ ثابتةٍ في وجه التحوُّل والتغيُّر التاريخيَّين.
هنا يُوضَع الشخص والشي على قدَم المساواة.٧٥ ويصل تشييء الإنسان (أي ردُّه إلى مجرد شيءٍ يقبل التشكيل والتعديل) إلى ذروته. والعجيب أن هذا التشييء للإنسان يسير في خطٍ موازٍ لتأليهه. وفي هذا يكمن التناقُض الأساسي الذي تُعاني منه ثورة القرن العشرين؛ فقد حكم على الناس أن يُعامَلوا معاملة الأشياء، حتى تتحقَّق المملكة الشاملة التي يصبحون فيها في نهاية المطاف كالآلهة. إلى أن يتحقَّق هذا الحلم البعيد لمملكة الآلهة تدعَّم مملكة الأشياء بكل الوسائل الممكنة، ولكن هذه المملكة الأخيرة، التي كان ينبغي لها أن تكون مملكةً للحب والتعاطُف والصداقة التي تؤلِّف بين الأشخاص، ليست في حقيقة الأمر إلا كَومةَ نملٍ يسكنُها أفراد من البشر وحيدون.
كل من يريد أن يجعل للتاريخ معنًى ساميًا ويعطيه اتجاهًا هادفًا فهو يُخضِع نفسه لهذا المعنى وهذا الاتجاه. إنه يجد نفسه بالنظر إلى هذا الهدف البعيد مضطرًّا إلى أن يؤكِّد كل شيءٍ يخدم هذا الهدف ويؤدِّي إلى تحقيقه؛ أعني أنه مُضطَر إلى أن يوافق على العنف والجريمة؛ ومن ثمَّ تبرِّر المملكة الشاملة التي لن يحين موعدها إلا في نهاية التاريخ، ولن يزال هذا الموعد يؤجَّل جيلًا بعد جيلٍ، كل وسيلةٍ ممكنةٍ لتحقيق هذه الغاية؛ وماذا تعني مائةُ سنةٍ من الآلام في عين مَن يَعِد الناس بتحقيق المملكة النهائية في السنة الواحدة بعد المائة؟ إنه في سبيل عدالةٍ بعيدة يبرِّر الظلم على مرِّ التاريخ كله. ويصبح الطريق إلى الوحدة هو الشمول.٧٦ ويُستعاض عن الحرية والأُخوَّة بالفاعلية التاريخية. وتتحوَّل الدولة الشاملة إلى عالَمٍ من المحاكَمات،٧٧ ويُصبِح المتمردون الأبرياء قضاةً ومحقِّقين. وبينما يرفض التمرُّد الحق أن يبرِّر العقاب، نجد الثورة الشيوعية تضعه في مكان المركز من عالمها. لقد صار التاريخ قاضيًا يتهم ويُدين. وسوف يظل إلى يوم تمامه عقابًا طويلًا لا يدري أحدٌ متى ينتهي. أما الثواب الحقيقي فسوف يناله الإنسان «فيما بعدُ»؛ أعني في آخر الزمن. إنَّ بروميثيوس الحقيقي الخالد قد اتخذ الآن شكل ضحيةٍ من ضحاياه.٧٨
إن الثورة التاريخية في القرن العشرين تجد نفسها أمام معضلةٍ أخيرة؛ فإما أن تتخلَّى عن مبادئها الفاسدة وتخلُق لنفسها مبادئَ جديدةً حتى يتيسر لها أن تعود إلى منابع التمرُّد النقية، وإما أن تتخلى عن العدالة والحرية التي أرادت أن تمكِّن لها من السيادة التامة على الأرض. وليس من العسير أن نُدرِك المعضلة التي تضعها في موقف الاختيار الشائك المستحيل؛ فإما الاحتفاظ بحكم الاستبداد الشامل يُفرَض على رءوس الملايين من البشر عَبْر أجيالٍ لا يُعرف عددُها وإلى أن تنهار الرأسمالية من تلقاء نفسها، وإما الإسراع بتحقيق الدولة الشاملة عن طريق حربٍ ذريةٍ محققة الدمار. وفي الحالَين تجد الثورةُ التاريخية نفسَها في التناقُض.٧٩
– أما النزعة الثالثة والأخيرة التي لا تجعل من التأكيد ولا من النفي شيئًا مطلقًا، والتي تعترف بالطبيعة الإنسانية وتُحافِظ على المقياس ولا تتعدَّى الحد ومع ذلك فهي تنحرف عن التمرُّد الحق فنجدها لدى «القتلة الرقيقي المشاعر»،٨٠ كالياييف وأصدقائه من أعضاء منظمة الكفاح للحزب الاشتراكي الثوريِّ التي تألَّفَت في عام ١٩٠٣م، وضمَّت أندر شخصيات الإرهاب الفوضوي في روسيا القيصرية.

إنَّ هؤلاء القتلة الرقيقي المشاعر باعترافهم بالطبيعة الإنسانية يضَعون للَّا المطلقة والنعم المطلقة حدًّا تقفان عنده. إنهم يتمسَّكون بتلك القيمة التي نُقابِلها في فعل التمرُّد الأصيل، ونعني بها روح التضامُن التي يؤدِّي إليها التمرد. إن كل واحدٍ منهم يستطيع أن يقول: «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون.» ولو سألناهم من أنتم لأجابوا قائلين: نحن موجوداتٌ قادرةٌ على الوعي بالحد، محقِّقة للتكاتُف والتواصُل فيما بيننا وبين بعضنا والبعض. إن تضامُنَنا ليس في حقيقة أمره سوى الوعي بما نشترك فيه مع جميع الناس؛ أعني بطبيعةٍ يشترك فيها كل بني الإنسان.

كان شعراء التمرد هؤلاء يَرونَ سعادتهم الوحيدة في التضامُن. لقد جمع بينهم احترامُ الحياة الإنسانية بما هي كذلك مع احتقار حياتهم الذاتية إلى الحدِّ الذي جعلَهم لا يتردَّدون لحظةً عن بذل أغلى التضحيات. إن جريمة القتل التي أقدموا عليها تبدو لهم جريمةً ضرورية وغيرَ مغتفَرة في آنٍ واحد. إنها تُصبِح بالنسبة لهم هي والانتحار شيئًا واحدًا.٨١
لم يكن التاريخ في نظر هؤلاء القتلة النادرين شيئًا مطلقًا ولا كانت العدالة كذلك. إنهم يُقتلون من أجل الفكرة، ولكنهم لا يضعون هذه الفكرة مع ذلك فوق الحياة. وتبريرهم الوحيد لها هو أنهم يأخذونها معهم إلى قبورهم. وهم حين يموتون لا يُضحُّون بأنفسهم في سبيل عدالةٍ إلهية، بل يضعون كل أملهم في عدالةٍ إنسانيةٍ يُوقِنون أنها ستتحقَّق ذات يومٍ على يد أجيالٍ لم تُولَد بعدُ. وهنا نصل إلى النقطة الوحيدة التي جعلَتهم يَحيدون عن التمرُّد الحق. إنهم، على حدِّ تعبيرنا السابق، ما زالوا يؤمنون بمتعالٍ (ترانسندنس) أفقي؛ أعني بقيمةٍ لم تُوجد بعدُ. وكل قيمةٍ نقول عنها إنها آتيةٌ فيما بعدُ، هي في الحقيقة قيمةٌ تُناقِض نفسها بنفسها؛ ذلك لأنها لا تستطيع أن توضِّح طبيعة فعلٍ من الأفعال، ولا أن تعطينا مبدأً نختار على أساسه في موقفٍ معيَّن، طالما بقيَت مجردةً لم تتجسَّد بعدُ.٨٢

ربما كان تبريرهم الوحيد أنهم لم يشرِّعوا الرعب والقتل، لا بالحُجج الفلسفية ولا بالبراهين العلمية. لقد حمَلوا الذنب المحدود على أكتافهم، ودفعوا حياةً بحياة. كانت الثورة بالنسبة إليهم وسيلةً ضرورية، ولكنها لم تكن هدفًا في ذاته. وبذلك رفضوا أن يصلوا إلى الوحدة عن طريق الشمول، واحتفظوا بذواتهم الوحيدة وتناقُضاتهم الممزَّقة فلم يشاءوا أن يُلقوا بها في فُوَّهة تنينٍ «أيديولوجي» يبتلعُ كل المتناقضات ويُسوِّي كل الفروق. هؤلاء «القتلة الأبرياء» في ثورة عام ١٩٠٥م الاشتراكية قد بذلوا حياتهم لكي يبعثوا الحياة في قيمةٍ استطاعوا في زنزاناتهم المُعتِمة وعلى أعواد المشانق أن يؤكِّدوها ويثبتوا وجودها؛ قيمة «نحن نكون»، عنوان تضامُن الإنسان المتمرِّد مع كل إنسان.

•••

نستطيع الآن أن نُلخِّص ما انتهينا إليه في هذه الملاحظات:
  • أولًا: تردِّي التمرُّد الميتافيزيقي كما تردَّت الثورة التاريخية (وهي النتيجة المنطقية المترتِّبة عليه) خلال تاريخهما الطويل من صاد وشتيرنر إلى إيفان كرامازوف، ومن الرومانتيكيين ونيتشه إلى الفاشية والشيوعية في هاوية الجنون والانتحار، أو القتل والدمار. لقد كانت في كل مرة تخضَع فيها للتأكيد المطلَق لكل ما هو موجودٌ تلطِّخ يديها بالدماء. وفي كلا الحالَين كانت تتعدَّى الحد الذي بيَّنه التمرد، وتفقد الحق في أن تسمِّي نفسها باسم التمرُّد.٨٣
  • ثانيًا: إن التمرُّد لا يمكن تبريره إلا حيث يبقى الإنسان وفيًّا لبنائه الديالكتيكي، ولا يستطيع أن يزعُم لنفسه أن يطلُب الوحدة إلا حيث يتمسَّك بلا محدودة ونعم محدودة في وقتٍ واحد؛ أعني حيث يُحافِظ على نسبيَّته ويبقى بين الحدود التي رسمَتْها له الطبيعة الإنسانية.
    والثورة بدَورها لا تكون لها من قيمةٍ إلا حيث تبقى على وفائها للتمرُّد، هذا الوفاء لا سبيل إليه إلا إذا صدَّت عن المطلَق والمجرَّد، وتمَّ لها الوعي الكامل بالحدود المرسومة لها؛ ذلك أن الإنسان الذي يبحث عن المطلق فيما هو نسبي، أو يفتِّش عن المجرَّد فيما هو واقعيٌّ لا بد مُضطَرٌّ إلى تدمير النسبي والواقعي جميعًا؛ أعني إلى القتل وسفك الدماء. ودائمًا ما تنشأ إرادة البحث عن السعادة المستحيلة أو عن العدالة والحرية المستحيلتَين عن «إطلاق» النعم أو اللا أو رفع أحدهما؛ أعني عن تدمير العلاقة الديالكتيكية الأصيلة للتمرُّد بإلغاء أحد طرفيَها أو التطرُّف فيه تطرُّفًا مطلقًا.٨٤
  • ثالثًا: عندما يستبعد التمرد «النعم» أو التأكيد ويقتصر على النفي وحده، فإنه يستسلم للمظهر،٨٥ فإذا ما اتجه إلى التأكيد المطلق لكل ما هو موجود، وتخلَّى عن نفي الواقع أو مجرَّد الاحتجاج على جانبٍ منه، فإنه يُجبِر نفسه إن آجلًا أو عاجلًا على الفعل. وبينما يُحاول التمرُّد الميتافيزيقي أن يستمدَّ الحقيقة من المظهر ويصل إلى الوجود عن طريق الموجود، وبينما تُريد الثورة التاريخية أن تغزو الوجود عن طريق الفعل، نجد أن التمرُّد يقف في صف الوجود الممزَّق المُنقسِم على نفسه، ويبذل كل ما في طاقته لتأكيد «نحن نكون» بتأكيده لطبيعةٍ إنسانيةٍ ثابتة يشترك فيها كل البشر، وتضع للتطرُّف حدًّا، ولكل محاولةٍ للإفلات من المقياس مقياسًا.
    فإذا قالت الثورة التاريخية: «أنا أتمرَّد، إذن فسوف نُوجد»، وإذا أضاف التمرد الميتافيزيقي إلى عبارة «أنا أتمرد» قوله: «إذن فنحن موجودون وحدنا» فإن التمرد المتواضع المضطَهد الوفي لمنبعه والعارف لحدوده يلخِّص حكمته في هذه العبارة: «أنا أتمرد، إذن فنحن موجودون».٨٦
  • رابعًا: نحن موجودون هذه تعبر عن قيمة التضامُن التي تنبني على حركة التمرُّد، كما سنرى فيما بعدُ. أما «أنا أتمرد» وحدها فهي تعبِّر عن تمزُّق الإنسان المتمرد، عن توتُّره الدائم وعذابه المتصل من المتناقضات التي يعيش فيها، والتي تُوقِظ الوعي كما رأينا من قبلُ، فإذا ما استيقظ هذا الوعي عبَّر عما يُعانيه من المتناقضات في التوتُّر الديالكتيكي الدائم بين الخير والشر، والعدل والظلم، والحياة والموت. هذه المواجهة التي تتقابل فيها التصوُّرات المتضادة هي التي تجعل الوعي وعيًا على وجه الإطلاق، وتُتيح له النصوع والإشراق كما ذكرنا من قبلُ. وعن طريق هذه المواجهة أيضًا تنشأ فكرة الحد والمقياس؛ ومن ثَم نستطيع أن نفهم كيف أن الحد والمقياس توتُّرٌ خالص، والمحافظة عليه حُكمٌ من الإنسان على نفسه بالحياة في تمزُّقٍ متصل، ولكي ندرك ذلك ينبغي علينا أن نتناول فكرة الحد في شيءٍ من التفصيل.

(د) التمرُّد المعتدل وفكرة الحد والمقياس

التمرُّد شرط الوجود؛ فلكي يُوجد الإنسان، لا بد له أن يتمرَّد، ولكن لا بد لتمرُّده من أن يحافظ على الحد الذي لا يجده إلا في نفسه. ولا يبدأ وجود الإنسان إلا حين يجتمع على التمرُّد مع غيره من الناس.٨٧
تقول الجوقة في ختام مسرحية «حالة حصار»:٨٨ «هنالك حدودٌ معينة. والذين لا يريدون أن يوجدوا نظامًا، والذين يحاولون أن يحشروا كل شيءٍ داخل نظامٍ واحد، يتساوَوْن في تجاوز هذا الحد.» ولقد استطاع كالياييف ورفاقه من القتلة الأبرياء الحساسيِّين أن يكبحوا جماح تمرُّدِهم وأن يلزموا حدًّا يقفون عنده ويحترمونه. كانت حياة الأطفال الأبرياء هي التي رسمَت لهم هذا الحد فلم يتعدَّوه. ولقد فَشِل الاعتداء الأول الذي دبَّروه على حياة الأمير الأكبر سيرجي لأن كالياييف رفض، ووافقه رفاقه على هذا الرفض، أن يقتل معه الأطفال الذين كانوا يصحبونه في عربته. إنهم يحكُمون على الأمير الطاغية بالموت لكي تحيا الملايين. ويقتلون طبيعةً إنسانية واحدة لكي ينقذوا الطبيعة الإنسانية الشاملة.
نحن نفهم من كلمة الحد في العادة نقطة أو خطًّا أو سطحًا يُبيِّن العلامة الفاصلة بين مكانَين أو بين مرحلتَين زمنيتَين، فإذا لجأنا إلى الاستعارة أمكنَنا أن نقول إن الحد يمثِّل نقطةً لا يجوز لفعل ولا لمعرفة أن تتعدَّاه. والحدُّ بهذا المعنى يدلُّ على ما يقع ناحيته، كما يدُل على ما يتجاوزُه إلى ما وراءه؛ أعني أنه يشير إلى وجود الموجود الذي يتخطَّى الحد إلى اللامحدود، كما يشير إلى موجودٍ آخر يلزم المحدود فلا يتعدَّاه. وهنا نستطيع أن نسأل: هل يتمرَّد الإنسان لكي يتخطَّى حدًّا أم يتمرد لكي يحول دون تخطي هذا الحد؟ وهل يستطيع المتمرد أن يسمح لنفسه في بعض الظروف أن يتخطَّى الحد لكي يؤكِّد وجود هذا الحد نفسه؟ وهل يمكن للتمرُّد أن يكون تمردًا على وجه الإطلاق بدون أن يتضمَّن في ذاته فعل التجاوُز والتخطي للحد؟ يبدو أننا بهذه الأسئلة ندور حول أنفسنا دون أن ننتهي إلى جوابٍ حاسمٍ. والواقع أن هذا الجواب يتوقَّف على ما نفهمه تحت كلمة «الحد».٨٩
قلنا إن المتمرد إنسانٌ يقول «لا» كما يقول «نعم» في آنٍ واحد. إنه يصرخ ﺑ «اللا» في وجه من يضطهِده ويُنكِر عليه حقَّه في الحرية والحياة، ولكنه كذلك يقول «نعم» مؤكِّدًا وجود حدٍّ ينبغي لمضطهِده أن يقف عنده.٩٠ إنه يقول له: «إلى هنا ولا تَزِد!» كما يقول له: «إن هناك حدًّا لا يجوز لإنسانٍ أن يتخطَّاه.» إنه بالنفي والاحتجاج يؤكِّد في الوقت نفسه وجود وعيٍ بقيمة، ﺑ «شيء» ما، بجزء من نفسه يريد له أن يُحترم؛ أي إنه يؤكد باختصارٍ وجود طبيعةٍ مشتركةٍ بين جميع الناس.

فما هو إذن هذا الحد أو هذا المقياس؟

إن فكرة الحد أو المقياس ينبغي أن تُفهَم دائمًا في التحوُّل المستمر، في حركة التمرُّد الديالكتيكية التي لا ينقطع تيارها؛ فالحد في حقيقته توتُّرٌ خالص، وتمزُّق الموجود بين لا مطلقة ونعم مطلقة، بين زهادةٍ في كل شيءٍ وتطرفٍ في كل شيء. إنه صراعٌ مُستمِر، يحاول العقل على الدوام أن يهدِّئ منه ويتحكَّم فيه؛ فبين طرفَين متباعدَين بلغ عندهما الانفلاتُ من الحد أقصى مداه، بين طلب المستحيل من ناحية والتردِّي في الهاوية من ناحيةٍ أخرى (وهما المحاولتان الأبديتان اللتان لا يستطيع التمرد أن ينتصر عليهما كل الانتصار) نجد فكرة الحد تُحاوِل أن تحافظ على التوازن وتُوقظ في الوجدان معنى المقياس. إن فكرة الحد — هذه الثمرة الخالدة التي أهدَتها إلينا شجرة الفكر اليوناني، واجتمع فيها كل روحه وكل جوهره — هي التي تحمي التمرُّد عَبْر التاريخ الطويل المزدحم بالتهوُّر والتطرُّف والجنون، وهي التي تبيِّن له النظام والمعيار، وتخلُقه في كل لحظةٍ من جديد، وتحرص على ألا يسقط في الانحرافات التي انزلقَت إليها الثورات على اختلاف العصور. وإذن ففكرة الحد ليست هي الضد المقابل لفكرة التمرُّد؛ فكلاهما متعلقٌ بالآخر تعلُّقًا من شأنه أن يجعل فكرة الحد تنبُع من جوهر التمرُّد ولا تحيا إلا به، مثلما أن التمرُّد هو تمرُّدٌ لا سبيل إلى تصوُّره بدون فكرة الحد والمقياس. إن التمرُّد إما أن يكون تمرُّدًا محدودًا أو لا يكون.

نستطيع الآن أن نذهب إلى القول بأن التمرُّد المعتدل المحدود هو الموضوع الحقيقي الذي تدور حوله محاولة كامي الفلسفية الكبرى «المتمرد». إن الهدف منها هو رفضُ كلا الطرفَين المتباعدَين اللذَين يؤدي العقوق بالديالكتيك الأصلي للتمرُّد إلى التردِّي في أخطارهما، ونقصد بهما تأليه الإنسان من ناحية وتشييئه من ناحيةٍ أخرى. وهي تهدف بذلك أيضًا إلى إنقاذ الإنسان الحقيقي الخلَّاق، الذي لا يعدو في نهاية المطاف أن يكون الإنسان المتمرِّد على المُحال في صورتَيه الميتافيزيقية أو التاريخية.

كلا الطرفَين إذن يُريد أن يُحقِّق المستحيل في الممكن، والمجرَّد في الواقع، والمطلَق في النسبي؛ فهو إما أن يهدف إلى تحقيق الحرية المطلَقة عن طريق تأليه الإنسان، أو إلى تحقيق العدالة المطلَقة عن طريق تشييئه.

ولا نستطيع أن ندَع هذه الفرصة بغير وقفةٍ قصيرةٍ عند رأي كامي في المطلق؛ فالواقع أنه، وإن كان يرفض النزعة المطلقة بكل ما فيه من قوة، إلا أن المطلَق لا يختفي من تفكيره كل الاختفاء، بل إننا نستطيع أن نقول قولًا لا يخلو من المفارقة حين نذهب إلى أن المطلق عنده هو النسبي نفسه، الذي يُوضَع موضع المطلق. والتوتُّر الحقيقي عنده هو في حقيقته نوعٌ من التوتُّر الذي يسعى إلى المطلق، الذي يلتمسه في المظهر وفي حدود التجربة الإنسانية الممكنة ذاتها؛ فالموقف المتطرِّف الذي يرفُضه موجود إذن بصورةٍ معكوسة في تفكيره، وكأنه لا يستطيع أن يُفلِت من قدَر الفكر الإنسانيِّ الذي يسعى بطبيعته إلى المطلق، سواء في ذلك أأثبَتَه أو نفاه، وكأن الإنسان يأبى بطبيعته إلا أن يكون حيوانًا ميتافيزيقيًّا كما قال القدماء. وبدلًا من ذلك المطلق، الذي يعلو فوق الإنسان علوًّا عموديًّا، ويُطرح في «عالمٍ آخر» سواء كان هذا العالم زمانيًّا أم مكانيًّا، نجدُه يبحث عن النسبي في «الآن» و«الهُنا» بحثًا لا ينقطع، ويصبغُه، دون وعيٍ منه، بالصبغة المطلقة. ولعله في موقفه من المطلق يخلط بوجهٍ عام بين ما هو فلسفي وما هو سياسي، حتى يبدو المطلَق في معظم الأحيان أشبه بالدكتاتورية البوليسية التي تميِّز طابع العصر، والتي لا ينفكُّ يكافحها بكل ما يستطيع.

قلنا إن كامي يرفض الحرية المطلَقة؛ فلا وجود عنده لحريةٍ مثالية، يمكن أن نصل إليها ذات يومٍ على حين فجأة «كما يصل المرء إلى المعَاش في آخر حياته.»٩١ إنه يؤمن بوجود «حريات» متعددة، على الإنسان أن يغزوها واحدةً بعد الأخرى في حرصٍ وأناة. والحريات التي يملكها ليست إلا مراحلَ لا يمكن بالطبع أن نقف عندها ولا أن نكتفي بها، ولكنها مراحلُ على الطريق المؤدِّي إلى التحرُّر الواقعي الحق.٩٢
هل يُفهَم من هذا أن حرية الاختيار التي نتحدث عنها تعني التخلِّي عن العدالة؟ لا نستطيع أن نذهب إلى هذا الرأي؛ فمثل هذه النقيضة (حيث تستبعد الحرية المطلقة العدالة كما تنفي العدالة المطلقة كل حرية) لا وجود لها إلا حيث يسعى الفكر إلى الشمول (الذي يُلغي جميع الفروق ويُسوِّي المتناقضات والأضداد) لا إلى الوحدة (التي تحقِّق قبل كل شيء الانسجامَ بين الأضداد)؛٩٣ فالحق أن الارتباط وثيقٌ بين العدالة والحرية والتضامُن بينهما مكفول، بشرط أن ننظر إليهما نظرةً معتدلة؛ فالحرية المطلقة تؤدي إلى الظلم، والعدالة المطلقة تخنق كل حرية. وكلاهما ينتهي بالبوليس أو بالجنون، وفي الحالَين بالجريمة والقتل.

قلنا إن التمرُّد على الظلم والطغيان هو في صميمه تمرُّد على المُحال في صورته التاريخية. وعلى الإنسان تقع أمانةُ هذا التمرُّد الذي ينبغي أن يتمثل فيه بسيزيف أو بالدكتور ريو؛ أعني أن يبقى في تمرُّده وفيًّا للمُحال، واعيًا بالحدود التي رسمَها لنفسه. مثل هذا التمرد المعتدل لا مجال له إلا في النسبي والممكن والواقعي المعيَّن، فإذا تجاوز هذه الحدود لم يعُد تمرُّدًا من أجل الحياة، بل جموحًا لا يخدم إلا الموت.

واجبٌ إذن على الإنسان أن يُطابق بين التمرُّد وبين الحدِّ والمقياس، وواجبٌ على التمرُّد المعتدل المحدود أن يُكفكِف من غُلَواء الثورات التاريخية التي أفلَت طموحُها من كل حدٍّ وأن يُعيدَها من جديد إلى منبع التمرُّد الحي الخلَّاق.٩٤ بذلك يُوضَع حدٌّ أخلاقي للثورة التاريخية لا يجوز لها أن تتعداه؛ فهو احترام الإنسان، واعتبار كرامته، وفرديته، وتقدير الطبيعة الإنسانية المشتركة بينه وبين سائر البشر. ويصبح مبدأ التمرد الذي يحترم الحدَّ الذي وُضِع له بما هو تمرُّد هو المبدأ الذي يمكن أن نعبِّر عنه على النحو التالي: «بدلًا من أن نُقتل ونموت لكي نخلق وجودًا ليس هو وجودنا، ينبغي علينا أن نعيش ونترك غيرنا يعيشون، لكي نخلق الوجود الذي هو وجودنا.»٩٥
هذا الفكر الذي يُحرِّر العقل حين يضعه موضع اليقين بحدوده يسمِّيه كامي فكر الظهيرة. إن مثَله الأعلى هو الفكر اليوناني الذي التزم دائمًا بتصور الحد،٩٦ فلم يدفع شيئًا إلى نهايته الأخيرة، لا القداسة ولا العقل. لقد استطاع أن يُحافِظ على التوازن بين الظل والنور، ويعيِّن مكان الإنسان من الطبيعة والغيب والآلهة. إنه فكر الحد والمقياس. وهو بذلك فكر الوحدة، الذي لم يعرف شيئًا عن نزعة الشمول التي تهدِّد اليوم لكي ﺑ «قتل أوروبا».٩٧ «فكر الظهيرة» اليوناني يقابله «فكر منتصف الليل» الأوروبي الحديث، الذي يندفع بأقصى سرعته في غزو الشمول، وينفلت على الدوام من الحدود ليتُوه في مغامرة اللامحدود، إنه في جنونه قد غيَّر الحدود والمقاييس الأبدية.
كيف يستطيع التمرد أن يُوجِد الوحدة، التي تقوم عليها روح التضامُن بين بني الإنسان؟ الإجابة المباشرة تقول: عن طريق تأكيده للحد. وتأكيدُه للحد هو في الوقت نفسه تأكيدٌ لكرامةٍ وجمالٍ مشتركَين بين الناس،٩٨ تمكِّنان للمتمرد أن يخطو إلى الوحدة بغير أن يتنكَّر للأصل والمنبع.
قلنا إن تأكيد الحد هو في الوقت نفسه تأكيدٌ لواجب الالتزام به؛ فالتمرد يقف باسمِ الكرامة الإنسانية في وجه كل محاولةٍ لتجاوُز هذا الحد؛ وبالتالي لنفي القيمة الأُولى ونعني بها الطبيعة الإنسانية.٩٩ أما عن الجمال، فهو ما لا نجده في «عالم المحاكَمة»، بل في عالم الخَلق الفني وحده. هنالك نجد التمرد في حالته الأصيلة، مما يقتضينا أن نتناولَه في هذا القسم من حديثنا بشيءٍ من التفصيل.

(ﻫ) إستطيقا التمرد

تستحق إستطيقا التمرد من الباحث أوفر نصيبٍ من العناية والاهتمام. ولا يرجع هذا إلى أنها تعبِّر عن فلسفة التمرد في حالتها النقية الأصيلة فحسب، بل إنها تختلف كذلك عن إستطيقا المُحال التي تحدَّثنا عنها فيما تقدَّم بعض الاختلاف. نقول ذلك لأنها لا تُناقِضها تمام المناقضة كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين المعاصرين.١٠٠
ولقد نبَّه كامي بنفسه إلى المكانة الممتازة التي تحتلُّها النظرية الإستطيقية (الجمالية الفنية) في فكرة الفلسفي؛ فهو يرى أن الفن بدَوره حركةٌ تُثني وتنفي، وترحِّب وترفض في آنٍ واحد. إن نيتشه يقول في عبارةٍ مشهورة: «ما من فنانٍ يحتمل الواقع.» هذا الرأي صحيح، ولكن ينبغي أن نضيف إليه أنه ما من فنانٍ يستطيع أن يستغني عن الواقع. إن الإبداع الفني نشدانٌ للوحدة ورفضٌ للعالم في وقتٍ واحد، ولكنه يرفض العالم بسبب ما يُحسُّ فيه من نقصٍ وباسمِ ما يكون عليه هذا العالم في بعض الأحيان. ما من فنٍّ يمكن أن يُوجَد على أساسٍ من الرفض الشامل؛ فالفنان الذي يريد أن يُبدِع الجمال مضطرٌّ إلى أن يرفض الواقع اضطراره في الوقت نفسه إلى تمجيد بعض جوانب هذا الواقع نفسه، فالفن إذن يُنازِع في قيمة الواقع أو يُلغيه في بعض الأحيان، ولكنه لا ينسلخُ عنه أبدًا.١٠١

وإذا كان كامي يؤكد أن الإبداع الفني نشدانٌ للوحدة ورفض للعالم في آنٍ واحد، فهو بهذا التأكيد لا يقتصر على أن يقدِّم لنا التعريف الملائم للتمرُّد، وأن يبصِّرنا ببنائه الديالكتيكي فحسب، بل إنه يقدِّم لنا كذلك مفتاح فهم تفكيره الفلسفيِّ على المستوى الجمالي والمستوى التاريخي معًا. ونستطيع إن نقول إن مطلب التمرد للوحدة هو في الوقت نفسه مطلبٌ جماليٌّ وفني. هذا السعي إلى الوحدة، وهذا الرفض للعالم والموافقة عليه في آنٍ واحدٍ يجعلنا نتعرَّف على طبيعة التمرد والإبداع الفني معًا.

وإذا كان التمرد بدون علاقته بالمُحال لا معنى له (فالتمرد دائمًا تمرُّد على المُحال كما قدَّمنا) فإن الإبداع والخلق في العمل الفني (وهو بحسب ماهيته عملٌ مُحال) هما في الوقت نفسه إبداعٌ وخلقٌ في التمرُّد. ونستطيع أن نذهب إلى القول بأن الفن يقرِّب الإنسان من الوعي الناصع بمصيره أكثر مما تصنع الفلسفة: «إنني أُطالب العمل الفني المُحال بما أُطالب به الفكر؛ التمرد، والحرية، والتنوع.»١٠٢ كان كلُّ هم الإنسان في تجربة المُحال منصبًّا على وصف العالم بكل ما فيه من تنوُّع الألوان والأصوات والمشاعر، دون أن يضيف إليها شيئًا من عنده: «الوصف: ذلك هو آخر ما يطمَح إليه الفِكر المُحال.»١٠٣ وفي هذا الوصف الظاهري المحض، وفي غمرة اللحظة المباشرة التي يتم فيها هذا الخلق المُحال لا يُوجَد ثمَّة حدٌّ فاصل بين المظهر والوجود. هذه النظرة الجمالية (الإستطيقا) في مرحلة المُحال كانت ملائمةً لأخلاق الكَم الفردية المتعلِّقة بالأنا وحدها والتي كان شعارها يقول: «عش كما لو …» ولكن التجربة حين اتسعَت أبعادُها بالتمرُّد اتسع معها المنهج وتغيَّرت معها الألفاظ، دون أن يؤدِّي ذلك إلى التعارُض الصريح بين تفكير التمرُّد وبين تفكير المُحال في إجماله؛ فالعالم لم يعُد غريبًا لا سبيل إلى تغييره (على الأقل من الناحية التاريخية لا الطبيعية) ولكنه أصبح قابلًا للتغيير، لا بل لإعادة خلقه من جديد. والتمرد طاقةٌ خلَّاقة تُعيد خلقَ العالم في كل لحظةٍ من جديدٍ كما تُبدِع قيمًا جديدةً على الدوام، وليست كالمُحال نفسه مجرد تكرارٍ عقيمٍ لا نهاية له ولا أمل في الخلاص منه. وفي مرحلتَي المُحال والتمرُّد يبقى مطلب الإنسان للوحدة في أساسه على ما هو عليه، ولكنه لا يطلُبها الآن لكي يعاند مُحالية العالم ويستنفد جهده في التحدِّي وحده، بل لكي يُشكِّل هذا العالم من جديدٍ على صورة القيمة التي اكتسَبها عن طريق التمرد. ويبقى الدافع إلى طلب الوحدة في الحالَين واحدًا لا يتغيَّر، ونعني به المحافظة على كرامة الإنسان والإبقاء على «عزَّته الميتافيزيقية». وليس الفن إلا الشهادة التي تنطق بهذه الكرامة والعزة الإنسانية، اللتَين تتكشَّفان في التمرُّد على المصير المُحال وفي الإصرار على مواصلَة الجهد العقيم.
إن وصف كامي للإنسان وسعيه الدائب إلى الوحدة وراء التعدُّد، والحقيقة وراء المظهر، وحديثه عن العالَم بما فيه من شقاقٍ وغرابة وانفصال لم يتغير في جوهره في «إستطيقا» التمرُّد عنه في إستطيقيا المُحال. ولعل الفارق الأساسيَّ بين المرحلتَين الفكريتَين المتلازمتَين هو في أن الإنسان في تجربة المُحال لم يكن مُطالَبًا بأن يخلُق عالمًا موحَّدًا خلقًا جديدًا على أساس قيمٍ جديدة؛ فلقد كان الإنسان محكومًا عليه بأن يموت مع متناقضاته، مع حقيقته الوحيدة (المُحال) بعد أن يصل إلى الوعي الناصع بمصيره. أما في التمرُّد فالإنسان مطالبٌ — على الرغم من الموت — بأن يُبدِع قيمةً تُمكِّنه من أن يُشكِّل العالم من جديد. ١٠٤

وهذا التوسُّع في مجال الفكر على أساس التوسُّع في القدرات المُبدِعة الخلَّاقة عند الإنسان يرجع في حقيقته إلى القيمة الأساسية التي يؤكِّدها التمرُّد وهي التضامُن؛ ففي التضامُن يتوحَّد البشر في كفاحهم المشترك ضد إهدار كرامة الإنسان على يد الإنسان، وضد الموت المصنوع أو القتل في العصر الحديث. وهذه الحركة الصاعدة من «الأنا» إلى «النحن»، ومن الفردية إلى التضامُن بين أفرادٍ وحيدين هي التي تميِّز هذا التوسُّع في المجال الفكري.

بهذا تكون «الإستطيقا» جزءًا متكاملًا من فلسفة التمرُّد، تُحاوِل هذه الفلسفة أن تصل عن طريقه إلى التركيب Synthése المُبدِع الخلاق، ولكن هذا التركيب الخلَّاق لا وجود له في الفن ولا في فعل التمرُّد إلا حيث يكون الطرفان المتباعدان من رفضٍ وموافقة، ومن لا ونعم على أشدِّ ما يكونان من توتُّر. وإذا صحَّ أن كل فنٍّ يستحقُّ هذا الاسم ينطوي على التمرُّد، فمن الصواب أيضًا أن يُقال إن نفي الفنان للواقع ينطوي على نفس التأكيد الذي ينطوي عليه التمرُّد التلقائي الذي يعلنه المُضطَهد في وجه مُضطهِده.١٠٥ ونحن نلمس في فن القرن العشرين نفس الجحود الذي لمسناه في ثورة القرن العشرين لديالكتيك التمرُّد؛ فكلاهما يشترك في نفس التناقُض بحيث نجد اتجاهَين رئيسيَّين في الفن؛ فإما نفي الواقع نفيًا مطلقًا يؤدِّي إلى تشويهه (كما في النزعة الشكلية الخالصة) وإما تأكيده تأكيدًا مطلقًا نتيجة التسليم به على ما هو عليه (كما في النزعة الواقعية المتطرفة).
إن الإبداع الفني الذي يعبِّر عن التمرد في حالته النقية الأصلية هو وحده الذي يستطيع أن يُوصلَنا إلى التوازن والانسجام الضروريَّين لتحقيق الوحدة التركيبية الخلَّاقة. في هذه الوحدة الخلَّاقة يستطيع عندئذ الفن والمجتمع، والخَلق والثورة أن تجد طريقها إلى منبع التمرُّد حيث يتلازم النفي والتأكيد، والفرد والتاريخ، والخالص والعام في توتُّرٍ ديالكتيكيٍّ حادٍّ تتعادل فيه الكفَّتان. عندئذٍ نستطيع أن نقدِّر كلمة نيتشه التي تنبأ فيها بعصرٍ يسود فيه الفنان المُبدِع بدلًا من القاضي والجلَّاد.١٠٦
نستطيع أن نُجمِل الفصل السابق في الملاحظات التالية:
  • أولًا: يبدأ الفكر عند كامي من التناقُض أو الفضيحة Scandale، سواء في ذلك الفكر عند إنسان المُحال أو عند الإنسان المتمرد؛ فالتناقض الذي حرَّك التفكير عند إنسان المُحال هو الانتحار، والذي حرَّك المتمرد هو القتل الذي تُبرِّره الحُجج الأيديولوجية والمذاهب الفلسفية. هذا الموت الذي يفتعله البشر، وعذاب الأبرياء والأطفال، يمثِّلان عنده المتناقِضات أو الفضائح التي تدفعُه إلى التمرُّد.
  • ثانيًا: لا سبيل إلى فهم التمرُّد إلا من حيث علاقته بالمُحال الذي يفترض التمرُّد وجوده؛ فالتمرد بما هو تمردٌ هو في الحقيقة تمرُّد على المُحال، كما أن المُحال من حيث هو مُحال لا وجود له إلا إذا وجد التمرُّد عليه. إن التمرد ينشأ عن الإحساس بالجنون أمام قدَرٍ ظالمٍ ولا سبيل إلى فهمه.١٠٧
  • ثالثًا: التمرُّد حركةٌ موجهةٌ ضد إنسانٍ ما ومعه تنطوي على اللا والنعم، والرفض والموافقة في وقتٍ واحد. في هذا التعارُض الديالكتيكي نكشف جذوره العميقة في أرض المُحال. ولقد استطاع هذا المُحال أن يُحدِّد لنا طبيعة هذَين الطرفَين المتصارعَين من نعم ولا، من تأكيدٍ ونفي، تحديدًا واضحًا مستمدًّا من بنائه هو نفسه. وعلى هَدْي من تعاليم المُحال استطعنا أن نتبيَّن طبيعة التمرُّد الحقيقي الوفي لأصله ومنبعه، فكان التمرد حركةً من أجل الإنسان والأرض؛ أعني من أجل المحدود والنسبي، اللذَين وضَّح المُحالُ من قبلُ حدودهما وإمكانياتهما. والتمرُّد في الوقت نفسه حركةٌ ضد كل من يطلبون المطلَق؛ أعني ضد كل من يتجاوز حدود المُحال.
  • رابعًا: لم يَبقَ للإنسان، بعد أن سُلب المطلق، من واجب إلا أن يُحاول على الدوام أن يتمرَّد ذلك التمرُّد النسبي المحدود الذي ينبغي ألا يكُف عن خلقه في كل لحظةٍ من لحظات حياته خلقًا جديدًا. هذا التمرد وحده هو الذي يُتيح للإنسان أن يحيا في البُعد التاريخي الملائم له، وهو الذي يستطيع أن يحميه من الانحراف عن التمرُّد الحق إلى العدمية التي تردَّت فيها الثورات التاريخية وذلك بتأكيده لطبيعةٍ إنسانيةٍ يشترك فيها بنو الإنسان على السواء. أما ما هي هذه الطبيعة الإنسانية فذلك ما سوف نتناوله بالبحث في الفصل القادم.
  • خامسًا: في الخَلق الفني وحده نستطيع أن نجد أصل التمرد ومنبعه النقي الحق. ولا وجود للمتعالي (الترانسندنس) الحي الذي يعِدُنا بالجمال إن كان له وجودٌ على الإطلاق إلا في الفن.١٠٨ وما من شيءٍ سوى العمل الفني يستطيع أن «يرفع» الزمان؛ فهو وحده الذي يستطيع أن ينقل المتعة الفانية بطبعها من جيلٍ إلى جيل، فيُضفي طابع الدوام على ما من شأنه أن يعبُر ويزول، وأن يهَب الفنان نفسه ذلك «الخلود الزائل»، وهو الخلود الوحيد الممكن في هذا العالم الفاني. ويظل الفن، على الرغم من هذا التعالي الظاهري، هو المجال الوحيد الذي يستطيع التمرُّد فيه أن يُحرِز الانتصار الكامل. الفن وحده هو الذي يستطيع أن يجعلنا نعيش هذه «الأبدية الزائلة»، هذه اللحظة التي تلتقي فيها أبعاد الزمن الثلاثة في حضورٍ نادرٍ فريد وسعيد.
١  أسطورة سيزيف، ص١١٩، ١٢٢.
٢  المتمرد، ص٢٢.
٣  المتمرد، ص٢٢.
٤  المتمرد، ص٢٢.
٥  المتمرد، ص٢٥.
٦  أسطورة سيزيف، ص١٨.
٧  أسطورة سيزيف، ص٩٤.
٨  المتمرد، ص١١٨.
٩  المتمرد، ص٢٧.
١٠  المتمرد، ص٣١.
١١  قارن كتاب ماكس شيلر، الإحساس بالمرارة وحكم القيمة الأخلاقي، ليبزج، ١٩١٢م.
١٢  المتمرد، ص١٣٥.
١٣  أسطورة سيزيف، ص٩٤.
١٤  حالة حصار، ص١٣٢.
١٥  المتمرد، ص٤١.
١٦  المتمرد، ص٣٥٤.
١٧  المتمرد، ص٤٠، ٥٣، ٣٠٣.
١٨  الضيف، ص٦٣.
١٩  المتمرد، ص٣٧٧.
٢٠  المتمرد، ص٤٠، ١٢٩.
٢١  مسائل معاصرة، الجزء الأول، ص٤٠.
٢٢  أسطورة سيزيف، ص١١٨.
٢٣  أسطورة سيزيف، ص٢٤–٢٥، ص١١٨؛ والمتمرد، ص٣٧٣.
٢٤  أسطورة سيزيف، ص١٠٨.
٢٥  أعراس، ص٣٧–٣٨.
٢٦  الوباء، ص٨٨.
٢٧  المتمرد، ص٣٧٦.
٢٨  أسطورة سيزيف، ص١١٩.
٢٩  أسطورة سيزيف، ص١٢٠.
٣٠  رسائل إلى صديق ألماني، ص٧٧.
٣١  أندريه نيكولا، فكر ألبير كامي الوجودي، ص١٨٨.
٣٢  سارتر، رد على ألبير كامي، في مجلته «العصور الحديثة»، أغسطس ١٩٥٢م، ص٣٤٦–٣٤٧.
٣٣  المتمرد، ص٣٦٦.
٣٤  المتمرد، ص٢٢.
٣٥  المتمرد، ص٣٦٦.
٣٦  كامي، رسالة إلى رئيس تحرير «العصور الحديثة»، أغسطس ١٩٥٢م، ص٣٢٤ (أُعيد نشرها في الجزء الثاني من «مشكلات معاصرة»). راجع كذلك المتمرد، ٣٠٢.
٣٧  المتمرد، ص٣٠٦.
٣٨  أي وجودهما معًا في زمنٍ واحد.
٣٩  المتمرد، ص١٣٥.
٤٠  المتمرد، نفس الصفحة.
٤١  المتمرد، ص١٣٢.
٤٢  المتمرد، ١٣٦.
٤٣  المتمرد، ص١١٥.
٤٤  المتمرد، ص٢٢.
٤٥  المتمرد، ص٥٠.
٤٦  المتمرد، ص٧٦.
٤٧  المتمرد، ص٦٧.
٤٨  المتمرد، ص٧٠.
٤٩  المتمرد، ص٧٧.
٥٠  المتمرد، ص٧٩.
٥١  المتمرد، ص٨١.
٥٢  المتمرد، ص٢٢٣.
٥٣  المتمرد، ٢٢٢.
٥٤  المتمرد، ص٢٢٣.
٥٥  المتمرد، ٢٧٧.
٥٦  المتمرد، ص٢٣١.
٥٧  شتيرنر Stirner (وهو الاسم الذي عُرف به الفيلسوف الألماني كاسبار شميث، ولد في بايرويت في ٢٥ أكتوبر ١٨٠٦م، ومات في برلين في ٢٦ يونيو ١٨٥٦م)، درس في جامعة برلين (١٨٢٦–١٨٢٨م) حيث استمع إلى محاضراتٍ في الفلسفة والدين من هيجل وشلير مأخرونيآ ندرومار هينيكية. ثم انتقل إلى جامعة إرلانجن (١٨٢٨–١٨٢٩م) التي تركَها بعد ذلك إلى جامعة كونجسبرج التي لم يحضر فيها شيئًا؛ لأسبابٍ عائليةٍ لا تزال مجهولة، جعلَته ينتقل بين كونجسبرج وبين كولم في بروسيا الشرقية بين عامَي ١٨٣٠م، ١٨٣٢م. ثم عاد في العام الدراسي ١٨٣٢–١٨٣٣م إلى الدراسة في جامعة برلين، تقدَّم بعدها لشهادة التدريس في المدارس الثانوية البروسية. ولا يُعرف من حياته أكثرُ من أنه اشتغل فترةً في التدريس في المدارس الحكومية، تركَها إلى التدريس في المدارس الخاصة، وأنه تزوَّج زواجًا قصير العمر إذ ماتت زوجته عام ١٨٣٨م، عند ولادة طفلها الأول. وأنه تزوَّج مرةً أخرى في عام ١٨٤٣م زواجًا لم يدُم أكثر من ثلاث سنوات. الفرد وملكيته Der Einzige und sein Eigentum هو كتابه الرئيسي الذي لقي نجاحًا عظيمًا عند ظهوره في عام ١٨٤٥م، ولكنه لم يلبث أن غلَّفه النسيان حتى نبَّه إليه جون هنري ماكاي في عام ١٨٩٠م. وقد قام شتيرنر إلى جانب كتابه هذا الذي يجعل من الأنا القانون الأعلى في الوجود بترجمة ثروة الأمم لآدم سميث وكتابَين آخرَين لجان باتيست ساي «مقال في الاقتصاد السياسي، وتاريخ الرجعية».
٥٨  المتمرد، ص٨٥.
٥٩  المتمرد، ص٨٤–٨٨.
٦٠  المتمرد، ص٩١.
٦١  المتمرد، ص٩٦.
٦٢  المتمرد، ص٩٤.
٦٣  المتمرد، ص٩٤.
٦٤  المتمرد، ص٩٩.
٦٥  «يجب علينا أن نكون المُحامين عن نيتشه. إن الظلم الذي لحقه لن نستطيع أبدًا أن نرفعه عنه.» المتمرد، ص١٠٠.
٦٦  المتمرد، ص١٠٠.
٦٧  المتمرد، ص١٤٦.
٦٨  المتمرد، ص١٧٠.
٦٩  المتمرد، ص١٨٥.
٧٠  المتمرد، ص١٧٩.
٧١  المتمرد، ص٢١٨.
٧٢  المتمرد، ص٢٤٥.
٧٣  المتمرد، ص٢١٩.
٧٤  المتمرد، ص٣٠٧.
٧٥  المتمرد، ص٢٥٧.
٧٦  المتمرد، ص٢٨٧.
٧٧  المتمرد، ص٢٩٦.
٧٨  المتمرد، ص٣٠١.
٧٩  المتمرد، ص٢٩٠.
٨٠  المتمرد، ص٢١٠، وراجع كذلك مسرحية «العادلون» التي تدور حول كالياييف ورفاقه.
٨١  المتمرد، ص٢١٢.
٨٢  المتمرد، ٢٠٨.
٨٣  المتمرد، ص١٣٠.
٨٤  المتمرد، ص٣٠٨.
٨٥  سنتناول هذه العبارة فيما بعدُ بشيءٍ من التفصيل لنُبيِّن مشابهتها وعدم مشابهتها للكوجيتو الديكارتي المشهور. راجع «عبارة كامي وعبارة ديكارت»، ص١٧٨ من هذا الكتاب.
٨٦  المتمرد، ص٣٧١.
٨٧  المتمرد، ص٣٥.
٨٨  حالة حصار، ص٢٣٢.
٨٩  راجع مسرحية «العادلون»، و«مشكلات معاصرة»، الجزء الثاني، ص٢٢.
٩٠  المتمرد، ص٢٥.
٩١  «الخبز والحرية»، خطبة ألقاها كامي في ١٠ مايو عام ١٩٥٣م في سانت اتيين، ونُشرَت في الجزء الثاني من «مشكلات معاصرة».
٩٢  مشكلات معاصرة، الجزء الثاني، ص٢٦٣.
٩٣  المرجع السابق.
٩٤  لم تُوضَع الحدود إلا لتُبيِّن للإنسان أنها إنما وُجدَت لكيلا يتخطاها. ولقد كان الفكر اليوناني، كما أشرنا من قبلُ، في صميمه فكر الحد، لا يني يعلِّم الإنسان أنه ليس إلهًا ولا حيوانًا، بل في منزلة الوسط بينهما، وأنه كلما تجاوز هذا الحد تردَّى في هاوية المأساة. وموضوع الحد في ذاته يحتاج إلى بحثٍ طويل، نرجو أن يُتاح لنا تناوله في المستقبل. ويكفي أن نشير هنا إلى مرحلةٍ هامةٍ من مراحل التفكير الحدِّي في العصر الحديث، ونعني بها فلسفة كانْت؛ فهو في كتابه الرئيسي (الذي يُعَد في الوقت نفسه الكتاب الرئيسي في الفلسفة الحديثة كلها) «نقد العقل الخالص» يُريد أن يُثبِت أن هناك حدًّا مطلقًا تقف عنده المعرفةُ الإنسانية وملَكَة التفكير بوجهٍ عام. وليست فلسفتُه النقدية في الحقيقة إلا تحذيرًا للإنسان مما يسمِّيه بنقائض العقل الخالص وتناقُضاته التي يقع فيها كلما حاول أن يتجاوز الحدود التي رسمَتْها له التجربة، سعيًا وراء «المطلَق» أو «الخلود» أو «الكل» … إلخ. مما يسمِّيه كانْت بمُثُل العقل الخالص.
والواقع أننا نستطيع أن نقارن بين فكرة الحد عند كانْت (وهي التي يسمِّيها بالشيء في ذاته أو النومنن Noumenon) التي تحدُّ عنده من مطامح المعرفة الحسية وتُعَد ذات وظيفةٍ سلبيةٍ أو نافية وبين فكرة الحد التي تهدفُ بدورها إلى الحد من مطامح الثورات التاريخية؛ فحين يقول العبد لسيده: «إلى هنا ولا تزِد!» فهو يريد أن يضع لاضطهاده له حدًّا يقف عنده، ولكن هذا الحد ليس حدًّا من حدود المعرفة النظرية، والمتناقضات التي تكمن وراء أسواره ليس لها طابعٌ منطقي. إنها، إن جاز هذا التعبير، متناقضاتٌ تمزِّق القلب، مُخضَّبة بدماء البشر؛ فوضعُ حدٍّ للتمرُّد معناه في الحقيقة احترام الطبيعة الإنسانية، وإجلال هذا الشيء المقدَّس الكامن في أعماق كل إنسان والذي لا يصحُّ أن تلمسَه يد. ومعناه كذلك الوفاء للتمرُّد الأصيل، والحيلولة بينه وبين الوقوع في مهاوي الثورات (قارن في ذلك كله نقد العقل الخالص، مقدمة الطبعة الأولى، ١٢٥٥، ٣١١ ب؛ وكذلك روبرت هايس، ماهية الديالكتيك وأشكاله، ص٤٥–٤٩).
٩٥  المتمرد، ص٣٠٩.
٩٦  الضيف، ص١٠٨–١٠٩.
٩٧  المتمرد، ص٢٣٩.
٩٨  الضيف، الموضع السابق.
٩٩  المتمرد، ص٣٠٨.
١٠٠  مثل توماس حنا في كتابه القيم فكر ألبير كامي وفنه، شيكاغو، شركة هنري رجنيري، ١٩٥٨م، ص١٣٧–١٤٤.
١٠١  المتمرد، ص٣١٣، ٣١٩.
١٠٢  أسطورة سيزيف، ص١٥٧–١٥٨.
١٠٣  أسطورة سيزيف، ص١٣١.
١٠٤  أسطورة سيزيف، ص١٥٦.
١٠٥  المتمرد، ص٢١٨–٢١٩.
١٠٦  المتمرد، ص٣٣٧.
١٠٧  المتمرد، ص٢١.
١٠٨  المتمرد، ص٣١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤