قتلى المظاهر

قال المتنبي:

خير الطيور على القصور وشَرُّهَا
يأوي الخرابَ ويَسْكُن الناوُوسَا

وكذلك الصفات، أحسنها ما كان حلية النفس العظيمة، وأَقْبَحُها ما تَخَلَّقَتْ به النفس الضئيلة، وكما أن الظلام مأوى الذنوب، كذلك النفس الضئيلة مأوى المظاهر؛ لأنها وسيلة العاجز وحيلة الضعيف، ومن انقطعَتْ دون الفضل أسبابُه مَتَّ إليها بأسبابٍ أَوْهَى من حبال الشمس، وهي خدعة يزيفها الناقد.

بين الفضل الصحيح وذلك الفضل الذي تَخْلُقه المَظَاهِر مِثْل ما بين العين الباصرة والعين المصنوعة من الزجاج، أو مثل ما بين العروس الحسناء وعروس الحلوى التي تُصْنَع في المواسم. إن الدِّهان الذي تَصْبِغ به العجوز وَجْهَها لا يُخفي قُبْحَه، كذلك المَظَاهر لا تُخْفِي حقارة النفس.

فاحذر أن يَعْرِف الناس منك رَغْبَتَكَ في إلباس نفسك زيًّا ليس من أزيائها، فإن لك إقرارًا منك بصغر شأنك وضآلة هِمَّتِك، فتصير مُتَّهَم الفضْلِ مَحْذُورَ القول. إنك إذا لم تكن فاضلًا فإن عرفانك الفضل في غيرك غايةُ الفضل، وإذا كُنْت فاضلًا تُنْقِص من فَضْلك بأن تُزِيدَه من حُلِيِّ النفاق والرياء.

لو بزَّ هذي النفوس عطاؤها
لرأيت أَقْبَح ما رآه الناظرُ
لتضاءلَتْ نفس التَّقِي ودُونَها
منع الوقار موارِدٌ ومَصَادِرُ
إن النفاق يَسُرُّ كل رذيلة
شنعاءَ يُبْدِيها الغوِيُّ السَّادِرُ

يا عجبًا لقتيل المَظَاهر! هل أبصر أحد بالعمى أم سَمِعَ أحد بالصمم! أم صَلُحَ أحد بالداء؟ حتى يُرِيد أن يَسُود بالمَظاهر. يا عجبًا لمن يَعْرِف أن المَظَاهر خدعة، ثم يَجِد نفسه لها أهلًا! يا عجبًا لمن يَفِرُّ من النقص إلى المَظَاهر! أيَفِرُّ من النقص إلى النقص وهو في الحالة الأولى أفضل منه في الثانية، إني ما رأيت أمة ابْتُلِيَت بأعظم من المظاهر، فإنها تُمِيتُ القلب وتَقْتُل الحياء الوازع عن مُواقَعة الرذيلة، وتلهي عن تَطَلُّب الفضل الصحيح ضنًّا بالسعي وخشية العثار.

وإن من قتلى المظاهر الفقير الذي يحتذي الغنِيَّ في أساليب معيشته، والغني الذي يحتذي الفقير في مثل ما يحتذيه الفقير، وبين هذا وذاك رجل ينفق في غذاء جسمه ما لا ينفقه في غذاء عقله.

وإن من المَنَاظر التي يبكي منها الضاحك أن ترى الرجل يمشي مجيلًا بَصَرَه في أنحاء لباسه، كما تجيل الحسناء في الحمَّام طَرْفَها في أنحاء جَسَدِها العاري، ثم ينظر في حذائه وهو يكاد يغسل عنه الغبار بدموعه، كأنما عرضه فيه فهو يخشى عليه أن يُلَوَّث، يمشي ذلك المسكين فَرِحًا برواء لباسه وهو يكاد يأكل أُصْبُعه من الجوع.

أما مثل الفقير المحتذي الغني فمثل الغراب الذي أراد أن يحتذي الطاووس فاستعار ريشه، فكان ذلك داعيًا إلى سَخَر الطواويس منه، أو مثل الفراش الذي لا يزال يتهافت على الضوء حتى يَهْلك.

ومن قتلى المَظاهر الرجل الذي ينصح ابنه فيغريه بالفضيلة لأنها جالبة تقريظ الناس، ولو عَرَفَ هذا الرجل أن نصيحته هذه داعية إلى التلبس بالمَظاهر وتَلَمُّس التقريظ حتى من الرذيلة، لأشفق على ابنه وقَلَّلَ مِنْ ذِكْر تقريظ الناس، ومثل هذا الرجل آخَرُ يقول لابنه: افعل هذا لأنه يقربك من رضاي، واجْتَنِبْ هذا فإنه يدنيك من غضبي، فيحسب الغلام أن الشيء شَرٌّ؛ لأنه يُغْضِب أباه، أو خير؛ لأنه يُرْضِيه، فإذا غَفَلَ أبوه أو مات وراوَدَتْ الغلامَ نفسُهُ أن يأتي شرًّا لم يَعْتَصِم منها.

ومن الذين استَعْبَدَتْهم المَظَاهر الرجل الذي يُعَلِّق بطرف لسانه شيئًا من الحِكَم السائرة، ثم يبتغي المَجالِس وهو لا يعرف أَهْلَها، فيُطْلِق عليهم مِنْ حِكَمِه ما ينفخ أوداجه من ثنائهم عليه، وإنما مثل هذا الطفيلي مثل أم العروس الحسناء، إذا كَمَنَتْ تحت سرير بنتها ليلة الزفاف، ولو لم يكن في ذلك التقصي إلا أنه عَدُوُّ الحياء لكفى، فكيف به وهو دناءة ولؤم؟!

وممن ينتظم في هذا السلك الرجل الذي آتاه الله بسطةً في العلم أو في المال فأبغض الإنسان، ولو كان مثل جوناثان سويفت يبغض فردًا ويحب نوعًا لرحمناه، والبغض مَظْهر من مَظاهر حُبِّ الذات، وخير البغض ما كان حبًّا معكوسًا، وخير المُبْغِضين مَنْ أَبْغَض الرذيلة حبًّا في الفضيلة، وفي مثل ما نعني قال العلَّامة صمويل جونسون: «إني أُحِبُّ الرجل الذي يجيد البغض، وكما أنَّ النحلة لا تضع الحرير، والدودة لا تمج العسل، والماء لا يقدح شررًا، والنار لا ترشح ماءً، كذلك ليس من طبع العظيم أن يُبْغِض.» فإنه واجد صلة بينه وبين كل شيء؛ لأنه حلقة من حلقات سلسلة الوجود، بل هو المنزلة التي يهبط إليها السامي ويعلو إليها الوضيع، هو أخو الطفل والغلام واليافع والرجل والشيخ، وهو صاحب التقي والفاجر واللص والورع، وهو الذي لا يأنف من أن يَحْنُو على المسيء ويرحم المخطئ.

وليس مدعي الفقر في باب المَظَاهر بأحْقَرَ من مُدَّعِي الغنى، ولا مُدَّعِي الفضل بِشَرٍّ من مُدَّعِي النقص، ولا مُحِبُّ الخمول بخير من مُحِبِّ الشهرة، وإنَّ مِنْ قتلى المَظاهر مَنْ جَعَلَ مِهْنَتَه فتقًا لحيلة لاجتلاب الشهرة، ولو عَلِمَ ذلك الأبله أن الأجراس التي تُوضَع على صدور المَعِز لا تزيد في ألبانها لما حَسِبَ أن الشهرة جالبة للفضل.

وممن يلج هذا الباب — باب المظاهر — الرجل الذي إذا حَدَّثَكَ ذَمَّ نقيصة من النقائص كي يُلْفِتَكَ عما في نفسه منها، وإنما مَثَلُ هذا الأحمق كمثل أخيه الذي يرى في ثَوْبِه قطعة ملَوَّثَة فيغسلها في المداد كي تخفى، فيكون ذلك داعية لإظهارها كما يكون التصنع في كَتْم السر داعية لإظهاره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤