ظلم

كان الفتى في عامه الثاني عشر أو الثالث عشر، طويلًا نحيلًا، في عينه اليمنى حوَل ظاهر، ولا يفارق عينَيْه منظار الْتَوت ذراعاه فمالَ على أنفه. وكانت تبدو على الفتى علامات البَلاهة التي لا يُخطئها النظَر.

سأل أباه ذات يوم، إذ هما على مائدة الغَداء، فقال: كلمة «ظلم» ما معناها؟

– وأين سمعتَها؟

– سمعتُ رجلًا يصيح بها في الطريق. يصيح بها وهو يدفع عربةً صغيرة عليها بطيخ وشمَّام. وكان الشرطي من ورائه يَصفعُه ويركُله.

– الظلم هو أن يُوضع الإنسانُ في غير موضعه اللائق به. فإذا جلسَت الخادمة على مقاعدنا الحريرية فذلك ظُلم، وإذا أُسندت الرياسة إلى مَن لا يستحقُّها فذلك ظُلم، وإذا أخذ العامل أجرًا على غير عمَل فذلك ظُلم، وإذا ظفِر بالراحة مَن لم يعملْ فذلك ظُلم، وإذا نزَل العقاب على غير مستحقِّه فذلك ظُلم. كذلك من الظلم أن يُفلِت من العقاب مَن هو حقيق به، وهكذا. كل هذه أمثلة لناسٍ وُضعوا في غير أماكنهم الصحيحة.

سمع الفتي هذه الإجابة من أبيه في إنصاتٍ ظاهر، وكأنما أعجبَه رنينُ الكلمة، فراح يُرددها وهو بَعدُ على مائدة الغداء. وبلغ إعجابُه بالكلمة أن كان ينطق بها في نغماتٍ مختلفة، ثم يضحك ضحكاتِه البلهاء.

ولما أصبح صباح اليوم التالي، ارتاعَت أم الفتى لما رأته في كلِّ ركنٍ من أركان الدار … إذ راح الغلام منذ الصباح الباكر يكتُب بقطعةٍ من الطباشير كلمةَ «ظلم». يكتبها على المقاعد والموائد والجدران، يكتبها أينما وجَد فراغًا يصلح للطباشير أن يخطَّ عليه، فهي على أواني المطبخ، وهي على البلاط، وهي على جوانب الأثاث، وهي على السجاد القائم.

ونُودي الغلام وسُئِل عما فعل، فلم يزِدْ على أن ضحِك ضحكةً بلهاء. وماذا يصنع الأبوان في ابن لهما يعلَمان فيه البلاهة؟ انتهرته أمه ونهَرهُ أبوه وتهدَّداه بالعقاب الصارم إذا عاد إلى مثل هذا العبَث. ثم طفقت الأم من فَورها تمسح «الظلم» من أجزاء بيتها بخرقةٍ بالية!

ومضى يومٌ واحد. جاء بعده الجيران يشكون الغلام لأبوَيه، فقد ظفِر بقطعة من الفحم، وراح يتسلل إلى حيث استطاع سبيلًا من دُورهم. وأخذ يخُط كلمةَ «ظلم» على الأشياء فيُفسدها، حتى أتلَف للجيران أبوابَهم ونوافذهم وجدرانهم وأثاثهم.

فضربه أبوه، وسأله في غيظ قائلًا: ما الذي يُغريك بهذه الكلمة، تكتُبها في كل مكان، تكتُبها لنا بالطباشير، وللجيران بالفحم؟

فأجاب الغلام بعينَين دامعتَين: لستُ أدري يا أبتِ! اعفُ عني هذه المرة، ولن أعود.

لكن لم يَكد يمضي يومٌ آخر، حتى جاء أصحابُ الدكاكين المجاورة يشكون الغلام لوالدَيه، فقد ظفِر هذه المرة بما ليست تُمحى آثاره في يُسر، كما مُحيت آثار الفحم والطباشير. ظفِر بوعاء فيه طلاء أسود وفرجون، جاء به من عمارة قريبة يُقام بناؤُها، وراح يُغافل أصحاب الدكاكين ويكتب أمام متاجرهم، على الطوار: «ظلم»، «ظلم». فشوَّه الطريق بخطِّه الرديء من ناحية، وأساء إلى المتاجر وأصحابها من ناحيةٍ أخرى؛ لأن هؤلاء يريدون إغراء الزبائن بما يُكتب أمام متاجرهم، لا تنفيرهم بالمعنى السَّيِّئ والشكل الرديء.

وها هنا بلغ الغيظُ من الوالد أبلغ مَداه، وجاء بغلامه أمام الشاكين يضربه ضربًا مبرحًا هذه المرة؛ حتى مسَّت الرحمة قلوبهم، وهم الغُرباء، قبل أن تمسَّ قلبه وهو الوالد.

وسأله أبوه من جديد: ما الذي يُغريك بهذه الكلمة تكتبها لنا بالطباشير، وللجيران بالفحم، ولهؤلاء الناس بالطلاء؟

فأجابه الغلام بصوتٍ مخنوق بالبُكاء: لست أدرى يا أبتِ! اتركني هذه المرة، ولن أعود إلى مثل ذلك أبدًا.

لكن الغلام لم يكن عند وعدِه هذه المرة أيضًا، فمضَت ثلاثة أيام لم يعكِّر صفوَها «ظلم» يُصيب أحدًا من الناس. وفي اليوم الرابع تأخَّر الغلام عن موعد عودتِه من المدرسة، وشُغل الأبوان وبحثا عنه في مظانِّه كلها، فلم يعثُرا له على أثر، حتى إذا ما كانت الساعة العاشرة أو نحوها في الليل، دقَّ الجرس وأسرع الأبوان في لهفةٍ إلى الباب، فإذا ابنهما في صُحبة رجل من رجال الشرطة.

قال الشرطي: هذا ابنُكم وجدناه ينقر بابًا لدار من دور الحكومة بمِبراة، فأخذناه إلى قسم الشرطة، وكتبنا عن الأمر «محضرًا». لكنا نريد مواصلة سؤاله وعقابه غدًا، ورأينا أن نسوقه إلى داره ليقضي ليلة مع والديه؛ حتى لا يشغلا عليه بالًا.

ونظر الغلامُ إلى أبيه نظرة يطلُب بها العفو والعطف، فلم يسأله أبوه عن شيء، وبات محزونًا.

حتى إذا ما جاء الصبح، وذهب إلى الدار الحكومية التي أتلف الغلامُ بابها بمِبراته، وجد ابنه قد حفَر على الباب كلمة «ظلم». حفرها كلمة كبيرة عميقة، حتى ليُدهَش الرائي كيف استطاع أن يصنع ذلك كلَّه في ظلمة الليل! وأين كان الحارس طول الساعات التي استغرقَها الفتى في حفر هذا كله على باب من الخشب الصلب المتين؟!

واتفق رجال الشرطة مع الوالد الحيران أن يُخلوا له سبيلَ الغلام، وكان ذلك بمشورة طبيب استشارَه الوالدُ في أمر ولده، فأشار الطبيب بأن يصحَب الأبوان ابنهما إلى مكان من الريف؛ لتهدأ أعصابه لأنه مريض.

وكم عجب الوالدان وهما في القطار أن سمِعا عجلاتِه تقرقع على القضبان في صوت واضح لا سبيل إلى إنكاره: ظلم، ظلم، ظلم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤