عندما أطْلَلت من النافذة

هذه المقالة تجربة أدبية قمت بها، وأريد عرضها على القراء ليروا رأيهم … فمن أهم الاتجاهات الأدبية السائدة اليوم، اتجاه نفسي يريد للأديب أن يسجل مجرى خواطره كما تقع في شعوره، لا يتخير منها شيئًا ليدع شيئًا آخر؛ إذ لا تفرق هذه المدرسة الأدبية بين وقائع الحياة الشعورية، بحيث تجعل منها ما هو هام فيُؤخذ ويُسجل، وما ليس بهام فيُترك ويُهمل. ولا مانع عند أنصار هذا المذهب الأدبي من أن تأتي الخواطر مفكَّكة و«تافهة»، ما دامت قد وردت على هذا النحو في رأس الكاتب … ولمَ يتخيرُ الأديب؟ إن الإشارة العابرة والفكرة الشاردة قد يكون لها مدلول لا يقل في خطَره عما اصطلح الناس على تسميته بالفكرة المجيدة الجليلة.

في ذلك تقول الكاتبة فرجينيا وولف: «علينا أن نسجِّل الخواطر كما تقع في الذهن، وبالترتيب الذي تقع به … مهما تكن من التفكُّك في ظاهرها … إن الحياة لا تتمثل في الذي يسمونه فكرة عظيمة، بأكثر مما تتمثل فيما يزعمونه تافهًا حقيرًا.»

وفي مثل ذلك أيضًا يقول الشاعر الإنجليزي ت. س. إِليَتْ: «لتكن (كتابة الأديب) كالسحابة تزجيها الرياح الشمالية الشرقية منسابةً في غير شكل.

حياة الإنسان مجموعة من حوادث عابرة.

لقد مُلئت أيامنا بالتوافه الضئيلة.

يشغلنا هذا وذلك، ثم ذاك وما يتلوه.

يشغلنا ما قاله فلان هنا، وما قاله علَّان هناك، وما دار في ظن العم المكتهل.

نسأل: أمطرتِ السماء أو لم تمطر؟ ومتي أمطرت؟ هل عُجنت الفطيرة بيضتين أو ثلاث؟»

… …

فإن كان قوام حياة الإنسان من أولها إلى آخرها، هي هذه الخواطر؛ فلماذا لا تكون كتابة الأديب تسجيلًا لسلسلة قصيرة أو طويلة من مجرى خواطره؛ لكي يصور بذلك نفسه أدق تصوير وأصدقه؟

ذلك ما تقوله هذه المدرسة النفسية الحديثة في الأدب. وقد عنَّ لي أن أنسج على هذا المنوال مرة على سبيل التجربة، فأسجل خواطري كما انسابت في مجرى الشعور فعلًا، في أثناء فترة قصيرة قضيتها في شُرفة غرفتي.

•••

الهوة سحيقة والأرض بعيدة، بيني وبين الأرض سبعة طوابق ١ – ٢ – ٣ – ٠٠٠ – ٦ – ٧. إن هذه الشرفات المتراصَّة في إطلالها على فناء المدرسة والكنيسة تشبه مقصورات الأوبرا. ما كان أروع المِشْيَة التي مشيتها مع «ك» في بهو الأوبرا بباريس، وكانت الأضواء لَأْلاءة، وزحمة الناس يفوح منها العطر! ضاعت مني الفرصة التي سنحت لي حينئذٍ. إنها الآن سعيدة بمن هو خير مني ألف مرة. هذا الغسيل القذر المعلق في الشرفة المجاورة أقطع دليل على أن مدام «ح» عديمة الذوق. ترى هل عاد الرجل الأحمر صاحب الصدر المفتوح من رحلته؟ إن نافذته لا تزال مغلقة. يُخيَّل إليَّ أن صديقته الجميلة في لهفة ترقبه. ما أكثر ما أحسست بالغيرة الخفيفة من هذا الرجل الأحمر الذي يسكن إلى جواري؛ لأنه قوي مليء بالشباب، ومدام «ح» معجبة به أشد إعجاب. ١ – ٢ – ٣ – ٠٠٠ – ٦ – ٧، سبعة طوابق بيني وبين الأرض. مسافة هي الحد الفاصل بين الحياة والموت، هي بضع ثوانٍ. بضع ثوانٍ قليلة كفيلة لك أن ينسدل الستار على كل شيء؛ فلا عظيم ولا حقير بعدئذٍ، ولا نجاح، ولا فشل. كم حزَّ في نفسي أن يكلمني «ع» وهو يركب السيارة، كأنما هو يخاطب حفنة من هواء! ساعة الكنيسة تدق، لماذا لا يضبطون هذه الساعة؟ فهي تضلِّل بما تقدم أو تؤخر من دقائق. دقيقة واحدة، لا، بل بضع ثوانٍ هي كل ما يلزمك ليسكن في أذنك كل صائت ويسودُّ كل شيء. إن هؤلاء الأطفال الذين يلعبون ويصيحون في فناء المدرسة لا يأبهون لدقات الساعة، إنهم لا يأبهون للزمن. لا يزال في الوقت متسع للنزول وشرب القهوة في مكاني المألوف؛ فربما أرى اليوم أيضًا ذلك الرجل وتلك المرأة اللذين رأيتهما هناك. إنها فاتنة، ظلَّت طوال الوقت شاخصةً ببصرها إليه مفتونة به. ماذا كان يعجبها في ذلك الجلف البدين؟ بوت … بوت. بوق هذه السيارة الفخمة المسرعة دليلٌ قوي على أن راكبها شاب يلهو بشبابه. قالت لي مرة إن عيبك هو هذا الهدوء. هَبْ! تبدل نور المرور أحمر، ووقفت السيارة المسرعة، وتأخر صاحبها الفرحان عن غايته بضع ثوانٍ، بضع ثوانٍ تكفيك أن تلقي بهذا الجسد الثقيل إلى الأرض البعيدة. طاخ … انتهى كل شيء! ما أجرأ الذين يُزْهِقُون أنفسهم عن هذا الطريق! إني أفضل النيل. لن أترك جسدي في العَراء يراه هؤلاء الأطفال. مؤذن يصيح! من أين جاء هذا الأذان الذي أسمعه وليس على مقربة منا مِئذنة ولا مسجد؟! أنا جائع. بقي على موعد الغداء ساعة ونصف ساعة. تلك الفتاة التي تسير على الطوار هناك بصِدارها الأصفر وثوبها الرمادي وحذائها الأبيض. إنها مليئة بالشباب كما يبدو من سرعة خُطاها، يا لخفة الشباب ورقته! إنها ستسبق الرجل الشيخ المُلَفَّف بعباءته. تصوَّر هذا الرجل وهذه الفتاة زوجين! لماذا لم أحسم الأمر حين ازوَرَّت بوجهها أول مرة؟ أقسمت لي إنها لا تضمر السوء وصدقتها. كنت أخشى دائمًا أن أسيء إليها، فكيَّلَتْ لي الإساءة لطماتٍ بعد لطمات. اشرب يا نذل! اشرب! لو كان هؤلاء الناس الذين أساكنهم يكفُّون عن تقديم الفاصوليا والقرع مسلوقين على النحو الذي يفعلون! لا أحب أن أراهما في طبقي. لكلِّ شيءٍ في هذه الدنيا ثمن، جئت إلى هنا وأردت البعد عن وجع الدماغ، فلا بُدَّ لك أن تأكل هذا الخضار المسلوق الذي لا يحسنون طهيه. مسكين هذا الشاب اللبناني الذي شكا لي اليوم حبه المرفوض. مغفل! في الدنيا كثيرات سواها، ليتني ما تدخلت في أمر «أ»! ربما كنت سببًا في شقائه، نصحته بما يُرضي العقل، ناسيًا أن العقل في هذه الأمور لا شيء. صياح الأطفال في فناء المدرسة يملأ الفضاء؛ أين لي شيء من هذا النشاط؟ كانت غاية في الرشاقة حينما رأيتها، لماذا خفَق قلبي لها وما كان ينبغي له أن يفعل؟! يا بُني، لا تتحدث حديث القلب؛ فهذه لغة الشباب ولم تعُد شابًّا. ما أشد غرور «ش»! لو كنت أجد الشجاعة فأُسيء إلى من يسيئون بمثل ما أساءوا! مدام «ح» تطل من نافذتها، جميلة لكنها ثقيلة الدم. غريب زوجها هذا، إنه مفتون بها، لكنه لا يَغار أبدًا من الرجل الأحمر صاحب الصدر المفتوح! ترى ماذا أنا فاعل حين تصل «ر» قادمة من بلادها؟! إني أريدها ولا أريدها. إنها معتمدة عليَّ في قدومها هذا، لكني خائف أشد الخوف من قدومها. هل أبحث لها عن غرفة في مكان بعيد! يعجبني ذكاؤها وثقافتها وسعة أفقها، لكن لا يعجبني كثير من طباعها. ترى هل تُغَيِّر من طباعها في مصر؟ ليتها تفعل! إني خائف من قدومها؛ إنها تريد شيئًا لا أريده أبدًا. قلت لها في صراحة إني معتمد على عقلي. فقالت في لغة أصرح: وأنا معتمدة على غريزتي ١ – ٢ – ٣ – ٠٠٠ – ٦ – ٧، سبعة طوابق – ٨ – ٩. التليفون يا مسيو «ح». كانت نغمة كلامها في التليفون أخَّاذة، لكنها إبليس في صورة البشر، إنها الشر كله في صورة إنسان، إني لأعجب كيف يكون هذا الشر كله في هذه الرقة كلها! الحمد لله، آه لو رددت الإساءة بإساءة مثلها! إذن لما عانيت شيئًا من لذع الضمير الذي يؤرقني ويعذبني. لن أنسى أن أقول لمتولي حين أراه ساعة الغداء ألا يضع لي في طبقي خضارًا؛ سأكتفي اليوم بالبطاطس واللحم. يا ليت لي شخصية مستر «ك»! رأسه فارغ مع أنه في الستين من عمره. لم أره عابسًا مرة واحدة! قال لي مرة: أنا معجب بذكائك. قلت له: بل أنا المعجب بفرحك بالحياة يا مستر «ك». كان منطق الحوادث يحتم أن يتزوج من مس «ج»، لكن يظهر أن ذلك لن يحدث. خسارة مس «ج» هذه؛ قاربت الخامسة والأربعين بغير زواج، وفيها كل الصفات التي تجعل من المرأة زوجة صالحة! ١ – ٢ – ٣ – ٠٠٠ – ٦ – ٧، سبعة طوابق بينك وبين الأرض. لكن الأطفال ما زالوا في الفناء يصيحون. كان العريس شابًّا وكانت العروس شابة. هو أكثر من العشرين قليلًا، وهي أقل من العشرين قليلًا. وهكذا يكون استقبال الحياة؛ وإلا فلا. أنا من ضيَّع في الأوهام عمره. ما الذي أعجب تلك المرأة في رجُلها الذي لبثت شاخصةً إليه ببصرها طيلة اليوم بعين المفتونة المعجبة؟ أوه! من يدريك؟ لعله معها في جحيم. الظواهر تخدع، وقد انخدعت بها أنت حتى شرقت وغرقت. حسبوني أبله ساذجًا! هم مخطئون، لكن أمسكت عن الردود الصحيحة في المواقف المختلفة؛ فما ذاك إلا حياء لم يكن بلاهة ولا سذاجة. إن الماضي لا يعود، وجرحك لن يندمل إلى الأبد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤