يوم الميلاد

هذه سطور أكتبها يوم ميلادي الثالث بعد الأربعين.١ وأقول «يوم» الميلاد ولا أجعله لنفسي «عيدًا» من الأعياد؛ فإني أُشْهِد الله أنه يوم ما أقبل قطُّ في حياتي مرة بحيث استقبلتُه بنفس مرحة طروب. بل إني لأعجب عجبًا لا ينقضي من رجلٍ يحتفل لنفسه بمثل هذا اليوم من حياته، أو يرضَى أن يحتفل له الناس به. فنحن من هذه الأعوام التي تكرُّ ماضية عامًا في إثرِ عام، بمثابة من وقَف على جسر النيل، وفي يده عقد أخذ يُلقى حباته في الماء حبَّة وراء حبة. أفكلما نقَصت لؤلؤات العقد لؤلؤة فرِحت لنُقصانها مسرورًا؟!

لكن لعل هؤلاء المحتفلين بأعوامهم تمضي أعقلُ مني وأحكم؛ فقد تكون الحياة عبئًا ثقيلًا، ينقض ظهورَ الرازحين تحت حمله، فكلما انزاحَ من أجزائه جزء سُرَّ حامل العبء وابتهج. نعم، قد تكون الحياة عبئًا ثقيلًا ينقض الظهور أكثر منها كنزًا ثمينًا يشرح الصدور … ومهما يكن من أمر هؤلاء وأمري، فنحن على اتفاق أننا أبدًا سائرون إلى نقصان، ما دُمنا قد اجتَزْنا قمة الشباب في العشرين أو نحوها، على اختلاف بيننا في فهم هذا النقصان؛ فيرونه كسبًا وأراه خسرانًا.

وليس يخلو من المعنى أن يكون مولد العام الجديد أقوى أثرًا في نفسي من يوم ميلادي. فيستحيل أن يمرَّ اليوم الأول من يناير، وأنا عنه لاهٍ ساهٍ غير آبهٍ ولا حافل. أما يوم ميلادي فما أ كثر ما يمر لا أذكره ولا أحسه ولا أشعر به، حتى إذا ما فات وانقضى أذكر عرَضًا أنه فات وانقضى وأصبح تاريخًا يُروَى. وأرجح الظن أني في ذلك لا أشذ عن كثير من الناس. أيكون ذلك؛ لأن مولد العام الجديد يُسجَّل للإنسانية بأسرها، بينا يُسجَّل يوم ميلادي لفرد واحد؟ أم يكون لأن مولد العام الجديد تسجيلٌ للحوادث؟ وأما يوم ميلادي فرقم لا يدلُّ على شيء سوى ما انقضَى من عدد السنين، وأن هذا العدد بغير الحوادث التي تملؤه رقم أجوَف فارِغ؟

رقم أجوف فارغ! لقد سألت نفسي يومًا: لو أرَّختَ لحياتك ودوَّنتَ ما مر بها من حوادث؛ فماذا أنت ذاكر؟ إن من الرجال مَن يكتبون قصص حياتهم، فإذا هي حافلة بأحداثها. تقرؤها فكأنما تقرأ قصةً من خلق الخيال البارع. فأين من ذلك ما عشت من حياة فارغة جوفاء؟! وهنا رأيت الشبه مائلًا بيني وبين ساعي البريد. أرأيت كيف ينفق هذا الرجل حياته ساعيًا بين الناس ببريده؟ إنه لا يمس «الظروف»، إلا من ظاهرها دون أن ينفذ إلى قلوبها ولُبابها. إنه لا يعلم من الرسالة إلا عنوانها أو بعضَ عنوانها. فأين ذلك من صاحب الخطاب؟! إنه يفض غلافه ويمس شَغافه، ويقرأ السطور وما بين السطور. إنه يَستروِح من كلماته أنفاس الحبيب، أو هو ينظر إلى الألفاظ فإذا هي ألحاظ الصديق ناظرة إليه تُباسمه وتُناجيه.

لكأنني من هذه الحياة إزاء مدينة حصينة سُوِّرت بمنيع الجُدُر. ولكأنني منها طوَّاف يطوف حولها ويطوف، ثم لا يجد إلى جَوفها من سبيل … صه! أذلك همس؟ إنهما حبيبان يتغازلان؟ أتلك ضحكات طروب؟ إنها جماعة أخذتها نشوة ومرَح. أذلك أنين؟ إنه بكاء حزينة ثكلى. يا ويح نفسي! أريد أن أهمس كما يهمس الهامسون، أريد أن أضحك كما يضحك الضاحكون، بل أريد أن يكون لي في حياتي ما أبكيه وأرثيه! أين يا صديقي الجواز الذي يبيح لي الدخول في هذه المدينة الصخَّابة فأشتريه؟!

رأيت الناس ذات صيفٍ حَرور يصطافون، فأقسمت لأكونن كسائر عباد الله مصطافًا. ذهبت إلى الشاطئ مع الذاهبين، فسرعان ما برزت من إِهابي شخصية الساعي؛ أقف على الشاطئ ولا أغوص. الناس يمرحون في الماء ويلعبون، والأطفال يتقلبون مع الموج ويضحكون، والنساء كعرائس الماء غائصات طائفات صائحات ضاحكات، وليس لي من كل ذلك شيء. ونظرت حولي، فإذا أنا واقف بين أكوام الملابس نضَاها أصحابها. ويشاء القدر الساخر أن يكون أقربها إليَّ حذاء مخلوع، فأدركت عندئذ في يقين، أني بين هذه الأحياء كالقوقعة الفارغة، يرتسم على سطحها الحيوان ولا تحتويه، ولم أستطِعْ أن أواجه هذا الحق المخيف، فقَفلتُ إلى الدار راجعًا.

رقم أجوف فارغ، إذن، هذه الأعوام تنقضي من حياة الأمة، فلا يكاد يتغير من وجهها شيء! نعم يا قائد الثورة الفرنسية «إن أربعين قرنًا تنظر إلينا من قمة هذا الهرم». وكأنها أربعون لسانًا يقول للمصري: ماذا صنعت يداك؟ هذه هي ذخيرة العلم توشك بقوتها أن تميل بالأرض عن مسراها، فماذا لك منها؟ إذا أرَّخت لحياتك ودوَّنت ما مر بها من حوادث، فماذا أنت ذاكر سوى أن ساسة الأمم ما زالت تعترك عليك وتصطرع، وأنت بينهم واقف كالصبي الأبلَه، وضع إصبعه في فمه، وأخذ ينقل نظراته بين هذا وذاك؟ حسبك من البقرة «نعيرها»، كما يقولون. ويكفيك أن تكون حياتك معدودة بعشرات القرون!

لست إذن أرى في حياتي الخالية الخاوية ما يستحق أن أحتفل له إذا ما انقضى من الحياة عام. بل إني ما فكرت فيها بيني وبين الأيام من أخذ وعطاء، إلا ورأيتني قد نلتُ من الأيام صفقة المغبون. فقد ظللت كما يظل كل إنسان منذ مولده حتى يبلغَ من الشباب ذروته، ظللت آخذ من دنياي مادة أكثرَ مما أعطيها، فأزداد بهذا الكسب المادي لحمًا وعظمًا، ثم بهذا اللحم والعظم أنمو صبيًّا ويافعًا وشابًّا. لكني لقاءَ ذلك الكسب في وزن البدن، كنتُ محرومًا من المال، فلم أكن أرى منه، إبَّان ذلك العهد، إلا قروشًا قليلة يعطينيها أبي رحمه الله، مليمين مليمين، أو على أحسن الحظوظ قرشًا قرشًا، حينًا بعد حين. وقد كان يحدث أيام العيد أن يتبادل أبي وعمي «الأعياد» للأولاد. فكنت آخُذ من عمي ريالًا أو نصفَه، فلا يكاد الريال يستقر في كفِّي حتى يتقاضاه أبي مِن جديد إذا ما خلا بي. ولم أكن أفهم لذلك معنًى حتى شببت وازددت علمًا، فعرفت أن قد كان للأمر اقتصاديات عُليا لا يفهمها الصغار، على نحو ما يَفعل رؤساء الحكومات اليوم. فهم يضبطون الصادر والوارد، بحيث يكون لهم في نهاية الأمر ميزانٌ متعادل. والناس، إزاء هذا الذي يحدث في السماء العالية من دنيا الاقتصاد، لا يعرفون إلا أنَّ السكر كان يُصرف لهم بالأمس أُقَّاتٍ تسعًا، فإذا هو اليوم يُصرف لهم سبعًا، وأنهم كانوا يأكلون الخبز أبيضَ خالصًا، فإذا هم اليوم يأكلونه مخلوطًا أسود.

حتى إذا ما جاوزتُ قمة الشباب، وانتهى من الحياة طريقها الصاعد، وأخذت أسلُك منها سفحها الهابط، تغير الموقف رويدًا رويدًا، حتى انعكس الوضع؛ فخسارة من اللحم والعظم، وكسب من المال؛ ذلك أني بدأت الآن أعطي دنياي من بُنيان جسمي أ كثر مما تعطيني. فأسنان تفسد ثم تُخلع، وشعر يضعُف ثم يتساقط، وعضل يفتر ثم يترهل، وجلد ينكمش ثم يتغضَّن. بعد أن كانت الأسنان والشعر والعضلات والجلد تزداد مع الأيام قوة وفتوة. فهذا جانب الخسارة، ويقابله زيادة في كسب المال؛ فقد كانت وحدة نقودي مليمًا أو قرشًا، فأصبحت أفكر فيها بلغة الجنيهات، وأخشى أن أقول بعشراتها، فيظن بي القارئ ثراءً أو ما يشبهه، ولست من هذا بحمد الله في عِير أو نَفير. لكنها هذه السنوات السود التي أضاعت جزءًا عزيزًا من حياتنا، هي التي علمتنا ذلك الحساب كرهًا وقسرًا. فلم أعد أدفع أجر مسكني بلغة الجنيه الواحد كما كنت أفعل، بل أدفعه مبلغًا ذا رقمين سواء استطعت إلى ذلك سبيلًا أو لم أستطِعْ. ولم أعد أشترى البدلة بلغة الجنيه الواحد كما كنت أفعل، بل أشتريها بالعشرات راضيًا أو كارهًا. وهكذا تراني اليوم، بالقياس إلى يفاعتي، أخسر في بِنْيَتي وأكسب في ثروتي، أنقص في دمي ولحمي وأزداد في مالي. فكأنني إزاء هذا كله أشترى الضلالة بالهدى، وأبيع سمسمًا مقشورًا بسمسم غير مقشور … ولست أدري ماذا تقول أنت في مثل هذه الصفقة؟ لكنها عندي صفقةُ المغبون، وبمثل هذه الصفقة الخاسرة يذكرني يوم ميلادي.

لو خُيِّرت في الأمر لسرت بالحياة في طريق معكوس، بحيث تأتي الشيخوخة أولًا والشباب آخِرًا، فالخمسون تأتي قبل الأربعين، والأربعون قبل الثلاثين، والثلاثون قبل العشرين، حتى أنعم بالصعود في سُلم الحياة، ولا أحزن لمثل هذا الهبوط. وأنا مسئول عن كل النتائج التي تترتب على هذا الوضع المعكوس … لو كنت موظفًا مدنيًّا في الحكومة؛ فسأبدأ بالدرجة الأولى وأتمتع براتبها الضخم، وأنا بعدُ في سن العشرين. ولا بأس عندي أن أعقب عليها بالثانية فالثالثة وهلم جرًّا، بحيث أنحدر في الدرجات والمال كلما دبَّ في جسمي الهزال؛ لأننا على هذا الوضع الراهن بمثابة من يخزن البندق حتى تزول عن فكَّيه الأضراس والأنياب. فقل لي بربك: ما غِنى هذه الدرجات تعلو، وهذه النقود تزداد، ولم يعُد لها في الجسم مستقبل أو مستجيب؟ هذه هي السوق قائمة، وتلك هي الحلوى معروضة أمام بائعيها كما عهدتها وكما اشتهيتها أيام الصِّبا. وهذا هو المال في جيبي، فلماذا لا أشتري الحلوى ولطالما تمنَّيتها؟ أما وقد تهيأت لي الأسباب فلماذا لا أشتري الحلوى، ولطالما سال مني عليها اللعاب؟! … لأنني خزنت البندق، حتى زالت الأضراس والأنياب!

ولو كنت موظفًا عسكريًّا؛ فسأبدأ الشوط بكتف مملوءة بكل ما عندهم من أنجم وتيجان. ولا بأس عندي أن تتساقط عن كتفي هذه اللوامع واحدةً بعد واحدة كلما تقدمت بي الأعوام، كما تسقط عن الشجرة أوراقها في الخريف بعد أن أَينعت ناضرة عاطرة في الربيع. وإلا فحدثني بربك ما معنى أن يكون ربيع على الكتفين وخريف في صميم البدن؟!

ولو كنت كاتبًا فسأبدأ الحياة بكومة من الكتب هي كتبي، ومئات من المقالات جرى بها قلمي؛ فأُزْهَى بهذا كله يوم يكون للزهو معنًى مستساغ. ولا بأس عندي أن يخفت على مر الأيام صوتي، ويقل صيتي، وينكمش اسمي سيرورة وذيوعًا. فذلك كله عندي خيرٌ ألفَ مرة من أن أزداد في درجات الحكومة رفعة، أو أزداد في كتفي التماعًا، أو أزداد في دولة الأدب أو العلم شيوعًا وذيوعًا، حتى إذا ما اكتمل لي من هذا أو ذاك قدرٌ أُحسد عليه؛ لم أجد له في نفسي صدًى، فكأنما أمتلئ من خارج، إن صح هذا التعبير، وأخلو وأفرغ من داخل … ولست أدري: ماذا تقول أنت في هذه الصفقة؟ لكنها عندي صفقة المغبون، ومثل هذه الصفقة الخاسرة يذكرني يوم ميلادي.

١  كتبت في أول فبراير سنة ١٩٤٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤