خبرة السنين

سُئل سوفوكليز الشاعر المسرحي اليوناني مرة، وكانت السن قد بلغت به مبلغ الشيخوخة: «ما موقفك الآن إزاء الحب يا سوفوكليز؟ ألا تزال قادرًا عليه؟» فأجاب: «صه! نشدتك الله لا توقظه في قلبي من جديد، فكم يسعدني أن أراني قد فرَرْت من حبائله، فأحس كأنما فررت من مستبدٍّ متوحِّش مجنون!»

فإذا جعلنا لفظة «الحب» في هذه العبارة رمزًا يشير إلى العاطفة في شتَّى ألوانها: من غضب شديد وحزن شديد ومقت شديد وحِقد شديد وطموح شديد وحماسة شديدة، إلى آخر هذه العواطف التي يحتدم أُوَارها عادةً في صدور الشباب، وتبرد نارها في صدور الشيوخ، ثم إذا جعلنا «سوفوكليز» في هذه العبارة ينطق بلسان الرجل إذا تقدَّمَت به السن، كان لنا أن نضع السؤال والجواب السابقين في هذه الصورة الآتية:

– في أي شيء جوهري يختلف الشيوخ عن الشباب؟

– في برودة العواطف بعد اشتعالها.

•••

وفي برودة العاطفة تتلخَّص خِبرة السنين؛ فالشيخ المجرِّب الذي خبَر الأيام وعرَك الحوادث لا يقف نفس الموقف الذي يقفه الشاب إزاءَ مشكلةٍ بعينها، فلا يغضَب أو يحزَن أو يثُور حين يغضب الشَّاب أو يحزن أو يثور. ليس الفرق بينهما اختلافًا في الذكاء؛ لأن عُلماء النفس يحدثونك حديثَ اليقين، بأن ذَكاء المرء لا يزيدُ بعد سنِّ السادسة عشرة أو السابعة عشرة، وإنما الذي يَزيد بعد ذلك في المرء كلَّما تقدمت به الأعوام؛ هو الخبرةُ لا درجة الذكاء.

وكذلك ليس كلُّ الفرق بينهما هو أن خِبرةً بعينها يُصادفها الشابُّ لأول مرة في حياته، على حين يصادفُها الشيخ للمرَّة العاشرة أو العشرين، فيكون الفرقُ بينهما اختلافًا في عدد الخبرات؛ مما يمكن الشيخ أن يتصرَّف في كل موقفٍ على غِرار ما تصرَّف في الموقفِ الشبيه به فيما مضَى. ولا يجد الشابُّ في خبراته السابقة ما يَقيس عليه، فيتخبَّط في خُطاه ويَضل سواء السبيل.

أقول إن الفرق بين الشيخ والشاب، حين لا يغضَب الأول ويغضَب الثاني إزاءَ موقف معين، أو لا يحزن الأول ويحزن الثاني، ليس هو اختلافًا في درجة الذَّكاء، بحيث يَرى الأول ما لا يراه الثاني ولا هو اختلافٌ في عدَد الخبرات السابقة فقط، بحيث يجِد الشيخ دائمًا في خبرته من السَّوابق ما يقيس عليه الموقف الراهن، ولا يجد الشاب في خِبرته شيئًا يَهتدى بضيائه. إنما الفرق الجوهري الهام بين الشيخ والشاب هو برودةُ العواطف عند الأول، واحتدامُها في الثاني، وهذه البرودة هي ما نعنيه بخِبرة السنين.

لقد مات لي عَمَّان، جاء موت الثاني بعد موت الأوَّل بما يقرب من عشرين عامًا. وشهدت موقف جدتي في الحالتين، فكأنما شهدت امرأتين مختلفتَيْن أشد ما يكون الاختلاف بين الناس! شهدت في المرة الأولى أُمًّا جزعت على موتِ ابنها جزَعًا لم أشهد له مثيلًا في كلِّ من رأيت من الأمهات اللائي ثكِلن أبناءَهن. شهدتُ عندئذٍ أُمًّا لا يكاد ينقطع لها بكاءٌ، تهيم على وجهها أحيانًا في شوارع القرية صارخةً نادبة لَادِمة، وتصوم عن الطعام أيامًا. فإن أكلت تعمدَتْ ألا يكون طعامها من أطيب الطعام. وكثيرًا ما كانت تذهب إلى قبر ابنِها حيث تقضي اليوم كلَّه والليل كله، وتأبى أن تفترش غيرَ الحصير الغليظ الخشن، على أن تكون السماءُ غطاءَها. وألدُّ أعدائها أولئك الذين يتقدَّمون إليها بالنصح أو بالتعزية والمواساة؛ لأنهم إن فعلوا كان معنى ذلك عندها قصورهم عن إدراك المُصاب بكل هَوْله وفَدَاحتِه.

ثم شهدت جدتي هذه لما مات ابنها الثاني، وكانت قد تقدَّمت بها السن عشرين عامًا تقريبًا. مات عمي هذا في القاهرة ونَقَلنا جثمانه إلى القرية حيث كانت تقيم جدتي، وحُمل النعش إلى بَهْو الدار، حيث رأيت جدتي واقفة في سَوَادها، وكان الليل قد انتصف والسكون ضاربًا بجِرَانه على أطراف القرية جميعًا، والأضواء خافتة في الدار، حتى كاد الأشخاص يتحولون أشباحًا … وقفت جدتي لحظةً شاخِصة ببصرها إلى النَّعْش، بعد أن وضعه حاملوه على أريكة خشبية في بَهْو الدار، وقفتْ لحظة صامتة لا تتحرك ولا تنطِق، فلم يسَعْنا إلا الوقوف معها في صمتٍ خاشعين، ثم صرخَتْ صرختَيْن، تنطق فيهما بلفظة «يا وَلَدي» … وكان ذلك كل ما أبدته جدتي من علامات الجزَع! جلست هادئة في المأتم، لا تصرخ ولا تبكي ولا تندب، ولا تلطم صدرًا ولا تمزق ثوبًا.

فكان الفرق بين موقفِها في المرة الثانية وموقفها في المرَّة الأولى هو خِبرة السنين.

ولما كان التعليم هو بمنزلة اختصار الزمن في تحصيل الخبرة التي تتطلب زمنًا أطول بغير تعليم؛ رأينا هذه العواطف الحادة أقل حدوثًا في المتعلم منها في الجاهل. وقُل ذلك بعينه في الأمم بصفة عامة؛ فالأمة التي ارتفع فيها التعليم أقدرُ من غيرها على التخلُّص من هذه العواطف الشديدة على اختلاف أنواعها. أو بعبارة أخرى: بردت فيها العاطفة وازداد العقل رجحانًا، فلا تبلغ عاطفة الأبوة أو عاطفة الأمومة هذه الدرجة من الهوَس التي تلحظها في الأمَّة المتأخرة، ولا يبلغ حزن الوالدين على فَقيدهما ما قد يبلُغه في الأمة المتأخرة من درجة الجنون، ولا ترى فيها علائم الغضب الشديد والغَيرة الشديدة، بل لا ترى فيها علائم الفرَح الشديد.

إن العاطفة الحادة كائنة ما كانت، نوع من العربدة الخُلُقية، تزداد مع الرُّعونة وتقل مع رجاحة التفكير. ولعل أهمَّ ما يُؤخذ على اليونان في تصويرهم لآلهتهم، أنهم صوَّروهم كائناتٍ تنفعل بالعواطف كما ينفعل البشر، فيضحكون ويحزنون ويَحقِدون ويتنافسون ويغضَبون. أما الإله في الديانات الرشيدة؛ فيوشك أن يكون تفكيرًا خالصًا لا عاطفة فيه. وإذا أراد إنسان من البشر أن يعلو على سائر الناس في مكانه، كالملك في الاحتفال الرسمي، أو كالقاضي في ساحة العدل؛ خلع عن نفسه مظاهر الخِفَّة والطرَب والحُزن والغضَب وما إلى ذلك، وبدا للناس كأنما هو كائن بغير عاطفة.

ذلك أن العاطفة معناها نقصٌ في قوَّة التفكير، فانظر إلى ما شئت من أوضاع الحياة أو جوانب الطبيعة نظرة عقلية علمية؛ تَرَ العاطفة قد امَّحت آثارها. انظر إلى الحب — مثلًا — نظرتك إلى السمك يبيض ويلقح له البيض، وانظر إلى المرأة «الفاتنة» نظرة عالم التشريح إلى الجسم الإنساني، وإلى الزهرة «الرائعة» نظرة عالم النبات، وهو يدرس أجزاءها، وإلى أي نوع من الزهر تنتمي، وحدِّثْني بعد ذلك ماذا بقي لك من عاطفة.

إن الشيخ إذا تعلَّم من خبرة السنين، تعوَّد برودة العواطف، فإن قلَّت لذائذه تبعًا لذلك، فقد قلَّت كذلك آلامه. ولست أتردد لحظةً — إذا كان لي اختيار — في أن أُوثِر القِلة منهما معًا على الكثرة منهما معًا. نعم، إن الشيخ لم تعُد له لذَّةُ الحب الجامحة كما يتمتع بها الشاب، لكنه كذلك مستريح البال من آلامه وأوجاعه. ودونك شعراء الحب فانظُر كم قصيدة قِيلت في نعيم الحب! وكم قصيدة قيلت في جَحيمه! لئن كان الشباب يعرف ما الحب؛ فالشيخوخة تعرف كيف تكون الصداقة. وما الصداقة إلا حُبٌّ هدأت فيه العاطفة وزالتْ عنه شرورُها.

التخلص من العاطفة الحادة هو — كما قال سوفوكليز — «فرار من مستبد متوحش مجنون». فأنت مستبد برأيك إذا سَيَّرتك العاطفة استبدادًا يستحيل معه الوصول مع خَصْمك إلى اتفاق، وإن شئت فانظر إلى فريقين اختَلَفا في عاطفتهما الوطنية، وفريقين اختلفا في نظرية علمية؛ فالسبيل عند المختلفين في الحالة الأولى هو القِتال؛ إذ لا سبيل إلى مقاولة أو مداولة أو نقاش، والسبيل عند المختلفين في الحالة الثانية هو الإقناع؛ إذ لا ضرورة إلى قتال.

وأنت متوحش إذا احتكمت إلى عواطفك في حُكمك على الناس والأشياء؛ لأنك عندئذٍ ستحب هذا وستكره ذاك على غير أساس إلا ما يَبني عليه الحيوان الأعجم حُبَّه وكراهيته. إن الهمجي يريد الشيء بغرائزه وعواطفه أولًا، ثم توحي له الأهواء أنه أراد الحق فيما أراد، والعكس أرقى في مراتب التطوُّر البشري، وهو أن أرى أولًا أن الشيء حق دون تدخُّل من العاطفة والهوى، ثم بعد ذلك أدرب نفسي على حبه.

وأنت مجنون حين تمسك العاطفة بزمامِك؛ لأن الجنون هو أن تأخذ بما في رأسك من أوهام، متحديًا بذلك الواقع المحسوس، فيرى «العاقل» في النهر ماءً يجري في منخفَض من الأرض. أما «العاطفي» فقد يراه كائنًا حيًّا يهمس إلى الشواطئ والزوارق همسات الغرام!

التزام الواقع في هدوء بغير صخب العاطفة وهوَسها — هذه خبرة السنين؛ فالرجل طفل غِرٌّ مهما تقدَّمَت به الأيام — إن ظلت تعصف به عواصف العواطف الهُوجُ، والشاب شيخ مجرِّب مهما صغرت أعوامه، إن نفخ الدخان عن نيران الحوادث ليراها على حقيقتها.

لقد كنت أنظر مع صديقتي إلى ألعاب بهلوانية أجاد فيها اللاعبون، حتى إذا ما فرغوا من ألعابهم، صفَّق الناس تصفيقًا يمزِّق في الأكف جلودها، وجلست ساكنًا لم أصفِّقْ، فسألتني صديقتي: لماذا لا تصفِّق مع الناس؟ فأجبتها قائلًا: إنها خِبرة السنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤