أرقام

أنزل الله بهذا القلم محنة طال أمَدها حتى أشرَف على الخمسين يومًا انقطع خلالها عن الكتابة في شتَّى ضروبها. وقد كان يوشك قبل ذلك ألا ينقطع عنها يومًا واحدًا؛ وذلك أن صاحبه قد شُدَّ إلى أعمال الامتحان شدًّا بغيضًا، حتى تحرَّج صدره وضاقتْ نفسه، ولم يجِد ما يعينه على البلاء سوى أن يُرخي على عقله ونفسه ستارًا من خياله، فلا يدرك ما حوله إلا إدراكًا غامضًا، على نحو ما يرخي الغطاء على عينَي الثور المربوط إلى الساقية؛ حتى لا يتبين ما هو فيه من مِحنة فيثُور.

كان هذا القلم أيام محنتِه يملأ جوفَه في الصَّباح مدادًا؛ ليفرغه طيلة الضحى أرقامًا، يظل يرصها صفوفًا صفوفًا. وكلما فرغ من كومة منها جاءته كومة أخرى: فالمُمْلي لا ينفك يملي عليه، والقلم لا ينفك يفرغ مداد جوفه بما يملى عليه: ٧ ضعيف، ١٠ مقبول، ٥ ضعيف جدًّا، ١٢ جيد، ٦ ضعيف، ٩ ضعيف، ١١ مقبول، ٨ ضعيف، ٣ ضعيف جدًّا … وهكذا راح قلمي المسكين اليائس المخيب الرجاء، يملأ جوفه في الصباح مدادًا؛ ليفرغه طيلة ساعات الضحى بما يُمْلَى عليه من هذه الأرقام وما يشبه الأرقام. ولم يكن يعلم إلا الله وصاحبه كم كانت تتلوي أمعاؤه من الألم حينًا بعد حين! إذ كان يتمنى لنفسه شيئًا فوجد شيئًا آخر. فما أبعد الفرق بين ما كان هذا القلم يرتجيه لنفسه، وبين ما سُخِّر له تسخيرًا خلال تلك الأيام الخمسين.

وجاءتني عندئذٍ رسالة كريمة تريدني على الكتابة، فهممت أن أجلس إلى مكتبي ساعة أتصيَّدها اختلاسًا من شبَكة الأرقام، التي ضَربت حول قلمي نطاقًا كأنه نسيجُ العنكبوت، وقد تعثرَتْ فيه الفريسة المنكوبة. هممت أن أجلس إلى مكتبي ساعة؛ لعلى أجيب تلك الرغبة المشكورة، فأطفئ من نفسي ظمأَيْن، وأحقق لقلمي غرضَيْن، لكني وجدت القلم محمومًا مثل صاحبه، فهو — كصاحبه — في غمرة من خيبة الرجاء؛ كلاهما كان يريد لنفسه مكانًا، ويأبى الناس إلا مكانًا أدنى. فهذا القلم المسكين اليائس المخيب الرجاء، ينظر إلى الأقلام التي يُباريها وينافسها، فيعجب لماذا يحكم عليه الناس من دون أن يفرغ مِداده فيما قد كان يصلح له أتفَهُ الأقلام، إلا أن يَكون سجنًا مقصودًا، ونفيًا منشودًا وتشريدًا مدبرًا؟!

ولم أكد أفرغ من محنتي تلك، وأخرج من ضائقتي كما يخرج السجين من غيابة سجنه، حتى أفرغت ما في القلم من بقية مِداده؛ لعلي أطهره مما احتوت أمعاؤه من آثار الدنَس، وملأته مدادًا جديدًا نقيًّا، إن صح أن يُوصف المداد بالنقاء. وقلت له: عُد الآن فأكتب يا قلمي، فدمع دمعة سوداء كان منها عنوان هذا المقال: «أرقام»؛ لأن الأرقام التي ظل يكتبها خمسين يومًا، كانت لا تزال عالقة بسِنانه، لكنها الآن قد نُفخ فيها روح، فإذا هاتيك الأرقام ناس!

«٧ ضعيف» … ليست هذه العبارة رقمًا أصم إلا عند صاحب القلب الميت والبصر المفقود. انظر إليها متأملًا، تَرَها شابًّا في الثامنة عشرة من عمره، أميَل إلى السمرة، صَحَّت له عين وعَطُبت عين، له شارب خَفيف، وانتشرت على وجهِه شعَرات لحية عمرها أربعة أيام أو خمسة. وفي الشاب ذبول الزهرة التي لم تذبُل ذُبول الموت، ولا هي ازدهرت ازدهار الحياة. فهو وسط بين الصحة والمرض، وبين النشاط والخمول، إنه بحاجة إلى قطرتين من ماء لينتعش ويصحو، هو بحاجة إلى قطرتين اثنتين من حب ليرتوي قلبه الظمآن. لقد شبع وارتوى من حُبِّ أبويه، وأرادت له الطبيعة الآن حبًّا آخر.

… لكن اذبل عودًا يا بني، مُت قلبًا وروحًا وانطفِئْ عقلًا وفؤادًا، إنك تحيا في قفر يَباب، هيهات أن تجد فيه هاتين القطرتين اللتين تتعطَّش إليهما؛ لأن الفضيلة عندنا، يا بُني، حدُّها هاتان القطرتان من ماء. اسرق ما شئت، وانهب ما شئت، واستهن بالناس ما شئت، ودُس على الواجب بقدميك ما شئت؛ فلن يخرجك ذلك كله، يا بُني، ولن يخرجك أضعافه من حظيرة الفضيلة وزمرة الفضلاء. ما دمت بمنجاة من هاتين القطرتين من ماء الحب اللتين يريدهما عودك ليرتوي، وها قد أتى سجَّانوك آخر العام لينشروا أوراقهم بين أيديهم، فيُمْلي المُمْلي على الناسخين: «٧ ضعيف»، ويكتب الناسخون في جهمة على جباههم ورعشة بأيديهم: «٧ ضعيف» … غيره.

«۷ ضعيف» … ليست هذه العبارة رقمًا أصم خَطَّه قلم، لكنها صورة ذلك الشاب الذي سنحت له في الدرس فرصة ذات يوم؛ فقام يسألني أسئلة فيها مرارة وثورة على كل صاحب سلطة، في الأرض أو في السماء. وفرغ الدرس ولم أكن قد أتممت حديثي معه فتبعني في ركن هادئ من المكتبة، وراح ينفض لي جملة حاله، فإذا هو يعيش في بيت كأنه الجحيم: أم مطلقة وزوجة والد تذيقه العلقم كلما أصبح له صباح أو أمسى مساء، ووالد لا يكاد يجد القرش لغذاء أسرته، فضلًا عما يتطلبه شاب كهذا الشاب مما تقتضيه سبحات الشباب.

إذن يا بني، فالجوع الذي يعصف بقلبك الغض يمتدُّ حتى يشمل المعدة والأمعاء ويُوقِر السمع ويُعمي البصر! لكن امضِ في هذا السعير الذي تخوضه بالنهار والليل. وستنقضي أشهر قبل أن يأتي يوم الحساب، فيجلس زبانية جهنم في أجنحة الملائكة، ليُمْلي منهم مُمْلٍ، وينسخ ناسخ: «٧ ضعيف». والله يعلم أن الضعف بادٍ في عينك وفي مِشيتك، وفي جناحك المَهيض، ولم يكنْ بهم حاجة إلى هذه الأروقة ينصبونها، وإلى هؤلاء الحُراس يقيمونهم، والأجراس يدقونها، كأنها جنازة وهذه شعائرها. لم يكن بهم حاجة إلى كل هذا لينشروا بعد ذلك أوراقهم بين أيديهم خمسين يومًا كاملة، يصفونك فيها بأنك «٧ ضعيف».

آهٍ لو رزق الله هذا الإنسان المنكود قوة في خياله ليرى أشخاصًا أحياء وراء الرسوم! ينظر القائد الحربي إلى الخريطة، ويضع إصبعه على نقطة سوداء، فيُهَمْهم لنفسه أن تُضرب «هذه النقطة» بالقنابل لينفسح الطريق أمام جيشه. والنقطة السوداء تحت مِجهر الخيال الحي بيوت ملأى بالآباء والأمهات والأطفال والقطط والكلاب والدجاج. يا ليت النقطة السوداء على الخريطة تطن بكل ما يملأ منازلها وشوارعها من أصوات الأحياء؛ لعل القائد الحربي يتردد لحظة قبل أن يقرر ضربها بقنابله.

وكذلك هذه الأرقام التي نضعها على أوراقنا آخر العام، فنحنط فيها جثث الشباب! أعمروا هذه الأرقام بخيالكم لتشهدوا وراءها أبناءنا كائنات حية متنفسة نابضة القلوب، فتروا في أي قفر من الوجدان يحيَوْن، وفي أي جوٍّ من الجوع النفسي يتنفسون، قبل أن تجلسوا إلى موائدكم آخر العام، وفي أيديكم الأقلام مُشْرَعة كالأسنَّة المسمومة، فيُمْلي المُمْلي ويكتب الكاتبون: «٧ ضعيف.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤