الببغاء والقفص

أهديها إلى رجال المعارف بمناسبة موسم الامتحان.

***

قال الراوي:

وكان عارف باشا سمينًا بدينًا، انتفخ جَفْناه، وتهدَّل شارباه، وتورَّم صدغاه، انتشر أمامه بطن كبير، وامتدَّت وراءه أعجاز. إذا تكلم لا يُبين لأنه يأكل أواخر الكلمات.

ولكن عارف باشا لم يكن كريهًا ولا ذميمًا، تنظر إليه فتبتسم ولا تدري لماذا تبتسم، ولعلها ابتسامة الحب الذي يخلو من كل تقدير وإعجاب. والحق أن عارف باشا جدير بحبك؛ لأنه طيب القلب إلى حدٍّ بعيد، تحفزه طِيبة قلبه أن يعمل الخير، ثم يعينه على فعل الخير ثراؤه الضخم، وجاهُه العريض، ونفوذه الشامل، لكنه ما أكثر ما يخطئ وما أقلَّ ما يصيب.

جِيءَ له يومًا بطائر جميل الريش، رائع الألوان، سريع اللفَتات، رشيق الحرَكات. وقيل له: هذا ببَّغاء يفصح البيان إذا ما تعلم نطق الكلام. فنظر عارف باشا ذات اليمين وذات اليسار وهو يفترُّ بثغره الواسع عن ابتسامة الدهشة والعجَب، وقال: لأعلمنه نُطقَ الكلام؛ لأرى كيف يفصح البيان! كم يكلفني هذا؟ وما سبيلي إليه؟

فأجابه من جاءه بالببَّغاء: أما التكاليف فلا يُسأل عنها من كان في مثل ثرائك يا مولاي، وأما السبيل فلك أن تسأل عنها العُلماء الراسخين، وإنهم بحمد الله لكثيرون.

وما هو إلا أن أمر عارف باشا بالطائر أن يُعهد لفريق من العُلماء الراسخين في العلم؛ ليرى كيف يفصح هذا الطائر الأعجم البيان إذا ما تعلَّم نُطق الكلام.

وانقسم العلماء جماعتين، جماعة تعد القفص، وأخرى تجمع الكتب والدفاتر والأقلام والمحابر …

ومضت سنون …

قال الراوي: وبينما كان عارف باشا يومًا يتحسَّى أقداح القهوة مع نفرٍ من أصدقائه، ويقهقه لنِكاتهم قهقهة عالية تهز بطنَه وترج صدغيه، إذا به يذكر فجأة أنه كان منذ أعوام قد عهد بببَّغائه إلى جماعة من العلماء يعلمونه الكلام ليفصح البيان، فأمر من فوره بعربةٍ تُعد وخيلٍ تُشد؛ ليزور الببغاء ومعلميه.

وجلجلت العربة بعجَلاتها، وصلصلت الجِياد بأجراسها، ووصل عارف باشا إلى حيث يريد، واستقبله المشرفون على تعليم الببغاء بكلِّ تَجِلَّة واحترام.

– ماذا صنعتم بطائري وقد مضت سنون؟

– كل خير يا باشا.

– أروني الببَّغاء، هل يفصح البيان؟

وهنا طفق أستاذ يشير ويشرح: هذا، يا مولاي، هو القفص الذي أعددناه، مستدير القاع، مدبَّب القِمة، في جداره تسعة وتسعون سلكًا، سلك من فضة يُجاوره سِلك من ذهب، وهكذا دوالَيك على التوالي. ولو كانت الأسلاك قد كملت مائة لاطَّرَد معنا هذا التوالي في أسلاك الفضة والذهب، وكنا عندئذٍ نَزِلُّ زلَّة فاحشة؛ لأنه يتعذَّر علينا في مثل هذه الحالة أن نعلم أين نجعل للقفص بابَه؛ إذ تتوالى أسلاك الفضة والذهب أينما دُرْتَ مع القفص، وأين وجهت البصر. لكننا يا مولاي تدبَّرنا أمرنا منذ البداية، ورسمنا طريقَنا، فأحكمنا الرسم والتدبير؛ لذلك جعلنا أسلاك القفص تسعة وتسعين، فرمَينا عصفورَين بحجَر واحد؛ إذ باركنا القفص بهذا العدد المبارك. وهنا تبسَّم عارف باشا ليعلن إعجابه ورضاه، ثم جعلنا بهذا العدَد الفردي سِلكين من أسلاك الذهب يتعاقبان فيُشيران إلى موضع الباب.

والباب يا مولاي قِطعة فنية، فهو يسمَح للطائر بالدخول ولا يهيِّئ له سبيل الخروج؛ لأننا لوَينا الأسلاك على نحوٍ يجعلها ملساء إذا ما دخلها داخل، مسنَّنة مدبَّبة تسد على الخارج طريقَه إلا إذا مُزق جلده تمزيقًا تسيل منه الدماء.

فأومأ عارف باشا برأسه إيماءة الرضا والإعجاب، وطفق الأستاذ الشارح يقول: وطُول القفص وعرضُه وارتفاعه كلها قِيست قياسًا دقيقًا، بحيث تُتيح للطائر حركاتٍ بعينها ولا تُتيح له سواها؛ فللطائر مثلًا أن يطير قليلًا إلى أعلى أو قليلًا إلى أسفل، لكن ليس في مقدوره أن يضرب بجناحيه ويحوم. وها نحن أولاء قد مدَدنا له في داخل القفص عند الوسط ثلاثة أسلاك مسنونة؛ لتطمئن قلوبنا أن طائرنا لن يدور بجسَده باسطًا جناحَيْه؛ فهذا ما لا نريده له أبدًا.

ثم خدعناه؛ فعلقنا له في سَقْف القفص أرجوحة صغيرة، فيظل يهتز بها طول النهار يَمْنَة ويَسْرَة، حاسبًا أنه يشق أجواز الفضاء، وهو في حدود قفَصه لم يتحوَّل.

وأقمنا على تنظيف القفص خادمَين، وأعددنا للطعام طاهيَين، وخصصنا لضبط الحساب حاسبَين، وأفردنا للتسجيل كاتبَين، فما تَفْلت هنا يا مولاي صغيرة ولا كبيرة. نعرف كم أنفقنا من المال، وأين انصرف ذلك المال مليمًا مليمًا، ونسجل كم رفَّة للجناح الأيمن، وكم للجناح الأيسر، ومتى تحركت ساقه اليمنى، ومتى تحركت ساقه اليسرى؛ كل ذلك عندنا مقيد مسجل، نضبط حسابه بالأرقام. يقوم على ضبط الحساب حاسب، ثم يقوم على ضبطه مرة أخرى حاسب آخر، وبعدئذٍ يقوم على الحاسبَين مُراجع، وعلى المراجع مراجع.

سَلْ يا مولاي ما شئت عن الببَّغاء خلال هذه السنين، نُجِبْك الجواب اليقين، سَلْ أين كان في اليوم الأول من يناير منذ عامين، أُجبك على الفور أنه كان عندئذٍ من القاع على بُعد قدمين، سَلْ ماذا أكل يوم الإثنين، أجبك من الفور أن الوجبة قُسمت له يومئذ وجبتين، أكل في كل وجبة منها فولتين.

ويقوم على الطائر طبيب معالج يرعاه كلما ألمَّ به المرض، على شرط أن يكون المرض مما يُعالج. أما إن تحطم له جناح أو فُقئت له عين فما لنا بمثل ذلك حيلة.

وبعدئذٍ يا مولاي، بعد أن أعدَدْنا القفص كل هذا الإعداد المحكم المتين، راح منا فريق يجمع للطائر ما يلزمه من الكتب والدفاتر والمحابر والمساطر. وانقسم هذا الفريق جماعات: فجماعة تأتي له بالكتب التي بها يرطن، وجماعة تأتي له بالكتب التي بها يعد ويحسب، وجماعة تستعيد له ما كتب الأقدمون، وأخرى تجمع له ما أنتج المعاصرون، حتى تجمَّعت لنا بذلك يا مولاي أكداس ثمينة رصصناها على الرفوف رصًّا أنيقًا، وحفظناها في المخازن حفظًا أمينًا، تخرج منها الكتب بحساب، وتدخل إليها بحساب.

فهتف عارف باشا هتفة اطمئنان: «برافو! برافو! حسبي هذا. فامضوا على بركة الله، فما ضاع مالي عبثًا.»

وعاد فركب العربية التي جَلْجلت بعجلاتها، تجرها الجياد التي صَلْصلت بأجراسها، حتى إذا ما اطمأن في داره إلى مجلسه، وحُفَّ به الأصدقاء، راح يروي لهم ويحكي؛ فالقفص كله ألاعيب، والمدرسة كلها أعاجيب، والمعلِّمون عُلماء، والموظفون أكْفَاء.

وسأله سائل عديم الذوق لا يُحسن اختيار مواضع الكلام: «وكم تعلم الببَّغاء يا مولاي من فصاحة البيان؟»

فصاح عارف باشا صيحة من ذكرَ من توِّه شيئًا نسِيَه: «الببَّغاء! والله لقد نسيت الببغاء! …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤