درع من ذهب

هذا خطاب كتبه كاتبُه، ثم ألقاه على مائدة صغيرة إلى جوار مِخدَعِه؛ وأخذته العلة؛ فألزمته الفراش حينًا. وهو أعزب اختلطت في غرفته زجاجات الدواء بالفراجين والأمشاط، وانتثرت كُتبه وجواربه وأوراقه ومناديله على الأرض والمقاعد.

ولما عُدْته في مرضِه؛ وقع بصري على الخطاب منشورًا، يستوقف النظر بأسطره المائلة وخطه المنفوش، فلم أملك أن أنظر فيه إلى كلمة هنا وكلمة هناك. ولحظ ذلك صديقي؛ فقال: اقرأه، فما فيه سر مكتوم، بل هو خطاب مفتوح مكشوف، أردت به فتاةً بعينها، لكني أراها تمثل طائفة من بنات جنسها. فأمسكت بالخطاب وقرأت:

عزيزتي …

هل كتب الله على هذه الدنيا أن تكون ناقصة شائهة إلى الأبد، لا تعرف الكمال إلا أملًا يتردد في بعض الرءوس؟ تالله يا عزيزتي ما رأيت شيئًا إلا همست لنفسي: «آهٍ لو كان! …» حتى أنت! كنتِ قبل اليوم سيدة الدار وخادمته في آنٍ معًا، حين كنت تطهين وتغسلين وتكنسين؛ حتى إذا ما أقبل زوجك مع الظهيرة، وجد الدار نظيفة مرتبة والطعام مُعَدًّا شهيًّا، ووجد زوجته باسمة ابتسامة مَن لا تعرف حقًّا في راحة البال وطمأنينة الضمير إلا لمن قام بواجبه كاملًا؛ فقد كان هذا الضرب من الكمال في رأيك هو معنى الجمال.

لكن وسوس لك الشيطان أن النافع لا يكون جميلًا، والجميل لا يكون نافعًا؛ فقال لك فيما قال: أرأيت إلى هذا التمثال القائم في ركن الغرفة؟ إنه لا ينفع لكنه جميل، وهل رأيت هذا البساط وما انتشر فوقه من طنافس؟ إنه لا يُستخدم في رُقاد أو جلوس لكنه جميل، وثوبك هذا البديع؟ لقد تكدَّست على جنبيه وفوق ظهره من طيَّات بعضها فوق بعض، ما يكفي وحدَه لكساء فقيرتين من بنات جنسك. إن هذه الثنايا في ثوبك والحنايا لم تُخلق لتأتي بطراوة الهواء في الصيف، أو لتدفع عنك برد الشتاء … إنها لا تنفع ولكنها جميلة! … وهكذا راح الشيطان يوسوس لك حتى دبَّ وسواسه منك في مجرى الدماء، فصحتِ لنفسك: وَيحٌ لي! ألا تكون المرأة كذاك جميلة بمقدار ما يقل نفعها؟! والله لا طهيَ بعد اليوم ولا كنسَ ولا غسلَ ولا ولادة ولا رضاعة «ولا يحزنون» … سأكون جميلة منذ اليوم!

لكنك، يا عزيزتي، كنتِ جميلة قبل اليوم، ولم تُبِقي لنفسك من الفتنة شيئًا بعد هذا الذي اعتزمتِه من هجر ما تنفعين فيه … أصبحت دُمْيَة لا غناء فيها ولا جمال، وأضلك الشيطان ضلالًا بعيدًا وأنت لا تشعرين؛ فالجميل يا سيدتي هو النافع، والنافع هو الجميل.

حتى هذا المثال القائم في ركن الغرفة، جميل لأنه نافع. وهو نافع؛ لأن إدمان النظر فيه وفي أمثاله من آيات الفنون. يهذِّب الحس تهذيبًا حتى ليجزع إن وقع بعد ذلك على قذر أو قبيح. ولو رأيت القاهرة ملأى بما تنفر منه العيون والأسماع، ولا تجدين في الناس إزاء هذا كله إلا حسًّا بليدًا لا يجزع ولا يثُور. فما ذاك يا سيدتي إلا لأن هؤلاء الناس لا تقع أبصارهم على مثل هذا التمثال الجميل!

أتعلمين لماذا تكون الذراع التي طولها كذا أجمل الأذرعة، والخصر الذي قُطره كذا أبدع الخصور؟ أتعلمين لماذا لا ينبغي للفتاة الجميلة أن تقصُر أو تَطُول؟ كل ذلك يا سيدتي أساسُه المنفعة! فالذراع التي طُولها كذا أقدَر على الحركة السَّهلة المناسبة الكاملة منها لو أصابها طول أو قصر. وكذلك الخصر، وكذلك القَدُّ، وكذلك كلُّ شيء.

لقد قال قائل لن أذكر لك اسمه؛ لأنك — فيما أعتقد — تكرهين أسماء الفلاسفة والعلماء، قال: إن وعاء القمامة أجمل عندي من دِرْع الذهب؛ لأن وِعاء القمامة مفيدٌ نافع يؤدي الغاية التي صُنع من أجلها، ودِرع الذهب تؤدي بحاملها في حَوْمة الوغَى إلى هاويةِ الهلاك! ماذا أنتِ قائلة يا سيدتي في جُندي يتقي الحِراب بدرع من ذهب؟! ألا تكون الدِّرع في عينك عندئذٍ قبيحًا بغيضًا مع أنها في أسواق السلع نفيسة ثمينة؟ ذلك لأن الجمالَ في النفع، فالجميل هو النافع والنافع هو الجميل.

كلا، لا تُنصتي إلى الشيطان فيما يوسوس لك! وكوني في بيتك درعًا من صُلب أو حديد، تستعيدي جمالك المفقود.

إني ليعجبني ذلك الرجل الهمَجي الذي سأله رحالة أُورُبِّي عن زوجاته أيهن أروع جمالًا؟ فقال: جمال، ماذا تريد بهذه الكلمة؟ كل ما أعرفه هو أن فلانة أقدر على حمل الأثقال من فلانة. وهذه أبرع في الطهي من تلك … أذلك ما أردت بالجمال يا سيدي؟ وضحك الأُورُبِّي الرحَّالة لجهل الهمجي بالجمال، وراح يكتب مذكِّراته لينشرها في الناس فيضحكهم من هذا الذي لم يعرف معنى الجمال وقرأت أنا هذه المذكِّرات، وضحكتُ مع الضاحكين، لكني ختمت الضحك بقولي: والله لقد أصاب.

فرغت من قراءة الخِطاب ونظرت إلى صديقي المريض باسمًا سائلًا: أفي ظنِّك أن النساء كلهن هذه الفتاة؟

فقال: كلا، فهن مختلِفات.

وراح صديق يُتمتم بقصيدة من الشعر اليوناني القديم، وعنوانها «بعض النساء»:

جعل الله عند الخلق طبائع النساء مختلفات.
فجاءت إحداهن، كأنما أخرجها الله من خنزير،
يسرح بنوها في الدار في فوضى واضْطِراب.
وتراهم طرحى على الأرض يتمرَّغون في ألوان من القذر متبايناتٍ،
بينا تراها في أقذارها وثوبها المتهدل
تمرح كالخنازير في حظائرها، وتزداد شحمًا على شحم.
وأخرى كأنما هي الكلبة حركة ونشاطًا،
يشوقها أن تسمع كل شيء وتكشف عن كل خافية.
تجوس أرجاء المكان فاحصة متطلعة،
فإن لم تجد شيئًا أطلقت بالسوء لسانها،
ولا يجدي فيها وعيد زوجها.
كلا ولا يُسكتها الغضب، ولا حجَر يُلقى فيحطم أسنانها.
ولا تنفع معها كلمة طيبة، ولا مسح بكفٍّ عطوف.
إنها حتى وهي في ضيافة غيرها
تظل كالكلبة في صياحها ونباحها.

•••

وصاغت آلهة السماء من تراب الأرض امرأة،
قدمتها — على نقصها — للرجل زوجة.
يعوزها العلم، فلا خيرًا عرفت ولا شرًّا،
ولا تعرف من واجباتها شيئًا سوى أن تملأ جوفها،
إن قرصها برد الشتاء فارتعشت،
فلا تزحزح نفسها نحو النار تصطلي.

•••

وأخرى خُلقت كالبحر ذات طبعين؛
فيومًا تراها مشرقة ضحوكًا.
إن رآها في دارها غريب لم يدَّخر ثناءً،
قائلًا: ليس على وجه الأرض مثلها ظرفًا وسناءً.
ويومًا تعبس فلا تقوى على الدُّنو منها والنظر إليها،
فكأنما مسَّها عندئذٍ مسٌّ من جنون.
غضوب كما تكون الكلبة مع جِرائها،
حقود تصيب نِقْمتها الناس جميعًا على السواء،
كأنها حجر يتعثَّر به الأصدقاء والأعداء،
ولكنها كالبحر قد تسكن في هدوء رحيم.
كالبحر في الصيف هو للملاحين بهجة للناظرين،
ثم قد ينقلب السكون إلى جنون،
فيُدَوِّي بموجه دَوِيَّ الرعود.

•••

وأخرى تراها نحلة في دارها، فطوبى لزوجها!
لن تقع العين فيها على عيب يُعاب،
فهي تجعل الحياة منتجة خصيبة،
وتنجب من بنيها كل مجيد نبيل؛
حتى تبلغ الشيخوخة في حب زوجها،
وتزداد على مر الأيام طيب أحدوثة بين لِدَاتها،
ويفيض عليها الله من بركاته الطيبات.
إنها لا تجد متعة في المكث بين النساء،
حين يتحدثن في الحب ولقاء الرجال.
مثل هذه المرأة نعمة من الله لزوجها،
وهي بين الزوجات أكثرهن فضلًا وحكمةً.

صافحت صديقي قائلًا: أأنت واضع هذه الرسالة في غِلاف لأرسلها نيابةً عنك بالبريد؟

فأجاب: أرسلها كيف شئت وإلى من تشاء، ولست أحب أن أقع فريسة لفتياتنا الأنيقات الرشيقات؛ فقل عن رسالتي إنها أخلاط محموم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤