حامد سعيد

هناك، على مبعدة نائية من المدينة وصخبها، وفي أحضان النخيل المتشابك المتعانق، أقام هذا الفنان الشرود لنفسه دارًا من الطين تراها بقبابها وسط الزرع، فيخيل إليك أنك دانٍ من مهبط وليٍّ من أولياء الله، نفرت به قداسة روحه عن مطارح العمران. وتدخل الدار فيزداد هذا المعنى شيوعًا في نفسك، منذ تنحني راكعًا لتدخلها من باب وطيء، إلى أن تدور في قيعانها القليلة البسيطة المُترَعة بالروح في كل شبر من أرضها وجدرانها وسُقوفها … ويودعك الفنان وزوجه الفنانة، وكأنهما ملكان طاهران قد نظرا إليك نظرة الإشفاق، أن تركت لهما ركنًا معمورًا بالروح والمعنى؛ لتعود إلى مدينة مزدحمة الأرض والهواء بكل ما تضيق له الصدور وتكتئب النفوس.

أغفل هذا الفنان الشرود النفور مدائننا وشوارعنا وبيوتنا وأسواقنا وموائدنا ومآكلنا ومشاربنا وأطماعنا؛ ليعيش هو وزوجه في تلك العزلة النائية، فينصرف إلى الطبيعة يستمد منها الحياة غزيرة دفَّاقة، واسمع له يحدثك في هدوئه العجيب الأخَّاذ، كيف تمتلئ الطبيعة في كل ركن من أركانها بما تهتز له النفوس الحية اليقظى فتنة وإعجابًا. ألا خسئت عينان تُغضِيان عن هذا الغصن، وهذه الصخرة، وتلك الصَّدَفة، وهَاتِه الحشرة. انظر إلى هذه الحشرة يومًا ويومًا وأيامًا، تطالع فيها كل يوم جديدًا من ترتيب وتنسيق ونظام وجمال وجلال، سبحانك اللهم خالق الخلق!

وفي هذه اللفتات إلى ما يظنه الناس صغائر تَوافِه، وما يرى فيه الفنان موضعًا للفتنة ومصدرًا للسحر، ثم فيما بين كائنات الطبيعة من وحدة وإِخاء، برغم ما يبدو فيها من تباين وخلاف. يدور «حامد سعيد» بفكره وفنه، وعلى هذا الأساس يقيم مدرسته، وبهذا المبدأ يعلم حوارييه.

وأين عسى هذا الفنان المصري الصميم جسمًا وروحًا أن يجد مصدر إلهامه؟ عند أجداده القدماء، عند المصريين الأوائل، فتراه مع تلاميذه في المتحف المصري ينظرون ويتأملون ويستوعبون، ليمتلئوا روحًا، ثم يعودون إلى لوحاتهم ليصبوا أرواحهم المترَعة آيات من الفن الجميل.

وشعار هذه الجماعة هو تمثال «حتحور»، انظر إليه كيف اتحد فيه الإنسان بالحيوان والطبيعة؟! هذا إنسان واقف تحت عنق البقرة وكأنه جزء منها، وهذه بقرة لها قرنا ثورٍ ليُمحى عندك كل تفريق بين ذكور الطبيعة وإناثها، ثم هذه هي الشمس قد استقرت بين القرنين في اتساق وانسجام، بهذه العين ينظر الفنان وتلاميذه إلى الأشياء، فيرون الطبيعة كُلًّا واحدًا لا تجزئة فيه. وهذا الكل ماثل في كل جزء كائنًا ما كان، ففي هذا الغصن الجاف روح الطبيعة كلها.

وفي هذه الصَّدَفة الخاوية سر الكون كله! انظر إلى هذه الصَّدَفة الخاوية التي قد تصادفك مُلقاة على رمل الشاطئ فلا تعيرها التفاتًا، تأمل أي ركن شئت من أركانها؛ تَرَ فيه الثنايا والخطوط والتعاريج على اتساق كأنه أنغام اللحن المنسجم. ثم اجمع هذه الألحان بعضها إلى بعض، تجد في الصَّدَفة الخاوية الملقاة على رمل الشاطئ بناءً موسيقيًّا كاملًا، قد يشغلك التفكير فيه، وتتبع أجزائه وبنائها واتساقها يومًا وأيامًا، وتلك هي الطبيعة العامرة!

أو انظر إلى جذع هذه الشجرة، التي قد تتفَيَّأُ بظِلها وأنت لا تدري ما هي! انظر إلى هذه الأجزاء المتآخية فيه، كأنما قد تعاقد كل منها مع أخيه على أن يكون له مؤازرًا وظهيرًا.

•••

زرت حامد سعيد في داره النائية، وزرت المعرض الذي أقامه لرسوم تلاميذه في متحف الفن الحديث، فعرفت معنًى جديدًا لأشياء كنت قرأتها، وكنت ظننت أني فهمت معناها! فقد كنت قرأت، فيما قرأت، هذه الفقرة الآتية في «يو بانشاد» — الكتاب الهندي المقدس — التي عبر بها الهنود عن عقيدتهم في وحدة الوجود، وفي أن الكائنات كلها تعبير عن إله واحد قهَّار، فأُضيئت لي اليوم بضوء جديد:

«لم يشعر بغبطة بادئ ذي بدء؛ لأن واحدًا وحدَه لا يشعر بغِبطة، فتطلَّب ثانيًا، وكان في الحق ذا حجم كبير، حتى ليعدل جسمه رجلًا وامرأة تعانَقَا، ثم شاء لهذه الذات الواحدة أن تنشقَّ نصفين، فنشأ من ثَم زوج وزوجة، وهكذا تكون النفس الواحدة كقطعة مبتورة.»

وهذا الفراغ تملؤه الزوجة، وضاجع زوجته وبهذا أنسل البشر، وسألت نفسها الزوجة قائلة: «كيف استطاع مضاجعتي بعد أن أخرجني من نفسه؟! فلأختفِ» واختفت في صورة البقرة، فانقلب هو ثورًا، وزاوجها حقًّا، وكان بازدواجهما أن تولدت الماشية، فاتخذت لنفسها هيئة الفرَس، واتخذ لنفسه هيئة الجواد، ثم أصبحت هي أتانًا، فأصبح هو حمارًا وزاوجها، وولدت لهما ذوات الحافر، وانقلبت عنزة، فانقلب لها تيسًا، وانقلبت نعجة فانقلب لها كبشًا وزاوجها حقًّا، وولدت لهما الماعز والخِراف، وهكذا حقًّا كان خالق كل شيء، مهما تنوعت الذكور والإناث، حتى تبلغ في التدرج أسفله إلى حيث النِّمَال. وقد أدرك هو حقيقة الأمر، قائلًا: «حقًّا إني أنا هذا الخلق نفسه؛ لأني أخرجته من نفسي … وهكذا نشأ الخلق.»

ولكن «حامد سعيد» لم يقف عند الحيوان وحده في تصوره لوحدة الوجود، فأضاف إليه النبات والمحار والحجر! نعم، فهمت معنًى جديدًا لوحدة الوجود بعد زيارتي لهذا الفنان العجيب، وآمنت بصدق ما قاله القديس برنار: «إن ما تعلمته من العلوم الدينية ومن الكتاب المقدس قد عرفته من الغابات والحقول؛ فليس لي من معلِّم سوى أشجار الزان والبلوط … إن الشجر والحجر يعلمانك أكثر ما تتعلمه من شفتَي الحكيم …»

•••

ليس من عجب بعد هذا كله، أن ينقل حامد سعيد رسومه ورسوم تلاميذه يعرضها في لندن، فيكتب فيها «هربرت ريد» — وهو في إنجلترا إمام في عالم الفنون — ما يلي: «لما طُلب إليَّ منذ أسابيع أن أرى نتاج طائفة من الفنانين المصريين؛ ذهبت لا يحدوني شيء من رجاء عظيم، فما أكثر ما خاب رجائي فيما مضى، وأنا الناقد الفني في مثل هذه السن وهذه الخبرة … فآخر ما كنت أتوقعه، أن أرى أصالة حقيقية … لكنني ما كدت أبصر رسمين أو ثلاثة من رسوم الفنانين المتصلين بحامد سعيد، حتى أدركت أني إنما أرى فنًّا أقل ما يُقال فيه إنه لا ينساق وراء الأساليب الجارية؛ فهو فنٌّ فيه من صدق الفنان ما يلزمك إلزامًا أن تقف له معترفًا به، وليست كلمة «الصدق» بالكلمة التي تجرى هذه الأيام على اللسان إذا ما أردت وصفًا لشيء مما ينتجه الفن السائد، لكنها أول كلمة تَرِد على ذهني، وأنا ماثل أمام رسوم بلغت مدًى بعيدًا من الإخلاص — لا أقول إخلاص الفنان للطبيعة نفسها، بل إخلاصه في إخراج مواقع الطبيعة من نفسه.

وإنما سر الأصالة في هذه الرسوم، وما يخلع عليها هذه القوة التي تفردت بها؛ هو الفلسفة الكامنة وراءها.»

ولو قد زار الناقد العظيم «هربرت ريد» حامدًا في بيته الذي نأى به عن العمران المدني ليزداد قربًا من أحضان الطبيعة؛ لأضاف إلى قوله ذاك عبارة أخرى، هي: وسر الأصالة في هذا الفنان العجيب، وما أضفى عليه روحًا عجيبًا تفرَّد به، هو الفلسفة الكامنة وراء حياته التي يحياها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤