الأديب بين يومه وغده

سمع شاعر من شعراء الإنجليز بشاعر من شعراء الفرس، فقرأ له ثم قرأ، ودُهش للذي قرأ؛ فأعاد ثم أعاد: «لله هذا الجمال النادر! أأترك هذا «الخيام» دفينًا في فارسيته، فلا أبتعث «رباعياته» إلى حيث تشهد النور؛ فيستمد منها بنو وطني نورًا على نور؟ … لأترجمن هذا السحر الفاتن.»

وراح «فتزجر ولد» يترجم. فكان مما ترجم:

ها هنا في ظل هذي الغصون: رغيف الخبز في يدي،
وزِقُّ الخمر، وديوان الشعر، ثم أنتِ في صحبتي
إلى جانبي تنشدين الغناء في هذا القَفْر الأجرد.
إيتني بذا وذا؛ يكن لي من هذا القَفْر جنتي.

ومضى الشاعر في ترجمته للزميل الفارسي حتى فرغ، فماذا هو صانع بهذا الذي صبَّ فيه النفس صبًّا؟ أيذهب به إلى الناشر؟ لكنه شاعر مغمور، والناشر لا يجازف بماله إلا لكاتب مشهور. لأذهبن إلى أستاذ اللغة الفارسية في أكسفورد؛ فلعله إن شَهِد بصدق الشعور في الترجمة، كانت شهادته عند الناشر شفيعًا.

وجلس الأستاذ والشاعر إلى نَضَد يواجه أحدهما الآخر، وأمسك الأستاذ بالأصل الفارسي في يُمناه وبالترجمة الإنجليزية في يُسراه، وجعل يهمهم لنفسه: «ها هنا في ظل هذي الغصون …»

ونقَرَ الأستاذ بإصبعه على الأصل الفارسي، ورفع عينيه إلى الشاعر الشاب: «لم يذكر الخيام غصونًا في قصيدته؟!»

فأجاب الشاعر: «وما ذاك؟ لقد أنبأتك أني امتصصت من القصيدة شعورًا فصَببته في لغتي شعورًا مثله؛ فلم أقصد إلى ترجمة حرفية أجتاز فيها امتحانًا في معاني الألفاظ.»

فهزَّ الأستاذ رأسه وتمتم، وهو يقلب الأصل الفارسي وقال: «رغيف الخبز: موجود، وزِقُّ الخمر: مذكور، وأنتِ في صحبتي: صحيحة، لكنك حذفت جزءًا مهمًّا من رباعية الخيام؛ فقد ذكر عمر إلى جانب هذه الأشياء فخذًا من الضأن. على كل حال، هل فرغت من ترجمة القصيدة كلها؟»

– نعم، فأين أرسلها؟

– ابعث بها إلى الصحيفة الأدبية الفلانية، وسأكتب للمحرر خطابًا أوصيه بك خيرًا.

مضى عام كامل والصحيفة الأدبية لم تنشر للشاعر قصيدته؛ فأرسل إليها الشاعر خطابًا شديدَ اللهجة يطلب أن ترد له قصيدته التي أسرى فيها روحًا من روحه، فدار حديث بين رئيس التحرير ومساعده.

رئيس التحرير: ابحث لي عن قصيدة هذا الرجل بين أوراقك، فإن وجدتها أعِدْها إليه مصحوبة بخطاب اعتذار.

مساعد التحرير: ما عنوانها؟

رئيس التحرير: هي قصيدة صينية أو هندية لست أذكر، وعنوانها غريب لا أستطيع نطقه. فهاكَ خطاب الرجل فاقرأه، اعتذر له بخطاب؛ لأنه صديق لأستاذ الفارسية في أكسفورد.

مساعد التحرير: ها هي ذي.

رئيس التحرير: اقرأ لي منها سطرًا أو سطرين من أي موضع شئت.

مساعد التحرير: ها هنا في ظل هذى الغصون، رغيف الخبز في يدي. وزِقُّ الخمر، وديوان الشعر، ثم أنتِ في صحبتي.

رئيس التحرير: ما رأيك في شاعر يذكر الخمر في شعره؟

مساعد التحرير: هذا فُحش يا سيدي لا نرضاه لقُرائنا. ثم اسمع يا سيدي لهذا الشاب المُستهتر يَمضي في قصيدته، فيصف لنا جماعة من مدمني الشراب قد أنفقَتْ سواد ليلها أمام الحان، حتى إذا ما تنفَّس الصبح راحوا يخبطون الباب لصاحب الحان؛ كي يفتح لهم ليواصلوا شرابهم، فالحياة قصيرة، ومن يمضي عنها لا يعود. واسمعه ها هنا يجادل العلماء في الفلسفة والدين، فلا يفهم عنهم شيئًا؛ لأنه مخمور، فينادي بمزيد من الخمر؛ ليُغْرِق جهله في حُبابها. لا يا سيدي، لا، كان الله في عوننا من شباب هذا الجيل!

رئيس التحرير: امضِ في قراءتك؛ فإنه ليخيل إليَّ أن شعر هذا الشاب لا يخلو من جمال.

مساعد التحرير: جمال يا سيدي! إنه يعترف بأنه لا يعبأ بالعلم ولا يهتم به، وكل ما يفكر فيه هو الخمر. واسمع ها هنا ماذا يقول! يقول لك إن الدِّنان الفارغة المهمَلة على رفوفها تحلم بأيام كانت فيها مُترَعة بخمرها، أسمعت هذا؟! وها هنا أيضًا البلبل نادى الورد صائحًا: الخمر! الخمر! الخمر! أعوذ بالله! لا يا سيدي، إن صحيفتنا معروفة لقرائها بوقارها، ولا يجوز أن نرسل أعدادها إليهم وهي تترنح، وثِق بأن نشر قصيدة كهذه معناه لصحيفتنا الموت والفناء.

رئيس التحرير: لا جدال في هذا، أعِدْها إلى صاحبها؛ فما إلى هذا الحد البعيد يكون التسامح في ضيعة الأخلاق.

ووصلت القصيدة إلى صاحبها، فحملها إلى الطابع يريد طبعها بما عنده من مال، لكنه آثر أن يستشير ورَّاقًا صديقًا، فدار بينهما هذا الحديث:

الورَّاق: ماذا تقول؟ تطبع شعرًا وتنفق مالك في طباعته؟ أين في هذه الأيام من يقرأ الشعر؟

الشاعر: عِدْنِي بشيء واحد، ولا عليك بعد ذلك، عِدْنِي بأن تضع الديوان بعد طبعه في معرض الكتب في دكانك هذا.

الورَّاق: لك مني هذا، لكني أعيد تحذيري، ليس بين زبائني رجل واحد يشتري الشعر، وليته شعر وكفى، بل هو شعر فارسي! لا يا صديقي، أنا أحدثك الآن حديث الخبير ببيع الكتب وشرائها.

الشاعر: سأطبع القصيدة؛ فانصحني كم نسخة أطبع منها.

الورَّاق: إذن فاطبع مائتين لا تزِدْ، واسمح لي مرة أخرى أن أحملك على العدول. إن عيالك أولى بهذا المال على قِلَّته؛ فما اضطِرَارك إلى طباعة شيء لا يجد قارئًا واحدًا؟

الشاعر: لست أدري، لكن روح الخيام لا تُمهلني لحظة واحدة، إنها تُلِح عليَّ وتُلحِف، ما زالت كذلك حتى ترجمته، وهي ما تزال كذلك، ولن تزال حتى أطبعه.

وطبع الشاعر «رباعيات الخيام»، وأنفق على طبعها مالًا كان يحتاجه لقوته وقوت أسرته، طبع منها مائتي نسخة كما أوصاه الورَّاق، وكان الوراق عند وَعْده للشاعر — وإنه لوعد سخي كريم — وهو أن يعرض له كتابه الصغير بين ما يعرض من كتب!

عُرضت «الرباعيات» وكُتب عليها الثمن بما يساوي خمسة وعشرين قرشًا، فدخل الزبائن إلى دكان الورَّاق وخرجوا من دكان الورَّاق، ثم دخلوا وخرجوا ألف ألف مرة، والرباعيات مُلقاة على النَّضَد تضرع إلى كفٍّ كريمة تسخو لها مرة واحدة بخمسة وعشرين قرشًا! وعلى هذا النحو مرت سنون!

وكان الشاعر يُخجله أن يسأل صديقه الورَّاق: كم بعت من الكتاب لكثرة ما سأل السؤال، ولكثرة ما أجابه الورَّاق بالجواب: لم أبِعْ منه نسخة واحدة يا صديقي الشاعر. فكتب الشاعر للورَّاق رسالة صغيرة ذات يوم يُهدي إليه الرباعيات بنسخها المائتين جميعًا، فما لبث التاجر اليائس من تصريف بضاعته الكاسدة أن أنزل الثمن إلى نصف ما كان، ثم إلى نصف النصف، وهكذا، ولم يجِد الكتاب شاريًا!

وكان في ركن من أركان الدكان صندوق كبير أُلقيت فيه أكداس من كتب قديمة منوَّعة، وكُتب على الصندوق: «الكتاب من هذا الصندوق بنصف قرش.» وفي هذه الحاوية ألقى الرجل بآية الشاعر، بل بآية الشاعرين، وتركها للتراب وعفَّر جبهتها بما يشاء أن يعفِّر.

ولكل فولة كيال — كما يقولون — جاء إلى دكان الورَّاق شاعر مفلس ليس في جيبه إلا بضعة قروش، كما أرادت الأيام للشعراء والأدباء أن يكونوا، لا فرق في ذلك بين كبيرهم وصغيرهم! لكن الشاعر المفلس يريد أن يقرأ كما يريد ذلك سائر عباد الله، بل هو في ذلك أكثر من سائر عباد الله، إذن فليستبضع لنفسه كتابًا أو كتابين من ذوات نصف القرش المُلقاة في جوف الصندوق. وشاء القدر أو قُل شاءت ربَّات الفنون أن يُدلي الشاعر بيده في الصندوق؛ ليخرج بين أناملها كتابًا من «الرباعيات» وقرأ الرباعية الأولى، فقطَّب جبينه في اهتمام ودهشة، وجعل يقرأ، فإذا الرباعيات كلها سحر وفتنة، وعزَّ عليه أن يشتري نسخة واحدة من هذه الآية العصماء؛ فدفع للتاجر ثمن أربع، وأخذ من الكتاب أربعًا!

كان هذا الشاعر المفتون بما قرأ من رباعيات الخيام، هو «روزتي». ذهب إلى داره فلم يستقر له على كرسي قرار، فقصد إلى شاعر صديق على غير موعد.

– أي صديق «سونبرن»، خُذْ، يا صاحِ، فاقرأ!

وقرأ الشاعر «سونبرن»، ولمعت عيناه من عجب وإعجاب: أنَّى لك هذا الكُتيب يا روزتي؟

– ابتعته من مكتبة هناك في ركن الطريق، ورأيته مُلقًى في صندوق هناك في ركن المكان! واشتريته بنصف قرش للكتاب الواحد؛ فاشتريت أربعة.

وهم «سونبرن» بالخروج ليشتري لنفسه كتابًا، وأخرج مكنون جيوبه كلها سترةً وسراويلَ؛ فلم يجد فيها نصف قرش؛ ذلك لأنه شاعر! فنادى الخادمة واستقرضها قليلًا من قروش ومضى.

وأخذ الشاعران يتحدثان في الحلقات الأدبية عن هذا الكشف الأدبي العجيب، والعلم به يزداد انتشارًا ويتسع نطاقًا.

ودارت دورة الأعوام، وانقضى بعدئذٍ نصف قرن من الزمان، ومات الشاعر المترجم «فتزجرولد» كما مات من قبله الشاعر المبدع «عمر الخيام». وعندئذ أرسل محب للرباعيات خطابًا إلى دكان الورَّاق، وكان يقوم عليه حفيد الورَّاق القديم، قال فيه: «ابعث إليَّ بنسخة كلما طبعت من رباعيات الخيام طبعة جديدة.»

فأجابه الورَّاق في خطاب رقيق ينبهه على حقيقة قد يكون غافلًا عنها، فقال: «إننا نطبع من الرباعيات طبعة كل أسبوع، وتتراوح أثمانها حسب جودة ورَقها وغلافها من خمسة قروش إلى عشرة جنيهات للنسخة الواحدة … وسآمر بحجز نسخة لك من كل طبعة جديدة كما أمرت يا سيدي.»

لكن «فتزجر ولد» كان عندئذٍ قد بات في رمسه رفاتًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤