مراحل الطريق …

استمع إلى صيحة الوليد! إنه يُنذر العالم بقدوم عضو جديد … إن كل ما في الدنيا يؤلمه ويؤذيه؛ فقد فاجأته الحياة بضرورة التنفس والتنفس مؤلم لرئتين لم تعهداه من قبل، وتدفَّقت على عينيه أشعة الضوء، والضوء شديد على عينين كانتا مُغمَضتين حتى الساعة. وازدحمت أخلاط الصوت في أذنيه، والصوت يؤذي أذنين لم يقرعهما طارق إلى اليوم، وبرد الهواء يلفح جسمًا ما عرف إلا جوفًا دفيئًا … كل ما في الدنيا إذن يؤلمه ويؤذيه، ولكنه ادَّرع قبل قدومه بما يصونه ويحميه، ادَّرع بلادة الحس، فالضوء المتوهج خافت في عينيه، والصوت القوي همس ضئيل في أذنيه، ولم يكفِه هذا، بل هَيَّأت له الطبيعة أن يغطَّ معظم يومه في نوم عميق، لا يدرك ما تموج به الدنيا من حوله … ويكبر الوليد ويكبر، فيكشف عن دنياه شيئًا فشيئًا، مدفوعًا في كشفه بقوة تغريه بالتطلع واكتساب العلم، حتى إنه ليَمسُّ كل شيء ويلقم كل شيء! وأداته في ذلك كله هي اللعب، فما يزال الطفل يلهو بطبيعته ليَخبر الحياة عن طريق لهوه، حتى يدركه الشباب.

والشباب هو البرزخ بين لعب الطفولة وجِد الرجولة، وحلقة الاتصال بين تواكل الفرد على أسرته، واعتماده على نفسه. الشباب ينزع بطبعه إلى الفوضى وحب الذات؛ لأن الدنيا لم تعلمه فيما سلخ من عمر إلا درسًا واحدًا: يأمر فيطيع الوالدان. والشباب مغامر مخاطر يميل إلى المبالغة والغلو؛ لأن به نشاطًا فيَّاضًا يريد أن ينطلق في هذه المغامرة والمخاطرة والإسراف. ولقد قيل إن الرجل يكون شابًّا بمقدار ما فيه من حب لركوب الخطر، ومن سِمات الشباب كذلك أن يضيق بالقانون وينفر من النظام؛ لأن القانون ضرب من القيد، والنظام نوع من الغُل، فأين يصب نشاطه الحبيس؟ إن أوضاع المجتمع قد تطالبه بالسكون، مع أن طبيعته الحيوية تدعوه إلى جلَبة وضوضاء. والشباب يحيا في حاضره أكثر ما يحيا، لا يأسف على أمس ولا يعبأ بالغد. فلئن كانت الطبيعة قد ثَلَمت إحساس الوليد ليكون بنَجْوة مما حوله، فقد أرهفت إحساس الشاب حتى ليكاد يلتهم ما حوله التهامًا؛ لأن كل شيء حوله ما يزال جديدًا، ولم يبلغ بعدُ من سعة التجربة أن يرى الدنيا صورة مكررة مَملولة. إن الحياة في عين الشباب خلَّابة ساحرة جديرة أن ينغمس فيها الإنسان ليستمتع بطيباتها؛ ولهذا قيل إن الشباب هو الحياة، وأما رجال الأربعين وما بعدها فلا يعيشون إلا في ذكرى الشباب الدابر. وأفدح الكوارث أن يخلو هذا الشباب الفتي القوي من الحكمة التي تهديه، وأن يفرغ الرجل المجرب العارف من الشباب الذي يستطيع التنفيذ.

أَوَّاه لو عرف الشباب
وآه لو قدر المشيب!

فلقد يقنع الرجل بمشاهدة اللعِب، وأما الشاب فلا يرضيه إلا أن يكون من اللاعبين! إنه يُؤثر حلبة الرياضة على قاعة الدرس. وهل تراه أخطأ الاختيار؟ لا؛ إن أول ما نطلبه للرجل الكامل هو، كما يقول نيتشه: «أن يكون حيوانًا كاملًا.» فخليق بالتربية أن تستمع إلى صوت الطبيعة في ميول الشباب، وأن تُعنى بتثقيف الأجساد في الملاعب كما تُعنى — على الأقل — بتغذية العقول بالتفكير النظري.

ولكن الشباب لا يستنفد نشاطه كله في فاعلية الجسد، بل إن موجة المراهقة ما تكاد تغشاه حتى يأخذ في شيء من التفكير الذي لم يكُنْ له به عهد من قبل؛ فهو كثيرًا ما يتأمل نفسه ويفكر في العالم من حوله، وتعجبه النظريات؛ لأنها تفسر له معانيَ ما يرى من أشياء. تراه يكثر من السؤال: ما هذه الدنيا؟ ما أصلها؟ إلامَ تصير؟ ما الروح؟ وما الله؟ إن العقل في هذه السن جيَّاش فوَّار، والحس مغمور مأخوذ بجمال كل شيء.

وما هي إلا أن يكشف الشاب عن الحياة سترها قليلًا قليلًا؛ فيرى السوء فيزعجه، لأنه لم يكن يتوقعه! ماذا؟ ألم أكن في أسرتي عضوًا في جماعة لا تعرف سوى المحبة والعطف والتعاون، القوي يعين الضعيف، ورزق الكاسب مَشاع للجميع؟! فما لي أرى المجتمع الأكبر لا يفهم إلا التنافس والقتال؟ يتنازع أفراده على البقاء كأنما البقاء ضيق محصور! ما لي أرى المجتمع الأكبر يمحو الضعيف محوًا، ويسحق الفقير سحقًا، ليخلو المكان للقوي الغني؟ هكذا تتردد الخواطر في نفس الشاب مبهمة غامضة، فيثور، فيصيح في وجه العالم: أن خذوا أيها الناس مبدأ الحياة من مبدأ الأسرة؛ ليعيش الأفراد في تعاون الشَّقيق. وهكذا تبدأ المبادئ الاشتراكية، ويعلو صوتها من صفوف الشباب! ولكن وا حسرتاها! إن هذا الشباب الطموح لا يلبث أن ينساق أمام تيار الحياة الجارف، فتأخذه الحماسة لشخصه بعد قليل، وتشتد به حتى لا يعود يرى في الدنيا إلا نفسه، وتسيطر عليه رغبة الملك، فيُدلي بدلوه في دنيا التنافس ليختطف به ما وسعه أن يختطف من قوة ومال! وهكذا تخمد ثورة الشباب، وتسير قافلة الحياة … تسير آمنة من معاول الشاب الهادمة؛ لأن الشاب قد أحب فتزوج.

وإذا تزوج الشاب فقُل على شبابه العَفاء! فها هنا يبدأ طور جديد، ها هنا تبدأ مرحلة الرجولة من مراحل الطريق، فيعرف ما العمل وما عبْئُه الثقيل، وتخضع العاطفة لقيود القانون والمجتمع … هنا تنتهي قصيدة الحياة الشعرية ويبدأ نثرها!

ولكنَّ للرجولة حسنة كبرى وفضلًا عظيمًا؛ فهي الوسط الذهبي بين طرفين من الغلو، فورة الشباب من ناحية، وخمود الشيخوخة من ناحية أخرى … الشباب يعتمد في كسب العلم الجديد على إلهام الغريزة، والشيخ يركن إلى العلم الراكد الجامد، فيستوحي منه النتيجة الجديدة عن طريق القياس. وأما الرجولة فتعمد إلى الاستقراء، استقراء الأمثلة التي تجمعها من الطبيعة لتصل إلى العلم الجديد … الشباب لعب، والشيخوخة راحة مطلقة. وأما الرجولة فشأنها العمل المنتج … الشباب مليء بالفن، والشيخوخة نزَّاعة إلى الدين. وأما الرجولة فمشغوفة بالعلم قبل كل شيء. الشباب خيال مبتكر، والشيخوخة ركون إلى ذكريات الماضي. وأما الرجولة فعقل مفكِّر مدبر … في الشباب ثورة، وفي الشيخوخة جمود. وأما الرجولة فتستمتع بالحرية، والحرية بمعناها الصحيح مرحلة بين الثورة والجمود … في الشباب جرأة إلى حد التهور، وفي الشيخوخة خوف إلى حد الجبن. وأما الرجولة ففيها الشجاعة كما تمليها الحكمة.

فأنت ترى أن عهد الرجولة عصر العمل والبناء، فلئن فقد الرجل حماسة الشاب وأمله، فقد كسب قوة الإنجاز والتنفيذ، حتى إذا ما بلغ الرجل سن الخامسة والثلاثين؛ فقد بلغ الذروة القصوى، التي تحتفظ ببقية صالحة من عاطفة الشباب وبداية طيبة من فهم الشيوخ. ولقد قام باحث إنجليزي بإحصاء عجيب، أثبت به أن الكثرة العظمى من نوابغ الإنجليز أنجبهم آباؤهم بين الثلاثين والرابعة والثلاثين.

وبعدئذٍ يأخذ النشاط في التدهور والفناء، وينضب معين القوة قليلًا قليلًا دون أن يملأ ما فَرغ منه، أو كما يقول شوبنهور: يعيش الإنسان بعد ذلك على رأس ماله لا من دخله. وإن الرجل في هذه السن لتتكشف له هذه الحقيقة المروعة المخيفة، فتعلوه غاشية من الكآبة والقنوط، ساخطًا على هذه الحياة القصيرة التي لن تمكنه من تحقيق أمله. إنه ليقف في ذروة الجبل وينظر، فإذا بالموت قابع عند السفح يرقب وينتظر، فماذا يفعل؟ إنه في الأغلب يشتد حماسة في العمل ليغالط الحقيقة الواقعة، كأنما يريد أن يصيح في وجه الفناء: أنا هنا حيٌّ نشيط متوثِّب! أنا موجود رغم أنف الزمان!

يقول نيتشه: إن الإنسان في شبابه ورجولته شأنه شأن الحطب، تشعل فيه النار؛ تعلو شعلته ويملأ الدنيا دخانًا وشرورًا، ولكنه لا يُدفِئ. فإذا ما انجابت عنه غاشية الدخان وهدأت أطراف لهيبه، بدأت جمراته الهادة تُشِع الدفء الجميل. وهكذا فورة الشباب ودخانه لا يفيدان شيئًا إلا إن استقرَّا في هدوء الرجولة وسكونها … فالرجولة إذن هي عصر الخصب والإنتاج.

ولكن دبيب الشيخوخة لا يمهل الرجل طويلًا حتى يسري في العظام والمفاصل! فلا يعود الشيخ قادرًا على حفظ علم جديد، كأنما العلم الجديد لا يجد في رأسه المزدحم مكانًا خاليًا! إن الطفل في سنيه الأولى يكبر بنسبة أسرع من النسبة التي يكبر بها بعد ذلك، وكذلك الشيخ كلما أمعن في شيخوخته ودنا من ختامه يضعف بنسبة أسرع مما كان. والطفل مزوَّد عند مولده ببلادة الإحساس؛ لئلا تصعقه الإحساسات الجديدة المتكاثرة، وكذلك الشيخ يعود في هرمه إلى ذلك الحس البليد؛ لأن رغبة الحياة قد خَمدت قُواها. إن الشيخ المُتهدِّم ليشعر بمزيج عجيب من حب البقاء وحب الراحة الأبدية؛ فهو يريد أن يمتد به البقاء، ولكنه يريد في الوقت نفسه أن يتخلص من هذا العناء المُضنِي. إن الشيخ ما يفتأ ساخطًا ناقمًا على مظاهر الحياة التي يشهدها صخَّابة حوله، ومن الشطَط أن تطالب إنسانًا ذهبت عنه الحياة بحب الحياة!

لقد بلغ الحيُّ غاية الشوط، فأسلم حياته إلى كفِّ المَنون! إن الحياة آخر مراحلها الموت والفناء! … ولكن لا! إننا نموت من أجل الحياة. إن هذه الخلايا الذابلة لتسقط من جسم الحياة ليبقى سليمًا مُعافًى، فيفنى الشيوخ لتبقى الحياة في قوة الشباب.

صَه! هذا وليد يصيح، إن الحياة خالدة لا تعرف الفناء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤