القطة السوداء

يانصيب!

في هذه الكلمة القصيرة تلخيص موجز — لكنه تلخيص مليء بالقوة والحياة — لقصةِ كثيرٍ جدًّا من الأحياء والأشياء في هذه الدنيا؛ فعدد كبير من الناس جاءت له الحياة على نحو تلخصه كلمة يانصيب، هذا إنسان سحبت ورقة نصيبه، فإذا هو مولود لرجل غني يرِث ماله العريض، وذلك آخر، يولد لمُعْدَم فقير لا يرث عنه إلا الهمَّ والمرض.

وعدد كبير من الحيوان جاءت له الحياة كذلك على نحو تلخِّصه كلمة «يانصيب»! فكلب ينعم بما تشتهيه الأعين والأنفس من لذائذ العيش، وكلب يتمرَّغ في الطين ويأكل العظام، ويُضرب على ظهره بالهراوة والعِصي.

وعدد كبير من الأشياء جاءت ظروفه على نحوٍ تلخصه كلمة يانصيب! فنسخة من كتاب قد تُباع بالقروش والملاليم، وهي لا تزال زاهية بحُلَّتِها الجديدة، وتُباع زميلتها بعد أن يتغضَّن عليها الجِلد ويصفرَّ لون البشرة — أعني إذا ما تقدَّمت بها السنون — تُباع هذه الزميلة العتيقة بمئات الجنيهات وألوفها، وربما كان صاحب الكتاب في حياته أشدَّ ما يكون الإنسان حاجةً إلى مال.

بل إن عددًا كبيرًا من الألفاظ أراد له الله هذه القصة نفسها في تقدير الحظوظ، ومن هذه الألفاظ كلمة منحوسة مسعودة في آنٍ معًا، منكودة مَجْدودة في وقت واحد، هي كلمة «فلسفة»؛ فقد تسحب ورقة نصيبها حينًا؛ فإذا هي دليل على اضطِراب الفكر والْتِواء النظر، وقد تسحب ورقة نصيبها حينًا آخر، فإذا هي وصف للعبقرية والذهن الجبَّار، فلماذا؟

لأن الناس مذ جَعلوا ينعتون بالفلسفة بعضَ ضروب التفكير اختلفوا، وهم لا يزالون يختلفون في مدلولها؛ ففِيمَ يبحث هذا الذي اعتزل في بُرجه العاجيِّ وغَلَّق دونه الأبواب، زاعمًا لنا أنه فيلسوف! إن الناس ليعرفون على وجه الدقَّة واليقين متى يكون الرجل رياضيًّا أو طبيبًا أو عالمًا من علماء الطبيعة أو الكيمياء، وقُل مثل ذلك في شتى ضُروب المعرفة … إلا الفلسفة!

سَل أصحابها: فيمَ تبحثون؟ يتعثروا في الجواب وتحمرَّ وجوههم بالخجل، فإن كانوا ممن لا يخجلون ولا يتعثرون في الكلام، أجابوك بكلام أقلَّ ما يُقال فيه إنه كلام غير مفهوم. والحق أني لا أعجب لرجل يصادفني في بعض الطريق، فيعلم عني أني درست الفلسفة وتخصصت فيها حتى ظفِرْت بدرجاتها العلمية أدناها وأعلاها. لا أعجب له إذا ابتسم مشفقًا ساخرًا كأنما يريد أن يقول: وفيمَ هذا العناء كله؟! لست أعرف عن الفلسفة إلا أنها الكلام إذا لم يكن له معنًى مفهوم! لست أعجب لمثل هذا الرجل؛ لأني أتهم كثيرين ممن يشتغلون بالفلسفة بأنهم يقولون ما لا يفهمون، إذا كانوا لأنفسهم يخلصون.

هم يقولون ما لا يفهمون؛ لأنهم يحاولون عبثًا وباطلًا أن يجدوا لدراستهم موضوعًا؛ ليكون شأنهم في ذلك شأن سائر عباد الله. وفاتهم أن الحقيقة الحلوة — والحقيقة ليست مرَّة دائمًا — هي أن الفلسفة دراسة بغير موضوع، ومن شاء أن يتصيد لها موضوعًا تخبط في دَيجُور بعد دَيجُور.

الفلسفة طريقة في البحث بغير موضوع؛ فليست غايتها أن تبحث «مسائل» لتصل فيها إلى «نتائج»؛ لأنه ليست هناك «مسائل فلسفية» ولا ينبغي أن يُطلب من الفلسفة أن تصل إلى «نتائج» عن حقائق الكون. كل مسألة في الدنيا يُراد فيها الوصول إلى نتائج يجب أن تُترك للعلم والعلماء؛ إذ هي والله أضحوكة الأضاحيك أن يجلس المتفلسف على كرسيِّه في بُرجه معزولًا عن العالم، حتى إذا ما سُئل: ماذا تصنع ها هنا في عزلتك هذه؟ أجاب: أريد الوصول إلى حقيقة العالم! وسأسوق لك مثلًا كلام فيلسوف مسلم — هو الكِندي — في موضوع الفلسفة؛ لأوضح لك به ما أريد، قال: «علوم الفلسفة ثلاثة: فأولها العلم الرياضي في التعليم وهو أوسطها في الطبع، والثاني علم الطبيعيات وهو أسفلها في الطبع، والثالث علم الربوبية وهو أعلاها في الطبع. وإنما كانت العلوم ثلاثة؛ لأن المعلومات ثلاثة: إما علم ما يقع عليه الحس، وهو ذوات الهيُولَى، وإما علم ما ليس بذي هيُولَى إما أن يكون لا يتصل بالهيُولَى ألبتة، وإما أن يكون قد يتصل بها. وأما ذات الهيُولَى فهي المحسوسات، وعلمها هو العلم الطبيعي، وإما أن يتصل بالهيُولَى وإن له انفرادًا بذاته، كعلم الرياضيات التي هي العدد والهندسة والتنجيم والتأليف (أي الموسيقى)، وإما لا يتصل بالهيُولَى البتة، وهو علم الربوبية.»

وقد يكون كلام الكِندي مما لا تألَفه أذنك من الكلام، فخلاصة رأيه هذا هي أن الفلسفة تبحث إما في شيء لا يمكن أن يتصل بمادة وهو الله، أو في شيء قد يتصل بالمادة وقد ينفصل ويكون وجوده ذهنيًّا فقط مثل العدد، وعلمه الرياضة، أو في شيء يتصل دائمًا بالمادة ولا ينفصل عنها كالأشجار والنجوم والهواء، وعلمه الطبيعة، وبعبارة أقصر، يقول لنا الكِندي إن موضوع الفلسفة ثلاثة: الإلهيات، والرياضة، والطبيعة.

والذي أريد أن أعترض به على الكِندي وأمثاله هو أنك حين تبحث في الإلهيات فأنت من رجال الدين ولست بالفيلسوف، وحين تبحث في الرياضة؛ فأنت رياضي لا فيلسوف، وحين تبحث في الطبيعة فأنت من علماء الطبيعة، لا فيلسوف.

كلا، ليس للفلسفة موضوع، ولا ينبغي أن يُطلب إليها أن تصل إلى نتائج هي من شأن رجال الرياضة والعلوم، ولو طلبنا إليها ذلك كنا عابثين. ولو أخذ الفيلسوف على نفسه أن يصنع ذلك؛ كان عابثًا واستحق سخرية الساخرين. إنما واجب الفلسفة الصحيح هو نقد وتحليل، نقد وسائل التعبير وتحليل معاني الألفاظ التي يستخدمها الرياضيون والعلماء؛ ليزداد الإنسان فهمًا لما يقوله الرياضيون والعلماء، بل ليزداد الرياضيون والعلماء أنفسهم فهمًا لما يقولون.

وسيقول لنا المستنكر: ولماذا توضح للعلماء والرياضيين ألفاظهم؟ أليس العلماء والرياضيون أقدر منك على تحديد معنى اللفظ الذي يستخدمون؟ وأجيبه أن نعم، هم أقدر في بعض الأحوال، بل هم يصنعون ذلك لأنفسهم في معظم الأحيان، لكن العالم أو الرياضي إذا ما تناول اللفظ الذي يستخدمه بالتعريف والتحديد والنقد والتحليل كان بذلك فيلسوفًا إلى جانب كونه عالمًا أو رياضيًّا، وليس ما يمنع أن يكون الرجل الواحد عالما وفيلسوفًا في آنٍ معًا. إن «أينشتين» حين حدد معنى كلمة «آنِيَّة» — أي وقوع حادثين في لحظة واحدة — كان في ذلك فيلسوفًا إلى جانب كونه من أعلام الرياضة البارزين.

وسيقول المستهين بثِقال الأحمال: أهذا كل ما تريده من الفيلسوف الذي تقوَّس ظهره وطالت لحيته؟! وجوابي على مثل هذا المستهين هو أن كلمة واحدة قد تتطلب لتحديد معناها فحول العقول في كل العصور، ثم هي لا تصل إلى معناها! هل تدري فيمَ كتب أفلاطون جمهوريته؟ كتبها ليحلل لفظة واحدة هي «العدالة»! وإذا لم يعجبك مثل هذا القول فنبِّئْني بربك — ولك عند الله الثواب — ما معنى هذه الألفاظ الآتية: مادة، عقل، إحساس، شعور، زمان، مكان؟ ومن هذه مئات وألوف يستخدمها الرياضي أو العالم، فيأتي الفيلسوف أو الرياضي نفسه، والعالم نفسه إن أراد الواحد منهما أن يكون فيلسوفًا كذلك؛ ليحلل ما وراء هذه الألفاظ، كي يسير البحث العلمي على هُدًى وصراط مستقيم.

ليس للفلسفة موضوع معين، وليس لها أن تنبئنا عن حقائق الكون، إنما هي طريقة بغير موضوع، كقولك عن الرجل إنه وزير بلا وزارة، فيعمل في العدل مرة وفي الدفاع مرة! هي البحث عن معاني الألفاظ، لا كما تشرحها القواميس، بل هو بحث تحليلي له أوضاع وشروط … ماذا أريد أن أقول للقارئ في مقال؟ إن موعدي معه في ذلك كتاب.

أكاد أوقن أن كثيرين — وكثيرين ممن يشتغلون بالفلسفة دراسة وتدريسًا بنوع خاص — سينكرون عليَّ ما ذهبت إليه، وسيقولون: وماذا أنت صانع بهذه «المشكلات» التي أخذ الفلاسفة في حلها منذ نشأتْ على وجه الأرض فلسفة؟ وأعود فأؤكد لهؤلاء أن الأمر لا يعدو أحد اثنين؛ فإما أن تكون تلك «المشكلات» مسائل حقيقية عما في الكون من أشياء، وعندئذٍ فهي من شأن العلم وحدَه يقول فيها قوله ويبحث فيها بطريقته، وإما أن تكون «مشكلات» زائفة بمعنى أنها أسئلة لا تحتمل الجواب؛ لأنها كلام فارغ من المعني، وإنما خُدع به الناس حين رأوه يتخذ هيئة السؤال كما يقررها علم النحو، لا كما يقررها منطق العقل. إذا سألتك مثلًا: ما لون الفضيلة أهو أحمر أم أصفر؟ كم تساوى زوايا الإنسان؛ هل تساوى قائمتين أو أكثر؟ فبماذا تجيب؟ إنك لن تجيب، وستعلم أني لست جادًّا في السؤال؛ لأن سؤالي لا يحمل معنًى يتفق مع طبيعة المنطق، على الرغم من أنه يتخذ صِيغة يرضاها علم النحو، لكن النكبة الكبرى هي أن بعض الأسئلة يخدع الناس، فيكون فارغًا من المعنى كهذه الأسئلة التي سُقتها إليك، غير أن فراغها من المعنى لا يكون بهذا الوضوح، فترى الناس ينفقون أعمارًا وأعمارًا في محاولة الجواب ولا جواب! خذ هذا السؤال مثلًا: ماذا وراء الطبيعة؟ … لن أحدثك عن ضخامة الجهْد الذي بذله «الفلاسفة» في سبيل الجواب. والأمر في حقيقته هو ألا سؤال، وإذن فلا ينبغي أن يكون جوابٌ. شرط السؤال أن يكون جوابه مما يمكن عليه التحقيق، وشرط التحقيق أن تكون مادة الجواب مما يمكن أن يقع في حدود التجربة الإنسانية، وما عدا ذلك هُراء في هُراء.

وسيقول المستنكر مرة أخرى: ليست الميتافيزيقا إلا هذه المسألة وأضرابها، فماذا أنت قائل؟ قولي هو أن الميتافيزيقا أسطورة من أساطير الأولين — وكثير من الآخرين — وها هنا تأتي قصة القطة السوداء؛ فقد قيل عن الفيلسوف الذي يجعل همَّه مثل هذا البحث العقيم، إنه رجل أعمى يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء ليس لها وجود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤