التصوف والمعرفة

نشر الأستاذ الفاضل الدكتور أبو العلا عفيفي مقالين في عددين متتاليين من مجلة الثقافة، ذهب فيهما إلى أن الصوفية من بين رواد الحقيقة، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فزعم «أنهم وُفِّقُوا حيث أخفق غيرهم إلى معرفة الحقيقة». ومعنى ذلك أنهم وحدهم دون سائر عباد الله قد عرَفوا هذا الذي يتحرَّق الإنسان شوقًا إلى عِرفانه، مذ خلقه الله إنسانًا، ورزقه فكرًا ووجدانًا.

قرأت المقالتين قراءة المتمهِّل المتأني؛ لأنه لو كان الأستاذ الفاضل يبسط فيهما رأيه، إذن فشُقة الخلاف بيني وبينه بعيدة بُعدَ ما بين الأرض والسماء؛ فبينا هو يرى الصوفي قادرًا بصوفيته على إدراك الحقيقة كاملة شاملة، أراه أنا — بما هو صوفي — لا يعرف من تلك الحقيقة كثيرًا ولا قليلًا، أراه لا يعرف شيئًا على الإطلاق. أقول إني قرأت المقالتين قراءة المتمهل المتأني؛ لأنني إن لم أجد فيما يكتبه الدكتور أبو العلا عن التصوف ما يردني عن وجهتي، فما أحسبني واجدًا ذلك عند أي كاتب عربي آخر، لكني فرغت من قراءتي دون أن أجد ما يَضْطرني إلى التحوُّل من رأي إلى رأي، والانتقال من مذهب إلى مذهب.

ترى أيكون هذا الاختلاف البعيد بيننا أساسه خلاف في المعاني التي ننسُبها إلى ما نستخدمه من الألفاظ؟ فإني ألاحظ في حديثنا ثلاث كلمات ضَخْمة شَغلت جبابرة العقول في تحديد معانيها، وهي «تصوف» «معرفة» «حقيقة»؟ لا بُدَّ إذن من تحديد المراد بهذه الكلمات على وجه الدقة، قبل القول إن كان المتصوِّف يعرف أو لا يعرف الحقيقة. والمثل الأعلى أن يتفق المتناقشان على تحديد دقيق لمعاني الألفاظ قبل المُضِي في البحث. فإن تعذر ذلك؛ بيَّن كل منهما ما يقصد إليه حين يستخدم هذه اللفظة أو تلك، وفي كلتا الحالتين لن يطول بينهما خلاف فيما أعتقد؛ لأنهما إن كانا يدوران في دائرة واحدة من المعاني، فاتفاقهما هيِّن ميسور. وأما إن وُجد أنهما يتكلمان بلسانين مختلفين؛ فلا سبيل بينهما إلى نقاش.

•••

وقبل أن أوضح وجهة نظري، أحب أن أعترف لأستاذنا الفاضل بأنني أعاني ما أعانيه من شَقاء العيش ومرارته، مذ أخذتُ نفسي أخذًا صارمًا جازمًا بأن أفهم عن المتكلمين أو الكاتبين بمدلولات ألفاظهم. فقُل ما شئت يا سيدي في مقدار ما أفسد ذلك عليَّ من متعة القراءة أو الحوار؛ لأني أحاول عند كل عبارة أن أفهم — ذلك بالطبع إن كنت أعلم عن المتكلم أو الكاتب نية الجِد فيما يقول — والفهم عندي معناه أن أتخذ من هذه الألفاظ التي أمامي أصابعَ تشير إلى أشياء، فما أكثرَ يا سيدي ما ألوِي العنق؛ لأرى هذا الذي يشير إليه المتكلم أو الكاتب بألفاظه، فلا أرى شيئًا، وأبوء من قراءتي بما هو شرٌّ من الفشل الذريع؛ إذ إني كثيرًا ما أنحو باللائمة إلى نفسي، وأُنزل عليها سُخطًا وغضبًا أن رُكِّبت على هذا النحو الذي يحول بينها وبين رؤية ما يراه كثيرون من أفضل المفكرين.

لكن الحب الفطري الذي يُكِنه الإنسان لنفسه، سرعان ما يثور في نفسي ليدفع عنها هذا الاتهام؛ فلست أطلب بِدْعًا حين أبحث عن مدلولات الألفاظ؛ ليتسنى لي فهم ما يُقال، فها أنت ذا ترى الناس في حياتهم اليومية العملية لا يفهم بعضهم عن بعض إلا على هذا الأساس. وكيف كان صاحبي ليفهمني حين قلت له منذ حين إن «المعطف ثمنه عشرون جنيهًا» إلا إذا استطاع أن يجد لكل لفظة من هذه الألفاظ مدلولها بين ما يرى من الأشياء وما بينها من علاقات؟ ولو قلت له إن «المرطف ثمنه عشرون جنيهًا» كان من حقه أن يسألني: «ما هذا المرطف الذي تتحدث عنه؟» ثم كان من واجبه نحو نفسه ألا يطمئن إلى ما أقوله له إلا إذا أظهرَتْه خبرته على شيء يسميه الناس مرطفًا مما يمكن أن تدفع في شرائه الجنيهات.

بل ها أنت ذا ترى العلماء في شتى ضروب العلم لا يتفاهمون إلا على هذا الأساس بعينه. فلو قال قائل منهم: إن أجرام المجموعة الشمسية بينها علاقة الجاذبية، كان حتمًا عليه أن يوضح المراد بلفظ الجاذبية، ولمن يستمع له أن ينظر إلى أجرام المجموعة الشمسية؛ ليرى هل يقوم بينها هذا الذي يسميه القائل جاذبية أو لا يقوم. وسواء وجده مخطئًا أو مصيبًا، فكلامه مفهوم ما دام يحدد له معاني ألفاظه على نحوٍ يتيح له أن يري أأخطأ في قوله أم أصاب. أما إن قال إن أجرام المجموعة الشمسية بينها علاقة «اللاذبية»، وسألته ماذا تكون هذه اللاذبية، فأجاب إنها ليست مما يقع في حدود الخبرة الحسية، كان من حقي، بل كان من واجبي، أن أصمَّ عنه أذني ولا أعبأ بما يقول؛ لأن قوله عندئذٍ لا يزيد على خليط من موجات صوتية، لا يحمل إلى السامع معنًى على الإطلاق.

•••

وأستاذنا الدكتور أبو العلا عفيفي يَقِظ متنبِّه فيما يجري به قلمه، فتراه يحدد لك ألفاظه ما وسِعَه التحديد؛ فهو في مقالتَيْه هاتين عن الصوفية ومعرفتهم للحقيقة، يبيِّن في مواضع شتى ما يريده بالصوفية، وما يريده بالمعرفة، وما يريده بالحقيقة.

وللقارئ ها هنا أن يسألني: وماذا تريد منه بعد هذا التحديد لما يريد؟ وجوابي هو: أني لم أفهم اللغة التي استخدمها في تحديداته تلك، وكانت عندي بمنزلة «المرطف» و«اللاذبية»، ومن حقي إذن أن أستفسر ماذا يرُاد على وجه الدقة بهذه الألفاظ؛ ليتسنى لي الحكم على ما يُقال بالخطأ أو بالصواب.

فالصوفية عند أستاذنا الدكتور صِنف من الناس «مُلهَم متصل بالعالم الروحي». هذا زعم يزعمه لك زاعم. أليس من حقك، بل من واجبك أن تعلم إن كان في زعمه هذا مصيبًا أو مخطئًا؟ لكنك لكي تعلم ذلك؛ فلا سبيل إلا أن تكون هذه الألفاظ دالة على أشياء مما عسى أن يقع في خبرتك، وإذن فمن حقك — بل من واجبك — أن تسأل: أين أرى هذا العالم الروحي لأستيقن من صدق القول بأن الصوفي قد اتصل به، كما تسأل الذي يزعم لك أن «إفرست» وصل إلى قمة الهملايا، أو أن «أمندسن» كشف عن القطب الجنوبي. أين هذه الهملايا؟ وأين ذلك القطب الجنوبي؟ لكنك إذا سألت: أين هذا العالم الروحي؟ وما صِفاته؟ ليتاح لي أن أفهم معنى قولك إن الصوفي «متصلٌ بالعالم الروحي» أجابك الدكتور أبو العلا في أولى مقالتَيه بأن «الحقيقة» ليست هي هذا الواقع المحسوس، أو العالم الخارجي الظاهر، وأنك إذا تشبَّثْت بهذا الواقع المحسوس كنت «أقل نضجًا في العقل والروح» (وهي دعوى لا أعرف كيف يستطيع الدكتور أبو العلا إثباتها؟)

الفرض في الكلام أن ينقل المتكلم خبرًا إلى سامعه، ولو لم يكن في الكلام خبر يُنبَّأ به؛ لوجب على المتكلم — منطقيًّا — أن يَزُم شفتيه صامتًا. والشرط الأساسي في الخبر أن يكون مما يمكن وصفه بصدق أو كذب. فإن نطقت لي بكلمات زعمت أنها خبر، ثم استحال عليَّ أن أصف كلامك هذا بصدق أو كذب، لا عجزًا مني، بل نتيجة لازمة عن طبيعة كلامك نفسه، فليس كلامك — إذن — مما يصح أن يُقال عنه إنه خبر، وليس لك الحق من الوجهة المنطقية أن تحرِّك لسانك قط بهذا الكلام.

والصوفي يزعم لنا هذه الدعوى: «أنا على اتصال بالعالم الروحي» وسأسأله: أين هذا العالم وما أوصافه؟ فيجيب: يستحيل عليك أن تعرف؛ لأنك لست مُركَّبًا على نحو ما رُكِّبت أنا … إذن فكلامه هذا ليس بالخبر، بل ليس بالكلام إطلاقًا؛ لأنه شبيه بقول القائل إن بين أجرام المجموعة الشمسية «لاذبية»، فإن سألته: وما «اللاذبية»؟ أجابك بأنها يستحيل أن تقع في خبرتك.

بل كلامه هذا شبيه بالمحموم أو المخمور الذي يزعم لك أنه يرى أرانب خضراء تجري أمامه، فان أنكرتها عليه كان جوابه — بحق — إنه يستحيل عليك إدراكها إلا إذا كنت في مثل ما هو فيه من حُمَّى أو من سُكر بالخمر. ولست أنكر أبدًا على المحموم أو المخمور رؤيته للأرانب الخضر، لكني أُخضع زعمه هذا للتحقيق، فإن كان ما يستحيل تحقيقه، كان «حالة خاصة» لا يجوز أن تأخذ بيننا موضع الأقوال العلمية، بل لا يجوز فيها الكلام إطلاقًا إلا على سبيل الترنُّم بأنغام الكلام، وهكذا قُل في «الحالة الخاصة» التي يحسُّها الصوفي.

ولم يسعَ الدكتور أبو العلا — بالطبع — إلا أن يعترف في صراحة بأن حالة الصوفي عند «اتصاله بالعالم الروحي» حالة خاصة به؛ إذ يقول: «إن الغاية التي يتجهون إليها ويكرسون حياتهم لها هي البحث عن حالة روحية خاصة …»

وهنا ينشأ السؤال الآتي، وهو المُراد بهذا المقال: هل تصلح الحالات الخاصة أن تكون معرفة؟

•••

أعود فأسأل: «هل تصلح الحالة الخاصة أن تكون معرفة؟» إنني إذا ألقيت بنفسي من نافذة غرفتي، فسأحس عند الهبوط بحالة معينة نشأت عن سقوط الجسم إلى الأرض بفعل الجاذبية، فهل يجوز لي عند أن أقول إني عرفت الجاذبية؟ وإذا لمست سلكًا مكهربًا أحسست بهزَّة خاصة، فهل يجوز لي أن أقول إني بهذه الهزَّة بجسمي قد عرفت الكهرباء؟ وهكذا تستطيع أن تمضي في ضرب الأمثلة لحالات خاصة يُحسها فرد معين في ظروف معينة. وتستطيع أن تسأل هل هذه الحالات الخاصة معرفة؟ إنه في الجواب عن هذا السؤال القول الفصل في: هل يعرف الصوفي شيئًا أو لا يعرف؛ لأن الصوفي — بحكم تعريفه — يحس حالة خاصة هي التي تجعل منه صوفيًّا، وبغيرها لا يكون.

ونحب في محاولة الجواب عن هذا السؤال أن نفرق في إدراكاتنا بين جانبين، هما «مضمون» الإدراك من جهة «وهيكله» من جهة أخرى. ولو استمسكنا بهذه التفرقة استمساكًا جادًّا صارمًا لتبيَّن لنا الجواب عن سؤالنا واضحًا؛ لأننا سنجد أن المعرفة لا تكون إلا في هيكل الإدراك. وأما مضمونه فليس من المعرفة في شيء … لكن هذا الكلام بحاجة إلى شرح وتوضيح.

أنا الآن أنظر إلى بقعة خضراء أمامي، فلو أردت أن أنقل إدراكي هذا إلى سواي، الذي لم يرَ هذه البقعة الخضراء، قلت له: رأيت بقعة خضراء. فماذا تظنني قد نقلته إليه حين قلت: خضراء؟ بديهي أني لم أنقل إليه «مضمون» الاخضرار الذي اهتزَّت بتأثيره أعصابي؛ لأن هذا «المضمون» خاص ونقله إلى سواي مستحيل، ولكنني أقدم له بكلمة «أخضر» هيكلًا فارغًا ليكسوه من ماضي خبرته، أو إن شئت فقل إني أقدم له بهذه اللفظة وعاءً فارغًا ليملأه بالأخضر الذي عرفه من حياته الخاصة. ولم يكن نقل «مضمون الإدراك» مستحيلًا عليَّ؛ لأنني حاولت ذلك وفشلت محاولتي، بل لأن مجرد المحاولة في ذلك ضرب من المحال، كما تطلب إلى شخص أن يترجم عبارة إلى لغة لا يعرفها!

ونحن نعلم أن بيننا نفرًا كثيرًا يمتعه أن نتغنَّى بعجز الإنسان وضعفه. ولن أعدم من هذا النفر قارئًا يسأل: ألا يمكن أن يجيئنا المستقبل بفيلسوف يدلنا على طريقة نعبر بها عن «المضمون» في إدراكاتنا؟ أين برهانك على أن ذلك مستحيل على كل إنسان وفي كل زمان؟ وجوابي هو ألا برهان؛ لأن البرهان إنما يكون على قضية تحتمل الصواب والخطأ.

وقولي «مضمون الإدراك يستحيل على التعبير» ليس مما يحتمل خطأ أو صوابًا؛ لأنه قضية نُحَصِّل فيها حاصلًا ولا نزعم جديدًا. فمضمون الإدراك من معانيه أنه يستحيل على التعبير، فكأننا في قولنا هذا نعرِّف لفظًا بلفظ، كما نقول: إن المثلث سطح مستوٍ مَحُوط بثلاثة خطوط مستقيمة.

فإن كان مضمون إدراكي مستحيلًا على التعبير؛ فهو إذن ليس معرفة، لأن شرط المعرفة أن تكون عامة يمكن نقلها من شخص إلى شخص، إني حين أنطبع في أعصابي باللون الأخضر، فهذا الانطباع جزء لا يتجزأ من كياني العضوي، أو قُل هذا الانطباع هو «أنا» في هذه اللحظة التي أدرك فيها اللون الأخضر. وليست المعرفة بالجزء الذي لا يتجزأ من كياني، إنما هي على خلاف ذلك يمكن نقلها. وأصدق ما تظهر فيه المعرفة الموضوعية التي يجوز نقلها من شخص إلى آخر، هو العلاقات المكانية والزمانية بين الأشياء، فلو قلت مثلًا: إني رأيت طائرًا على الشجرة؛ فقد يترجم السامع لنفسه معنى الطائر ومعنى الشجرة بما مر عليه في خبرته من طيور وأشجار، بحيث يختلف تصوره لها عن تصوري. أما العلاقة المكانية «على» فنشترك فيها، وكذلك لو قلت له إن الموسيقى عُزفت بعد رفع الستار، فقد يختلف تصوره عن تصوري لصوت الموسيقى ولصورة الستار، أما العلاقة الزمنية «بعد» فنشترك فيها، وهكذا.

المعرفة — إذن — شرطها أن تكون مشتركة بيني وبين سائر الناس، فمعرفة الجاذبية — مثلًا — هي عِلمُنا بالمعادلات الرياضية التي تصف ظاهرتها، وليست هي إحساسي الخاص الذي أحسه عند سقوطي. ومعرفة الكهرباء هي كذلك العلم بمعادلاتها الرياضية (والمعادلات تحديد للعلاقات) وليست هي الهزَّة التي أحسها حين ألمس سلكًا فيه كهرباء.

والصوفي ينظر إلى الوجود، أو على الأصح إلى جزء منه، فيبهره على نحو ما يبهرنا — مثلًا — النظر إلى جبل شامخ أو شلال دافق، لكن هذا الانبهار وجدان خاص لا يمكن نقله، وبالتالي لا يجوز اعتباره ضربًا من المعرفة. فإن تكلم الصوفي عما يُحس؛ فهو فنان لا يقصد بقوله شيئًا مما يصح أن يُقال له فيه صدقت أو كذبت. وهذا هو ما يؤكده أيضًا الدكتور أبو العلا في مقالتيه، ولكنه رغم تأكيده لنا بأن التصوف «تجربة شخصية أو حال معينة يعانيها فرد بعينه … ومثل هذه الحال لا يُقال فيها إنها صادقة أو كاذبة، ولا يُطالب صاحبها بإقامة الدليل على صحتها.» أقول إنه رغم تأكيده هذا، يعود فيقول إن الصوفي بتجربته الشخصية هذه يعرف الحقيقة! إن الصوفية كما يقول الغزالي «أرباب أحوال لا أصحاب أقوال» أي إنهم يحسون وجدانات خاصة، لكن ليس في وُسْعِهم أن يقولوا شيئًا. وما دام الأمر كذلك وجب عليهم الصمت، وإذا كان صمت فلا معرفة، أو كما يقول وتجنشتين «ما لا نستطيع الكلام فيه يجب الصمت عنه.»

•••

ومما يزيد في عجبي أن يُقال عن المتصوف: إنه يعرف «الحقيقة»، وما عسى هذه الحقيقة، أن تكون؟ هي — بتعريف الدكتور أبو العلا — «ذلك الغيب المجهول أو ذلك الوجود المحجوب»، وإن كان الشيء بحكم تعريفه غيبًا ومجهولًا ومحجوبًا؛ فلست أدري ما حيلة الإنسان فيه صوفيًّا أو غير صوفي؟!

إن من أكبر أخطاء الفلسفة التأمُّلية أن تأخذ المعاني الكلية على أنها حقائق قائمة بذاتها، فهذا منها بمثابة التجسيد للظل والتشخيص لما ليس مشخَّصًا، فليست هناك حقيقة واحدة حتى يجوز للصوفي أو لغيره أن يبحث عنها، إنما هناك حقائق. فارتفاع فيضان النيل في الصيف حقيقة، وتمدُّد الحديد بالحرارة حقيقة، ونمو النبات بالغذاء حقيقة. وهكذا قُل في ملايين الحقائق التي هي من شأن العلوم المختلفة، وقد تكون بين تلك الحقائق علاقات وقد لا تكون، على ألا ننسى أن العلاقات لا تضيف إلى العناصر الموجودة عنصرا جديدًا.

وبالطبع لم تغِبْ هذه النظرة الساذجة عن الدكتور أبو العلا، فهو يعلم وجود هذه الأشياء، لكنه يعلم فوق ذلك أن الحقيقة شيء سواها! يقول: «إن العالم المحسوس عالم حافل بالظواهر المتكثِّرة المتغيِّرة، وطالب الحقيقة المطلقة يطلبها واحدة لا كثرة فيها ولا تغيُّر» … إلخ. ونحن لا نريد أن ننغِّص على طالب الحقيقة المطلقة عيشَه، ولا أن نَقُضَّ له مضجعه؛ فليس ذلك من حقِّنا، ولكن الذي هو من حقِّنا بغير نِزاع أن يختار هذا الطالب للحقيقة المجردة أحد أمرين: فإما أن يتمتَّع بوجدانه ذاك الخاص به، وألا يكون له شأنٌ بنا؛ فلا يتحدث إلينا ولا يكتب لنا الكتب، وإما أن يتحمَّل تَبِعة من يريد أن يصف للناس شيئًا، وأعني بهذه التبعة إمكان أن يكون صادقًا فيما يقول. ولا يمكن وصف الكلام بالصدق إلا إذا كان يصف شيئًا عامًّا مشتركًا بيننا جميعًا، لكنه لا يريد لنفسه الحالة الثانية، فلا مَندُوحَة له عن الأولى.

ويمكن تلخيص ما قلناه في هذه الخطوات.

  • (١)

    الصوفي يعاني تجربة شخصية، أو حالة خاصة.

  • (٢)

    الحالة الخاصة هي بمثابة «مضمون الإدراك»، وهو ما يستحيل نقله من شخص إلى شخص.

  • (٣)

    والمعرفة شرطها أن تكون عامة، وأن يكون نقلها ممكنًا؛ ولذلك كانت المعرفة بأدق معناها منحصرة في «هيكل الإدراك»؛ أي في العلاقات القائمة بين الأشياء.

  • (٤)

    وإذن فليس التصوف معرفة.

ولا بُدَّ أن نذكر أن الدكتور أبو العلا قد فرَّق بين «الاتصال» و«المعرفة»، ونحن نوافقه كل الموافقة على أن الحالات الذوقية الخاصة اتصال مباشر بالتجربة المعينة، وهو ما سماه رسل acquaintance تمييزًا له من المعرفة التي سماها «وصفًا» description، لكن ما فائدة هذه التفرقة إذا لم نكن ننوي التزامها؟

إن قلنا إن التصوف «اتصال»؛ فيستحيل أن يكون «معرفة»، وإن قلنا إنه «معرفة» فليس هو بالاتصال.

لكن المتصوف يعاني تجربة شخصية؛ فهو إذن — كما قلنا في فاتحة المقال — لا يعرف شيئًا على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤