بداية قصة

عبء ثقيل

هو عبء الحياة …

هكذا قال لي ذلك الرجل العجيب، الذي رأيته في زحمة الطريق عابسًا، يلتمس لنفسه مسلكًا بين مئات الناس الذين خرجوا من تَوِّهِم أفواجًا من دار السينما، دون أن يمس أحدًا منهم بمنكب أو قدم، يتأرجح في مِشْيَته بعض الشيء ولا يدق الأرض بعقبيه. نظراته تنحدر نحو الأرض أكثر مما تلتفَّت إلى أعلى أو أمام، كأنما أراد أن يتثبَّت قبل الخَطْو من موضع القدم، تبدو على خطواته السرعة وما هي بسريعة، وتُشِع من جبهته وفَمِه جَهامة تصرف الناظر إلى وجهه عن رؤية ملامحه عند النظرة الأولى، حتى إذا ما ثبَّت الناظر فيه عينيه، وأزال غِلالة الجهامة عن صُورته؛ رأى ملامح ثابتة غليظة: حاجبان قويان عريضان أسودان، وأنف طويل مليء، وشَفَتان قويتان ظاهرتان، ولِحية وشارب كثيفتان، شعرهما سميك غليظ اختلط أسوَدُه بأبيضه، كلها ملامح تدل على المَضَاء والحِدَّة والبأس الشديد، لولا أن عينيه تفضحانِه فضيحة كبرى؛ إذ تنطقان بأجلى بيان، أن الرجل هادئ وادِع مستسلم مستكين.

رأيته يمضي في مُزدَحَم الطريق، وقد حمل على ظهره ربطة كبيرة بيضاء، شبكها برباط تحت إبطيه؛ لتظل حركة الذراعين حرة، فيطوحهما حينًا، ويضع إحداهما في جيب سرواله حينًا، إنه رجل عجيب يستوقف النظر بين جمع الناس الذي ملأ الطريق، يبدو من دونهم جادًّا مهمومًا صامتًا، كأنه ينطوي على شيء … ثم ما هذا الحمل الذي حمله فوق كتفيه؟

وتعقبته مستطلعًا، فرأيته يخلص من قلب المدينة إلى طرفٍ من أطرافها بعيد، وهنالك في مكان تغلب عليه الظلمة إلا من شعاعٍ خافتٍ جاءه من مصباح الطريق في خلال أوراق الشجر، جلس على جدار لم يتمَّ بناؤه، جلس والحمل على كتفيه، يتَململ ويتَأرَّق، ويرتكز على ذراعه اليُمنى مرة وعلى ذراعه اليسرى مرة، والحمل ما زال قائمًا على كتفيه، فسعلت سعلة خفيفة؛ لأشعره بوجودي على مقرَبة منه حتى لا يفزع إذا ما دنَوت منه. ذلك أني خطوت إليه وحَيَّيته.

قلت: هذا مكان هادئ يوحي بالتأمل.

قال: نعم، تشعر بهدوئه إذا أَوَيت إليه من قلب المدينة الصاخب.

قلت: إني لأُدهَش أن أراك ها هنا؛ فما كنت أحسب أحدًا سواي يفكر في هذا الركن الهادئ البعيد!

قال: بل العجَب عجَبي أن أراك! فأنا أقضي في هذا الركن المعزول أكثر ساعات المساء، فما رأيتك قبل، وما رأيت أحدًا سواي، آوى إلى هذا المكان لأستريح.

قلت: لكنك فيما أرى لا تريد لنفسك الراحة؛ فحملك ما يزال فوق كتفيك!

قال: ما يزال؟! وهل عرفت أنه من الأحمال التي لا تُلقى عن الكتفين إلا إذا فاضت الروح؟ أنا قائم به وقاعد به ونائم به ومستيقظ به.

قلت: وماذا عسى هذا العبء الثقيل أن يكون؟

قال: إنه عبء الحياة، أما ترى؟ هو عبء الحياة وقد أنقَضَ والله كتفي.

قلت: آه، إذن فهو حمل نفيس.

قال: ليست نفاسة الحمل مانعة من أن يكون ثقيلًا؛ فالحمار الذي ينوء تحت أثقاله لا يعبأ أن تكون أثقاله من ذهب أو من حطَب.

قلت: ولكنك تستطيع أن تلقيه عن كاهلك إذا أردت.

قال: كيف أستطيع؟ إن رئتي لتعلوان وتهبطان في صدري كأنهما منفاخ الحدَّاد لا يَفْتُر عن النفخ؛ ليظل للنار وهَجُها واشتعالها، فلا مناصَ من أن تظل جذوة الحياة مشتعلة بين جنبي — رضيت أو كرهت — وقد أتمنَّى لهذه الجذوة المتأججة اللاذعة المحرقة أن تنطفئ، فتصبح رمادًا تذروه الأعاصير كيف شاءت على يابس أو ماء.

قلت: وما لرئتيك وهذا الحمل الذي على كتفَيك؟!

قال: العلاقة بينهما وطيدة وثيقة؛ فهذا الحمل أطرافه في جوفي، وهو مشدود هناك إلى أوتاده بما هو أَوهَى من نسيج العنكبوت. مشدود إليها بأنفاسي التي أردِّدها شهيقًا وزفيرًا، مشدود إليها بموجات خفيَّة من هواء؛ فالويل لي من هذه الأنفاس الواهية التي تنسجها رئتاي خيوطًا، فتشد بها هذا الحمل على كتفي لأنوء به، فأين أطراف هذا المنفاخ الذي ما ينفك يعلو في صدري، ويهبط كي أمسكه عن النفخ لحظة لتخمد الأنفاس، وتنحل الروابط وينفك الوثاق؟! فينزاح عن كاهلي هذا العبء الثقيل. إن أطرافه خفية، أمُدُّ البصر في جميع أقطاري فلا أراها، وأُرهِف السمع فلا أقع لها على حفيفٍ أو رفيف. وكل ما أسمعه هو هذه النفخات تتوالى شهيقًا وزفيرًا ما ابيضَّ لي نهار أو احلَولَك ليل … إني لا أذكر الآن من ذلك الفيلسوف اليوناني الذي قِيل عنه إنه ضاق صدرًا بأنفاسه التي تتردد رغم أنفه، وكَرِهَ أن تُشعَل له جذوة الحياة بهذا المنفاخ اللعين وهو راغم؛ فكتم أنفاسه حتى مات، لا أذكر اسمه الآن، لكني أُكبره وأُمَجده، وأشعر إزاءه بالضآلة والصَّغار؛ لأنه رأى ففعل، وأنا أرى ثم لا أفعل شيئًا.

قلت: ما هذا الذي تراه ولا تفعله؟

قال: أرى الحكمة في التخفُّف من هذا العبء الثقيل، ثم لا أفعل شيئًا في سبيل هذا الخلاص. الحق أني لست أدري كيف يظل الإنسان مشدودًا إلى ما ليس يرضى، ثم يظل مشدودًا إليه رغم أنفه، وهو عالم كل العلم أن الروابط نفخات من هواء، يسد عليها الطريق فينتهي كل شيء؟!

قلت: كلا يا صاحبي، الروابط التي تشدُّك إلى حملك هذا أقوى جدًّا من هذه الأنفاس؛ فليست هي بنفخات من هواء كما ظننت، إنما هو الشعور بالواجب. نعم إنك تستطيع في أي لحظة شئت أن تتنكَّر لواجب الحياة؛ لتظفر براحة الجسد راحة أبَدية، لكنه الجحيم بعينه أن تبُث في نفسك القلَق إذا ما تخليت عن واجب وَجَب عليك أداؤه بحكم وجودك.

قال: لقد حكمت الآلهة على «أطلس» — في الأسطورة اليونانية — أن يحمل السماء على كتفيه؛ حتى لا ينقضَّ بناؤها، والسماء هي السماء بأنجمها الزواهر اللوامع. فهل رأيت واجبًا أسمى وأمجد من أن تُكلف حمل السماء على كتفيك؟ وحملها «أطلس» ثم ناء بحملها، حتى إذا ما جاءه «هرقل» يسأله عن مخبأ التفاحات الذهبية التي كُلِّف بالبحث عنها في أركان الكون وبين جَنَباته، والتي قِيل له عنها إن مخبأها ذاك لا يعرفه إلا «أطلس» حامل السماء، ما جاء «هرقل» إلى «أطلس» يسأله أين عساه أن يجد بغيته؟ حتى وثب «أطلس» إلى هذه الفرصة النادرة؛ للتخلص من عبئه الذي أنقَضَ ظهره، وقال لهرقل: لست بمستطيع أن تجدها؛ لأن منالها عسير، فاحمل عني هذه السماء لحظة حتى أعود إليك بها. ورضي «هرقل» مسرورًا بحمل السماء حتى يحقِّق له «أطلس» ضالَّته التي لقِيَ العناء في سبيلها. وانطلق «أطلس» إلى حيث التفاحات الذهبية، ورآها هناك تلمع في بريق الشمس يحرسها أُفعوان جبَّار عظيم، فتسلل وغافل الأفعوان وهو في غَفْوة، وخطف التفاحات وعاد مسرعًا إلى حيث ترك «هرقل» في انتظاره يحمل السماء بدلًا منه.

لكن «أطلس» حين اقترب من موضع هرقل، تذكَّر بشاعة الحمل الذي حمله على كتفيه هذه القرون الطوال، ترى هل يفي بوعده ويعطي هرقل تفاحاته الذهبية، ويسترد عِبأَه الباهظ؟ أم هل ينعم بهذه الحرية التي أتاحتها له الظروف فيخلص من عِبئِه ذاك إلى الأبد؟

لا، إنه لن يعود إلى حمله ذاك، وسيحتفظ بحريته التي ظفِر بها بمصادفة قد لا تعود، هكذا اعتزم أطلس، ودنا من «هرقل»، وقال له: ابقَ حيث أنت حاملًا السماء على كتفيك، وسآخذ أنا هذه التفاحات الذهبية إلى حيث أردت أنت أخذها. فتظاهر «هرقل» بالرضَى والقَبول! أليست هي السماء بأنجمها اللوامع الزواهر فليحملها راضيًا على كتفيه، لكنه طلب من «أطلس» أن يتفضَّل عليه بصنيع واحد صغير، وهو أن يحمل الحمل لحظة واحدة حتى يضع الوسائد على كتفيه؛ لأن ضغط الحمل شديد على كاهله، فأخذت الشهامة من «أطلس» مأخذَها، وفعل ما طلب إليه هرقل أن يفعل وكيف يتردَّد في قَبول العناء لحظة أخرى قصيرة، لقاء حرية يظفر بها من هذا العبء الثقيل إلى الأبد؟!

ألقى «أطلس» التفاحات على الأرض، وحمل السماء عن هرقل حتى يضع هرقل على كتفيه الوسائد والحشايا التي تُهوِّن عليه أداء هذا الواجب الجديد الذي أُلقي عليه، لكن «هرقل» لم يكد يزيح عن كاهله حمل السماء، حتى أخذ التفاحات ومضَى … تاركًا أطلس في مكانه القديم، ينعم بأداء واجبه، واجب الوجود.

قلت: ماذا تعني؟

قال: أعني ما قلته، أعني أن عبء الحياة ثقيل، حتى إن بلغت من المجد عنان السماء، وأن الروابط التي تشدُّنا إلى عبئها إن هي إلا أنفاس من هواء، لكن كتم الأنفاس يتطلب الفيلسوف.

قلت: يا صاحبي إن الحياة التي تؤرِّق صاحبها هي الحياة المريضة، فأنت لا تشعر بوجود أي جزء من أجزائك إلا إذا اعتلَّ، إنك لا تشعر بوجود عينك أو أذنك أو معدتك أو قلبك؛ إلا إذا أصابَتْها العِلة. أما إذا كانت هذه الأجزاء سليمة فيستحيل أن تشعر بوجودها فضلًا عن أن تحس الألم من حملها … إن حياتك — فيما أرى — قد أصابتها العلة، فأحسست بوجودها وحملها … ولا عجَب أن تبرز حياتك في صورة قتَب كبير فوق ظهرك؛ لأنها حياة عليلة.

قال: قل ما شئت فيها؛ فهي حياتي التي لا أملك سواها، وقد ضِقْت ذرعًا بثِقْلها.

صومعة خاوية

شغلني «أحدب الحياة» طوال الليل — ذلك الرجل العجيب المكتئب العابس الذي يحمل عبء حياته قتبًا بارزًا على ظهره — شغلني طوال الليل، يملأ أحلامي إذا ما غَفَوت، وتَمثُل صورته أمام عيني إذا ما صَحَوت، وما زلت طوال ليلي بين غَفْوة وصَحوٍ حتى كان الصباح.

تُرى، لماذا يحمل هذا المسكين حياته كالدمل الكبير فوق ظهره؟ أيكون ذلك لأنه ركَّز انتباهه فيها، فوضَحَت له عِلتها وبرَز سُخفها. ولو قد تغافل عنها كما يفعل سائر الناس لسرَت في دمه، وخَفِيَت عن بصره؟ يجوز، كما تُكَرِّر لفظة وتركِّز سمعَك في جرسها، فسرعان ما تعجَبُ لصوتها السخيف يكون بين الناس ذا دلالة ومعنًى، كَرِّر — مثلًا — كلمة إمبراطور عدة مرات: إمبراطور، إمبراطور، إمبراطورمبرا، طورمبرا، طورمبرا، طورمبراطور … صوت عجيب مُنكَر، ظهر نُكْره وشذوذه بتركيز السمع فيه، وكان يمكن ألا نقف عنده هذه الوقفة الفاحصة، فيظل له في النفس جلال وهيبة.

كذلك صاحبنا «أحدب الحياة» ربما كان الفرق بينه وبين سائر الناس أنه قد أنعَمَ النظر في معنى الحياة، فانتهى به النظر إلى أنها أنفاس فاترة واهِيَة من هواء، تتردد في صدره شهيقًا وزفيرًا. لا شيء أ كثر من ذلك، وهو لذلك في عجَب كيف يمكن أن يشد وثاقه إلى الأرض بخُيوط هي أَوْهَى من خيوط العنكبوت؟!

وأحسَسْت برغبة قوية في نفسي أن ألقى هذا الرجل لقاءً آخر، فقصدت إلى المكان المهجور الهادئ الذي لقِيتُه فيه أول مرة، ووقفت أرقُب من بعيد، حتى رأيته يسري في غير صوت بين الظلال كأنه الشبح. إنك لا تُخطئه من بعيد؛ فالحمل الذي على كتفيه يمِّيزه، وله مِشْية خاصة يتأرجح فيها الجذع وتلتفُّ الساقان.

وقفت في مكاني حتى رأيته يستقر في موضعه من الجدار الذي لم يتمَّ بناؤه، صعِد إليه على كومة وَطِيئة من هشيم الصخر، ومسح جبهته بمنديل، ومال مرتكزًا على ذراعه اليُسرى فدنوت منه.

قلت: السماء الليلة أكثر غمامًا، والدنيا أشدُّ ظلامًا من ليلة الأمس، برغم القمر.

قال ولم يرتَعْ لرؤيتي: وماذا يصنع القمر في الدنيا إذا اسودَّت بظلامها وغَمامها؟ إن من أراد الضوء فِضيًّا رائقًا خالصًا من شوائب الظلمة؛ فليرتفع عن الأرض وغلافها حتى يجعل الغَمام من دونه، وعندئذٍ لا يكون ظلام … لكن الإنسان مشدود إلى الأرض بأحمال وأثقال. أستغفر الحق، بل مشدود إليها بهذه الخيوط الواهية، بنفخات من هواء، وإذن فلا رجاء له في ضوء أكثر مما قد يتسرَّب له خلال فتحات السحاب … العجيب في هذه الدنيا أنها بيع وشراء، لا بُدَّ أن تدفع لكل شيء ثمنَه! أتريد أن تمتد بك الحياة؟ إذن فخذ هَبَّةً من الهواء على شرط أن ترد مكانها هَبَّة مثلها. أتريد أن تخلص من ظلام الأرض ليصفو لك الضوء؟ إذن فاصعد إلى قمة هذا الجبل العالي حتى تجاوز السحاب، عندئذٍ تجد الضوء الساطع، لكنك ستجد كذلك برودة الثلج.

قلت: وماذا يُشْقِيك من غَمام السماء وظلمة الليل؟! انظر إلى الدنيا بعين الفنَّان؛ ترَ السماء الغائمة في مثل جمال السماء المُقمِرة. ألا يكون ظلام الليل أحيانًا أشد فتنة من ضوء النهار؟ سَلِ العاشقين يجيبوك؛ أيهما أفعل في النفس سحرًا: الليل الوَسنَان في سِتره أم النهار اليَقْظان في نشاطه وصحوه؟ سَلِ العابدين متى تصفو لهم قلوبهم للعِبادة؟ سَل المفكرين متى تهدأ لهم عقولهم للفِكر؟ سَل المُجَّان متى طيب المُجُون؟ سَل المتآمرين لماذا يدبرون الأمر بينهم بليل؟ … لماذا لا تلتمس يا أخي في كل شيء وجهه الجميل؟ إن الذي ينقصك هو الخيال.

قال: الخيال الذي أهرب به من الواقع؟!

قلت: ليكن ذلك، ولماذا تستعبد نفسك للواقع إذا أمكن العيش الهانئ في جوٍّ من الخيال؟ أتدري ماذا تكون المرأة الجميلة في «الواقع»؟ إنها كيس من الجلد مَحشُو بالقذَر والبلغم ومختلف السوائل والغضاريف! أتدري ماذا تكون الصورة الجميلة في «الواقع»؟ إنها خِرْقة من قماش، صُبَّ عليها خليط من الأحمر والأصفر والأخضر وما شاء الله من ألوان، واهْصِر الوردة الجميلة؛ لترى ماذا عساها في الواقع أن تكون بين إصبعيك؟ … إن الذي ينقصك — كما قلت — هو الخيال الذي يجعل لك من المرأة شيئًا جميلًا، ومن الصورة شيئًا جميلًا، ومن الوردة شيئًا جميلًا، ومن غَمام السماء شيئًا جميلًا، ومن ظلمة الليل شيئًا جميلًا! لماذا تنظر إلى الأرض كما تفعل الديدان، ولا تشخص إلى السماء كما تصنع الآلهة؟!

لست أدري لماذا أخذني الاهتمام بهذا «الأحدب»، فامتلأتُ حرارةً وأنا أبادله الحديث؟ لقد أُوحي إليَّ عندئذٍ أن هذا «الأحدب» عليل النفس، مريض القلب، كليل الحياة، وأن الواجب الخُلُقي يقتضي أن أقوِّم فيه ما اعوجَّ إذا استطعت إلى تقويمه من سبيل. إنه عابس ولا بُدَّ أن يبتسم، يائس ولا بُدَّ أن ينبسط أمامه الأمل، كافر ولا بُدَّ أن يؤمن، أعماه «الواقع» ولا بُدَّ له أن يبصر بعين الخيال.

وضاق «الأحدب» صدرًا بحديثي فيما يظهر، وأخذ يعتدل في جلسته مرة ويميل على هذه الذراع أو تلك مرة، ويُشيح بوجهه عني، كأنه يريد أن يُصِم الأذن عما أقول، لكني لم أعُد أنظر إلى موقفي منه نظرة التسلية والعبَث، فلا أقلَّ من أن أستطلع بعض سِره وأستخرج شيئًا من مكنون نفسه. وسادت فترة قصيرة من سكون، فنزَل عن مكانه من الجدار، وقال في صوت فيه افتعال وتصنع: أنا مُضطَر أن أعود، وسينقطع بعودتي هذا الحديث الجميل.

قلت: الأرجح أن طريقَنا واحد، ولو إلى حين.

ولعله لم يطِب نفسًا لهذه الصحبة الثقيلة في طريق عودته، لكني تجاهلتُ ما يريده لنفسه من عزلة الطريق، وسِرت إلى جانبه. سِرنا بخطوات بطيئة خفيفة، لكن وقع أقدامنا على حصباء الرمل ومنثور الحجر، كان له رنين في ذلك الركن الهادئ البعيد.

قلت: نعم إن الذي ينقصك هو الخيال، ينقصك مَثَل أعلى تعمل من أجله، فينسيك الهدف مَشاهد الطريق.

قال وقد ازداد تثاقلًا في خُطاه: أصابني مرض الخيال، وعِلة المثل الأعلى منذ خمسة وعشرين عامًا، ولبِثْت آثار المرض تتراكم حتى كان هذا البروز الذي تراه شائهًا فوق كاهلي.

قلت لنفسي عندئذٍ، دَع عنك الواقع، والتمس لنفسك سُلَّمًا في دنيا الخيال تصعد على درجاته إلى أجواز الفضاء؛ فصحبة الأصدقاء واقع فلا تَأبَه لها، والمرأة واقع فلا تُلقِ بالك إليها. والطعام والشراب واقع فلا تحتَفِل بطعام أو شراب. هذا الذي حولك كله واقع فاخرج من نطاقِه. وهناك في صومعة وقعت عليها في جوف الجبل، آثرت الكفاح في سبيل الخيال.

ولبثت الصومعة يعمرها خيالي عامًا في إثر عام، وعقدًا من السنين بعد عِقد من السنين. لم تكن الصومعة خالية في بصري وسمعي، كنت أرى فيها الخيال مجسَّمًا حتى لأنسى أنه من خَلْق أوهامي، وأحدثه وأسمع لحديثه، وأتملَّقه ويبتسم في وجهي، وظلِلت في صومعتي أعبُد آلهة خيالي، لا أشهد نور الشمس ولا أريد أن أشهَده، ولا أرتدُّ إلى دنيا الناس والعمران، ولا أريد أن أرتدَّ إليها، ولا أستنشق الهواء الطَّلق النقي ولا أريد أن أستنشقه … كنت على نقيض فاوست:

فقد اتفق الشيطان مع فاوست أن يمهله رَدْحًا من الزمن، يعمل فيه فاوست ما يشاء، على شرط أن يأتيه الشيطان بعد ذلك فيتقاضى أجر إمهاله، وليس أجره بأقل من روح فاوست. وكان فاوست عند أول اتفاقه مع الشيطان يظن أنه الكاسب في هذه الصفقة، فماذا يهمه من نفسه إذا ما ترَك له الحبل على الغارب عشرين سنة أو ثلاثين؟ لكن السنين انقضت، وصبر الشيطان جميل طويل لا ينفد، وجاء الشيطان ليَستَلَّ من فاوست حياته. وعندئذٍ فقط أدرك فاوست أنه خسِر في اتفاقه مع الشيطان خسرانًا مبينًا؛ كيف يبيع نفسه وحياته بعشرين عامًا أو ثلاثين مهما يكُنْ ما يملأ هذه الأعوام؟

وأما موقفي من شيطاني فعلى نقيض ذلك؛ عقدت معه اتفاقًا أن أبيعه حياتي ردحًا من الزمن، على أن يردها لي بعد ذلك خصبة مليئة قوية، وذهبت إلى صومعتي تلك لا أعرف فيها الحياة ولا أخالط الأحياء، أعلل النفس طوال السنين بأن حياتي السليبة مردودة إليَّ بعد حين، بعد أن تكون كل حبة فيها قد أنبتت مائة سنبلة وفي كل سنبلة مائة حبة.

فلما انقضى على غربتي عهد طويل؛ طلبت من الشيطان أن يفي بوعده كما وَفَّيت له بعهدي، وفعل فإذا ما يعطينيه نفخات من هواء، هي هذه الأنفاس أرددها في صدري شهيقًا وزفيرًا، ثم لا شيء غير ذاك. وضحك مني الشيطان ضحكة قوية حسبت الأرض ترتجُّ لها تحت قدمي، فابتسمت ابتسامة من زالت عنه غشاوة الخيال لأول مرة، وأبصر بحقيقة الواقع لأول مرة، وقلت: أستريح إذن بعد هذا العناء الطويل. إن الصومعة التي عَمَّرها لي الخيال قد باتتْ خالية خاوية إلا من أصداء أنفاسي.

لكن مضجعي لم يستقم تحت ظهري حين أردت الراحة؛ لأن عهد الصومعة قد خلَّف لي هذا الورم الأليم، الذي تراه بارزًا عند كتفي، نسجَتْه لي الأعوام طبقة فوق طبقة، كما يفعل مَرُّ الأعوام في جذوع الشجر.

وكنا قد بلغنا العمران، وأراد الأحدب، أن ينصرف إلى سبيله، فقلت له: إن لي معك حديثًا آخر.

لعبة الحصان

حسب صاحي «الأحدب» حين افترقنا أني أدبرت عنه كما أدبر عني، لكني تعقبته لأرقبه وهو يلتمس لنفسه الطريق في زحمة الناس التماس الحَيِي الذي يخشى أن تلتقي بعينيه عينان، إنه على وعي شديد من نفسه، إن ذراعيه تحيِّرانه وتربكانه، أين يضعهما؟ وذلك دليل على حيرة نفسه وارتباكها، ألا إن الذراعين لتخبرانك بمكنون النفس كما تحدِّثك العيون والشفاه … إنه لا يمشي في ضوء المصباح إذا وجد الظلام، ولا يقصد إلى مُزدَحَم الطريق إذا رأى الفضاء المهجور. عيناه مصوبتان نحو الأرض دائمًا، وقدماه تحُفَّانِ الأرض حَفًّا خفيفًا.

عَبَر الطريق في موضع كَثُر فيه العابرون، إنه في العابرين بارز واضح، إنه لا يفنى في الزحام، ولا يذوب في الناس. إنه فيهم كملعقة من الزيت صُبت في قدَح من الماء، تحركها إلى أعلى وأسفل، وإلى يمين ويسار، فما تزال شيئًا متميزًا عن الماء الذي حولها، إنه في أمواج الناس على طول الشارع لم يفقِد معالمه، أخذ يعلو على تلك الأمواج البشرية حينًا ويهبط حينًا، أعني أنه كان يظهر لي حينًا ويختفي حينًا آخر، حتى انتهى إلى شارع هادئ متباعد المصابيح.

كان ظله مُروعًا مخيفًا، يَقصر ويطول، ثم يطول ويَقصر، هو الآن مطروح أمامه، وهو الآن إلى جانب، وهو الآن مُمدَّد وراءه يتابعه ويلاحقه، وهو في كل أوضاعه أبعد ما يكون الظل عن صورة البشر … وما هو إلا أن دخل «الأحدب» دارًا، خطوات سريعة، كأنه الأرنب الفازع يأوي إلى جحره ليستَكِن فيه آمنًا من طِراد الصائدين.

فوقفت بغتة، ثم سِرت مسرعًا نحو الباب الذي قذف «الأحدب» بنفسه فيه، لم أرَ شيئًا هناك إلا مصباحًا كهربائيًّا خافت الضوء جدًّا في الركن الأعلى من بَهْو السلم. إنه بناء عالٍ من ستة طوابق أو سبعة، وحين صعَّدت بصري في لمحة سريعة إلى أعلاه، لم أرَ إلا نوافذ وشُرفات، أكثرها مُعتِم وأقلها مُضيء.

مَن عسى هذا «الأحدب» أن يكون؟ ترى هل ينطوي جَنْباه على سر دفين أو أنه لا سِرَّ في الأمر، وكل ما في جوفه قد برَز ورمًا على ظهره؟ لكنه شاذ غريب بغير شك. إنه يستوقف النظر، بل يستوقف الفكر، إنه لا يندمج مع الناس في عجينة واحدة، ولا ينطمس مع من حوله في سَديم، إنه قطعة منثورة وحدَها، والويل كل الويل، ثم الخير كل الخير، من هذه القِطع التي تنثرها عجلة الحياة بعيدًا عن إطارها، فتظل دائرة في ذلك وحدَها. من هؤلاء يكون الثائرون الساخطون الهادمون، ومن هؤلاء يكون العظماء المصلحون، ومن هؤلاء يكون الأنبياء والأولياء، ومن هؤلاء يكون المجرمون النوابغ في إجرامهم، ومنهم يكون الفنانون النوابغ في فنِّهم، الشبه قريب جدًّا بين هؤلاء جميعًا، على بعد ما بينهم من تفاوت واختلاف، كسيل الماء العَرِم، هو الذي يُصلِح الزرع، وهو الذي يُفسِده، حسب ما يحيط به من ظروف.

و«الأحدب» فيما يظهر لي، قطعة بشرية منثورة وحدَها، تدور في فلك وحدَها، ترى من ذا يكون؟ وماذا يكون؟

وبِتُّ ليلتي أفكر فيه وأفرض في أمره الفروض، وعاودني الشعور بالواجب أن أُصلِح ما فسد، فأقيم في هذا المسكين ما التوى، وأقوِّم ما مال واعوجَّ، أو قُل إن حبي لاستطلاع أمره قد غَلَبني، فسترت نفسي وراء الشعور بالواجب. وتذَرَّعت بهذا السلاح، ومضيت عصر اليوم التالي إلى الدار التي دخلها الأحدب ليلة الأمس، مضيت لا ألوي على شيء، وأخذت أسرع الخطو حتى لا يصرفني التردد عن غايتي.

لم أجد عند الباب أحدًا، وتلفَّت ها هنا وها هنا، وتحركت خُطوتين هنا وخُطوتين هناك، ثم دخلت وصعِدت الدرج مبطئًا غاية الإبطاء شاخصًا ببصري إلى أعلى. الأبواب كلها مغلقة. صعِدت الدرج حتى نهايته، ونهايته سطح نظيف. وقفت قليلًا وقلبي ينبض نبضًا شديدًا، من الصعود ومن الخوف معًا، الخوف من هذا البناء المهجور الذي لا يعمره إنس ولا جن. لكني رأيت الضوء منبعثًا من نوافذه ليلة الأمس … وهَممت بالنزول، لولا أني بلَفتة غريزية، لوَيْتُ عنقي، ونظرت إلى نافذة مغلقة الزجاج في ركن السطح، إن وجهًا يُطِل من خلف الزجاج، إنه هو، إنه «الأحدب».

لم يعُد بيني وبين كشف الغطاء إلا خطوات خَطَوتها نحو غرفة «الأحدب»، وفتح لي الباب قبل أن أقرعه … إن روعي ليهدأ قليلًا قليلًا، إن الخوف لينزاح عني إزاء هذا الوجه الباسم الذي فتح لي الباب ليتقبلني مسرورًا مرحبًا. ليس الوجه العابس في الطريق عابسًا هنا، والصدر الضيق على الجدار الذي لم يتمَّ بناؤه رحيب واسع هنا، ولولا بروز الورم فوق ظهره لقلت إنه إنسان آخر، إنه استدَرَّ في الطريق إشفاقي، لكنه في داره استثار حبي وإعجابي، إنه ها هنا يمزج في حديثه الجدَّ بالفكاهة، ويقول النكتة في إثر النكتة ويضحك من كل قلبه. ألا سبحانك اللهم، تضع الرجلين، بل جمهورًا من الرجال في إِهاب واحد!

إن مشكلة «الذاتية» التي تحير الفلاسفة لم تعُد تحيرني. إن الفلاسفة يصدعون رءوسهم تصديعًا في محاولة الجواب عن هذا السؤال: كيف يحتفظ الشخص الواحد بذاتية واحدة مع اختلاف ظروفه؟ إنه يكون صحيحًا ويكون مريضًا، ويكون طفلًا ويكون رجلًا، ويكون شبعان ويكون جائعًا، ويكون غضبان ويكون راضيًا، ويكون يقظان ويكون نائمًا. ومع هذا الاختلاف الشديد الذي يطرأ على حالاته يظل إنسانًا واحدًا، فما الذي فيه يخلع عليه تلك الوحدانية مع تعدُّد حالاته وأوضاعه؟ … لم تعد تحيرني المشكلة التي تحير الفلاسفة، بعد أن رأيت «الأحدب» في الطريق وفي داره، فلا وحدانية هناك، ليس الرجل رجلًا واحدًا، ولكنه عدة رجال، هو في كل حالة رجل غير الرجل الذي يكونه في الحالة الأخرى؛ فيستحيل أن يكون «الأحدب» العابس الجاد المهموم الحزين الذي رأيته، وتحدثت إليه وهو جالس على الجدار الذي لم يتمَّ بناؤه، هو نفسه «الأحدب» الضاحك الفَكِه المرحِّب بي وهو في داره.

أدخلني «الأحدب» فعبر بي ردهة لاحظت خَلاءها من الأثاث تقريبًا، وانتهينا إلى غرفة هي مأواه، فيها كل شيء: فيها السرير وصِوان الملابس ومكتب ومكتبة ومِنضدة ومقاعد، ومرآة، أثاثها هزيل لكنه نظيف، وتنسدل على النافذة ستارة رقيقة فيها خُروق ممزقة، لكنك تشعر في غرفته بالطمَأنِينة وراحة النفس. وليست ديار الناس في ذلك سواء، فقد أزور الدار وأحسُّ أثناء زيارتي أني أتقلب على الشوك دون أن يكون بيني وبين صاحب الدار ما يدعو إلى النفور، ثم قد أزور الدار فينبسط صدري وتطيب نفسي، وأتمنَّى لو بقيت فيه اليوم كله. وقد قُلت ذلك لصاحبي «الأحدب» فور جلوسي على مقعده المريح، الذي كان — فيما يظهر — جالسًا عليه لتوِّه؛ لأن الحَشِيَّة كانت ما تزال دافئة بحرارته.

قلت: إن النفس لتحس الطمأنينة في غرفتك هذه، والمنظر الذي يطالعك من نافذتك رائع جذاب.

قال: إذن لا أحسب الفجوة بين نفسَيْنا عميقة كما يبدو للوهلة الأولى؛ فقد أعجبك مأواي ها هنا، كما أعجبك ملاذي الهادئ، الذي ألُوذ به من صخب الحياة. إن النفوس الإنسانية لتشعر بالتقارُب والتداني في حالات هدوئها، حتى إذا ما عجَّ بها عَجيجُ الحياة أَلفَيتَها متنافرة متعاركة لا عجَب أن يكون الناس جميعًا سواءً وهم نيام، ثم يأتي الموت فيسوى بينهم إلى الأبد.

وخشيت أن ينتقل صاحي بذكر الموت إلى حالةٍ من حالاته الكئيبة السوداء، فغيرت موضوع الحديث، وجعلت موضوعه أقرب ما وقعت عليه يدي على المنضدة الصغيرة الوطيئة التي كانت أمام مقعدي.

فقلت: ما هذه المكعَّبات الخشبية الملوَّنة المصوَّرة؟

قال، وكان ورائي مشتغلًا بقلب الفناجين والأكواب: تلك لُعبة من لُعب الأطفال اشتريتها ألهو بها، إنها مكعبات تُرصُّ؛ فتكون هذه الصورة أو تلك.

ودنا مني «الأحدب» وأشار بإصبعه إلى اللعبة، وقد رَصَّ ما يقرب من نصفها، فإذا هي صورة جواد عليه راكبه، ولم تَبْقَ من الصورة إلا أرجل الجواد.

قلت. وأحسبك كنت في سبيل إتمام الحصان بأرجله؟

قال: هذا ما حِرتُ فيه، حاولت عبثًا منذ ساعة الغداء، فلم تستقم للحصان أرجل؛ حتى لقد مَلِلتُ فوقفت أنظر من نافذتي حين رأيتك قادمًا.

قلت: وما فائدة الحصان بغير أرجُله؟ إن راكبه المسكين سيظل مشلولَ الحركة حتى تتم لحصانه الأرجل فيسير.

هنا وضع «الأحدب» قدحين كانا في يده، وضعهما على ظهر مكتبه، وجلس. إنه «الأحدب» الذي رأيته هناك على الجدار، وهو «الأحدب» الذي رأيته في الطريق. عَبَس وجهه وتجهَّم، ثم ساده استرخاءُ الذي فقَدَ القدرة على الوقوف والحركة، وابتسم لكنها ابتسامة غير التي لقِيَني بها، هي ابتسامة صاحب النفس المريضة المُعبَّأة بالهموم. ما أسرعَ التغيُّرَ في سماء هذا الرجل: صفو في لحظة، وغَمام كثيف في اللحظة التي تَليها!

قال: لعلَّ ذلك بعينه ما أعجزني عن إقامة الحصان على قوائمه، وإذن فما أشبه الجِد باللَّعب … كأني بك يا صديقي قد أتيتني لتستطلع شيئًا من أمري. هذا هو أمري قد كشفت عنه في لحظة واحدة، في هذا الحصان المُقْعَد تتلخَّص قصة حياتي، لكل امرئ جواده، وكل جواد يسير إذا استقام على أرجله، وجوادي كابٍ، والأرجل هناك، لكنها كانت تنتظر العين البصيرة لتضعها مكانها من جسم الجواد فيسير. إن الذي يرى أحرُفَ الهجاء أمامه، ولا يستطيع أن ينشئ منها قصة مُطَّرِدَة أو قصيدة من الشعر يكون العَجْز فيه، ولا يكون العيب في أحرف الهجاء.

قلت: دَعْ عنك الآن هذا الحصان ولُعبته، وانظر ماذا أردت أن تضع في هذين القدحين من شراب.

لكني صمَّمت أن أستطلع قصة الأحدب، أو قصة هذا «الجواد الكابي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤