سحر الكلام

لئن زعمت لك أن للكلام سحرًا، فإنما أقصد السحر بمعنى الكلمة الدقيق، ولا أرسل الكلمة إرسالًا على سبيل المجاز. فلكم شهدت بعَيْنَي رأسي أناسًا أحلامهم أتفه من أحلام العصافير، ووهبهم الله نعمة الكلام المعسول. شهدتهم يتحدثون إلى هذا الرئيس، فيحكم لهم الرئيس المتزن العاقل برجحان التفكير! وشهدتهم يتحدثون إلى تلك الفتاة فتحكم لهم الفتاة الحذرة المتريثة بخفة الدم، ثم تفتح لهم قلبها على مصاريعه! ولم يكن ذلك الرئيس عبيطًا، ولا كانت هذه الفتاة حمقاء … لكنه سحر الكلام! فوالله لو انفتحت لي أبواب السماء لأتمنى؛ لما تمنيت منك يا ربَّاه إلا أن تهبني طرفًا من حلاوة الكلام التي تستميل عقول الرجال، وتنفتح لها قلوب النساء … ليت صديقتي تعلم أني كلما عُدت إلى دارى بعد لقائها، جعلت أقرع نفسي تقريعًا وأؤنبها تأنيبًا هامسًا لنفسي: كان ينبغي أن تقول هذا، ولم يكن ينبغي أن تقول ذاك. كيف يمكن — يا أحمق – لإنسان أن يظفر بقلب إنسان بغير حلاوة الكلام؟! وأذهب من جديد، معتزمًا مصممًا، فإذا بالكلام الجميل الذي فكَّرت فيه قد أُوصدت دونه الأبواب. وإذا باللسان يتلعثم، والقول يَلْتاث عليَّ سبيله … إنها طبائع، بل إنها نعمة الله يهبها من شاء، ويحرمها من شاء، بغير حساب.

ومتى كان الكلام بغير سحر؟ هذه شهرزاد قد سحرت السلطان بحلو كلامها؛ فإذا هو يبقي على حياتها ألف ليلة وليلة؛ لينصت إلى قَصصها الجميل، الذي لولاه لطار عنقُها بعد ليلة واحدة. بل نستطيع أن نعمم القول تعميمًا يشمل سائر النساء وسائر الرجال، فنقول إن سيادة المرأة على الرجل مرهونة بحسن كلامها؛ فما شهرزاد إلا واحدة تمثل جنسها كله، وما السلطان إلا رجل يصور كافة الرجال … ومن يدري؟ لعل الله — جلَّت حكمته — قد وهب النساء ثرثرة الحديث من أجل هذا. فإذا ما عاد الزوج منهوك القوى مهدود الجسد بارد القلب جامد اللسان، فكيف تكون الحال لو سكتت الزوجة؟! الكلام وحده هو مفتاح القلوب، هو الذي يُشيع في الهواء روح الود والمحبة. وإن كان ذلك كذلك؛ فما ينبغي لنا أن نعيب في المرأة انطلاق لسانها، وإنما العيب كل العيب ألا تكون كذلك.

إن الحياة الاجتماعية لَتقتضينا — رضينا أو كرهنا — أن نتكلم حتى إن جاء الكلام خاليًا خاويًا لا يقول شيئًا. فإذا جاءك ضيف، أو إن قابلك صديق؛ فحَتمٌ عليك لا مفرَّ منه أن تتكلم، ولن يلتمس إليَّ الناس عذرًا إذا أمسكت عن الحديث. وها هنا يتفاوت الناس تفاوتًا فسيحًا؛ فمنهم من «تدور أسطوانته» بغير انقطاع وفي أي لحظة شاء. ومنهم من يظل ينكت رأسه نكتًا ليستخرج كلمة واحدة يقولها فلا يجد. وهذه الطائفة الأخيرة هي التي حلَّ بها غضب الله ونزلت بها نقمة المجتمع! الكلام مع الناس واجب، ومن قصَّر في أداء هذا الواجب الاجتماعي، كان جزاؤه الإهمال، بل كان جزاؤه الكراهية والمقت. وإن أنسَ لا أنسَ يومًا دخلت فيه على رئيس أطلب حقًّا ضائعًا، واستقبلني الرجل استقبالًا طيبًا كريمًا، ولكن عزَّ على نفسي أن أقف موقف الذي يطلب شيئًا؛ فانعقد لساني، وزُمَّت شفتاي، وسرَت في جسمي رعدة، وظننت أن قد أصابني شلَل. فعجب الرجل عجبًا، وابتسم ابتسامة الذي لا يفهم، وذهب الحق الضائع مع الرياح أباديد؛ لأني حُرمت نعمة الكلام! فقُل شيئًا من لا شيء. تكلم في غير معنًى مقصود، وإلا نبذك الناس نَبْذَ النواة. نعم إني أعترف لك أن الثرثرة الفارغة فن يحتاج إلى قدرةٍ ومهارة — أين أنا منهما يا رباه؟! — لكنه فن واجب. وفي هذا الصدد يتَندَّر الإنجليز عن فتاة لم يتقدم إلى خطبتها خاطب، وكاد أوانها يمضي. فقيل لها: العلة في انصراف الناس عنك هو أنك لا تتكلمين. تكلمي ثم تكلمي وتكلمي؛ ينجذب إليك الشباب انجذابًا، فالكلام وحده هو أحبولة الصيد! وصمَّمت المسكينة على أن تتكلم مع جارها في أول حفل للشاي عقَدَتْه صديقة لها، وجاء أوان الحفل وجلس إلى جانبها شاب كما تمنَّت، لكن أين في رأسها الكلام الذي أرادته؟! اللهم احلل من لساني عقدة وألهمني ما أقول! وأخيرًا، وبعد جهد ولَأيٍ، قالت لجارها الشاب: أتحب القهوة غير مخلوطة باللبن؟ فأجابها الشاب بقوله: لا، وسكت! فرغ الحديث؛ فماذا تقول؟ وأعادت السؤال في صورة أخرى: وأختك، هل تحب القهوة غير مخلوطة باللبن؟ فأجابها: ليس لي أخت. ماذا تقول بعد ذاك؟ أعادت السؤال في صورة ثالثة: لو كان لك أُخت؛ فهل كانت لتحب القهوة غير مخلوطة باللبن؟ فضحك الشاب وضحك السامعون سخرية. وحكم المجتمع على المسكينة بالطَّرد من حظيرته طردًا لا رجعة لها بعده … لأنها لم تُوهب نعمة الكلام!

للكلام سحر عجيب فطِن إليه أقدم القدماء، فجعلوا للكلمات المعينة فعلًا معينًا، أو قُل جعلوا للكلمات «أسرارًا». فتستطيع — مثلًا — أن تُشفَى من مرضك لو كتبت كذا وكذا، وحملت المكتوب معك «حجابًا». وتستطيعين أن تظفري بحب حبيبك المارق إن قُلت كيت وكيت، بل إن الجلمود الثقيل في سفح الجبل لينزاح من مكانه إذا نطقت بلفظة «سمسم»، كما جاء في بعض الأساطير. ولو كررت هذه اللفظة المعينة ألف مرة ساعة الفجر انفرجت كروبك.

إن من بين الآلهة المنقوشة في الهرم إلهًا اسمه «الكلمة»؛ ذلك لأن «الكلمة» لم تكن في عصور السحر رمزًا نشير به إلى هذا أو إلى ذاك، لكنها قد تكون مصدرًا لقوة تحرك النفوس، بل تحرك الطبيعة إلى حيث يريد لها الإنسان أن تتحرك. فإن جفَّت عيون السماء وأجدبت شعاب الأرض؛ ففي مقدورك أن تستنزل الغيث بكلمات، وإن حاربت العدو فقد تنتصر عليه بكلمات. ثم انظر إلى الخطيب وما يستطيع أن ينزله بنفوس السامعين من أثَر! واذكر أن معظم الخطب القوية الفعالة لا تحمل ألفاظها إلا قليلًا جدًّا من جيد المعنى، لكنه الكلام وسحره!

الحق أنك تخطئ أفحش الخطأ لو ظننت الكلام «حبرًا على الورق» أو موجات صوتية يهتز بها الفضاء. إن كل كلمة كائن حي ينبض بالدماء الدائرة في عروقه وبالتنفس تهتز به رئتاه. كم ألف ألف من البشر قد ألقوا بأنفسهم في التهلكة من أجل كلمة! الحرية، الديمقراطية، الوطنية، وما إلى ذلك من كلمات تحرك بقوتها جحافل الجيوش … إنها كلمات، لا أكثر ولا أقل. وبربك لا تقل إن هؤلاء الألوف إنما يُزهقون أرواحهم في سبيل ما وراء هذه الكلمات من معانٍ؛ لأني أراهنك بنفسي إن وجدت رجلًا واحدًا يفهم على وجه الدقة ما وراء هذه الكلمات من معنًى. لست أشطح مع الخيال الجامح إن زعمت لك إن الكلمة من هؤلاء لها شخصية حية قد تكون أفعل وأقوى من شخصية الإنسان؛ لأن الإنسان لا يتحرك ولا يحرك إلا بفعلها.

وهل تظن أسماء الأشخاص — وهي كلمات — مجردة عن الحياة؟ إن اسمك جزءٌ منك لا يتجزَّأ، تحب له أن يُكرم وأن يعلو ذكره. إنك إذا قصدت إلى ساحرة، تريد بأحد عندها خيرًا أو شرًّا، حسبك أن تذكر الاسم لينوب عن المُسمَّى. والبدائيون — وأشباههم من الأمم المتحضرة — يكرهون أن تُذكر أسماؤهم علنًا. أرأيت كيف يخفي الزوج اسم زوجته والزوجة اسم زوجها؟ لأن الاسم ليس مجرد كلمة تُقال ورمز يُشير، بل هو في ذاته «شخصية» حية. ولا عجب أن ترى عامة الناس يطلقون أحيانًا على أبنائهم أسماء ذميمة كريهة، إذا ما أرادوا أن يُبعدوا عنهم رسل الموت.

إن كلمات اللغة قماقم مشحونة بالفكر والعاطفة، ويتكثَّف في بعضها تاريخ طويل؛ لذلك قد تُربط كرامة الفرد أو كرامة الأمة كلها بكلمة أو كلمات … وإن كان ذلك صحيحًا بالنسبة للكلام يجيء كما اتفق؛ فما ظنك بالكلام الذي يبلغ أن يكون بيانًا؟! ألا إن من البيان لسحرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤