عودة «تختخ»

في الساعة الخامسة من مساء اليوم نفسه، كان «محب» يجلس بجوار التليفون في منزله ينظر إلى ساعته كلَّ دقيقة … فسوف يَنتظره «تختخ» على التليفون في السادسة بالإسكندرية، وعليه أن يتَّصل به ويُخبرَه بما حدث … وبعد لحظاتٍ حضر «عاطف» و«لوزة»، وذهبَت «نوسة» لتطلب لهما شرابًا باردًا … وفجأةً دقَّ جرس التليفون … ورفع «محب» السماعة، واستمع إلى آخر من كان يَتصوَّر … «تختخ» يتحدَّث إليه من المعادي!

قال «تختخ»: آسفٌ إذا كنت أفزعتك … لم أستطع الانتظار في الإسكندرية، فاستأذنت أبي أن أسبقهم إلى المعادي، وحضرتُ منذ دقائق … إنني في منزلي الآن فتعالوا فورًا.

قال «محب»: لحظة واحدة لأقول للأصدقاء.

ولم يكد «عاطف» و«نوسة» و«لوزة» يَعلمون أن «تختخ» في المعادي حتى صاحوا في فرحٍ، ووقفوا جميعًا للذهاب إليه … ولكن «محب» قال: انتظروا قليلًا … إننا نريد أن يظلَّ «تختخ» بعيدًا عن شبهات العصابة، ومن المؤكد أن بعض أفرادها يُراقب منزلنا الآن … وسيتبعوننا قطعًا إلى منزل «تختخ» …

صمت الأصدقاء بعد هذا الحديث المقنع، ثم تحدَّث «محب» إلى «تختخ» قائلًا: اسمع يا «تختخ» … إننا نُفضِّل ألا يراك رجال العصابة معنا … أو يرَونا معك … إننا نُريدك أن تذهب وحدك … وسنظل على الاتصال بك تليفونيًّا فترة من الوقت.

ردَّ «تختخ»: معك حق … والآن قل لي ما حدث!

محب: ذهبتُ إلى مدينة الملاهي لإحضار الفيلم، وكم كانت صدمة لي أن وجدت الأرجوحة الدوارة قد انكسرت، ومنعوا أي إنسانٍ من الاقتراب منها … والفيلم هناك في أحد القوارب بين جدار القارب وقطعة بارزة من الخشب من ناحية اليد اليمنى للراكب.

تختخ: هل تعرف القارب الذي به الفيلم؟

محب: للأسف نسيت أن أعلِّمه بعلامةٍ!

تختخ: وهل قلتم لمندوب العصابة إنكم تبحثُون عن الفيلم؟

محب: طبعًا … وقد منحونا فرصةً أخرى إلى ظهر الغد … وإلا نفَّذوا تهديدهم …

تختخ: اسمع … سأتنكَّر الآن في شكل الولد المُتشرِّد … وسأذهب إلى مدينة الملاهي، وسوف أجد وسيلة لركوب الأرجوحة والبحث عن الفيلم في القوارب … فإذا انتهيتُ من المهمة مبكرًا فسوف أمرُّ بكم في المنزل، وسأدخل من باب الحديقة الخلفي، وأطلق صيحة البومة المتفق عليها.

محب: وإذا لم تَحضُر الليلة؟

تختخ: أتَّصل بك في ساعة مبكرة من الصباح تليفونيًّا، لأُخطرَك بما حدث!

محب: اتفقنا.

تختخ: دع بقية الأصدقاء يتحدثون إليَّ، إني في شوقٍ إلى سماع أصواتهم جميعًا … ولتقصَّ عليَّ «لوزة» … ما حدث بالضبط.

وسلَّم «محب» التليفون إلى «لوزة» التي أخذت تروي ﻟ «تختخ» ما حدث عندما التقطت الصورة … والمطاردة … والرجل الذي يشبه «الغوريلا» … ثم تحدَّث «عاطف» وبعده «نوسة».

وفي النهاية تحدَّث «محب» مرةً أخرى إلى «تختخ» قائلًا: كن حذرًا … فقد تقع بك الأرجوحة.

صعد «تختخ» سريعًا إلى غرفة العمليات — كما يُسمِّيها الأصدقاء — وهي الغرفة التي يحتفظ فيها بكل شيءٍ يتصل بالألغاز والمغامرات … وبينها أدوات التنكُّر الذي يُجيده أفضل من أي مُمثلٍ مُحترفٍ.

ارتدى «تختخ» ثياب الولد المتشرد، ونكش شعره، ثم أغلق الباب، ومرقَ من باب الحديقة الخلفي، وانطلق مشيًا على الأقدام إلى مدينة الملاهي … كانت المسافة بعيدةً … ولكنه ظلَّ يمشي بنشاطٍ، وهو يتذكر مكان الفيلم كما شرحه «محب» ناحية اليد اليمنى … بين جدار القارب وقطعة خشب بارزة … وأخيرًا لمعت أمام عينيه أنوار مدينة الملاهي … وكانت الساعة قد تجاوزت السابعة والنصف، وأخذ الظلام يزحف على المكان، وهو يزيح ضوء السماء الخافت أمامه، وبدأ الظلام يسود المعادي.

دخل «تختخ» المدينة الصاخبة … واتجه رأسًا إلى الأرجوحة الدوارة، ووقف يتأمَّلها … كان هناك ميكانيكي يقف عند الترس الكبير في الوسط ومعه أدواته، وهو يدقُّ هنا ويفكُّ هناك في مُحاولة لإصلاح الأرجوحة … وكان الناس يضحكون وصوت البنادق يفرقع في الجو والموسيقى تصدح … وكلٌّ مشغول بمتعة اللهو … إلا «تختخ» الذي كان يفكر في طريقة لتفتيش القوارب دون أن يلفت الأنظار.

كان الميكانيكي ينحني بين لحظةٍ وأخرى لأخذ بعض أدواته … وكان يبدو مرهقًا، ووجد «تختخ» الفرصة التي يبحث عنها عندما وقف الرجل يَتلفَّت حوله … وبدا واضحًا أنه يبحث عن شيءٍ أو إنسانٍ … فتقدم «تختخ» سريعًا منه قائلًا: هل من خدمة أؤديها لك؟

قال الميكانيكي: مَن أنت؟

تختخ: إنني أعمل هنا في المدينة!

الميكانيكي: إنني أريد كوبًا من الشاي أعدل به رأسي … هل تستطيع أن تُحضره على جناح السرعة؟

ردَّ «تختخ» في ابتهاج: أسرع من البرق.

فعلًا طار إلى البوفيه وطلب كوبًا من الشاي، ولكن الجرسون لم يُعطِه إيَّاه إلا بعد أن دفع ثمنه … فلم يكن منظره ليدعو إلى الثقة.

حمل «تختخ» كوب الشاي، وانطلق إلى حيث يقف الميكانيكي، فتناول الكوب شاكرًا، وأخذ يرشف منه رشفاتٍ كبيرة، ثمَّ أشعل سيجارة، وجلس يُدخِّن في استمتاع.

انتهز «تختخ» هذه الفرصة وقال: هل ستتمكَّن من إصلاحها الليلة؟ ردَّ الميكانيكي، وهو يلوي شفتيه: لا أعتقد، هناك عملٌ كثيرٌ، ولا أظنُّ أنني سأتمكَّن من إصلاحها قبل يومين.

وحضر صاحب الأرجوحة وسأل الميكانيكي: هل انتهيت؟

ردَّ الميكانيكي: انتهيت من ماذا؟! لقد قلت لك إنني لن أستطيع إصلاحها قبل يومين … فلا بد أن أفكَّ القاعدة كلها، ثم أصلح التروس.

بدا على صاحب الأرجوحة عدم الاقتناع، ونظر إلى «تختخ» وهو يظنُّه مع الميكانيكي فتظاهر «تختخ» أنه يقوم فعلًا بمساعدة الميكانيكي، وأخذ يجمع بعض الأدوات المتناثرة، ويضع بعضها بجوار بعض.

انتهى الميكانيكي من شرب الشاي، وكان صاحب الأرجوحة قد انصرف … وعاد الرجل إلى العمل، وأخذ «تختخ» يُساعده، وتقبَّل الرجل المساعدة ببساطةٍ؛ فقد كان يظنه من صبيان المدينة.

مضت ساعتان، والميكانيكي منهمكٌ في عمله و«تختخ» يساعده، ثم ينتهز كل فرصة تسنح له، ويمدُّ يده إلى أحد القوارب ويبحث عن الفيلم … وحتى انتهى الرجل من عمله لم يكن «تختخ» قد عثر عليه.

نظر الرجل إلى ساعته ثم قال: هذا يكفي الليلة … سأَحضُر غدًا صباحًا وعليك أن تخطرهم بذلك، وسأترك العدة هنا، فهي ثقيلةٌ ولا أستطيع حملها.

وانصرف الرجل، وترك «تختخ» وقد بدأت المدينة تخلو من روَّادها، والضجة تهدأ والموسيقى تخفت تدريجيًّا …

ولم يُضيِّع «تختخ» دقيقة واحدة من وقته … نظر حوله … كان الجميع مشغولين بالفرجة أو في طريقهم إلى الخارج. ولا أحد يهتمُّ بالأرجوحة المكسورة، وهكذا مضى سريعًا يُفتِّش … واقترب من أحد القوارب، ومال عليه ووضع يده في المكان الذي حدده «محب» … وأخذت أصابعه تعبث في الظلام … وأحسَّ بفرحةٍ غامرةٍ وهو يجد شيئًا كالفيلم محشورًا بين جدار القارب، وقطعة خشب بارزة … وأخيرًا عثر عليه … ولكنه كان محشورًا بقوة في الثقب فأخذ «تختخ» يَميل أكثر فأكثر حتى يتمكن من إخراجه … ونسى أن الأرجوحة مكسورة وأنها مائلةٌ … وفجأة سُمع صوت تكسُّر مُرتفع … ومالت الأرجوحة سريعًا ناحيته … وأحس بالقارب الذي يتعلق به يسقط به بشدة … واصطدم بالأرض … وشاهد القارب ينقضُّ عليه ويكاد يحطمه … وفي لمح البصر تدحرج «تختخ» بعيدًا، وسقط القارب على بعد سنتيمترات قليلة منه.

كانت السقطة قوية، لكنه شعر بشيءٍ خشنٍ تحت رأسه، ثم أحسَّ بكل شيءٍ يدور كالأرجوحة … الأضواء … والأذرع الضخمة لمختلف الألعاب … وسقوف الخيم … كل شيء يدور … يدور … يدور … وغاب عن وعيه.

استيقظ على أصوات وأقدام تجري في كل اتجاه … وتذكر كل شيء … هل عرفه الناس؟ … ونظر حوله … لم يكن أحد قريبًا منه مطلقًا، ودهش … لكن دهشتَه زالت؛ فقد سقط في بقعة مظلمة بجوار خيمة، وسط كمية من القش … فاختفى عن الأنظار.

ظلَّ راقدًا مكانه ورأسه يؤلمه، وهو يستمع إلى التعليقات من حوله: لقد انكسَرت تمامًا … فقد انقسم العمود الخشبي الرئيسي … كيف انكسر بدون أن يلمسه أحد … إن صاحبها غير موجودٍ … إنها خطرةٌ جدًّا في وضعها الحالي … وإذا اقترب منها أحد فقط تسقط عليه …

كانت التعليقات تأتي متصلة … حادة … ثم بدأت تخفُّ تدريجيًّا … وأدار عينيه حوله … كان القارب قريبًا منه، وانتظر حتى انصرف الذين لفت انتباههم ما حدث … وعندما تأكد أنه لا أحد هناك ارتكز على ركبته، ثم مدَّ يده محاذرًا إلى حيث وجد الفيلم، وأخذ يبحث وقلبه يدق … ولكنه لم يعثر على الفيلم!

لم يُصدِّق «تختخ» نفسه … أين ذهب الفيلم؟ أليس هذا هو القارب الذي عثر عليه فيه … ماذا حدث؟ ووقف يدير البصر حوله … كان القارب قد تحطَّم، وأدرك أن الفيلم أفلت من مكانه وسقط بعيدًا … وأحسَّ «تختخ» بالضيق والألم … إن هذا الفيلم العجيب لا يريد أن يعود … إنه يفلت من أيديهم وكأنه ثعلب مراوغٌ … هذا الفيلم الذي يحمل سرًّا غامضًا لا يعرفه، ويريد أن يعرفه.

أين سقط الفيلم … إنه قد يدور على بكرته ويبتعد ويختفي بين مئات الأشياء المتناثرة هنا وهناك، وقد لا يجده مطلقًا، وبخاصةٍ في هذه البقعة المظلمة.

عاد إلى الجلوس، وأسند ظهره إلى الخيمة التي وقع بجوارها … كان رأسه … بل كل جسده يؤلمه … وكانت مدينة الملاهي قد خلت من روَّادها … وهبط الصمت عليها إلَّا من صوت العاملين فيها، وهم يَأوون إلى أماكنهم … وفجأة سمع أصواتًا تقترب منه، فأسرع إلى كومة القش يختفي فيها … وسمع صوت أقدامٍ قريبةٍ … ودخلت الأقدام الخيمة … وشاهد النور يُضاء فيها.

سمع «تختخ» صوت قطةٍ تموء داخل الخيمة، وسمع صوت سيدة تقول: هل أنتِ جائعةٌ يا «سمارة»؟ … سوف آتيك ببعض الطعام فانتظري قليلًا!

وعاد الصمت من جديد … وسمع «تختخ» صوتًا دقَّ له قلبه … خُيِّل إليه أنه يسمع شيئًا يدور على الأرض وصوت شيء يضربه … شيئًا يدور كبكرةٍ صغيرة … بكرة صغيرة تمامًا … هذا هو الصوت … إنها القطة تلعب بشيءٍ … ولم يتردَّد … نام على بطنه … وكانت الخيمة محكمة الإغلاق، ولكن بعض جوانبها يرتفع عن الأرض سنتيمترات قليلة … ووضع «تختخ» خدَّه على الأرض حتى يتمكَّن من رؤية ما يجري في الداخل … وشاهد ما توقعه … القطة تلعب بالفيلم … نعم بكرة الفيلم، وعليها الورق الأحمر الذي يلصق على الفيلم في النهاية حتى لا يتعرَّض للضوء … كانت القطة تضرب الفيلم فيجري إلى ناحية … ثم تعود فتضربه بيدها الثانية فيرتدُّ إلى ناحية أخرى … وكان يقترب أحيانًا منه. ويمدُّ يده متسللًا ليأخذه، ولكن القطة الخبيثة كانت تُبعده عنه بضربةٍ أخرى.

سمع «تختخ» صوت السيدة تقول: ماذا تفعلين يا «سمارة»؟ ما هذا الذي تلعبين به؟

وأحسَّ «تختخ» بقلبه يسقط في قدميه، فلو التفتَت المرأة إلى هذا الشيء وأخذته فلن يستطيع الحصول عليه أبدًا … وقرر أن يتحرك فورًا … وكانت القطة قد ضربت الفيلم إلى مكان قريب منه … فمدَّ ذراعه داخل الخيمة ليأخذه … وكم كان فزعه عندما شاهد يد السيدة تمتد هي الأخرى لتأخذ الفيلم! … وتقابلت اليدان عند الفيلم … وشاهدت المرأة اليد الممدودة فأطلقت صرخةً مدويةً … وقفزت إلى الخلف … لكن «تختخ» لم يكن يُهمُّه أي شيءٍ يحدث في هذه اللحظة … فقد قبضت أصابعه على الفيلم أخيرًا … وقفز واقفًا … وفي ثوانٍ كان عدد العاملين في المدينة قد حضروا على صرخة المرأة التي روت لهم ما حدث بسرعة، فانطلقوا خارج الخيمة … وشاهدوا «تختخ» من بعيد وهو يجري، فانطلقوا خلفه كالشياطين … ولكنه استطاع أن يَزوغ في الظلام … وبعد لحظاتٍ كان يجري خارج مدينة الملاهي والفيلم في يده … وابتلعه الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤