أغرب من الخيال

أخذ «تختخ» ينظر إلى «علاء» في دهشةٍ، ثم يَنقل بصَرَه إلى «حبشي»، ثم قال في ضيقٍ: ما المستحيل؟

ردَّ «علاء» في ثقة: هذه الصورة صُوِّرت منذ سنة تقريبًا!

قال «تختخ» وهو يهزُّ رأسه: في هذه المرة أنا الذي أقول لك: هذا مُستحيل!

علاء: ما المستحيل؟

تختخ: أن تكون هذه الصورة قد صُوِّرت منذ سنة … لقد صورتها صديقتي «لوزة» منذ أربعة أيام فقط … وليس من سنة!

علاء: مرة أخرى أقول لك: مستحيل!

تختخ: لماذا هو مستحيل؟

علاء: لأن هذه صورة رجلٍ ميت! … رجل مات منذ سنة، ولا يُمكن أن يكون قد تمَّ تصويره منذ أربعة أيام إلا إذا كان قد خرَج من قبره حيًّا!

لم يستطع «تختخ» أن يردَّ … فالذي يسمعه كلام أقرب إلى الخيال … بل هو أغرب من الخيال … فكيف يموت إنسان منذ سنة ثم يظهر في صورة تمَّ تصويرها منذ أربعة أيام؟!

بعد فترة صمتٍ طويلةٍ قال «تختخ»: اسمع يا أستاذ «علاء»، أليس من المُمكن أن يكون الرجل الذي نتحدث عنه يشبه هذا الذي في الصورة؟ … إن المثل يقول: «يخلق من الشبه أربعين»!

علاء: لا يُمكن أن أُخطئ … لقد جئتُ بالمصادفة إلى المعمل لأتسلَّم صورًا خاصة بقسم الحوادث، فرأيت هذه الصورة مع «حبشي»، ولم أكد أراها حتى تأكدتُ أنني أرى «القرد»، أخطر رئيس عصابة ظهر في بلادنا في السنوات الأخيرة، وأكثرهم دهاءً وبطشًا!

تختخ: تقول … «القرد»؟!

علاء: نعم … «القرد» هذا هو الاسم الذي يُطلقُه عليه رجال الشرطة، لمنظره العجيب الذي يشبه القرد.

تختخ: لقد سمَّاه أصدقائي «الغوريلا»!

علاء: معهم حق … إنه يُشبه «القرد» أو «الغوريلا» فعلًا!

تختخ: لكن ما تَتحدَّث عنه يا أستاذ «علاء» مستحيل!

علاء: إنه مستحيلٌ فعلًا إذا أصررتَ على قولك إن هذه الصورة التقطت منذ أربعة أيام … لقد مات «القرد» منذ نحو سنة.

تختخ: شيءٌ لا يصدقه العقل!

علاء: فعلًا … ولكني أعمل في قسم الحوادث منذ عشر سنوات، وكنت أتابع حوادث «القرد» منذ ظهر في ميدان الإجرام والمجرمين … وقد كتبت عنه كثيرًا، وقابلته في كل مرة قبض عليه فيها … قابلته في قفص الاتهام، وفي السجن … لا أظنُّ أنني يمكن أن أخطئ في التعرف عليه!

تختخ: وما هو تفسيرك لهذا الموقف إذا كنت أنا متأكدًا أن هذه الصورة قد التقطت منذ أربعة أيام لا غير؟

علاء: في هذه الحالة سنكون أمام لغزٍ من أغرب الألغاز، وأشدها إثارة، لغز الحياة بعد الموت!

تختخ: شيء لا يُمكن تصديقه!

علاء: تعال معي إلى قسم الأرشيف والمعلومات … سترى جميع صور «القرد» التي التقطت له في أثناء حياته … والمعلومات التي كُتبت عنه في الصحف.

وانطلق «تختخ» و«علاء» إلى قسم الأرشيف والمعلومات … طلب «علاء» من الموظَّف المختص استخراج ملف الصور، وملف المعلومات الخاصَّين ﺑ «القرد» … وبعد لحظاتٍ عاد وهو يَحمل مظروفًا به مجموعة صور مختلفة ﻟ «القرد» … وملفٌّ به قصاصات الصحف التي كُتبت عنه.

وأخذ «تختخ» يتأمل الصور … ويقارنها بالصورة التي التقطتها «لوزة»، ولم يكن هناك أيُّ شكٍّ في تطابق الصورتين تمامًا … فالصورة التي التقطتها «لوزة» هي بالتأكيد صورة «القرد» … ولكن كيف يظهر رجل ميت في الصورة … بشحمه ولحمه وملابسه؟ هل هي الروح؟ شيء لا يصدقه عقل! … ولا بد أن في الأمر تفسيرًا ما … تفسيرًا يوضح هذا الموقف العجيب!

وبعد أن انتهى «تختخ» من تقليب صور «القرد» … أخذ ملفَّ المعلومات وقصاصات الصحف … كان الملفُّ ضخمًا، وقد امتلأ حتى آخره بما كُتب عن «القرد» في مختلف الصحف والمجلات … والجرائم التي ارتكبها، والمحاكمات التي تعرَّض لها … وأحكام السجن التي صدرت ضده … وكيف استطاع في كلِّ مرةٍ الفرار من الحبس أو السجن بطرقٍ غاية في الدهاء … حتى أطلقوا عليه لخفَّة حركته وشكله العجيب اسم «القرد»، برغم أن اسمه الأصلي هو «مرزوق الإنبابي».

لم يتمكن «تختخ» من قراءة كل الملف، لقد كان ذلك يتطلب وقتًا طويلًا، فطواه … وعلى وجه الملف وجد قصاصة من صفحة الوفيات تُعلن عن وفاة «مرزوق الإنبابي»، ومع الخبر صورة «القرد».

وهزَّ «تختخ» رأسه بضع مرات، لقد أحسَّ أنه في كابوس … كيف استطاع رجلٌ أن يخرج من قبره؟! ولو كان الاسم فقط هو الذي نُشر لكان من الممكن أن يكون مجرد تشابه أسماء … لكن الصورة!

طوى «تختخ» الملف، والتفت ناحية «علاء» الذي أخذ ينظر إليه وعلى وجهه علامات التفكير العميق.

قال «علاء» بعد فترة: ما رأيك؟

تختخ: لا أدري ماذا أقول لك؟! … لقد اشتركتُ في حلِّ عشرات الألغاز، ولكني لم أقابل لغزًا بهذا الغموض من قبل.

علاء: ولا أنا!

تختخ: وما العمل؟

علاء: ليس أمامنا إلَّا العثور على هذا «القرد» والتحقُّق من القصة كلها.

تختخ: لقد اختفى منذ ظهر في الصورة … وترك أعوانه يُراقبون أصدقائي … هذا إذا كان «الغوريلا» كما نُسمِّيه … هو «القرد» كما تُسمِّيه أنت!

ودقَّ جرس التليفون، وتحدث «علاء» لحظات، ثم وقف مسرعًا وقال: آسفٌ جدًّا، فأنا مضطرٌّ إلى تركك فورًا … فهناك حادث قد وقع، وسوف أذهب مع مصوِّر لإعداده للنشر.

وتبادلا التحية، ثم انطلق «علاء» وترك «تختخ» وحيدًا يفكر … إن المعلومات التي سمعها من «علاء» عجيبة حقًّا … وليس هناك طريق للتأكد منها إلا أن يعثروا على «القرد»، ومعنى هذا الاشتباك مع العصابة … ونظر إلى ساعته … كانت قد تجاوَزت الثالثة بعد الظهر … ولم يعد باقيًا على موعد تسليم الصورة إلى العصابة إلا ثلاث ساعات.

غادر دار الجريدة … وأسرع إلى محطة باب اللوق، ومنها استقل القطار عائدًا إلى المعادي، فوصل بعد ربع ساعة تقريبًا … وكان الأصدقاء قد تناولوا غداءهم … وجاءت له «لوزة» بكمية من الساندوتشات لغدائه … فجلس يأكل ويروي لهم ما سمعه من «علاء»، وهم جميعًا منتبهون إليه … وقد شدتهم المعلومات العجيبة التي عاد بها.

عندما انتهى «تختخ» من حديثه قال «محب»، شيءٌ لا يصدقه عقل!

فقال «تختخ»: إننا أمام لغز من الدرجة الأولى … رجل مات منذ أكثر من عام … يظهر في صورة التقطت منذ أيام … فهل نُسلِّم الصورة للعصابة، ونعتبر الموضوع منتهيًا؟ … أو نحاول حلَّه؟!

صاح الأصدقاء جميعًا: لا بد من حلِّه!

تختخ: أمامنا طريقان للاشتباك مع العصابة … الأول أن نُراقب الرجل الذي سيتسلَّم الصورة … ونتبعه حتى نعرفَ مقرَّ العصابة … والثاني هو القارب رقم «٦٦» … أو «القمر»، فما هو رأيكم؟!

ردَّ «عاطف» مازحًا: رأيي أن نُراقب «القرد» و«القمر» معًا!

تختخ: في هذه الحالة … سنُقسم أنفسنا كالآتي … يذهب «محب» و«لوزة» لتسليم الصورة إلى الرجل هذا المساء، وسأتنكَّر أنا وأتبعه عن قرب … وعلى «نوسة» و«عاطف» أن يذهبا إلى شاطئ النيل للبحث عن القارب القمر …

محب: في هذه الحالة قد لا نلتقي هذه الليلة!

تختخ: لا أدري كيف ستسير الأمور … ولكن موعدنا غدًا صباحًا في التاسعة، لنرى ما تمَّ من عمل.

في الخامسة والنصف، كان «تختخ» قد عاد إلى ثياب المتشرِّد التنكُّرية، وحمل صندوقًا لمسح الأحذية، ثم تسلَّل من باب منزلهم الخلفي، واتجه إلى الكازينو حيث ينتظر رجل العصابة الصورة.

كان الكازينو مُزدحمًا بالرواد في هذه الساعة من الأصيل … وقد مالت الشمس للمغيب … فدخل «تختخ» الكازينو، وهو يدقُّ صندوقه بالفرشاة … وأخذ يُدير بصره في الجالسين … ولاحظ فورًا وجود رجلَين شكلهما مُريب، يجلسان معًا، ويتحدثان في صوت منخفضٍ … فلم يتردد واتجه إليهما في هدوءٍ، ونظر إلى حذاء كلٍّ منهما … كانا يستحقان المسح فعلًا؛ لأن طينًا كثيرًا كان عالقًا بهما … فتقدم من أحدهما قائلًا: تمسح يا بيه؟

ولحسن الحظ مدَّ الرجل ساقيه، فأسرع «تختخ» بهمَّة ونشاط يضع الصندوق تحت القدمين الممدودتين، ووضع كرسيَّه الصغير وجلس، وبدأ كأيِّ ماسح أحذية يُنظفهما من الطين … ولكن أذنيه كانتا مع الحديث الدائر بين الرجلين … وكان أحدهما يكمل حديثًا بدأه قبل حضور «تختخ» قائلًا: إنه يريد أن ننتهيَ من المهمة التي جئنا من أجلها إلى المعادي … ثم نبتعد بأسرع ما يمكن!

قال الثاني: إنه يُريد أن يَبتعِد لأنه خائفٌ … ولا أدري كيف يخاف رجل مثله من هؤلاء الأطفال؟

الأول: أنت تعرف خوفه من ظهور صورته في أي مكانٍ … إنه حريصٌ على أن يَختفي عن أعين رجال الشرطة.

الثاني: وكيف تصل هذه الصورة إلى رجال الشرطة … إنَّ هؤلاء الأولاد يبدُون أبرياء، ولا علاقة لهم بالشرطة ولا بغيرها!

الأول: من يدري؟!

وفي هذه اللحظة ظهر «محب» و«لوزة» يسيران معًا … واتجها إلى حيث يجلس الرجلان … ومدَّ «محب» يده بمظروف مُغلَق كانت به الصورة … فأمسك الرجل بالمظروف وفتحه، وألقى نظرة عاجلة على الصورة، ثم قال: ألم تطبعوا صورة أخرى مثل هذه؟

ردَّ «محب» في ضيق: لا داعيَ لهذه الأسئلة … لقد طلبتم الفيلم فأعطيناكم إياه … وطلبتم الصور فأعطيناكم إياها … فماذا تُريدون؟

كان «تختخ» ينظر إلى «لوزة» ويبتسِم خفية … ونظرت إليه، لكنَّها ظلت جامدة الوجه برغم أنها عرفته … وظلَّ هو مُستمرًّا في عمله يستمع وكأن الأمر لا يعنيه.

انصرف «محب» و«لوزة» معًا … وقال أحد الرجلين: لقد تأخَّرت القهوة … فهل نقوم؟

قال الثاني: لننتظر قليلًا … إنني في أشدِّ الحاجة إلى فنجان القهوة.

ثم رفع صوته مناديًا «الجرسون»، وعاد يقول: ثمَّ علينا أن نتأكد من أن هؤلاء الأطفال لن يتصلوا بالشرطة.

ردَّ الأول: إنها مهمةٌ سخيفةٌ أن نُضيِّع وقتنا في مراقبة هؤلاء الأطفال … إنني أفكر في شيءٍ …

ثم مال على زميله وتهامسا فترة، وأخذ «تختخ» يمدُّ رأسه محاولًا الإنصات إلى همسهما الخافت، ثم سمع أحد الرجلين يقول له: ما هو اسمُك يا ولد؟

رفع «تختخ» رأسه إلى الرجل قائلًا: تسألني أنا؟

ردَّ الرجل في خشونة: نعم … أنت!

ذكر «تختخ» أول اسم خطر على باله فقال: اسمى «كوسة»!

ضحك الرجلان وقال أحدهما: كوسة!

ردَّ «تختخ» مُبتسمًا: نعم … هكذا ينادونني في المعادي!

أحد الرجلين: وهل تعمل في المعادي منذ مدةٍ طويلة؟

ردَّ تختخ: منذ وُلدت!

الرجل: وهل تَعرف الولد والبنت اللذَين كانا هنا الآن؟

تختخ: بالطبع، فإنني أمسح أحذية الأسرتَين، وأعرف الولد والبنت الأخرى …

ابتسم الرجل وهو يمدُّ يده بخمسة وعشرين قرشًا قائلًا: اسمع يا «كوسة» … إننا نُريدك أن تراقب هؤلاء الأولاد، ومعهم ولد خامس سمين اسمُه — كما علمنا — «توفيق» …

قال «تختخ»: إنني أعرفه أيضًا.

الرجل: عظيم … هناك شحَّاذ يجلس باستمرار عند رصيف القوارب … أعور … ونحن نُسميه الأعور، وعليك أن تبلغه إذا وجدت هؤلاء الأولاد يَذهبون إلى قسم الشرطة … أو يَحضُر إليهم أحد رجال الشرطة … وما دمت تعرفهم فسوف تتمكن من معرفة كل شيءٍ عنهم … وسيصلك من الأعور كل يوم مثل هذا المبلغ … وإذا فتحت عينيك وأذنيك جيدًا فسوف نُجزل لك العطاء! وكلمة السر للأعور هي: «فتح عينك تاكل ملبن!»

ردَّ «تختخ»: سأفتح عينيَّ وأذنيَّ على آخرها.

حضرت القهوة. ومدَّ الرجل الآخر حذاءه إلى «تختخ»، فانهمك في تنظيفه، وقلبه يرقص طربًا … فقد أصبح على صلة بالعصابة!

ثم انصرفا بعد فترة … وتبعهما «تختخ» من بعيدٍ … واستطاع أن يراهما وهما يتَّجهان إلى مرسى القوارب، وتبادلان حديثًا مع «الأعور»، ثم يركبان قاربًا يتجه بهما سريعًا نحو القاهرة.

عاد «تختخ» إلى منزله واتصل «بعاطف»، وعرف منه أن القارب رقم «٦٦» القمر لا يقف في المعادي، ولكنه يقف أمام فندق «شبرد» ولا يأتي إلى المعادي إلا نادرًا.

قال تختخ: سنلتقي غدًا صباحًا في غرفة العمليات عندي؛ فهناك حديثٌ مهمٌّ بيننا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤