الميت الحي

وقف الأصدقاء الثلاثة يحدِّقون في الظلام ويُفكِّرون … ومضت نصف ساعة وهم واقفون لا يدْرون ماذا يفعلون.

وأخيرًا قال «محب»: ليس أمامنا إلا حلٌّ واحد … أن نَجتاز المسافة سباحة.

تختخ: إلى أين؟

محب: إلى الشاطئ الشرقي للنيل … الشاطئ الذي تقع عليه المعادي!

تختخ: وما هي المسافة حتى الشاطئ؟

محب: أعتقد أن النيل هنا لا يَزيد اتساعه على كيلو مترين … ومعنى هذا أننا سنعوم نحو كيلو متر أو أكثر قليلًا.

فكَّر «تختخ» لحظات ثم قال: هيا بنا.

كان الجو دافئًا في هذه الليلة الصيفية، فخلعُوا ثيابهم، وأخفوها في مكان بين الأعشاب، وقال «عاطف» باسمًا: المشكلة ليست في السباحة إلى الشاطئ … المشكلة هي الوصول من الشاطئ إلى المنزل ونحن بلا ثيابٍ.

محب: إنها مُغامرةٌ من نوعٍ جديدٍ على كلِّ حالٍ.

وقفزوا إلى ماء النهر الدافئ … وبدءوا يسبحون … صاح «تختخ»: لا يَبتعد أحد منَّا عن الآخر حتى لا نتوه في الظلام … نظموا ضربات الذراع لتكون على مسافات متقاربة.

ومضوا يعومون في ضرباتٍ منتظمةٍ … كان الليل حالك السواد … وليس هناك إلا أضواء النجوم … ولكن الشاطئ كان مُضاء بالمصابيح … فأخذوا يقتربون شيئًا فشيئًا … ولكنهم ما كادوا يقتربون من الشاطئ حتى فاجأتهم دوامةٌ قويةٌ، وكان «تختخ» يعوم بين «محب» و«عاطف» … فلاحظ أن «عاطف» يبتعد عنه، فصاح في الظلام: «عاطف» … «عاطف» … إلى أين تذهب؟

لكن «عاطف» … لم يكن يسمع … فقد دارت به الدوامة بسرعة … وأخذت تجذبه إلى القاع … أسرع «تختخ» يُغيِّر اتجاهه باحثًا عن «عاطف» لكنه لم يستطع رؤية شيءٍ في الظلام … وأخذ ينادي … وكان «محب» قد غيَّر اتجاهه هو الآخر واتجه ناحية «تختخ» … وأخذ الصديقان يبحثان عن «عاطف» في الظلام وقد أحسا بالخوف على صديقهما العزيز.

كان «عاطف» يصارع الدوَّامة في استماتة … وكانت تدور به ثم تجذبُه إلى القاع، فيضرب الماء بشدة ويخرج من مراكز الدوامة، ولكن الدوامة تجذبه مرة أخرى إلى وسطها، وتدور به إلى أسفل … فيحاول مرة أخرى … فتغلبه، كان صراعًا عنيفًا بين الموت والحياة … بين الغرق والنجاة … وأطلق «عاطف» صيحة استغاثة في الظلام … ولحسنِ الحظ كان «تختخ» و«محب» في المكان الصحيح … كانا قريبين منه، فاتجه «تختخ» سريعًا إلى مكانه … وأحس بالدوامة، وأدرك كل شيءٍ فصاح بمحب: لا تَقترب … ولتَعُم قريبًا مني حتى أستدعيك!

خفض «محب» من سرعته … وأخذ ينظر في الظلام … واستطاع أن يرى ذراعَي «تختخ» البيضاوين تضربان الماء بشدة … وكان «تختخ» قد اقترب من «عاطف» وأحس بذراعه تخبط ساقه فأدرك أن الدوامة تشدُّه إلى أسفل … فغاص بسرعةٍ، واستطاع أن يمسك بذراع «عاطف»، وجذبه تحت الماء بعيدًا عن الدوامة، ثم صعد إلى السطح ونادى، وقلبه يدقُّ بعنفٍ وأنفاسه تنقطع: «محب»! … وسمع «محب» النداء، وضرب الماء بسرعةٍ متجهًا إلى مصدر الصوت، ووجد «تختخ» يُمسك بذراع «عاطف» الذي أنهكه الصراع، فلفَّ حولهما، ودفع «عاطف» من الخلف بشدة فطفا فوق الماء، ومدَّ ذراعه إلى «تختخ» فأمسك بها، وصنعا من ذراعَيهما مسندًا ﻟ «عاطف» … وضعا صدره عليه ثم أخذا يعومان، كلٌّ بذراع حتى وصلا إلى الشاطئ. فصعد «محب» أولًا وأمسك بذراعَي «عاطف»، ودفعه «تختخ» من الخلف فصعد إلى الشاطئ.

كان «عاطف» قد شرب كثيرًا من الماء، فأخذ «تختخ» — وهو مُتسارع الأنفاس تعبًا — يُجري له الإسعافات الأولية … فرفعه من وسطه وأخذ يضغط على بطنه حتى أفرغ الماء من جوفه، ثم مدَّده على ظهره، وأخذ يضغط على صدره. فعادت الأنفاس تنتظم في صدر «عاطف»، وبعد لحظاتٍ فتح عينيه، فقال «محب» وهو يكاد يبكي: إنه حيٌّ … حيٌّ!

ردَّ «تختخ» وهو يَرتمي على الأرض: الحمد لله.

ظل الثلاثة على الشاطئ فترة قصيرة حتى أصبح «عاطف» قادرًا على السير … ثم أخذوا يصعدون المنحدر إلى الكورنيش … ولم يكن هناك إلا سيارات مسرعة؛ فقد كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل.

قال: «محب»: ماذا نفعل الآن؟

تختخ: ليس أمامنا إلَّا الجري.

محب: ولكن «عاطف» لا يستطيع أن يجري.

تختخ: لو وجدنا تاكسيًا لكان ذلك أفضل حل.

قال «عاطف» في صوتٍ ضعيف: اتركاني هنا، واذهبا أنتما لتَلحقا بالعصابة. إنها فرصتنا للقبض عليهم.

تختخ: ليست العصابة مهمَّة الآن … المهم أن نصل إلى المنزل سريعًا.

في هذه اللحظة سمعوا صوت عربة «كارو» تسير مقتربةً … ثم ظهرت في الشارع … عربةٌ صغيرةٌ فارغة يجرها حمار … وكان صاحبها نائمًا على طرفها وقد ترك الحمار يعرف طريقه.

قال «تختخ»: هذه فرصةٌ ذهبيةٌ … علينا أن نقفز إلى العربة بدون أن نُوقظَ صاحبها …

واقترب الثلاثة من العربة في هدوءٍ … وساعد «محب» و«تختخ» «عاطف» في القفز، ثم قفز «محب» وجاء دور «تختخ» … فأخذ يُحاول بضع مرات … وأخيرًا تمكن من القفز واستقرَّ الثلاثة على العربة … والحمار يسير، والرجل نائم …

كانت هناك قطعة كبيرة من الخيش مما يُستعمل في تغطية الفاكهة … فلم يتردَّد «تختخ» في جذبها هامسًا: سنتغطى بها حتى لا نلفت إلينا الأنظار، ونحن هكذا …

وتغطَّى الثلاثة بقطعة الخيش الكبيرة، وظلت العربة سائرةً … وأقدام الحمار تدقُّ الأرض بطريقةٍ منتظمةٍ … واقتربوا أخيرًا من المساكن … وبدأ عدد المارَّة يزيد … والسيارات تُحدث ضجيجها المألوف، وكان عليهم أن يجدوا وسيلة للعودة إلى المنازل … وفجأة حدث شيءٌ مضحك … مصادفة عجيبة … فقد توقَّف الحمار … وسمعوا صوتًا يتحدث إلى صاحب العربة النائم … كان صوتًا يَعرفونه جيدًا … وكان يصيح في غضبٍ: هل تنام وتترك الحمار يمشي وحده لتسبب الحوادث ووجع الدماغ؟!

كان صوت الشاويش «فرقع»، واستيقظ «العربجي» مُنزعجًا قائلًا: آسف يا شاويش … إنني متعبٌ من العمل طول النهار.

الشاويش: هذه حجتك كل مرة … ألم أنبهك من قبل!

العربجي: آسفٌ يا شاويش …

الشاويش: وما هذا الذي تَحملُه على عربتك؟

ومدَّ الشاويش يده، ورفع قطعة الخيش … وصرخ في فزع عندما شاهد الأصدقاء الثلاثة ينظرون إليه وهم عرايا إلَّا من قطعة واحدة من ملابسهم الداخلية … وانتهز الثلاثة فرصة فزع الشاويش ودهشتَه وقفزوا معًا من العربة، وولَّوا هارِبين، واختفوا في الظلام.

كان «عاطف» قد استردَّ قوته، فلم يكفُّوا عن الجري حتى وصلوا إلى منزل «تختخ» الذي كان أقرب منازلهم … لكن «تختخ» تذكَّر فجأة أنه نسيَ المفتاح في ملابسه … وهكذا اتجهوا إلى منزل «محب»، وكانت «نوسة» ما زالت مستيقظة وحدها، في انتظار عودة شقيقها … فلم تكد تسمع صيحة «البومة» وهي الإشارة المتَّفق عليها بينهم حتى أسرعت تفتح باب الفيلا … وكم كانت دهشتها عندما وجدت الثلاثة يدخلون بملابسهم الداخلية … وقد بدا عليهم التعب والإجهاد!

وأسرعت «نوسة» تحضر لهم بعض الملابس، ولكن «تختخ» السمين لم يجد قطعة ملابس واحدة تناسبه … وهكذا أسرعت «نوسة» تُحضر له أحد أرواب والدها، وجلس الثلاثة في المطبخ، وأخذت «نوسة» تُعدُّ لهم بعض الطعام الساخن والشاي.

قال «تختخ»: أريد التليفون بسرعة.

وأسرعت «نوسة» تُحضر التليفون، وأمسك «تختخ» به ثم طلب رقم «٧٥٥٠٠»، وهو رقم جريدة الجمهورية، كان يريد التحدث مع «علاء» رئيس قسم الحوادث، ولحسنِ الحظ كان «علاء» هناك، فهو لا ينزل إلا بعد أن تصدر الجريدة.

قال «تختخ»: هل تذكر حديثنا هذا الصباح عن «القرد»؟

علاء: طبعًا!

تختخ: إنَّ «القرد» حيٌّ يُرزق!

علاء: مُستحيل!

تختخ: وهو يقوم بإحدى جرائمه في فندق «شبرد» …

علاء: أي جريمةٍ؟

تختخ: لا أدري … ولكنه ينزل هناك بشعرٍ ولحية وشارب مُستعارة!

علاء: وتحت أي اسم؟

تختخ: لا أدري!

علاء: هل تستطيع الحضور والتعرف عليه؟

تختخ: آسف جدًّا … فأنا بلا ملابس.

علاء: البَس ملابسك وتعال.

تختخ: لا أستطيع … وهي قصة طويلة سوف أرويها لك فيما بعد … ويجب أن تتصرف سريعًا، قد يرتكب جريمة ويَنصرف قبل أن تلحقوا به.

علاء: من أين تتحدث؟

تختخ: من المعادي!

وأعطاه «تختخ» رقم التليفون بعد أن وعده «علاء» بأن يتَّصل به بعد دقائق.

جلس الأصدقاء الأربعة يتحدثون في انتظار مكالمة «علاء» … فقال «محب»: ولكن كيف نُفسِّر لغز الميت الحي؟ … إنه رجلٌ مات منذ سنة، ثم ظهر في صورة التقطت هذا الأسبوع، فكيف يمكن هذا؟

تختخ: عندي فكرة عجيبة … لا أستطيع التأكد منها الآن!

عاطف: ما هي؟

تختخ: لنَفرِض أنني ذهبت إلى صحيفة، وطلبت نشر إعلان وفاة باسم إنسان ما … فهل تطلب مني الصحيفة إثبات أن هذا الإنسان تُوفيَ فعلًا؟

محب: أظن أنها لا تطلب.

تختخ: هذه هي المسألة … لقد أرسل «القرد» أحد أعوانه إلى الصحيفة، وطلب نشر إعلان عن موته باسمه الأصلي «مرزوق الإنبابي» ونشر الإعلان … وصدَّقه رجال الشرطة، دون أن يبحثُوا أصحيح هذا الخبر أم غير صحيح.

عاطف: غير معقول!

تختخ: بل معقول جدًّا، وبعدها اختفى «القرد» فترةً حتى نسيَه الناس، ثم عاد يمارس نشاطه الإجرامي من جديد، مُختفيًا في جزيرة وسط النيل مُتخفِّيًا بالشارب واللحية والشعر المُستعار.

نوسة: ولماذا ظهر في الصورة دون تنكُّرٍ؟

تختخ: مصادفة … مجرد مصادفة … إنَّ المجرم يرتكب عادةً خطأ يدلُّ عليه، وقد كان هذا خطأ «القرد». لقد تصوَّر أن الناس قد نسيت شكله وبخاصة بعد إعلان موته، ففقد حذرَه مرة واحدة … ولكنها كانت كافية ليقع.

محب: معقول فعلًا … وبخاصة إذا تذكرنا كم كان مهتمًّا بإعادة الصورة حتى إنه كان يجري وراء «لوزة» كالمجنون في شوارع المعادي.

ودقَّ جرس التليفون. وكان المتحدث هو «علاء» الذي قال: حدثت سرقة كبيرة في فندق «شبرد» فعلًا، واستطاع أحد النزلاء، وهو يشبه القرد كما وصفته، أن يسطو على غرفةٍ مجاورةٍ لغرفته التي حجزها، وأن يَسرق مبلغًا ضخمًا من النقود والمجوهرات من أميرٍ عربيٍّ كان ينزل بالفندق.

تختخ: وهل قُبض عليه؟

علاء: للأسف … استطاع الفرار قبل اكتشاف السرقة، ولا أحد يعرف طريقه.

تختخ: اطلب من رجال الشرطة النَّهرية مطاردته في جزيرة صغيرة تبعد عن المعادي جنوبًا نحو نصف ساعة بالقارب الشراعي؛ أي عشر دقائق بقاربٍ بخاريٍّ.

علاء: هل أنت متأكدٌ؟

تختخ: نعم … وعندما أراك غدًا سوف أشرح لك كيف استطاع «القرد» خداع رجال الشرطة … لقد كانت لعبةً سهلة … المهم الآن أن تقبضوا عليه.

علاء: إذا تمَّ القبض عليه فعلًا، وشرحتَ لي كيف كان ميتًا وحيًّا في الوقت نفسه فسوف أنشر صورتك وقصتك كاملة، ليعرف الناس المغامر الذي استطاع القبض على أخطر زعيم عصابة في مصر … «القرد» … أو الميت الحيُّ.

تختخ: شكرًا … ولكني أولًا لا أحب نشر صوري في الصحف، إنني مُغامرٌ مجهول يساعد العدالة … وثانيًا لم أحلَّ لغز «القرد» وحدي … ولكن بمساعدة أصدقائي … وإلى اللقاء غدًا صباحًا.

•••

في صباح اليوم التالي صدرت الجرائد تحمل نبأ القبض على «القرد» … زعيم العصابة الميت الحي … ورُويَت القصة تمامًا كما قالها «تختخ»، بعد أن اعترف «القرد» أنه نشر إعلان وفاته ليَكفَّ رجال الشرطة على مطاردته.

وفي الوقت الذي كان الناس فيه مشغولين بقصة «القرد» … كان «تختخ» مشغولًا بالبحث عن ثيابه وثياب أصدقائه على الجزيرة … حتى يجد المفتاح … ويستطيع دخول بيته مرةً أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤