الخطأ الأساسي في التفكير

التفكير عامٌّ يشملنا نحن والحيوان، ولكن الذكاء خاص يكاد يَقْتَصِر علينا؛ فإن تحرك العواطف يؤدي إلى تفكيرٍ؛ أي: إلى نشاط ذهني، حين ينزع الحيوان للبحث عن الأنثى أو الطعام، ونحن — حين نشتهي — نفكر كالحيوان، فتبعثنا العاطفة مثلًا على التفكير في الجنس الآخر.

ولكن هذا التفكير العاطفي هو أَحَطُّ أنواع التفكير عندنا، ونحن حين ننساق في عاطفة ملتهبة لا نكاد نحس أننا نفكر؛ ولذلك يُنْصَح للغاضب أن يَعُدَّ مائة قبل أن يرتئي أو يحكم؛ لأن عاطفة الغضب تتسلط على وجدانه وتعطل ذكاءه.

ولكن هذا التفكير العاطفي المعطِّل للذكاء هو التفكير العام بين جميع الناس تقريبًا، أما الوجدان الذي يؤدي إلى الذكاء بالمنطق والتبصر فقليل جدًّا؛ ومن هنا تعس الناس.

انظر إلى طبيب وَصَلَ — بعد أن وَزَنَ جسمه وقَدَّرَ حالته الصحية — إلى الرأي بأنه يجب أن يتوقى النشويات في الطعام، فهذا هو وجدانٌ؛ أي: منطق وتعَقُّلٌ ووَزْنٌ للأشياء كما هي تقريبًا في حقيقتها، ولكنه يقعد إلى المائدة فتحدث حركة انعكاسية بتحرك لعابه عند رؤية المكرونة، فتثار عاطفة الجوع فيغيب وجدانه ويهجم على المكرونة، ولكنه بعد أربع أو خمس ساعات يتذكر هذا الخطأ ويجدد العزم على تجنب النشويات.

أو انظر إلى أب يعرف قيمة الرقة والملاطفة والعدل مع الأطفال، يرى ابنه يلعب ولا يدرس، فيغضب وتُلْهَب عاطفة الغضب، فينهره ويضربه، فهو هنا أَخْمَدَ وجدانه وترك التعقل والاحتيال والروية وأحيا عاطفته.

كان سقراط يقول: «إن المعرفة تؤدي إلى الحكمة»، ولكن هذا خطأ، لأن المعرفة مع العاطفة تؤدي في أحيان كثيرة إلى الإجرام.

ولكن المعرفة مع الوجدان تؤدي إلى الحكمة.

حين نسلك سلوك العاطفة نَكُون حيواناتٍ — نرى الأشياء رؤية ذاتية كما تُصَوِّرها عاطفتنا، ونحكم ونحن منفعلون.

وحين نسلك سلوك الوجدان نكون حُكَمَاء — نرى الأشياء رؤية موضوعية كما يُصَوِّرها المنطق والواقع؛ أي: كما هي تقريبًا في الحقيقة، ونحكم ونحن متعقلون.

انظر إلى شاب ينوي الزواج ويعتمد على عاطفته الجنسية فقط، فهو هنا ليس بينه وبين الحمار أي فرق؛ إذ هو يلتفت إلى حمرة وجنتيها، أو إلى ابتسامتها، أو إلى توأمي صدرها البارزَيْن، أو إلى أن كلماتها رخيمة، أو إلى أنها تشبه أمه أيام رضاعه؛ حين كان يظن أن ليس في الدنيا أجمل من أمه، فهو هنا عاطفي، والصورة التي في ذهنه عن هذه الفتاة قد صورها هو لنفسه كما يحب أن يراها، وليس كما هي في الواقع.

وانظر إلى شاب آخر ينوي الزواج ويعتمد على وجدانه، فهو يسأل: كيف تكون هذه الفتاة حين تصير أمًّا بعد عشر سنوات؟ كيف يكون جسمها وعقلها؟ وهل هي من عائلة خالية من مرض الجسم أو العقل؟ وإذا كنْتُ أُحِبُّها الآن فهل أحبها بعد عشر سنوات؟ وهل مستواها الاجتماعي يساوي مستواي أنا؛ بحيث نشترك كلانا في القيم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟

وواضح أن العاطفي الأول يُخْفِق في زواجه، أما هذا الوجداني الثاني فإنه ينجح؛ لأنه قد صورها في ذِهْنه كما هي في الواقع تقريبًا.

وقِسْ على هذا؛ فإن أخطاء التفكير كلها تقوم على أساس واحد، وهو أننا نعتمد في تصرفنا على عواطفنا بدلًا من الاعتماد على وجداننا، وإذا كانت كلمة «كلها» قد بُولِغَ فيها فنقول: إن ٩٩ في المائة من أخطاء التفكير تعود إلى الاعتماد على العاطفة دون الوجدان؛ أي: الاعتماد على السلوك الحيواني بدلًا من السلوك الإنساني.

هذه العواطف (= غرائز ملتهبة) قد ورِثْناها عن الحيوان كما ورِثْنا اللحية، ولكننا نتخلص من اللحية بالموسى، أما العواطف فيَشُقُّ علينا التخلص منها، وكما كانت اللحية تنفعنا وتخدمنا أيام الغابة ومصارعة الوحوش؛ لأنها كانت تحيط بالوجه كالهالة فيبدو مخيفًا كما لو كان وجْهَ أسد؛ فإن العواطف كانت أيضًا تنفعنا وتخدمنا أيام الغابة؛ لأننا كنا نصل بها إلى قرار حاسم عاجل لمواجهة العدو أو الصديق.

العاطفة تفكير الارتجال والبديهة: التفكير الذاتي الأحمق: تفكير الثلاموس.

والوجدان تفكير الروية والمنطق: التفكير الموضوعي الذكي: تفكير اللحاء المخي.

والآن بعد أن أكدنا ضرر العاطفة بالتفكير نقول: إن موت العواطف أو انخفاض رنينها إلى ما يقارب الموت في النفس كما يحدث في الشيخوخة يؤدي إلى انخفاض الوجدان والذكاء، بل أكثر من هذا؛ فإننا نرى أنه عندما تتغلب عاطفة واحدة وتلغى سائر العواطف كما في الجنون ينخفض الوجدان أو يزول؛ أي: لا نجد في هذه الحال ذكاء.

وهذا يجعلنا نرجع إلى ما سبق أن ذكرناه، وهو أن الوجدان يعود إلى جملة عواطف مختلفة أو متناقضة، يؤدي اختلافها أو تناقضها إلى وقفة التردد، التي تجعل المتردد يُحِسُّ أنه يفكر وأنه حر يختار من بين عواطفه أو يؤلف بينها، ولكن هذا التفسير لا يكفي، وكذلك لا يكفي أن يقال — كما هو رأي السلوكيين والبافلوفيين: إنه ثمرة الانعكاسات المكيفة؛ لأن الوجدان أكبر من هذا وذاك، وليس شك أن بذرة الوجدان في الانعكاسات والعواطف، ولكن الوجدان شجرة وليس بذرة فقط، ولِمَ لا نجرؤ ونقول: إنه اختراع جديد في الحياة، أو حاسة جديدة لفهم الدنيا فهمًا موضوعيًّا؟

والخلاصة؛ أن الخطأ الأساسي في التفكير هو الاعتماد على العاطفة دون الوجدان في تصرُّفنا، وهناك أخطاء أخرى سوف نعالجها عندما نتحدث عن التفكير الناجح وعوائقه.

وقبل أن نترك هذا الفصلَ يجب أن نَذْكُرَ أن القوانين تَعْتَرف بالفرق بين جريمة العاطفة Crime Passionnel وبين جريمة الوجدان. الأولى تقع مفاجئة نتيجة الغضب أو الغيرة مثلًا وعُقُوبَتُها خفيفة، والثانية تحتاج إلى «سبق الإصرار» أي: الروية والتأمل، وعقوبتها خطيرة.

ونحن نمزج في سلوكنا بين الوجدان والعاطفة، وليس فينا الوجداني الخالص أو العاطفي الخالص، ولو وُجِدَا لكان الأولُ أعْظَمَ الفلاسفة، ولكان الثاني أعْظَمَ المجانين، ولكن على قَدْر بُعْدنا من العاطفة نُوصَف بأننا عقلاء.

وفي سلوكنا نعتمد إما على المنطق الوجداني وإما على العقيدة العاطفية، وكثيرًا ما نلاحظ أن المؤمن بعقيدة مُعَيَّنَة يَكْرَه المنطق كأنه يحب أن ينخدع، كما يحدث للرجل يتعلق بحبيبته ولا يطيق أن يسمع عنها خبرًا يُشَكِّكه في أمانتها؛ ومن هنا تعلق الناس بالعقائد والتقاليد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤