اللغة والتفكير

يقول واطسون زعيم السلوكيين: إن التفكير هو كلمات غير منطوقة، كما أن الكلام هو تفكير منطوق، وإذا لم يكن هذا القول صحيحًا مائة في المائة فإن مما يُسَلِّم به كلٌّ منا أن التفكير بلا لغة يكاد يكون معدومًا، أو هو لا يزيد على درجة الأحلام في النوم؛ إذ لا بد للمعنى من علامة تربطه في أذهاننا، وقد تكون هذه العلامة إشارة باليد أو حركة في الحاجبين أو الشفتين، وليست الكلمات سوى علامات أيضًا؛ أي: رموز تربط المعاني في أذهاننا، وكثير من امتيازنا على القردة العليا يعود إلى اللغة، ولو كانت هذه القردة تستطيع التعبير بنحو ٣٠٠ أو ٥٠٠ كلمة فقط عن تفكيرها، لكانت لها ثقافة تورث وتتجمع وتتيح إيجاد حضارة ما، ولكن خَرَسُها يجعل مجهود كل فرد منها مقصورًا عليه، فلا ينتقل تفكيره إلى ذريته، ولا يستطيع النابغة أن يعمم فكرة حسنة بين قبيلته، وقد ظَهَرَ الإنسان النياندرتالي وكان دماغه من دماغنا، ولكنا تغلبنا عليه وأبدناه، ولا نكاد نعرف سببًا لهذا إلا أننا كنا ناطقين وكان هو أخرس.

للحيوان صوت ولكن لنا نحن لغة؛ فإذا وَقَعْنا كِلانا في ورطة عَمَدَ هو إلى الصراخ الذاتي الانفعالي وعَمَدْنا نحن إلى النداء الوجداني الموضوعي، والدنيا مُصَوَّرة في ذهنه تصويرًا ذاتيًّا؛ أي: كما يحسها بعواطفه، والدنيا مصوَّرة في ذهننا تصويرًا موضوعيًّا؛ أي: كما يرتبها وجداننا، وفضل كبير من هذا التصوير عندنا يرجع إلى اللغة.

اللغة جعلت الزمن تاريخيًّا والمكان جغرافيًّا، فأنا لا أعيش هذا اليوم فقط، بل أنظر إلى الماضي بعين تاريخية، قد تمتد إلى عشرة آلاف سنة، بل وألف مليون سنة، كما أنظر بعقل مستقبلي مثل هذا الزمن، والفضل لهذا الوجدان يعود إلى اللغة التي اتسعت بها آفاق تفكيرنا بأن زادَتْ ذاكرَتَنا وفسحَتْ خيالَنا.

حاول أيها القارئ أن تتخيل فَهْم هذه المعاني، مع الفرض بأنك وُلِدْتَ أَخْرَسَ وعِشْتَ بين خُرْسٍ ليس لهم لغة:
  • (١)

    بعد خمسة أيام من الآن.

  • (٢)

    على بعد ٣٥ كيلومترًا من هنا.

  • (٣)

    هذا الرجل يكذب كثيرًا ولكن أكاذيبه بيضاء.

  • (٤)

    لون الحائط أحمر يضرب إلى الصفرة.

ويجب ألا تفرض أنك أخرس تعيش بين ناطقين؛ لأنك في هذه الحال تسمع الكلمات وتعرف أنها رموز لهذه المعاني، ولكن افْرِضْ أنك أخرس بين خُرْس لم تسمع قَطُّ كلمة ولم تنطق بها، ففي هذه الحال يستحيل عليك تخيل هذه المعاني؛ ومن هنا نعرف أن اللغة إذا لم تكن هي التفكير نفسه فهي التي تربط معانينا وتسهل تفكيرنا، وهي التي جعلت الوجدان مستَطاعًا إلى أقصى حدوده الحاضرة في أذهاننا.

و٩٩٩ في الألف من تفكيرنا؛ أي: من نشاطنا الذهني هو ثقافة موروثة؛ أي: كلمات موروثة. ونحن إزاء المجتمع كالطفل إزاء عائلته، ينشأ رضيعًا فيها، ويتعلم منها كلماتها ويتعود عاداتها الذهنية والنفسية من أفرادها، وهو أيضًا يعطيها كلمات طفلية، ولكن ما يأخذه من عائلته يزيد أَلْفَ ضِعْف على ما يعطيها من كلمات الطفولة، وهذا شأننا أيضًا في المجتمع، قَدْ يعطيه أَحَدُنا كلمة هي ثمرة تفكيره الخاص ولكنه يأخذ من هذا المجتمع نَحْو عشرين ألف كلمة؛ أي: عشرين ألف معنًى.

وهنا أرجو القارئ أن يقرأ كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية»، فقد أَوْرَدْتُ هناك قصة فتاتين خطفتهما ذئبة، ولكن بدلًا من أن تتحرك في الذئبة عاطفة الجوع فتأكلهما، تَحَرَّكَتْ عاطفة الأمومة فأرضعتهما، فنشأت كلتاهما خرساء، وسلكتا سلوك الذئاب. حتى المشي على الساقين لم تعرفاه، وبعد أن قُبِضَ عليهما بقيتا سنوات قبل أن تَتَعَلَّما السلوك البشري بالكلمات البشرية، فكانت كل كلمة رمزًا لسلوك معين.

ومن هنا ندرك أنه ليس تفكيرنا فقط قائمًا على الرموز اللغوية (الكلمات) التي تُحَدِّد وتعيِّن المعاني، بل أيضًا سلوكنا الاجتماعي؛ لأن الكلمات التي تتكرر لنا تُعَيِّن لنا اتجاهات نفسية يتقرر بها سلوكنا.

ومع كل هذا الذي قلنا ليست اللغات كاملة؛ فإن نقائصها — بل رذائلها — كثيرة، وليس هذا عجيبًا؛ لأننا ما زلنا في القرون الأولى لاختراعها؛ فهناك مثلًا الكلمات الوجدانية الموضوعية، وهناك الكلمات العاطفية الذاتية؛ فإن الأولى نتفق عليها ونفهمها، والثانية نختلف فيها ولا ندري المقصود منها، انظر إلى المتنبي:

ومَنْ يَكُ ذا فَمٍ مُرٍّ مَرِيضٍ
يَجِدْ مرًّا به الماءَ الزُّلَالَا

فالمرارة هنا تعود إلى الحال الانفعالية في شارب الماء؛ فإذا كان أَحَدُنا سليمًا وَجَدَ الماء الزلال زلالًا، ولكنه إذا كان مريضًا صار هذا الماء مُرًّا مع أنه ليست به مرارة، وإنما علة المرارة هنا صحته السيئة.

فالكلمات إما موضوعية تُعَيِّن لنا شيئًا ليست له بعواطفنا علاقة، مثل: كرسي وسحاب وخمسة وشارع وحمار، وإما ذاتية نحكم عليها بعواطفنا، مثل: جميل وقبيح وشريف وشجاع ومتهور وعاقل؛ فإن كلًّا منا يختلف مع الآخر في معاني هذه الكلمات.

والكلمات هي — بعد كل هذا — رموز، كما أن النقود رموز للقوة الشرائية، وكما تكون النقود سوية أو ممسوحة أو زائفة كذلك تكون الكلمات، وكثير من الالتباس يعود إلى بعض الكلمات قد انمحت معانيها بالتقادم؛ لأنها نشأت في مناخ ثقافي قد بَادَ، ونحن نُحِسُّ هذا عندما نقرأ كتابًا قديمًا مضى عليه ألف سنة مثلًا، وكثير من الكلمات زائف كما نرى في عصابة اللصوص حين تَصِفُ أحد أفرادها بأنه «شهم»، والشهامة هنا معناها أنه فاتِكٌ، وعندما تجد اثنين يختلفان في جدال عن الخلق والتطور، أو عن الاشتراكية والمباراة، أو عن العلم والدين، فإنك موقن بعد التأمل أن كثيرًا من الخلاف يرجع إلى كلمات ذاتية لا يتفقون على معانيها؛ حتى إنك لتجد أحدهم يسأل: ماذا تَقْصِد بالمساواة؟ أو ماذا تَعْنِي بالقوة؟ وغير ذلك.

ومهمة العلوم أن تنقل المعاني من الذاتية إلى الموضوعية؛ فإن السيكلوجية عَلَّمَتْنا مثلًا أن نقول: إن درجة الذكاء في هذا الصبي ١١٨؛ أي: عدد معين نتفق عليه كلنا بعد امتحان، بدلًا من أن يقول أحدنا: إنه ذكي أو متوسط الذكاء أو ناقص، وهو يعتمد في ذلك على عاطفته نحوه، وكذلك المعاني: حَرٌّ وبرد، وثقيل وخفيف، وسريع وبطيء، وسمين ونحيف؛ فإنها جميعها مما نختلف بشأنها باختلاف نظرتنا الذاتية، ولكن العلم ينقلها من الذاتية إلى الموضوعية بالأرقام.

وكثير من الكلمات يُحَرِّك انفعالاتنا كما لو كنا نهتز بمسة كهربائية؛ فإن كلمة «مروءة» تحرك وجداننا إلى الخير، وكلمة «عِرْض» أو «دم» عند الصعايدة في قنا وجرجا تحرك العواطف إلى القتل.

وإذا شئنا أن نفاضل بين لغة وأخرى، فإن قياس المفاضلة يَتَّخذ أساليب مختلفة، فنستطيع أن نقول مثلًا: هل هذه اللغة علمية موضوعية أم أدبية ذاتية، أو هل الكلمات الذاتية كثيرة والكلمات الموضوعية قليلة بحيث يصير تفكير المتكلم عاطفيًّا بدلًا من أن يكون وجدانيًّا؟ وبكلمة أخرى:

هل اللغة في أكثرها وجدانية أم عاطفية، وهل البلاغة التي يَتَّبِع أساليبها الكُتَّاب بلاغة العاطفة أم بلاغة الوجدان؟

وكثير من الضرر ينشأ من التعبير العاطفي في مناقشات السياسة والاجتماع والدين، والمُفَكِّر الحسن يحاول أن يتجنب الكلمات العاطفية الذاتية، ويستعمل بدلًا منها الكلمات الوجدانية الموضوعية، ولكن ليس هذا مستطاعًا على الدوام؛ لأن الكاتب مقيَّد بالكلمات.

وكي يُدْرك القارئ، تأثير اللغة في السلوك الشخصي والتفكير النفسي والذهني، يجب أن يذكر كلمات: عفريت وبعبع وأبو رجل مسلوخة والقطة السوداء، في سلوك الطفل الذي يخاف الظلام لأثر هذه الكلمات، وهو حتى عندما يبلغ الخمسين والستين من العمر سيخشى الظلام أيضًا، ولو أنه لا يؤمن بالعفاريت وغيرها، لا، بل أكثر من ذلك؛ فإن كثيرًا من البحث عن الأرواح يعود إلى هذه الكلمات التي تعلمناها في الطفولة، بل إني أعتقد أن الإيمان بالأرواح عند الكبار هو استمرار للإيمان بالعفاريت عند الأطفال.

وللكلمات: مروءة ووطنية وعِرْض وبِر وشرف وشهامة وثأر ورشاقة وغيرها أَثَرٌ في نفوسنا يُعَيِّن سلوكنا الاجتماعي للخير أو للشر، كما يتعين سلوك الطفل في الظلام بكلمة عفريت وغيرها.

فالإنسان حيوان لغوي، وعلى قَدْر ارتقاء لغته بالكلمات الموضوعية الوجدانية يكون ارتقاء تفكيره، وأيضًا ارتقاء سلوكه الاجتماعي، وإلى حد ما وفي ظروف معينة يصح أن تكون اللغة مقياسًا للذكاء، بل أيضًا قد تكون الكلمات سببًا لأمراض نفسية؛ لأن بها شحنات عاطفية قوية تسري كالسم في النفْس، والمتعصب الذي يقتل من يخالفه مثلًا في الدين إنما يقتله من أجل كلمات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤