مقدمة

قدَّر أحد ثقات المؤلفين عدد الكتب التي لا بد منها لإمكان معرفة سيرة نابليون وأخلاقه وطباعه معرفة وسطى بمائة كتاب، وليس يخفى أنه لا يستطيع قراءة هذه الكتب كلها إلا الأقلون منَّا؛ لذلك كانت الحاجة ماسة إلى مثل هذا الكتاب الصغير الذي يمثِّل لك الإمبراطور مفصحًا عن نفسه

لقد بدا لي أثناء مطالعتي ما أُلِّف عن عهد نابليون أن أكثر الكتَّاب أحد رجلين؛ رجل يحكم لنابليون وآخر عليه، فهم لا يجلسون مجلس القضاء يجمعون ما تصل إليه أيديهم من غير تحامل، ولا هم يسيرون في الأمر وسطًا. ترى الدكتور «هولدروز» الذي نال كتابه ما نال من الشهرة العظيمة لم يأتِ ببرهان واحد على رأيه في نابليون وقدحه فيه، وترى كتاب المستر «لامفري» على بهجته مكتوبًا بقلم كأنه غُمس في حبر من نار، حتى لا أظن أنه قد وُضع كتاب فى هجو نابليون أشنع من هذا الكتاب. ثم إذا اطلعت على مؤلَّف «أبوت» المشهور وجدتَ خلاف ذلك على خط مستقيم؛ فهو إنما يريدنا على أن نعتقد أن بطل كتابه إنما كان قديسًا، ولكنه الرجل الذي أساء الناس فهمهم فيه مع أنه أعظم الناس طرًّا؛ هنالك يجعل الكاتب مكان الوقف من الجملة قوله (ليحي الإمبراطور)، وينقط كل حرف منقوط بدمعة من عينيه.

إنما ذكرت كتاب «أبوت» في هذا المقام لأنه معروف على جانبي المحيط الأطلسي، ومن الناس من يراه أول ما يجب أن يُقرأ من الكتب إذا أريد درس حياة ذلك الكورسيكي العظيم.

كان نابليون يقول شيئًا ويفعل شيئًا آخر؛ لأنه كان يرى السياسة في تلك الخطة، وعنده أن الثبات إنما هو من خصائص أهل الوسط، وكان في الحرب يرى الرجال حوله يسقطون على الأرض فلا تبدو على شفتيه هزة ولكن إذا انجلت الموقعة كان الجرحى أول من يعنيه أمرهم. ولا شك أن رجلًا كهذا إنما يجمع بين الوحش والإنسان في أديم واحد؛ قال «جورجود»: لم يكن النصر ينسيه أولئك الجرحى.

داس حصان جريحًا لا تزال فيه آثار الحياة، فاعتذر صاحبه بقوله إن الجريح كان من جيش العدو الروسي، فقال نابليون: «ليس بعد النصر أعداء، بل رجال!»

هذه صورة نابليون فى دخيلة نفسه مكشوفة للناس، وهو غرض هذا الكتاب؛ فموضوعه إذًا الإبانة عن هذه الشخصية المركبة.

كان نابليون لا يهتم بعشرة النساء ولا مجالستهن إلا قليلًا، على أن ميله وحبه العظيم لأفراد أهل بيته منهن يدلان على أنه لم يكن مجردًا من عاطفة الحب الإنساني؛ فإنه كان يحترم مدام «مير» و«جوزفين» عظيم الاحترام، على أنه لم يكن لهما شأن في السياسة، كما أنهما كانتا على طبائع مختلفة اختلافًا كبيرًا.

كانت «ليتيتيا بونابارت» امرأة عملية تعد أكثر أهل جنسها اقتصادًا، وكان نابليون يشكو من حطة ما في ردهتها من الأثاث، أما «جوزفين» فكانت مسرفة كثيرة الدين، وما كان يحلو لها وقتٌ من الأوقات إلا ليلة تشرق بجمالها فى عرصات القصر الإمبراطوري.

و«ماري لويز» أنالته بغية قلبه، وهو الولد الذي رزق به منها.

سألته مدام «دوستيل» يومًا: أي النساء أعظم؟ قال: تلك التي ولدت أكثر عدد من الأطفال. وفي ذلك دليل على أنه كان يرى المرأة نافعة على العموم؛ لأن الأولاد عنده إنما هم في الحقيقة جنود معدودون.

ذلك شأن من عاشرنه من أهل بيته، وكان غيرهن من النساء ألعوبة له في بعض ساعات الفراغ، على أنه لم يكن يهتم بأمرهن إلا قليلًا، ولا يفكر فيهن إلا نادرًا، ما عدا الكونتس «والوسكا» البولاندية الحسناء؛ فإنها نالت حظوة لديه لم تنلها سواها. من ذلك نستدل على أن نابليون لم يكن يجفو النساء أو يزدري بهن، بل كان له على العموم عناية بهن.

كان نابليون أسيرًا فى سنت هيلانة، وكان لديه من الوقت متسع عظيم للتفكير، يشهد بذلك ما أبرزه «لاكاس» و«منتولون» و«جورجورد» وغيرهم. كان ينسى السياسة وذكرى الحروب، ويكشف عن سريرته في أقواله وأحاديثه، فيلقي على من كانوا حوله من رفقته المخلصين آراءه في الدين والسياسة، وما كان يتوقعه في مستقبل حكمه لو دام. قال أحد الكتاب منهم: «هنالك رأينا اللين يغشى قلبه، ورأينا تلك الأسوار الحديدية التي نصبها الطمع على فؤاده قد ذابت وتطايرت حتى بدا لنا قلبه كله.»

إن هذا الكتاب الذي نسميه «كلمات نابليون» مجموعة مقتبسات من كتب عدة اطلعتُ عليها، وقد وضعتُها كذلك لعلمي أن صورة نابليون الباطنة قد فات كثيرًا من الكتاب الذين هم أقدر مني أن يعنوا بها، ولكني قد محَّصت الأمر واستخرجت قمحه من عصافته، وأسقطتُ ما جاء به غير الثقات من الكتَّاب، فإذا استطلعها القارئ اتضح له من أمر نابليون ظاهره وباطنه ما لا يجده إلا في عديد من الكتب. ا.ﻫ.

•••

هذه مقدمة جامع الكتاب، ولقد كان في نيتي أن أقف عند هذا الحد، ولكني رأيت أن أضيف إليها سيرة نابليون التاريخية معتمدًا في ذلك على ما ورد في كتاب (حوادث التاريخ العظمى) الذي وضعه لطلبة المدارس الثانوية في إنجلترا ذلك المؤرخ المشهور والكاتب الفصيح الدكتور «كولير»؛ حتى يطلع القارئ على ظاهر الرجل وباطنه. ولمَّا كان لأكثر ما جاء في هذه الكلمات علاقة تامة بهذا التاريخ، بل لا يمكن الذي لا يعرف من سيرة نابليون إلا النذر أن يتفهم حقيقة معنى هذه الكلمات، فقد وجب أن نأتي بهذا التاريخ مقدمة لهذه الكلمات، فعسى أن يكون في تمثيله للناس على هذا المنحى الفائدة التي أرجوها.

وردت هذه الكلمات في النسخة الإنكليزية معزوَّة إلى المورد الذي أخذت منه، ومذكورًا تحت كل منها رقم الصفحة التي جاءت فيه من كل كتاب، وهذه ضربت عنها صفحًا، ولكني رأيت أن آتي بأسماء مؤلفي هذه الكتب وعنواناتها في آخر هذا الكتاب حتى لا تفوتنا الفائدة التي أرادها الجامع.

إبراهيم رمزي
مصر في ١٠ أبريل سنة ١٩١٢

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤