الفصل السادس

سياسيات

«الحكومة! قد كنت أنا الحكومة.»

«من ذا يتبوأ مكان الله في الأرض إلا الشارعون!»

وقال في خطاب ألقاه على حكومة المديرين بعد عودته من الحملة الإيطالية سنة ١٧٩٧:

«لكي يمكن الحصول على دستور مؤسس على قواعد العقل يجب أن تمحى اعتسافات ثمانية عشر قرنًا سلفت.»

«لا تُخطَّى العقبات ولا تُبلغ الغايات، إلا بالعقل والحكمة وحصافة الرأي.»

«إن السياسة الحكمية هي في الاعتماد على التدبير والحكمة في معالجة الأمور، فإن نحن جعلناها أساسًا لأعمالنا حفظنا لأنفسنا لقب «الأمة العظيمة» الذي استبحناه، ولبقي لنا مجلس الحكم في أوربا.»

«كان كل همي أن أحقق مبدئي وهو: «كل شيء للشعب الفرنسي».»

«كل ما أريده، وما أرغب فيه، وما أشتهيه، وكل جهدي، هو في أن يبقى اسمي مقترنًا باسم فرنسا.»

«لا ينبغي أن تحكم الظروف السياسية، بل يجدر أن تحكم السياسة هذه الظروف.»

«يجب أن يكون نظام الحكومة طبقًا لروح الأمة.»

«تُسيَّر الحكومات بالحكمة والسياسة لا بالضعف ولا الخشونة.»

«إن أخذ الأمر بالوسيلة الناقضة مفسد هذا الأمر وجاعل الغلبة على العدو مستحيلة. إن السياسة والشعور لا يتفقان.»

«يجب أن تكون شريعة الحكومة وعملها سواء مع الناس جميعًا، ويجب أن تمنح الرتب والألقاب لمن كان في أعين الناس جميعًا مستحقًّا لهذه الألقاب.»

«إن سياستي هي في أن أحكم الرجال كما يحب أكثر هؤلاء أن يحكموا.»

«لا ينبغي لأمة أن تفعل شيئًا ينافي شرعُهُ الفضيلة؛ فإنها إذا لم تفعل ذلك كانت جديرة أن تفنى.»

«طبقة الأرستوقراطية أو الأشراف هي عماد الملوكية، والحكومة بغيرها كالسفينة بلا دفة، أو كالمنطاد في الهواء. على أن الأرستوقراطية الحقيقية هي ما كان فرعها قديمًا؛ فإن لها من هذا القِدَم قوة وسحرًا، وذلك ما لم أستطع أن أحدثه في فرنسا. أما الديموقراطية الصحيحة فلن تستطيع أن تطمع إلى شيء فوق البلوغ إلى المعالي أسوة بسواها، والسياسة الحكيمة في هذا الزمان إنما هي في استخدام بقايا الأرستوقراطية باسم الديموقراطية وروحها. على أنه كان ضروريًّا أن نستفيد من الأسماء التاريخية القديمة. هذا هو السبيل الوحيدة التي استطعنا بها أن نرمي نور القديم على الجديد.

إن فكرتي في هذا الصدد كانت قد تأسست، ولكن لم يكن عندي متسع من الوقت لإبرازها؛ كانت هكذا: كل من جاء من نسل مارشال أو وزير له حق أن تسميه الحكومة «دوق» إذا أثبت أنه يمتلك الثروة الواجبة، وكل من كان من نسل قائد أو مدير من حكام الإقليم يسمى «كونت» إذا أثبت هذا أيضًا أنه ذو ثروة مناسبة.

لقد كانت هذه الطريقة ترقِّي فريقًا من الناس وتحيي آمال فريق وتُحدِث التباري بين الناس دون أن يكون من ورائها مضرَّة لأحد.»

«الأمم القديمة المفسدة لا يمكن أن تحكم بنفس المبادئ التي تحكم بها أمة طاهرة ذات فضيلة، فإذا وُجد من يضحي بنفسه في هذه الأيام في سبيل المصلحة العامة وجد ألوف وملايين لا تحكمهم إلا مصالحهم الخاصة وصلفهم ومسرَّاتهم، وعندي أن محاولة إصلاح مثل هذه الأمة في يوم واحد ضرب من ضروب الجنون. وحقيقة ذكاء العامل تنحصر في استعمال المواد التي بين أيديه استعمالًا يُخرِجها به إلى المنفعة الحقيقية، ويستخرج به الخير من العناصر، وإن بدت في أول أمرها دون ما يستطيع. هنا سر خلق الألقاب والأوسمة. على أن هذه اللعب يصحبها في العادة قليل من النَّصَب، ولكنها مفيدة على كل حال؛ فهي في الحالة المدنية التي نحن فيها إنما تستدعي احترام الجمهور، كما أنها في ذاتها تُحدِث في صاحبها نوعًا من الاحترام الذاتي. إن هذه الأوسمة والرتب ترضي الضعيف في صلفه دون أن يتأذى منها القوي.»

«كيف يدَّعي إنسان أن هذه الأسماء الفارغة والألقاب التي تُعطى خدمةً لمبدأ سياسي تغيِّرُ من علاقة الشخص بأحد أقاربه أو أصحابه؟!»

«لم يبقَ ممن يفعل الخير ويؤدي واجبه إلا جنودي المساكين وضباطهم الذين ليسوا من الأمراء ولا الدوقات ولا الكونتات. إنه قول مر ولكنه صدق. أَبْعِدوا عني أولئك السادة الأشراف، أشراف إلى فراشهم ينامون عليها وإلى قصورهم يمرحون فيها؛ فإني سئمتهم ووجب الخلاص منهم. إني أريد أن أبتدئ الحرب من جديد بفتية ملأ الشباب قلوبهم بأسًا وأفئدتهم شجاعة.»

(١) فوز المدنية

«الرذيلة فردية دائمًا، ولا تكون في المجموع إلا نادرًا. انظر إلى يوسف وإخوته، فإنهم لم يستطيعوا جمع أمرهم على أن يقتلوه. وانظر إلى «جودا» المرائي الشرير، فقد خان سيده. قال أحد الفلاسفة إن الإنسان وُلد شريرًا. وعندي أنه يصعب على المرء أن يحاول التثبت من صحة هذا القول، ولكن لا شك في أن أكثر أفراد المجتمع ليسوا أشرارًا؛ لأنه إذا كانت الأغلبية منهم من الجناه الذين لا يرعون حرمة القوانين لم يبقَ من الناس من له القوة على ردعهم. وفي ذلك نصرة المدنية؛ لأن هذه النتيجة المرضية لم تنشأ إلا في تربتها، ولم تتربَّ إلا على فضلها.»

«العاطفة — إن حقَّقت — أمرٌ وراثيٌّ، وإنما نتبينها لأننا رأيناها فيمن تقدمونا، وكذلك ينشأ العقل الإنساني وتنمو المدارك. وفيها مفتاح هذا النظام الاجتماعي وسر الشارع، فأما الذين يريدون أن يحكموا الشعوب لمصلحتهم الذاتية فأولئك يعملون على أن تبقى في جهالة؛ لأنهم كلما زادوا استنارة زادوا يقينًا بفضل القوانين وضرورة المحافظة عليها، وهنالك يسير المجتمع ثابتًا سعيدًا. هذا ولن يكون العلم في الجماعة خطرًا إلا إذا كانت الحكومة معارضة للشعب ومصلحته. فهي بذلك تدفعهم إلى تلبُّس حالة ليست طبيعية أو تقضي للطبقات السفلى بالفناء من الحاجة. هنا يدعو العلم ذلك الشعب إلى الدفاع عن نفسه أو يسوقه إلى اقتراف الجناية.»

«مصر هي البلد التي يظهر للناس أنها صاحبة أقدم مدنية، على أن الغال وألمانيا وإيطاليا ليست بعيدة عنها في ذلك بُعدًا كبيرًا، وأظن أن الجنس البشري جاء من الهند والصين التي كان فيها من البشر ما لا يُعدُّ، لا مصر التي لم يكن فيها إلا بضعة آلاف من السكان. كل ذلك يقودني إلى الظن بأن العالم ليس قديمًا جدًّا إذا نحن نظرنا إلى التاريخ الذي بدأ فيه ظهور الإنسان في العالم، بل أرى أن عمر العالم الإنساني لا يزيد عما جاء في الكتب المقدسة إلا ألفًا أو ألفين من السنين.

إني أرى أن الإنسان إنما نشأ من تأثير حرارة الشمس في طين الأرض. قال هيرودوتس إن طينة النيل في أيامه كانت تتحول إلى فيران، وإنه كان يمكن رؤية هذه الفيران في دور التكوين.»

«من مَلَكَ مصر مَلَكَ الهند.»

(٢) قانون نابليون

«لقد كان القانون الذي وضعته خيرًا لفرنسا من مجموعة القوانين التي سبقته؛ وذلك نظرًا لما ركب عليه من السهولة. إن مدارسي ونظام التعليم الذي وضعته آخذة في تهيئة نشأة جديدة لم تبصرها العين بعد.»

«إن الحصافة وحسن التدبير في السياسة خير من الخديعة. أجل، فإن الدولاب الذي كان يديره سواس العهد الماضي قد أصبح لا يليق بهذا الزمان. على أني لا أدري لماذا نرجع إلى الخديعة إذا كان في استطاعة الإنسان أن يتكلم بصراحة وجدٍّ! إن الرياء والمداجاة من دلائل الضعف.»

(٣) التربية

«إني أريد فئة من المعلمين ذات كيان خاص؛ لأن هذه الفئة لا تموت حتى تنقل إلى غيرها نظامها وروحها، أريد فئة يكون تدريسها أبعد من أن يتأثر بالظروف وما قد يكون فيها من مذاهب سخيفة، فئة تسير إلى غرضها ساهرة وإن نامت الحكومة، تتأصل مبادئها ونظامها فيها حتى تصبح أهلية ثابتة لا يستطيع أحد أن يمسها … لا يمكن أن تكون السياسة ثابتة ما لم يكن التعليم ثابت المبدأ؛ فإنه ما دام الناس لا يعرفون ما إذا كان لا بد لهم أن ينشأوا جمهوريين أو كاثوليكيين أو ملحدين فلن تستطيع الحكومة أن توجد أمة، بل يظل عرشها على أساس غير مأمون الدعامة عرضة للفوضى واختلال النظام.»

«مما يحزن له في هذا البلد أن الشاب الذي يريد أن يحصِّل العلم لا بد له أن يتخبَّط في الظلمات زمانًا طويلًا، ويضيع من أيامه سنوات يبحث فيها عن ضالته حتى يجد مورد العلم الحقيقي الذي ينشده … إني أريد هذه الموارد. لقد شغلتْ بالي كثيرًا؛ وذلك لأني كنت أشعر بالحاجة إليها عندما كنت أهمُّ بأمر من الأمور أو عمل من الأعمال.»

«إن النصر الحقيقي الذي لا يعقبه ندم إنما هو النصر على الجهل. كما أن أشرف منهج تنتهجه الأمم وأجدى عمل تعمله الشعوب إنما هو توسيع نطاق العقول.»

«لا يملك الناس إلا بفضل العقل وقوة الحجى.»

«لقد كان من أهم أغراضي أن أجعل العلم قريبًا من كل متناول. لقد عملت على أن لا يتأسس معهد إلا على مبدأ التعليم المجاني. وإن طلب شيء فلا يكون إلا بحيث يستطيعه الفلاح، وكانت المتاحف مفتحة الأبواب للناس جميعًا. ذلك بأن مجهوداتي كانت موجهة على الدوام إلى إنارة عقول الأمة بالعلم والعرفان لا إلى جعلها قطعانًا من البهم بإطعامهم الجهل وتربيتهم على الخرافات. لو أنني كنت أفكر في مصلحة نفسي وفي البقاء على سلطتي كما يدعون لكنت طويت العلم ودفنته في غيابة الجب، ولكني لم أفعل، ولا ينبغي لي، بل وجهت عزمتي إلى نشر العلوم، ولكن لم يقدر لشبيبة فرنسا أن تنتفع بما أردته لهم، فلقد كانت الجامعة التي أنشأتها لهم آية في النظام والتدبير، كما أن نتائجها لم تكن لتقل عن ذلك جلالًا.» (نقلًا عن كتاب أبوت).

«ما أعظم الناشئة التي تركتها من ورائي! كل ذلك من عملي، وسيكون فضل هذه الناشئة كفيلًا أن يثأر لي. مهارة العامل تبدو فيما يعمل وتنصفه عند الحكم، فأما فساد حكم المرجفين وسوء نيتهم فسيزهق وتبدو أعمالي للمبصرين. لو لم أفكر إلا في نفسي وفي حفظ سلطتي وقوتي — كما يزعمون — لكنت طويت العلم، ولكني لم أفعل ولا ينبغي لي، بل وجهت عزمتي إلى نشر العلوم، ولكن لم يقدر لشبيبة فرنسا أن تنتفع بما أردته لهم، فلقد كانت الجامعة التي أنشأتها آية في النظام والتدبير، كما أن نتائجها لم تكن لتقل عن ذلك جلالًا.» (نقلًا عن كتاب لاكاس).

(٤) دين إنجلترا الأهلي

«إن دين إنجلترا دودة ترعاها، بل هي سلسلة تلك الأغلال التي ستعوقها في سيرها؛ لأنه لا يمكنها أن تقوم بهذا العمل الثقيل حتى تستمر أثناء انفضاضها من الحروب في تناول تلك الضرايب الفادحة التي تقررها أيام الحروب، وسيقودها هذا بطبيعة الحال إلى زيادة أثمان المأكولات ودفع الناس من غير وعي إلى حالة من الشقاء مخيفة. عند ذلك يحدث أحد أمرين: إما أن تزداد أجور العمال بهذه النسبة، وعلى ذلك لا تستطيع المصنوعات الإنجليزية أن تنافس مصنوعات غيرها من الأمم في أسواق أوربا ويتبعها خسارة أصحاب المعامل أنفسهم، وإما أن تبقى أجور العمال كما هي فلا يصاب أصحاب المعامل بضرر، ولكن لا يقدر معها العمال على تحصيل حاجات العيش الضرورية. إن أول عناصر سعادة الأمة هو في وجود توازن بين مقدار الضرايب المقررة لحفظ ميزانية الحكومة وبين زيادة أجور العمل، ولكن الضرائب لسوء الحظ لا تثمر حتى تصل إلى الجماهير، ولكنها إذا كانت تؤثر في حالتهم المعيشية جلبت على الناس الشقاء والمصايب؛ لذلك يتحتم على إنجلترا أن تقاتل ذلك الوحش الضاري، دَيْنها، بكل الوسائط السلبية والإيجابية، وبإنقاص مصروفاتها وزيادة تجارتها مع العالم. وفي حالة هذا الإنقاص يجب عليها أن لا تقتصد. ثم يجب عليها أن تعجِّل بالبتر إذا أنذرت الحال بالفساد. أما مسألة المرتبات والمعاشات ومصروفات جيشها البري فيجب أن يعجل فيها بالإصلاح. إن عظمة إنجلترا السياسية هي في حربيتها وليست في تلك الجيوش البرية التي ترسلها إلى أوربا بجوار تلك الجيوش الكبيرة جيوش الروسيا والنمسا وبروسيا.

كما أنه يقتضي لها أن تعجل بإصلاح تلك المفاسد العديدة التي تلم بأملاك أهل الدين فيها، وبإصلاح حالة الفلاحين في علاقتهم مع أصحاب الأرض، وبإصلاح حالة إرلندا في علاقتها بإنجلترا ذاتها، وبإصلاح المجاميع الذين يربون على ثلث مجموع سكان إنجلترا، وتخفيف تلك الأثقال الملقاة على أعناقهم بسبب معتقدهم الديني، ثم يمنح الناس جميعًا تلك الحقوق والميزات التي منحتها للمنتخبين. إن الحالة الحاضرة ليست إلا غشًّا وتمويهًا يجعل حق انتخاب أغلبية أعضاء البرلمان في يد اللوردات والعرش، أما إرلندا فليس لها إلا خيال النيابة في البرلمان، ولكن الحقيقة أنها معتبرة مستعمرة من المستعمرات. لقد كان خيرًا لها أن تكون كذلك، فإنها كانت لا تتحمل نصيبًا من دين إنجلترا المتزايد المتصاعد، ولكنها الآن تتحمله وهي صاغرة.

إن فريق الأرستوقراطية في إنجلترا هم السادة الذين لا معقِّب لكلماتهم فيها، وهم إذا أذن في البلاد بوجوب الإصلاح ورأوا في هذا الإصلاح مسًّا لقوتهم وامتيازاتهم عمدوا إلى تلك الصرخة التي اعتادوها فقالوا بأن أساس الدستور في خطر. إنك إذا لمست هذا الأساس تهدم كل البناء فإذا هو خراب، وضاعت على الناس حريتها. على أنه لا شك أنه بالرغم مما في هذا الدستور من النقائص الفظيعة، لا تزال نتائجه، إذا أنت نظرت إليها وعرضتها في نور مدنية هذا العالم، ذات نتائج بهجة عظيمة. وهي هي التي تجعل الناس بما نزلت عليهم من البركات، يخشون أن يصيبهم الضرر إذا هم ناهضوه، ولكن ما أكثر هذه البركات! وما أشد اغتباط الناس بها إذا أدخل على هذا الدستور من الإصلاح الرشيد ما يجعل حركة ذلك الدولاب العظيم الجميل سهلًا هينًا.»

(٥) غلطات نابليون السياسية

«لقد اقترفت ثلاث غلطات سياسية كبرى؛ فقد كان يجب عليَّ أن أعقد صلحًا مع إنجلترا بترك إسبانيا، وكان يجب أن أعيد مملكة بولاندا كما كانت وأن لا أذهب إلى موسكو، وكان يجب أن أعقد صلحًا في درزدن أترك به هامبورج وبضع ممالك لم تكن ذات فائدة لي.»

(٦) حرية التجارة وحمايتها

«لقد حرصت على أن لا أقع في غلطات رجال النظامات من حيث إيثار نفسي وتفضيل آرائي على حكمة الأمم. إن الحكمة الصادقة نتيجة التجارب؛ فالاقتصادي الذي يقول بحرية التجارة يقدِّم لنا غنى إنجلترا ورفاهيتها التجارية مثالًا لذلك وقدوة يجب تقليدها، ولكن إنجلترا بلد الممنوعات، وأراها محقة في بضع أمور؛ لأن حماية التجارة ضرورية لتشجيع الصناعة في نشأتها. وفي هذه الحال لا يمكن الاستعاضة عنها بالجمارك، فإن التهريب يفسد غرض القانون، ولكن الناس في العادة إذا عمدوا إلى مثل هذه المسائل وهي ذات مساس برفاهية البلد بعدوا في حكمهم عن مواقع الصواب، على أنه يمكن القرب من الحقيقة إذا اتخذنا أساسًا لأبحاثنا في هذا الموضوع هذا التفصيل الذي راعيته دائمًا في مسائل الزراعة والصناعة والتجارة؛ وهو تفصيل أغراض واضحة:
  • أولًا: إن الزراعة روح رفاهية الأمة وأساسها.
  • ثانيًا: إن الصناعة مال الشعب الحاضر ورفاهيته.
  • ثالثًا: إن التجارة الداخلية هي استعمال مواد الزراعة والتجارة استعمالًا يعود بالفائدة.
  • رابعًا: التجارة الخارجية وهي استعمال الزائد من محصولات البلد والموفور من المملوك استعمالًا مفيدًا، بحيث تكون أهمية هذا الزائد قليلة في نظر صاحبها.»

(٧) فقدان الأهلية في وظائف الحكومة

«إن الوزير الذي لا يكون كفوًا لوظيفته يؤذي بلده باستخدام قوم في وزارته ممن لا ينظرون إلا بعينه ولا يفكرون إلا بعقله.»

«إذا ذهب الرجل لينام في وظيفته وجب أن يقال؛ فإن التبديل يغري الناس بالعمل.»

«لا يصح أن تسلَّم القيادة لرجال فوق الستين من العمر. أما ما يحسن أن يعطى لأمثالهم فهي الوظائف ذات الشرف. على أن يكون العمل المطلوب في هذه الوظائف قليلًا، وإذا أنصفنا، لم يكن مطلوبًا منها عمل على الإطلاق.»

وقال من خطبة في مجلس الشيوخ بعد حرب الروسيا سنة ١٨١٢:

«إن جبناء العساكر، وضعاف النخوة من الجنود، هم الذين يقضون على استقلال الأمم، ولكن خائر العزم الضعيف من الموظفين يقضي على جلال القانون وحقوق العرش، ثم لا يقف ضرره عند ذلك، بل يتعداه إلى نظام المجتمع.

إني لما توليت أمر فرنسا وأخذت على عاتقي تقويمها دعوت الله أن يمدني بسنين طوال؛ لاعتقادي أنه إذا كان التخريب يتم في لحظة فالبنيان والتعمير لا يتمان إلا في زمان طويل.»

«ألا إنه لا يعوز الحكومات أمر كموظفين ذوي شجاعة وصبر.»

«كان أسلافنا يقولون: «مات الملك فليحيَ الملك»، وفي هذه الكلمات دليل على ذلك المبدأ المتأصل في نفوسهم، مبدأ أن النظام الملكي مفيد. لقد درست أميال أمتي بما فعلت في القرون الأخيرة وفكرت مليًّا فيما فعلوا في كثير من أحقاب التاريخ، وسأفكر أيضًا في الموضوع بعد ذلك.»

«الرجال في الدنيا كجماعة الموسيقى، كل عازف منهم يتقن دوره ولا يعرف سواه. كان (ناي) يحسن القيادة إذا هو تولى قيادة عشرة آلاف جندي، أما فيما عدا ذلك فما كان إلا أحمق مأفونًا.»

«إن في فرنسا كثيرًا من رجال العمل والدربة، وإنما ينبغي أن ننقب عنهم ونمهد لهم سبيل البلوغ إلى المراتب التي هم أهل لها؛ فربَّ رجل تراه خلف المحراث وهو جدير أن يتبوأ مجالس الوزراء، وربَّ وزير جلس يدبر الأمر وهو حري أن يجري وراء المحراث.»

«الكفاءة كيفما كانت، ومهما صغرت، يجب أن نبحث عنها وننزلها منزلها الجدير بها.»

«يزعم نبلاء لوندرة وﭬﻴﻨﺎ أن من حقهم أن يولَّوا أكبر أعمال الحكومة، وأعظم مصالحها، ويقوموا بتدبير أموال الأمة، كأنما نسبهم بديل مما ينقصهم من المقدرة والاستعداد، أو كأنما يكفي الإنسان منهم أن يُدعى إلى أبيه ليعهد إليه بأخطر الشئون وأجلِّ الأمور. ألا إنما مَثَلُهم مثل أولئك الملوك الذين يزعمون أنهم إنما يستمدون سلطانهم من سلطان صاحب العزة والجلالة، فما الرعية في نظرهم إلا البقرة الحلوب، لا تراهم يبالون بما يصلحها، أو تراهم ينظرون في مرافقها ما دامت خزانتهم منزعة وتيجانهم مرصعة.»

«لا أنكر أن مطامعي كانت كبيرة جدًّا، ولكنها كانت مطامع مستقرة على أميال الرأي العام. وكنت لا أفتأ أذكر أن الملك لا يقوم إلا بالأمة؛ لذلك كانت الإمبراطورية التي أنشأتها في حقيقتها جمهورية عظيمة. ولقد دعاني صوت الشعب إلى ارتقاء العرش، فكان دأبي تقديم الكفاءة بغير نظر إلى فوارق الأنساب. وما كانت تبغضني حكومات أوربا التي تقبض على مقاليدها فئة الأشراف إلا لهذا السبب، ومع هذا فإن الرجل في إنجلترا قد ترفعه مواهبه وأعماله إلى أعلى المراتب. فلعلكم قد أدركتم ما قصدت.»

«الرأي العام قوة خفية غير مرئية يستحيل أن تقاوم، وليس هناك ما هو أكثر منه التواء وأشد منه إبهامًا وأقوى بطشًا وأسرع تقلبًا! على أنه أعدل وأصوب مما يراه الكثيرون.

لما عيَّنت قنصلًا، كان أول ما بدأت به أنني نفيت خمسين فوضيًّا كان الرأي العام شديد الحنق عليهم، والبغض لهم، فسرعان ما عطف عليهم، ومال إليهم، فاضطررت إلى الرجوع في أمري. وما هي إلا برهة أظهر فيها أولئك الفوضيون نزوعهم إلى تدبير المؤامرات حتى انقلب ذلك الرأي العام الذي كان بالأمس معهم، إلى جانبي، وكذلك كان من جراء أغلاط ذاك العهد أن نرى الرأي العام منصرفًا إلى جماعة من السفاحين كان يضطهدهم جمهور الناس قبل ذلك بقليل.»

«المعقل الذي تمتنع فيه حرية الأمم إنما هو الرأي العام.»

«الرأي العام على أهبة التسفل من أجل مصالحه في كل وقت.»

«يجب أن يكون الإنسان قد مارس الذي مارستُه، وقام بمثل ما قمتُ به من الأعمال؛ حتى يتسنى له أن يدرك الصعوبات التي تعترض العامل في سبيل فعل الخير. فربما انتهى العمل على غاية السرعة والإتقان إذا كان المقصود منه إقامة مدخنة أو حاجز أو تجديد أثاث في قصر من القصور الإمبراطورية لفائدة بعض الأفراد. فأما إذا كان المقصود منه توسيع حديقة التويلاري، أو تحسين بعض الأحياء، أو تنظيف مجرى من المجاري، أو نفع الجمهور، إلى مثل ذلك من الأعمال التي لا تعود بالفائدة الخاصة على شخص معروف، فقد وجدت الأمر يحتاج إلى استخدام كل وسائلي، واستعمال كل قواي، فكنت ربما كتبت ستة أو عشرة خطابات يوميًّا لإنجاز مثل هذا العمل، والترغيب فيه، ومن ذلك أنني أنفقت حوالي ثلاثين مليونًا من الفرنكات في أعمال المجاري، وما كان لأحد أن يشكرني على القيام بهذا العمل لأنه مما لا يُنتظر فيه شكر الأفراد، وأنفقت مثلها عوضًا عن منازل هدمتها كانت قائمة في وجه سراي التويلاري لإنشاء الكاروسيل وإخلاء طريق اللوفر. لقد أنجزت أعمالًا كثيرة، ولكن ما كنت أفكر فيه كان أعظم.»

(٨) القالات

أتى جامع الكتاب على جملة مطولة من خطاب أرسله نابليون إلى ناظر الداخلية في نوفمبر سنة ١٨٠٧ يوصيه بعمل ثلاث ترع كبيرة؛ إحداها تمتد من ديجون إلى باريس، وثانيتها من نهر الرين إلى نهر ساءُون، وثالثتها من نهر الرين إلى نهر شلدت. وقد جاء فيما اقتطف الجامع قول نابليون:

«إني جعلت عظمة حكمي في تغيير وجه إمبراطوريتي، فالقيام بحفر هذه الترع العظيمة هو في مصلحة أمتي، كما أنه يرضيني. واعلم أنني أرى من المجد إبطال الشحاذة والتسول في بلادي؛ لذلك أريد القضاء عليهما قضاء مبرمًا. ليس يعوزنا المال للقيام بذلك، ولكني أرى السير إلى تحقيق هذه الأمنية بطيئًا رخوًا، في حين أن الزمان مُجِدٌّ في سيره لا يعبأ بنا. إلا أنه لا ينبغي لنا أن نقطع مراحل هذه الدنيا من غير أن نترك فيها أثرًا يشرِّف ذكرانا لدى أعقابنا.

إني غائب عنك شهرًا، فإذا جاء الخامس عشر من ديسمبر فتأهب للجواب على كل ما أسألك عنه يومئذ، فإن بين يديك من الوقت متسعًا يكفي لفحص تفاصيل هذه الأمور، ليتسنى لي يومئذ أن أقضي على الشحاذة في كلمة واحدة أسطرها في إرادة من لدنا.

عليك أن تجد من الأموال الاحتياطية قبل الخامس عشر من ديسمبر المذكور مقدارًا من المال يكفي للإنفاق على ستين أو مائة منزل يُدفن فيها التسول، كما يجب أن تعين الأماكن التي ستقام فيها هذه المنازل، وتحضر قانونها. وإياك أن تسألني إمهالك ثلاثة أشهر أو أربعة حتى تستطيع جمع ما أريد من المعلومات؛ فإن بين يديك من الشبان العارفين بالأمور الحسابية والمديرين القادرين والمهندسين الأذكياء خلقًا كثيرًا، فاجعل أولئك يعملون لإنجاز هذا المشروع. ولا تنَمْ تكتفِ بما يجري في نظارتك من الأعمال العادية.

واعلم أنه يجب أن تنفذ كل الأعمال الخاصة بإدارة الأشغال، حتى إذا ابتدأ الفصل اللطيف (لعله الربيع) ظهرت فرنسا في ذلك المنظر البهج بين العالمين، خالية من ظلمة الشحاذة على أرضها، سعيدة بأهلها، إذ ينبرون إلى تجميلها واستثمار ضياعها الواسعة …

يجب عليك أيضًا أن تجهز لي مشروعًا يمكن به أن نحصل من تصريف مياه كوتنتين وروتشفورت، على مال نستطيع به أن نقوم بأعمال المنافع العمومية ولإتمام مشروع المصارف التي نحن مشتغلون بها الآن، ولحفر أخرى نريد اختطاطها.

إن ليالي الشتاء طويلة فاملأ حقيبتك، حتى نستطيع في ليالي ثلاثة شهور أن نبحث الوسائل التي تؤدي بنا إلى الوصول إلى نتائج يرتاح لها البال.»

«كان كل همي أن تكون باريس عاصمة أوربا الحقيقية؛ فلقد طالما وددت لو أصبحت مدينة فيها مليون أو ثلاثة أو أربعة ملايين من النفوس — مدينة عظيمة لا يحد عظمتها الفكر كأنها من مدن الخرافات، لا يماثلها شيء — بحيث يكون فيها من المباني العامة والمناشئ القومية ما يليق بأهلها، فلو أن الله قد مد في حكمي عشرين سنة ووهبني قليلًا من التفرغ لجعلت باريس آية من الآيات في جدتها حتى لم يبقَ للقدم فيها أثر منظور. لو أمدني الله بذلك لغيرت ما كان مقدورًا لفرنسا.

كان أرخميدس الرياضي يقول إنه قدير على أن يحمل الدنيا لو وجد مكانًا يضع فيه عتلته، وأنا اليوم أقول إنني كنت أفعل مثله لو أنني وجدت موردًا يعتمد عليه جدي ودأبي وقوتي وأستمد منه المال. أجل، فقد تستطيع خلق العالم بالمال، هنالك كنت أستطيع أن أبين للناس الفرق بين إمبراطور دستوري وبين ملك لفرنسا. فما كان ملوك فرنسا إلا سادة كبار آذوا رجال العمل في بلادهم. إذا درت ببصرك تلتمس إدارة أو هيئة مجلسية بلدية أو غير بلدية فإنك لا تجد شيئًا.»

(٩) التعصب الديني

«إن التعصب الديني آلة قوية كفيلة بالنجاح لمن أدارها في شعب غير متمدين … إننا إذا عمدنا في فرنسا إلى هذه الحيلة وما فيها من شعوذة ضحك الناس منا وسخروا، ولكنها إذا استعملت في روسيا جرَّت وراءها سفاحين قتلة.»

(١٠) الثورة

«الثورات كالوقائع تجري في ظلمات الليل. كلٌّ قد غشيه الارتباك حتى ترى الجار يعدو على الجار والصديق مأخوذًا في عدو. فإذا جاء الصباح وعادت السكينة والنظام عفا بعضهم عن بعض وغفر له ذنبه.»

«قد انتهينا من قصة الثورة، فلنبتدئ بتاريخها. يجب اليوم أن يكون تطلُّع أعيننا وقفًا على ما هو حقيقي فعلي من المبادئ التي يراد العمل عليها، لا إلى ما كان منها خياليًّا أو موهومًا.»

(١١) واجب الملك

«يجب أن يحكم الملك رعيته جليلًا شريفًا في حكمه، لا أن يجعل همه مسرَّتهم. إن خير ما يكسب قلوب الرعية ضمانة رفاهيتهم. وليس من شيء أخطر على الحاكم من مداهنة قومه والتملق إليهم، فإنهم إذا لم يحصلوا بعد ذلك على كل ما يريدون تأففوا وزعموا أنهم إنما وُعدوا كذبًا. فإذا قووموا في ذلك ازدادت كراهيتهم له، على قدر ما تُصوِّر لهم أوهامهم من أنه قد خالف عهده معهم. لا شك أن أول واجبات الملك العملُ وفاق ما تشتهي الأمة، ولكن يندر أن يكون ما تقوله الأمة معبِّرًا عن حقيقة رغباتها. فإن رغباتها وحاجاتها لا يمكن تبيُّنها من أفواهها، كما يمكن قراءتها مسطورة على صدر أميرها.»

(١٢) السعادة الاجتماعية

«ليست السعادة الاجتماعية الصحيحة إلا في النظام إذا شمل، وتَوافقِ مسرات الأفراد وامتزاجها. لقد وهبتُ الملايين كل عام للفقراء، وضحيت ما ضحيت في سبيل معاونة الصناعة وتعزيزها، ولكن فرنسا بالرغم من كل ذلك قد كثر فيها المتسولون عنهم في سنة ١٧٨٧ وسببه الثورات. فإنها بالرغم مما تكون مؤسَّسة عليه من النظام والتدبر، تخرب في لحظة، ولا تستطيع البناء إلا في زمن طويل. ما كانت الثورة الفرنسية إلا تشنجًا وطنيًّا لا يمكن دفعه إلا إذا أمكن دفع بركان فيزوف عن التفجر؛ فإنه إذا حدث ذلك الاختلاط الخفي في أحشاء الأرض وتهيَّأت أسباب الانفجار، اندفع الحمم من فوهته ذائبًا نحو السماء، وتناثر الأصلد من الحجر في الأجواء. وكذلك أمر الأمة؛ فإن ما تُطوى عليه جُنوبُها من الاستياء أشبه بذلك، يتسع سيره، فإذا بلغت آلامهم دور النضج تفجرت الحفيظة من قلوبهم، وآذنت في البلاد بالثورات.»

figure
نابليون على ظهر الباخرة.

(١٣) الألقاب

«يؤخذ الناس باللعب. كلمة. لا أقولها لكل الناس، بل لمجمع من الراشدين والسياسيين. لا أظن أن الأمة الفرنسية تعشق الحرية والمساواة، كلا، فما غيرت الثورة من نفوسهم في عشر سنين شيئًا، بل هم الآن على ما كان عليه أسلافهم الغالبون من العتو والطيش. أما الإحساس فليس لهم منه إلا احترام الشرف، وهو أمر يجب علينا أن ننميه في قلوبهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإحداث درجات وعلائم غير هذه الدرجات.»

(١٤) الضرائب والحرية المدنية

«الحرية المدنية الحقيقية تتوقف على سلامة الملك، ولست أظنها تكون في بلد من عادته تغيير مقدار الضريبة كل عام؛ فالرجل الذي دخله ثلاثة آلاف من الفرنكات في العام لا يدري، إذا لم تكن الضريبة مقررة ثابتة، أيَّ مقدار من هذا المبلغ باقٍ له للإنفاق منه على بيته ونفسه. فقد يجوز أن تذهب الضريبة به كله.»

«يكلف السفراء أمتهم مصروفات جمة وهم لا يفعلون إلا قليلًا. ألا إنه خير للملك أن يدبر أمر نفسه بذاته.»

«إن الموسيقى أرقى الفنون؛ فإن لها في النفس أقوى أثر؛ لذلك يجب على الشارع أن يجعل لها من نفسه نصيبًا كبيرًا، فيدعو لها ويحمل الناس عليها.»

«إن الأغنية التي أحسن صوغها تهذب الفؤاد وتملك القلب وتؤثر في الإنسان أثرًا دونه الحكمة؛ فهي تملك اللب، ولكنها لا تحيي الشعور ولا تغيِّر من طباعنا حالًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤