مُخاطَراتُ أُمِّ مازِنٍ

(١) فاتِحَةُ الْقِصَّةِ

ما كانَ أَسْعَدَهُ يَوْمًا، وأَبْهَجَهُ احْتِفالًا، حِينَ خَرَجَتْ «أُمُّ مازِنٍ» مِنْ لَفائِفِها، لِتَسْتَقْبِلَ الْحَياةَ بِقَلْبٍ طَرُوبٍ، يَفِيضُ بِشْرًا وأَمَلًا، وَقَدِ الْتَفَّ حَوْلَها أَهْلُها وَعَشِيرَتُها الأَدْنَوْنَ، وَتَهافَتُوا إِلَى رُؤْيَتِها مُسْرِعِينَ مِنْ أَقاصِي الْقَرْيَةِ، لِيَشْتَرِكُوا في ذَلِكَ الْمِهْرَجانِ الْبَهِيجِ.

وكانَتْ «أُمُّ مازِنٍ» أَصْغَرَ الْمَوْلُوداتِ الَّتي نَجُبَتْ وَتَرَعْرَعَتْ فِي تِلْكِ الْقَرْيَةِ، الْحافِلَةِ بِأَهْلِيها مِنَ النَّمْلِ الأَسْوَدِ الرَّمادِيِّ.

وَقَدْ فَرِحَتْ ساكِناتُ الْقَرْيَةِ ﺑ«أُمِّ مازِنٍ» فَرَحًا عَظِيمًا. وَكانَتْ قَرْيَةُ النَّمْلِ مُعْجَبَةً بِوَسامَةِ هَذِهِ الْمَوْلُودَةِ، فَرِحَةً بِما يَبْدُو عَلَى سِيماها مِنْ أَماراتِ النَّجابَةِ، مُؤَمِّلَةً فِيها أَحْسَنَ تَأْمِيلٍ.

(٢) بِنْتُ الشَّيْصَبانِ

واقْتَرَبَتْ مِنْها «بِنْتُ الشَّيْصَبانِ»، وَهِيَ أَكْبَرُ نِمالِ الْقَرْيَةِ سِنًّا، وَأَكْثَرُهُنَّ تَجْرِبَةً، وَأَقْبَلَتْ عَلَى الطِّفْلَةِ النّاشِئَةِ تُداعِبُها، قائِلَةً: «يا لَها مِنْ جَمِيلَةٍ فاتِنَةٍ! لَقَدْ فاقَتْ — عَلَى صِغَرِها — بَناتِ جِنْسِها: حُسْنًا ومَلاحَةً. فَلْنُطْلِقْ عَلَيْها مُنْذُ الْيَوْمِ: «أُمَّ مازِنٍ»، وَلْنُنادِها بِذَلِكَ، لِنُكَرِّمَها بِهَذِهِ التَّكْنِيَةِ، وُنُمَيِّزَها عَنْ رَفِيقاتِها مِنْ بَناتِ الْقَرْيَةِ.»

وَكانَتْ «أُمُّ مازِنٍ» — كَإِخْوَتِها جَمِيعًا مِنَ النَّمْلِ — مِثالًا لِلنَّشاطِ والْجِدِّ والْمُثابَرَةِ، تَتَلأْلأُ فِي رَأْسِها الْجَمِيلِ عُيُونٌ خَمْسٌ بَرَّاقَةٌ، ثِنْتانِ مِنْها كَبِيرَتانِ عَلَى جانِبَيْ رَأْسِهِا، وَثَلاثٌ صَغِيرَةٌ في وَسَطِ جَبْهَتِها.

وَلَنْ يَفُوتَنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ عَنْ قَرْنَيْها الصَّغِيرَيْنِ الناتِئَيْنِ في رَأْسِها. وَلَعَلَّكُمْ تَعْرِفُونَ أَنَّ الْقُرُونَ لِلنَّمْلِ، كالْيَدَيْنِ لِلإِنْسانِ؛ فإِنَّ كُلاًّ مِنْها يَصْلُحُ لِلَمْسِ الأَشْياءِ.

(٣) فِي الطَّرِيقِ

وخَرَجَتْ «أُمُّ مازِنٍ» مِنْ قَرْيَتِها، لِلْمَرَّةِ الأُولَى فِي حَياتِها. ثُمَّ سارَتْ في طَرِيقِها — عائِدَةً إِلَى بَيْتِها — بَعْدَ أَنْ أَتَمَّتْ نُزْهَتَها. وما زالَتْ تَمْشِي مُتَّئِدَةً، بَطِيئَةَ السَّيْرِ في طَرِيقٍ مَمْلُوءَةٍ بِالْحَصَى، وَهيِ تَلْقَى في سَبِيلِها، مِنْ أَلْوانِ التَّعَبِ والْعَناءِ، ما لا قِبَلَ لِغَيْرِها بِاحْتِمالِهِ.

ولا عَجَبَ في ذَلِكَ، فَإِنَّ صِغارَ الْحَصَى الَّتي كانَتْ تَعْتَرِضُ «أُمَّ مازِنٍ» في طَرِيقِها هِيَ — عَلَى الْحَقِيقَةِ — جِبالٌ شاهِقَةٌ بِالْقِياسِ عَلَيْها!

انْظُرُوا إِلَيْها، وَهيَ تَمْشِي جادَّةً مُسْرِعَةً في سَيْرِها، عَلَى قَدْرِ ما تَسْتَطِيعُ أَقْدامُها النَّحِيفَةُ الْمُتَناهِيَةُ في الضَّآلَةِ. وَتَأَمَّلُوا: كَيْفَ تَلْمُسُ الأَرْضَ بِأَحَدِ قَرْنَيْها، قَبْلَ أَنْ تَخْطُوَ خُطْوَةً واحِدَةً. فَهِيَ تَتَحَسَّسُ الأَشْياءَ بِقَرْنِها الأَيْمَنِ مَرَّةً، وَبِقَرْنِها الأَيْسَرِ مَرَّةً أُخْرَى، مُسْتَهِينَةً بِكُلِّ ما تَلْقاهُ فيِ طَرِيقِها مِنَ الْعَقَباتِ والْمَصاعِبِ، مُتَقَدِّمَةً — في صَبْرٍ وَمُثابَرَةٍ لا مَثِيلَ لَهُما — حَتَّى تَبْلُغَ غايَتَها، أَوْ تَمُوتَ دُونَها!

وَكانَتْ «أُمُّ مازِنٍ» تُحَدِّثُ نَفْسَها، قائِلَةً: «يا لَها مِنْ طَرِيقٍ مُتْعِبَةٍ شاقَّةٍ! فَلَيْسَ يَخْلُو مَكانٌ فِيها مِنْ حُفْرَةٍ، أَوْ هاوِيَةٍ، أَوْ أُخْدُودٍ. وَلَيْسَ أَجْدَرَ مِنِّي بِالأَناةِ والْحَذَرِ، حَتَّى أَعُودَ إِلَى قَرْيَتِي سالِمَةً!»

ولَقَدْ صَدَقَتْ «أُمُّ مازِنٍ» فِيما حَدَّثَتْ نَفْسَها بِهِ، فَقَدْ كانَت الطَّرِيقُ الْوَعِرَةُ الْمَخُوفَةُ، تَتَطَلَّبُ مَهارَةَ النَّمْلَةِ وَحَزْمَها، لِتَخْرُجَ مِنْها ناجِيَةً مِنْ كُلِّ سُوءٍ، فَلا تُكْسَرَ إِحْدَى أَرْجُلِها، ولا تُصابُ بِأَيِّ عَطبٍ.

ولَقَدْ أَصابَ وَصَدَقَ مَنْ سَمَّاها: نَمْلَةً. فَهِيَ — في الْحَقِّ — كَثِيرَةُ التَّنَمُّلِ، دائِبَةُ التَّحَرُّكِ. فَلا عَجَبَ إِذا أَطْلَقُوا عَلَيْها هَذا الاسْمَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَرَكَةِ والنَّشاطِ!

ها هُوَ ذا جَبَلٌ تَتَسَلَّقُهُ «أُمُّ مازِنٍ»، جادَّةً مُثابِرَةً — عَلَى ما تُحِسُّ بِهِ مِنْ تَعَبٍ نَهَكَ قُواها، وَأَضْنَى جِسْمَها — حَتَّى تُدْرِكَ غايَتَها.

(٤) الرَّفِيقَتانِ

وَإِنَّها لَتَسِيرُ جادَّةً، وَقَدْ بَلَغَ بِها الإِعْياءُ كُلَّ مَبْلَغٍ، إِذْ لَمَحَتْ نَمْلَتَيْنِ — مِنْ بَناتِ جِنْسِها — خَرَجَتا مِنَ الْقَرْيَةِ لِلاحْتِطابِ، وَقَدْ حَمَلَتا فَرْعًا صَغِيرًا مِنْ فُرُوعِ النَّباتِ، وَهُما عائِدَتانِ في طَرِيقِهِما إِلَى الْبَيْتِ.

وَلَقَدْ جَهَدَهُما حَمْلُ هَذا الْفَرْعِ الصَّغِيرِ، وَقَدْ اعْتَزَمَتا أَنْ تُصْلِحا بِهِ إِحْدَى غُرَفِ الْقَرْيَةِ الَّتِي انْهارَتْ في أَثْناءِ اللَّيْلِ. وَكانْ ذَلِكَ الْفَرْعُ — بِالْقِياسِ إِلَيْهِما — كَأَنَّهُ جِذْعُ شَجَرَةٍ كَبِيرَةٍ!

وَكانَتِ الْحاطِبَتانِ تَبْذُلانِ أَقْصَى جُهْدَيْهِما لِتَجُرَّاهُ، حَتَّى ضَعُفَتْ قُواهُما، وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِما أَنْ تَتَقَدَّما بِهِ خُطْوَةً واحِدَةً إِلَى الأَمامِ. وَلا عَجَبَ فِي ذَلِكَ، فَقَدْ كانَ — عَلَى صِغَرِهِ — ثَقِيلًا، وَكانَتِ الأَرْضُ — الَّتيِ تَدِبَّانِ عَلَيْها — صَخْرِيَّةً.

فَلَمَّا رَأَتْهُما «أُمُّ مازِنٍ» عَرَفَتْهُما، وَأَدْرَكَتْ ما تُعانِيانِ مَنْ جَهْدٍ، فَتَقَدَّمَتْ إِلَيْهِما، قائِلَةً: «كَيْفَ أَنْتُما؟ هَلُمَّا نَتَعاوَنُ عَلَى جَرِّ هَذا الْحِمْلِ الثَّقِيلِ!»

وَلَمْ تُضِعْ «أُمُّ مازِنٍ» وَقْتَها عَبَثًا، بَلِ انْضَمَّتْ إِلَى الْحاطِبَتَيْنِ، وَعاوَنَتْ رَفَيقَتَيْها عَلَى جَرِّ الْفَرْعِ، حَتَّى بَلَغْنَ بِهِ ذِرْوَةَ التَّلَّةِ الصَّغِيرَةِ الْعالِيَةِ.

ثُمَّ قالَتْ «أُمُّ مازِنٍ» لِرَفِيقَتَيْها: «لَقَدْ أَدَّيْتُ واجِبِي — يا رَفِيقَتَيَّ — فَوَداعًا، وَإِلَى اللِّقاءِ الْقَرِيبِ!»

فَشَكَرَتا لَها ما بَذَلَتْ — في مُساعَدَتِهِما — مِنْ جَهْدٍ وَعَناءٍ.

(٥) الْمَطَرُ

ثُمَّ سارَتْ «أُمُّ مازِنٍ» في طَرِيقِها، حَتَّى لَقِيَتْ جَمْهَرَةً مِنَ النَّمْلِ، جادَّةً في السَّيْرِ. وَرَأَتْ إِحْداها تَحْمِلُ وَلَدَها الصَّغِيرَ، وَقَدِ احْتَضَنَتْهُ في ثَوْبِها الشَّفَّافِ. وَرَأَتْ جَماعَةً أُخْرَى تَحْمِلُ أَعْوادًا صَغِيرَةً — في مِثْلِ أَحْجامِ الإِبَرِ — مِنْ شَجَرِ الشُّوْحِ، وَبَقايا وَرَقِ الأَشْجارِ الأُخْرَى.

وَإِنَّها لَسائِرَةٌ في طَرِيقِها — وادِعَةً قَرِيرَةَ النَّفْسِ — إِذْ سَمِعَتْ جَلْجَلَةً تُدَوِّي في الْفَضاءِ، فَقَفَزَتْ خائِفَةً مَذْعُورَةً. وَلَمْ تَدْرِ مَصْدَرَ تِلْكِ الْجَلْجَلَةِ الرَّاعِدَةِ، لأَنَّها لَمْ تَسْمَعْ صَوْتَ الرَّعْدِ، قَبْلَ الْيَوْمِ.

وَذُعِرَتْ رَفِيقاتُها النِّمالُ الَّتِي كانْتَ تَسْعَى بَيْنَ الْحَشائِشِ.. وَأَسْرَعَتْ إِلَى قَرْيَتِها عائِدَةً، حِينَ سَمِعْتَ قَصْفَ الرُّعُودِ الْمُدَوِّيَةِ.

أَمَّا صاحِبَتُنا «أُمُّ مازِنٍ» فَقَدْ سَرَتِ الرِّعْدَةُ في جِسْمِها، مِنْ فَرْطِ الْخَوْفِ، وَأَسْرَعَتِ فِي جَرْيها صَوْبَ الْبَيْتِ. وَلَكِنَّها لَمْ تَكَدْ تُكْمِلُ عَشْرَ خُطُواتٍ، حَتَّى أَحَسَّتْ كَأَنَّ هِراوَةً ضَخْمَةً هَوَتْ عَلَى رَأَسِها بِضَرْبَةٍ قاتِلَةٍ. فَصَرَخَتْ مِنْ فَرْطِ الأَلَمِ والْخَوْفِ، وَهِيَ تَتَدَحْرَجُ عَلَى الأَرْضِ: «آهٍ! لَقَدْ تَحَطَّمْتَ، يا رَأَسِيَ الْمِسْكِينَ!»

وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الضَّرْبَةُ القاتلةُ الَّتِي كادَتْ تُذْهِلُ «أُمَّ مازِنٍ» إِلَّا نُقْطَةً كَبِيرَةً مِنَ الْمَطَرِ. ثُمَّ تَبِعَتْها نُقْطَةٌ أُخْرَى فَوْقَ ظَهْرِها. ثُمَّ ثالِثَةٌ، ثُمَّ تَوالَتْ قَطَراتُ الْمَطَرِ. فاشْتَدَّ جَزَعُ «أُمِّ مازِنٍ»، وَأَيْقَنَتْ بِالْهَلاكِ. وَصاحَتْ مَغَوِّثَةً تَطْلُبُ النَّجْدَةَ، وَقَدْ تَمَلَّكَها الذُّعْرُ: «أَغِيثُونِي! أَدْرِكُونِي! النَّجْدَةَ يا رَفِيقاتِي، فَإِنَّ أَعْدائِي تَأْتَمِرُ بِي لِتَقْتُلَنِي!»

فَلَمْ يَسَمَعْ صِياحَها أَحَدٌ، وَذَهَبَ صُراخُهُا أَدْراجَ الرِّياحِ. فَأَسْرَعَتْ — في جَرْيها يَمْنَةً وَيَسْرَةً — وَهِيَ لا تَدْرِي: إِلَى أَيْنَ تَقْصِدُ، وَقَدْ غَمَرَ الْمَطَرُ كُلَّ مَكانٍ، والْتَصَقَتْ أَرْجُلُها بِجِسْمِها الصَّغِيرِ.

وَلَكِنَّها رَأَتْ — لِحُسْنِ حَظِّها — حَقْلًا عَلَى قِيْدِ (مَسافَةِ) خُطُواتٍ مِنْها.

وَلاحَتْ أَمامَها سَنابِلُ الْقَمْحِ الذَّهَبِيَّةُ فُخُيِّلَ إِلَيْها أَنَّهُ غابَةٌ. فَأَسْرَعَتْ إِلَى الْحَقْلِ، لِتَأْمَنَ غائِلَةَ الْمَطَرِ.

(٦) بَيْنَ سَنابِلِ الْقَمْحِ

وَمَشَتْ «أُمُّ مازِنٍ» بَيْنَ سَنابِلِ الْقَمْحِ، تَبْحَثُ عَنْ مَكانٍ جافٍّ، ثُمَّ وَقَفَتْ تَسْتَرِقُ السَّمْعَ، وَتَقُولُ فِي نَفْسِها: «تُرَى هَلْ بَلَغْتُ الْمأْمَنَ؟ تُرَى هَلْ يُفاجِئُنِي أَحَدٌ مِنْ أَعْدائِي فِي هَذا الْمَكانِ؟ تُرَى ماذا تُخْبَؤُهُ السَّنابِلُ الْعالِيَةُ مِنْ مُفاجئاتٍ؟ ما أَظُنُّ أَحَدًا فِيها، فَإِنِّي لا أَسْمَعُ حَرَكَةً لِكائِنٍ كانَ. فَلأَبْقَ وَحِيدَةً فِي هَذا الْحَقْلِ الأَمِينِ.»

وَلَكِنَّها شَعَرَتْ بِالْبَرْدِ يَسْرِي فِي جِسْمِها. فاشْتَدَّ نَدَمُها عَلَى خُرُوجِها فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَضاعَفَ حُزْنَها أَنَّها بَعُدَتْ عَنْ بَيْتِها، وَتَعَذَّرَتْ عَوْدَتُها إِلَيْهِ.

وَقالَتْ تُناجِي نَفْسَها، وَتَلُومُهُا عَلَى مُخاطَرَتِهِا: «لا شَكَّ أَنَّ أَخَواتِي سَيَتالَّمْنَ، وَيَقْلَقُ بالُهُنَّ لِغَيْبَتِي … وَلَكِنْ ماذا أَرَى؟ إِنِّي لأَلْمَحُ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِالسَّطْحِ فَوْقَ هَذِهِ السَّنابِلِ … مَرْحَى فَقَدْ وَجَدْتُ بُغْيَتِي، فَلأَتَسَلَّقْ هَذِهِ السَّاقَ الطَّوِيلَةَ، لأُصْبِحَ آمِنَةً مِنْ كُلِّ خَطَرٍ.»

وَلَكِنَّها لَمْ تَكَدْ تَفْعَلُ، حَتَّى سَمِعَتْ صَوْتًا راعِبًا، يَصِيحُ قائِلًا: «مَنِ الْقادِمُ؟»

فارْتَعَدَتْ «أُمُّ مازِنٍ» وَأَصْبَحَتْ — مِنْ فَرْطِ خَوْفِها — بِمَنْزِلَةٍ بَيْنَ الْحَياةِ والْمَوْتِ، وَتَدَحْرَجَتْ إِلَى الأَرْضِ مُسْرِعَةً.

ثُمَّ نَظَرَتْ «أُمُّ مازِنٍ»، فَرَأَتْ دابَّةً سَمْراءَ اللَّوْنِ، هابِطَةً مِنْ سُوقِ الْقَمْحِ. وَأَنْعَمَتِ النَّظَرَ فِيها، فَرَأَتْها هائِلَةَ الْجِرْمِ، طَوِيلَةَ الْجِسْمِ، مُحَدَّدَةَ الرَّأْسِ، تَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ، وَلَها ذَنَبٌ صَغِيرٌ، وَعَيْنانِ بَرَّاقَتانِ.

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»، بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ، وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْها الذُّعْرُ: «عَفْوًا يا سَيِّدَتِي، واصْفَحِي عَنْ زَلَّتِي، فَإِنَّها غَيْرُ مُتَعَمَّدَةٍ … وَها أَنْتِ ذِي تَرَيْنَنِي مُبَلَّلَةَ الْجِسْمِ؛ وَقَدْ أَصْبَحْتُ أَجْدَرَ مَخْلُوقَةٍ بِالْعَطْفِ والرِّثاءِ. وَقَدْ أَوَيْتُ إِلَى هَذا الْمَكانِ — لَحْظَةً يَسِيرَةً — لَعَلِّي آمَنُ الأَخْطارَ، وَأَتَّقِي الْغَوائِلَ. وَلَمْ أَكَدْ أَسْتَقِرُ تَحْتَ السَّنابِلِ …»

فَقاطَعَتْها الدَّابَّةُ السَّمْراءُ قائِلَةً: «لَعَلَّكِ تَعْنِينَ بَيْتَنا!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «عُذْرًا — يا سَيِّدَتِي — وَصَفْحًا. فَإِنَّ الْمَطَرَ قَدْ كَفَّ عَنِ الْهُطُولِ، فِيما أَظُنُّ، وَفِي قُدْرَتِي أَنْ أَعُودَ أَدْراجِي، إِذا أَذِنْتِ لِي، حَتَّى لا أُزْعِجَكِ.»

فَقالَتْ لَها الدّابَّةُ السَّمْراءُ: «تَرَيَّثِي قَلِيلا، فَلَنْ آذَنَ لَكِ، قَبْلَ أَنْ أَسْأَلَ أُمِّي فِي أَمْرِكِ!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «كلَّا، كلَّا — يا سَيِّدَتِي — لا تُنادِيها، وَدَعِينِي أَمْضِ فِي سَبِيلِي؛ فَإِنِّي جِدُّ خائِفَةٍ. وَحُقَّ لِي أَنْ أَخافَ، فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ أَوَّلُ مَرَّةٍ أَخْرُجُ فِيها مِنْ قَرْيَتِي … وَلَسْتُ أَعْرِفُ أَحَدًا …»

فَقالَتِ الدَّابَّةُ السَّمْراءُ: «إِنِّي أَجْهَلُكِ، وَلا أَعْرِفُ أَيَّ مَخْلُوقٍ أَنْتِ. فَمَنْ تَكُونِينَ؟»

فَقالَتْ لَها «أُمُّ مازِنٍ»: «أَنا نَمْلَةٌ صَغِيرَةٌ سَوْداءُ …»

فَصاحَتِ الدَّابَّةُ: «نَمْلَةٌ أَنْتِ؟ كلَّا، وَكَذَبْتِ فِي زَعْمِكِ. فَإِنَّ أُمِّي قَدْ أَرَتْنِي نَمْلَةً — ذاتَ يَوْمٍ — لَها أَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ بِيضٌ. وَلَسْتُ أَرَى لَكِ أَجْنِحَةً … وَهَذا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّكِ لَسْتِ نَمْلَةً كَما تَزْعُمِينَ!»

فَقالَتْ لَها «أُمُّ مازِنٍ»: «كلَّا، يا سَيِّدَتِي، فَإِنِّي لَمْ أَكْذِبْكِ شَيْئًا مِمَّا قُلْتُ … وَإِنَّما أَنا نَمْلَةٌ عامِلَةٌ … وَلَيْسَ لِبَناتِ جِنْسِي أَجْنِحَةٌ، ما عَدا الآباءَ والأُمَّاتِ أَمَّا الْعامِلاتُ — مِنْ مَثِيلاتِي — فَلا أَجْنِحَةَ لَهُنَّ.»

فَقالَتِ الدَّابَّةُ السَّمْراءُ: «أَعامِلَةٌ أَنْتِ إِذَنْ؟ شَدَّ ما تُضْحِكِينِني بِهَذِهِ الْمُداعَبَةِ الظَّرِيفَةِ! إِنِّي لأَحارُ، إِذا حاوَلْتُ أَنْ أَتَعَرَّفَ: أَيَّ فائِدَةٍ تَعُودُ عَلَى أَحَدٍ، مِنْ حَشَرَةٍ صَغِيرَةٍ فِي مِثْلِ ضَآلَتِكِ؟ وَماذا يَسْتَطِيعُ مِثْلُكِ أَنْ يَعْمَلَ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَقارَةِ؟»

فَأَجابَتْها «أُمُّ مازِنٍ»: «إِنَّنِي لَمَّا أَبْدَأْ عَمَلِي كُلَّهُ. فَلَمْ أَزَلْ حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِالدُّنْيا، وَلَقَدْ دَهِمَتْنِي الْعاصِفَةُ، وَلَمْ أَكَدْ أَنْتَهِي مِنْ حَلْبِ بَقَراتِنا.»

فَعَجِبَتِ الدَّابَّةُ السَّمْراءُ، وَقالَتْ لَها، جِدَّ مَدْهُوشَةٍ: «أَيَّ بَقَراتٍ تَعْنِينَ، أَيَّتُها الْبَلْهاءُ؟ أَهِيَ بَقَراتٌ حَقِيقِيَّةٌ، ذاتُ قُرُونٍ، كالَّتِي نَراها فِي الْحُقُولِ؟ شَدَّ ما طَوَّحَ بِكِ الْخَيالُ، فَأَصْبَحْتِ تَسْبَحِينَ فِي عالَمِ الأَحْلامِ، أَيَّتُها الصَّغِيرَةُ الْحَمْقاءُ! كَيْفَ تُحاوِلِينَ أَنْ تُقْنِعِينِي أَنَّ نَمْلَةً ضَئِيلَةً مِثْلَكِ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْلُبَ بَقَرَةً كَبِيرَةَ الْحَجْمِ هائِلَةَ الْجِرْمِ؟… ها ها ها …!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «إِنَّ بَقَراتِنا — يا سَيِّدَتِي — صَغِيرَةٌ جِدًّا.

إِنَّها — لَوْ عَلِمْتِ — بَراغِيثُ، ضَئِيلَةُ الْحَجْمِ، تَعِيشُ فَوْقَ الأَشْجارِ. وَقَدْ كُنْتُ — الْيَوْمَ — أُداعِبُها بِقَرْنَيَّ مُتَلَطِّفَةً، فَيَدُرُّ جِسْمُها عَلَيَّ قَطَراتٍ لَذِيذَةَ الطَّعْمِ، فِي مِثْلِ حَلاوَةِ السُّكَّرِ.

وَلَقَدْ شَعَرْتُ الآنَ بِأَلَمِ الْجُوعِ. فَهَلْ تَأْذَنِينَ لِي — مُتَفَضِّلَةً — أَنْ أَعُودَ إِلَى بَقَراتِي، فَأَحْلُبَها، وَأَسْتَدِرَّ مِنْها طَعامِيَ الشَّهِيَّ، ثُمَّ نَلْتَقِي بَعْدُ؟»

فاقْتَرَبَتِ الدَّابَّةُ السَّمْراءُ مِنْ «أُمِّ مازِنٍ»، وَنَظَرَتْ إِلَيْها بِعَيْنَيْها الْكَبِيرَتَيْنِ، ثُمَّ قالَتْ لَها: «كلَّا … كلَّا … لَنْ آذَنَ لَكِ فِي الذَّهابِ، وَلَنْ أَسْمَحَ لَكِ بِالانْصِرافِ، قَبْلَ أَنْ تُخْبِرِينِي بِاسْمِكِ.»

فارْتاعَتْ «أُمُّ مازِنٍ» الْمِسْكِينَةُ، وَتَراجَعَتْ إِلَى الْوَراءِ مَذْعُورَةً.

فَقالَتْ لَها الدَّابَّةُ السَّمْراءُ: «هَلُمِّي، فَخَبِّرِينِي بِاسْمِكِ … أَجِيبِي!»

فَأَجابَتْها بِصَوْتٍ خافِتٍ مَحْزُونٍ: «اسْمِي: أُمُّ مازِنٍ.»

فَقالَتْ لَها الدَّابَّةُ السَّمْراءُ: «أَمَّا أَنا، فَيَدْعُونَنِي ﺑ«أُمِّ راشِدٍ».»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «ما أَبْدَعَها كُنْيَةً، يا عَزِيزَتِي: أُمَّ راشِدٍ!»

فاهْتَزَتْ «أُمُّ راشِدٍ» قائِلَةً: «إِنِّي فَأْرَةٌ صَغِيرَةٌ، أَسْكُنُ مَعَ أَهْلِي هَذا الْعُشَّ الَّذِي تَرَيْنَهُ فَوْقَ رَأْسَيْنا.»

فَنَظَرَتْ «أُمُّ مازِنٍ»، فَرَأَتْ — فِي أَعْلَى سَنابِلِ الْقَمْحِ — كُرَةً كَبِيرَةً مُعَلَّقَةً بَيْنَها. فَصاحَتْ مَدْهُوشَةً: «كَيْفَ تَقُولِينَ؟ أَهَذا هُوَ عُشُّكِ، يا «أُمَّ راشِدٍ»؟ إِنَّهُ لا يُماثِلُ بُيُوتَ النَّمْلِ.»

(٧) «أُمُّ أَدْراصٍ»

وَصاحَتْ «أُمُّ راشِدٍ» تُنادِي أُمَّها بِأَعْلَى صَوْتِها. فَخَرَجَتْ مِنَ الْعُشِّ فَأْرَةٌ أَكْبَرُ مِنْها، ثُمَّ قالَتْ لَها، وهِي تُدانِيها: «آه! ها أَنْتِ ذِي، يا بُنَيَّتِي الْعَزِيزَةَ. وَقَدْ كُنْتُ فِي قَلَقٍ عَلَيْكِ — يا «أُمَّ راشِدٍ» — فَما تَصْنَعِينَ هُنا وَحْدَكِ؟»

فَأَجابَتْها «أُمُّ راشِدٍ»: «لَسْتُ هُنا وَحْدِي، يا أُمِّي، فانْظُرِي إِلَى هَذِهِ الزَّائِرَةِ الصَّغِيرَةِ.»

فَقالَتْ «أُمُّ أَدْراصٍ»: «آه! صَدَقْتِ، يا «أُمَّ راشِدٍ»، فَإِنَّها نَمْلَةٌ. وَما أَظُنُّها إِلا شارِدَةً ضَلَّتِ الطَّرِيقَ إِلَى بَيْتِها. أَلَيْسَ كَذَلِكَ، أَيَّتُها النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ؟»

•••

فَلَمْ تَسْتَطِعْ «أُمُّ مازِنٍ» أَنْ تُجِيبَها بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ.

فانْبَرَتْ «أُمُّ راشِدٍ» قائِلَةً: «إِنَّها تُدْعَى «أُمَّ مازِنٍ»، وَقَدْ دَهِمَتْها الْعاصِفَةُ، فِيما تَقُولُ.»

فَقالَتْ «أُمُّ أَدْراصٍ»: «خَبِّرِينِي، يا صَغِيرَتِي الْعَزِيزَةَ: أَلَسْتِ تَقْطُنِينَ تِلْكِ الْقَرْيَةَ الْعامِرَةَ، الَّتِي فِي أَسْفَلِ شَجَرَةِ الْبُرْقُوقِ الْكَبِيرَةِ؟»

فَأَجابَتْها «أُمُّ مازِنٍ»: «صَدَقْتِ — يا سَيِّدَتِي — فَإِنَّ بَيْتَنا هُناكَ، بِالْقُرْبِ مِنْ جِذْعِ تِلْكِ الشَّجَرَةِ.»

فَقالَتْ «أُمُّ راشِدٍ»: «لَعَلَّ أَمَّكِ شَدِيدَةُ الْقَلَقِ عَلَيْكِ، بَعْدَ أَنْ طالَتْ غَيْبَتُكِ!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «تَقُولِينَ: أُمِّي، وَلَسْتُ أَعْرِفُ أَنَّ لِي أُمًّا وَلَدَتْنِي؟!»

فَسَأَلَتْها «أُمُّ راشِدٍ»: «أَتَعْنِينَ أَنَّها قَدْ ماتَتْ؟»

فَأَجابَتْها «أُمُّ مازِنٍ»: «ذَلِكَ ما أَجْهَلُهُ الْجَهْلَ كُلَّهُ فَإِنَّنِي لَمْ أَرَها قَطُّ!»

فَسَأَلَتْها «أُمُّ راشِدٍ»: «إِذًا فَمَنْ كانَ يَتَعَهَّدُكِ بِالْغِذاءِ، فِي أَثْناءِ طُفُولَتِكِ؟»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «كانَتْ مُرْضِعاتُنا الْعامِلاتُ يَتَعَهَّدْنَنا، وَيَسْهَرْنَ عَلَى راحَتِنا. وَإِنِّي أُؤَكِّدُ لَكِ أَنَّهُنَّ لَمْ يُقَصِّرْنَ فِي تَلْبِيَةِ رَغَباتِنا، والْعِنايَةِ بِأَمْرِنا.»

فَقالَتْ «أُمُّ راشِدٍ»: «أَلَيْسَ لَكِ مِثْلُ ما لَنا — مَعْشَرَ الْفأَرِ — أُمًّا حَنُونًا، تَتَعَهَّدُكِ بِبِرِّها وَعَطْفِها؟ يا لَكِ مِنْ شَقِيَّةٍ تاعِسَةٍ!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «إِنَّ لَنا — مَعْشَرَ النَّمْلِ — أُمَّاتٍ. وَلَكِنَّهُنَّ يُحْبَسْنَ فِي غُرْفَةٍ بَعَيْنِها — مِنْ غُرَفِ الْقَرْيَةِ — وَيَقْضِينَ فِيها أَعْمارَهُنَّ كُلَّها لِيَبِضْنَ.

وَقَدْ حَدَّثُونِي أَنَّنِي حِينَ كُنْتُ إِحْدَى ذَلِكَ الْبَيْضِ الصَّغِيرِ …»

فَقاطَعَتْها «أُمُّ راشِدٍ» قائِلَةً: «لَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ الطُّيُورَ هِيَ — وَحْدَها — الَّتِي تَبِيضُ!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «نَعَمْ، وَكُنْتُ — مُنْذُ زَمَنٍ يَسِيرٍ — شَيْئًا مُسْتَدِيرًا، غايَةً فِي الصِّغَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي رَأْسٌ، وَلا أَرْجُلٌ، وَلا أَعْيُنٌ … وَلَسْتُ أَذْكُرُ ذَلِكَ الزَّمَنَ جَيِّدًا.»

فَقالَتْ «أُمُّ راشِدٍ»، ضاحِكَةً: «لَقَدْ فَهِمْتُ ما تَعْنِينَ، فَقَدْ كُنْتِ فِي ذَلِكِ الْوَقْتِ جَنِينًا؛ لَمْ تَتِمَّ خِلْقَتُهُ، وَلَمْ يَتَكَوَّنْ رَأْسُهُ بَعْدُ.»

واسْتَأْنَفَتْ «أُمُّ مازِنٍ» قائِلَةً: «وَفِي ذاتِ يَوْمٍ انْشَقَّ ذَلِكِ الْبَيْظُ — فِيما حَدَّثَتْنِي مُرْضِعَتِي «أُمُّ مَشْغُولٍ» — وَخَرَجَتْ مِنْ واحِدَةٍ مِنْهُ: دُودَةٌ بَيْضاءُ. وَكانَتْ هَذِهِ الدُّودَةُ هِيَ أَنا!

وَقَدْ كُنْتُ — حِينَئِذٍ — جِدَّ سَعِيدَةٍ. وَكانَتْ الْمُرْضِعاتُ يُغَذِّينَنِي — فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ — كُلَّ صَباحٍ، ثُمَّ يَحْمِلْنَنِي إِلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، وَيَدْلُكْنَ جِسْمِي، وَيَلْعَقْنَهُ، حَتَّى إِذا أَمْسَيْتُ حَمَلْنَنِي إِلَى الْبَيْتِ … وَقَدِ انْقَضَى هَذا الزَّمَنُ السَّعِيدُ إِلَى غَيْرِ عَوْدَةٍ؛ فَما كانَ أَطْيَبَهُ، وَأَرْوَحَ ذِكْراهُ!

ثُمَّ أُصِبْتُ بِمَرَضٍ، خَيَّلَ إِلَيَّ أَنْ آخِرَتِي قَدْ قَرُبَتْ، وَأَصْبَحْتُ لا أَسْتَسِيغُ الطَّعامَ، وَلا أَسْتَمْرِئُ الْغِذاءَ؛ وَيَئِسْتُ مِنَ الْبَقاءِ فِي هَذِهِ الدُّنْيا، وَوَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى لِقاءِ الْمَوْتِ.

•••

وَثَمَّةَ سَمِعْتُ صَوْتًا يَصِيحُ: «تَغَطَّيْ أَيَّتُها الدُّودَةُ الصَّغِيرَةُ، والْتَفِّي بِهَذا الْخَيْطِ الدَّقِيقِ، الَّذِي تُخْرِجِينَهُ مِنْ فَمِكِ.»

فَلَبَّيْتُ ذَلِكَ الدُّعاءَ مِنْ فَوْرِي … وَلَمْ أَكَدْ أَفْعَلُ، حَتَّى وَجَدْتُنِي مَحْبُوسَةً فِي كِيسٍ!»

فَقالَتْ «أُمُّ راشِدٍ» مُتَبَرِّمَةً: «مَحْبُوسَةً داخِلَ كِيسٍ؟ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لاخْتَنَقْتِ، أَيَّتُها الْمِسْكِينَةُ التّاعِسَةُ!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «كلَّا، لَمْ أَخْتَنِقْ، بَلْ نِمْتُ نَوْمًا عَمِيقًا وانْتَقَلْتُ — مُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ — مِنْ طَوْرِ الدُّودِيَّةِ إِلَى طَوْرِ النَّمْلِيَّةِ. فَأَصْبَحْتُ — حِينَئِذٍ — عَرُوسًا مِنْ عَرائِسِ النَّمْلِ، مَلْفُوفَةً فِي أَفْوافِ الْحَرِيرِ.

وَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ مِنْ سُباتِي (نَوْمِي الْعَمِيقِ) أَلْفَيْتُنِي قَدِ انْتَقَلْتُ إِلَى حالٍ مُغايرَةٍ لِحالِي الأُولَى كُلَّ الْمُغايَرَةِ. فَأَصْبَحْتُ مَخْلُوقَةً أُخْرَى وَصارَ لِي سِتُّ أَرْجُلٍ، وانْقَسَمَ جِسْمِي أَقْسامًا ثَلاثَةً؛ فاسْتَوْلَى عَلَيَّ الْفَرَحُ، وَصِحْتُ مُبْتَهِجَةً: «مَرْحَى! مَرْحَى! لَقَدْ أَصْبَحْتُ الآنَ فِي عِدادِ الْحَشَراتِ!»

عَلَى أَنَّ فَرَحِي لَمْ يَدُمْ طَويلًا، فَقَدْ كانَ قَصِيرَ الْمَدَى. وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّنِي كُنْتُ — إِلَى ذَلِكَ الْحِينِ — سَجِينَةً فِي الْكِيسِ الَّذِي حَدَّثْتُكِ عَنْهُ. وَلَمْ أَكُنْ — حِينَئِذٍ — أَسْتَطِيعُ حِراكًا. وَثَمَّةَ أَيْقَنْتُ بِالْهَلاكِ مَرَّةً أُخْرَى، وَحَزِنْتُ لِذَلِكَ، فاسْتَسْلَمْتُ لِلْبُكاءِ.»

فَصاحَتْ الْفَأْرَتانِ: «لَكِ اللهُ، أَيَّتُها الصَّدِيقَةُ التَّاعِسَةُ!»

واسْتَأْنَفَتْ «أُمُّ مازِنٍ» قائِلَةً: «ثُمَّ لَبِثْتُ أَبْكِي وَقْتًا طَوِيلًا. وَإِنِّي لَغارِقَةٌ فِي أَحْزانِي، مُسْتَسْلِمَةٌ لآلامِي، إِذْ طَرَقَ سَمْعِيَ دَبِيبُ خُطُواتٍ. فَصِحْتُ مَغَوِّثَةً أَطْلُبُ النَّجْدَةَ. ثُمَّ شَعَرْتُ بِأَنَّ رَفِيقاتِي الْكَبِيراتِ يَثْقُبْنَ تِلَكِ الْقِشْرَةَ الَّتِي تُحِيطُ بِجِسْمِي. وَما كِدْنَ يَنْتَهِينَ مِنْ ذَلِكِ، حَتَّى اقْتَرَبَتْ مِنِّي إِحْدَى الْعامِلاتِ، فَأَمْسَكَتْ بِرَقَبَتِي، وَجَرَّتْنِي إِلَيْها، بِكُلِّ ما أُوتِيَتْ مِنْ قُوَّةٍ. فَصَرَخْتُ مُتَأَلِّمَةً: «آه! تَرَفَّقِي بِي — يا سَيِّدَتِي — فَقَدْ آلَمْتِنِي أَشَدَّ الأَلَمِ!»

وَكانَتْ تِلْكِ الْمُرْضِعَةُ — فِيما يُخَيَّلُ إِلِيَّ — صَمَّاءَ، لا تَسْمَعُ. فَقَدْ ظَلَّتْ تَجُرُّنِي، وَلَمْ تَأْبَهْ لِصَيْحاتِي، وَلَمْ تُصْغِ لِتَأَوُّهاتِي، واقْتَرَبَتْ جَمْهَرَةٌ مِنَ الْعامَلاتِ لِيُساعِدْنَها فِي ذَلِكِ. وَما كِدْنَ يَفْعَلْنَ، حَتَّى سَمِعْتُ صَوْتَ الْقِشْرَةِ الَّتِي تَكْتَنِفُ جِسْمِي، وَهِي تَتَكَسَّرُ.

وَهَكَذا خَرَجْتُ مِنْ سِجْنِي الضَّيِّقِ، وَأَنا أَضْعَفُ ما أَكُونُ. وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ مِنْ فَرْطِ الأَلَمِ والضَّنَى.

ثُمَّ أَحاطَتْ بِيَ الْمُرْضِعاتُ الْحانِياتُ، والْعامِلاتُ الرَّفِيقاتُ، وَظَلَلْنَ يَدْلُكْنَ جِسْمِي، حَتَّى أَيْقَظْنَنِي مِنْ غَشْيَتِي، وَأَعَدْنَ إِلَىَّ رُشْدِي بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ … ثُمَّ مَرَّتْ بِي أَيَّامٌ قَلِيلَةٌ، فَشَعَرْتُ بِالْقُوَّةِ تَسْرِي فِي جَسَدِي شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى أَصْبَحْتُ كَما تَرَيانِ، أَيَّتُها الصَّدِيقَتانِ!»

(٨) فِي طَرِيقِ النَّمْلِ

فَقالَتْ «أُمُّ أَدْراصٍ»: «ما أَجْمَلَ قِصَّتَكِ، يا «أُمَّ مازِنٍ». فَوَداعًا أَيَّتُها الصَّدِيقَةُ الصَّغِيرَةُ، فَإِنَّ زَوْجِي «أَبا أَدْراصٍ» لا يَزالُ — كَما تَرَكْتُهُ — وَحِيدًا فِي عُشِّهِ. فَلأَذْهَبْ إِلَيْهِ مَعَ ابْنَتِي «أُمِّ راشِدٍ».»

فَوَدَّعَتْهُما «أُمُّ مازِنٍ»، وَأَسْرَعَتِ الْفَأْرَتانِ إِلَى عُشِّهِما، وَحَيَّتا صَدِيقَتَهُما، وَهُما تَتَسَلَّقانِ سَنابِلَ الْقَمْحِ، فِي خِفَّةٍ وَرَشاقَةٍ.

واسْتَخْفَتْ «أُمُّ مازِنٍ» بَيْنَ سَنابِلِ الْقَمْحِ. وَظَلَّتْ تُواصِلُ سَيْرَها، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى سَهْلٍ فَسِيحٍ. فَلَمْ تَهْتَدِ إِلَى سَبِيلِها الَّتِي تَسْلُكُها إِلَى بَيْتِها، وَأَيْقَنَتْ أَنَّها قَدْ ضَلَّتِ الطَّرِيقَ. وَحارَتْ فِي أَمْرِها، فَلَمْ تَدْرِ: كَيْفَ تَصْنَعُ؟

وَإِنَّها لَتَسِيرُ مُعْتَسِفَةً (عَلَى غَيْرِ هُدًى)، إِذْ أَبْصَرَتْ لِحُسْنِ حَظِّها طَرِيقَ النَّمْلِ. وَلاحَ لَها سَطْحُ بَيْتِها الْعالِي، فَصاحَتْ مُبْتَهِجَةً مَسْرُورَةً: «يا لَها مِنْ سَعادَةٍ! لَقَدِ اهْتَدَيْتُ إِلَى وادِينا الْعامِرِ.»

وَلَكِنَّها شَعَرَتْ بِأَلَمِ الْجُوعِ، فَآثَرَتْ أَنْ تَذْهَبَ إِلَى بَقَراتِها لِتَحْلُبَها. وَثُمَّةَ أَسْرَعَتْ إِلَى شَجَرَةِ الْبُرْقُوقِ، حَيْثُ رَأَتْ جَمْهَرَةً مِنْ رَفِيقاتِها: دائِبَةَ الْحَرَكَةِ، مَوْفُورَةَ النَّشاطِ، بَيْنَ رائِحَةٍ وَغادِيَةٍ.

وَما إِنْ أَبْصَرَتْ إِحْدَى شَقِيقاتِها وَهِيَ تُدانِيها، حَتَّى ضَرَبَتْ رَأْسَها بِقَرْنَيْها — وَهَذِهِ لُغَةُ الْكَلامِ عِنْدَ النَّمْلِ — ثُمَّ تَبادَلَتا تَحِيَّةً مُقْتَضِبَةً، لأَنَّ النَّمْلَ دائِبَ الْعَمَلِ، وَهُوَ مَشْغُولٌ أَبَدًا، لا يَرْضَى أَنْ يُضِيعَ وَقْتًا فِي ثَرْثَرَةٍ لا طائِلَ تَحْتَها.

فَقالَتْ لَها أُخْتُها: «ها أَنْتِ ذِي قادِمَةٌ، يا «أَمَّ مازِنٍ». فَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ؟»

فَقالَتْ لَها «أُمُّ مازِنٍ»، وَهِيَ مُسْتَأْنِفَةٌ سَيْرَها: «لَقَدْ جُلْتُ جَوْلَةً قَصِيرَةً، فَدَهِمَتْنِي الْعاصِفَةُ.»

ثُمَّ قابَلَتْها نَمْلَةٌ أُخْرَى؛ فَقالَتْ لَها: «سُعِدَ يَوْمُكِ، يا «أُمَّ مازِنٍ».

أَذاهِبَةٌ أَنْتِ لِتَحْلُبِي بَقَراتِنا؟ سِيرِي مُتَيَقِّظَةً حَذِرَةً، فَإِنَّ عُصْفُورًا يَرْقُبُكِ مِنْ أَعْلَى شَجَرَةِ الْبُرْقُوقِ. فَحَذارِ أَنْ تَذْهَبِي فَرِيسةً لَهُ!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «شُكْرًا لَكِ — يا «أُمَّ نَوْبَةَ» — عَلَى نَصِيحَتِكِ. وَداعًا يا عَزِيزَتِي!»

ثُمَّ أَبْصَرَتْ مُرْضِعَتَها «بِنْتَ الشَّيْصَبانِ»، فَقالَتْ لَها، مُبْتَهِجَةً بِلُقْياها: «حُيِّيتِ يا «بِنْتَ الشَّيْصَبانِ»، وَسُعِد يَوْمُكِ! أَقادِمَةٌ أَنْتِ مِنْ هَذا الثَّقْبِ؟»

فَأَجابَتْها بِنْتُ الشَّيْصَبانِ: «صَدَقْتِ، يا «أُمَّ مازِنٍ»! آه، لَوْ عَلِمْتِ — يا بُنَيَّتِي — ما أَصابَنِي الْيَوْمَ مِنْ أَلَمٍ وَشَقاءٍ؟ لَقَدْ فُقِئَتْ إِحْدَى عُيُونِي، مُنْذُ لَحْظَةٍ، وَقَدْ أَصْبَحْتُ — لِتَعاسَتِي — لا أَكادُ أُبْصِرُ شَيْئًا.»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «مِسْكِينَةٌ أَنْتِ، يا «بِنْتَ الشَّيْصَبانِ»، فالْبَثِي قَلِيلًا، فَإِنِّي سَأَصْحَبُكِ فِي عَوْدَتِكِ إِلَى الْقَرْيَةِ.»

(٩) فِي بُرْقُوقَةٍ

ثُمَّ أَسْرَعَتْ «أُمُّ مازِنٍ» إِلَى غِصْنِ الشَّجَرَةِ، وَزَجَّتْ نَفْسَها بَيْنَ أَوْراقِها، باحِثَةً عَنْ بَقَراتِها، فَلَمْ تَجِدْ — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — بُرْغُوثًا تَحْتَلِبُهُ. وَلَكِنَّها عَثَرَتْ عَلَى بُرْقُوقَةٍ كَبِيرَةٍ، ذَهَبِيَّةِ اللَّوْنِ، وَكانَ بَعْضُ الْعَصافِيرِ قَدْ شَقَّها. فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ» تُحَدِّثُ نَفْسَها: «ما أَحْوَجَنِي إِلَى هَذا الطَّعامِ. فَلأَتَذَوَّقْهُ لأَسُدَّ جُوعِي!»

وَلَمْ تَكَدْ تَلْعَقُ عَصِيرَها، حَتَّى قالَتْ، مُبْتَهِجَةً بِهَذا الْغِذاءِ الْفاخِرِ الشَّهِيِّ: «ما أَلَذَّهُ طَعامًا، وَأَشْهاهُ غِذاءً! لَقَدِ اهْتَدَيْتُ إِلَى طَعامٍ آخَرَ، غَيْرِ لَبَنِ الْبَراغِيثِ الصَّغِيرَةِ.» ثُمّ لَبِثَتْ «أُمُّ مازِنٍ» عَلَى الْبُرْقُوقَةِ الشَّهِيَّةِ زَمَنًا طَوِيلًا، وَأَنْسَتْها حَلاوَتُها كُلَّ شَيْءٍ، وَظَلَّتْ تَأْكُلُ مِنْها فِي شَرَهٍ عَجِيبٍ. وَإِنَّها لَمُقْبِلَةٌ عَلَى امْتِصاصِها، إِذْ بِالْبُرْقُوقَةِ تَرْقُصُ فِي الْفَضاءِ، ثُمَّ تَتَرَجَّحُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً!

وَأَحَسَّتْ «أُمُّ مازِنٍ» ذَلِكَ الْخَطَرَ الدَّاهِمَ، فَتَشَبَّثَتْ بِها مُسْتَمِيتَةً، وَأَمْسَكَتْها بِكُلِّ ما أُوتِيَتْ مِنْ قُوَّةٍ، وَهِيَ لا تَدْرِي: ماذا حَدَثَ؟

ثُمَّ اهْتَزَّتِ الْبُرْقُوقَةُ هِزَّةً أُخْرَى، فَهَوَتْ إِلَى الأَرْضِ، وَأُغْمِيَ عَلَى «أُمُّ مازِنٍ» وَهِيَ جاثِمَةٌ فِي وَسَطِ الثَّمَرَةِ.

(١٠) فِي بَيْتِ «فاضِلٍ»

وَلَعَلَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تَعْرِفُوا — أَيُّها الأَطْفالُ الأَعِزَّاءُ — السِّرَّ فِيما حَدَثَ. وَإِنِّي قاصٌّ عَلَيْكُمْ حَقِيقَةَ الأَمْرِ: لَقَدْ جاءَ «فاضِلٌ» الصَّغِيرُ — وَهُوَ غُلامٌ فِي الْعاشِرَةِ مِنْ عُمُرِهِ تَقْرِيبًا — وَظَلَّ يَهُزُّ شَجَرَةَ الْبُرْقُوقِ، لِيَمْلأَ سَلَّتَهُ بِذَلِكَ الثَّمَرِ الشَّهِيِّ، لِيُعِدَّ مِنْها فَطائِرَ لَذِيذَةً. وَكانَتْ بُرْقُوقَةُ «أُمِّ مازِنٍ» أَوَّلَ ما سَقَطَ مِنَ الشَّجَرَةِ.

وَما زالَ «فاضِلٌ» يَهُزُّ شَجَرَةَ الْبُرْقُوقِ، وَيَضَعُ فِي سَلَّتِهِ ما يَسْقُطُ مِنْها، حَتَّى امْتَلأَتْ، فَعادَ بِها إِلَى بَيْتِهِ.

أَراكُمْ تَتَساءَلُونَ عَنْ مَصِيرِ «أُمِّ مازِنٍ»، لِتَتَعَرَّفُوا: ماذا أَصابَها؟ أَكانَ نَصِيبَها الْهَلاكُ أَمِ النَّجاةُ؟

فاعْلَمُوا — أَيُّها الأَصْدِقاءُ الأَعِزَّاءُ — عَلِمْتُمُ الْخَيْرَ، وَأُلْهِمْتُمُ الرُّشْدَ والسَّدادَ — أَنَّ «أُمَّ مازِنٍ» لَمْ تَمُتْ، وَإِنَّما أُغْمِيَ عَلَيْها، مِنْ فَرْطِ الأَلَمِ، وَلَبِثَتْ وَقْتًا طَوِيلًا، لا تُبْدِي حَراكًا، وَلَمَّا اسْتَيْقَظَتْ وَجَدَتْ نَفْسَها … يا لَلْعَجَبِ! أَتَعْرِفُونَ: أَيْنَ وَجَدَتْ نَفْسَها؟

لَقَدْ دُهِشَتْ «أُمُّ مازِنٍ» — كَما تَدْهَشُونَ — حِينَ رَأَتْ أَنَّها فِي وَسَطِ فَطِيرَةٍ، كَبِيرَةٍ مَصْنُوعَةٍ مِنَ الْبُرْقُوقِ.

وَقَفَزَ «فاضِلٌ» الصَّغِيرُ فَرِحًا مَسْرُورًا بِتِلْكِ الْفَطِيرَةِ الْبُرْقُوقِيَّةِ الْجَمِيلَةِ وَقالَ لأُمِّهِ: «ما أَجْمَلَ فَطِيرَتَكِ، يا أُمِّيَ الْعَزِيزَةَ!

سُأُعْطِي «لَيْلَى» الصَّغِيرَةَ نِصْفَ نَصِيبِي مِنْها، لأَنَّها مَرِيضَةٌ، وَأَنا أُحِبُّ أَنْ أُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِها. فَهْلَ تُقِرِّينَنِي عَلَى ذَلِكَ؟

إِنَّ الْفُرْنَ مُوْقَدَةٌ، فَلْنَضَعْ فِيها الْفَطِيرَةَ، لِتُنْضِجَها النَّارُ الْحامِيَةُ بَعْدَ قَلِيلٍ.»

فارْتَجَفَتْ «أُمُّ مازِنٍ»، وَقالَتْ تُحَدِّثُ نَفْسَها: «آه! لَقَدْ حانَ حَينِي، بِلا رَيْبٍ. وَلَوْ تَهاوَنْتُ قَلِيلًا لَقَتَلَتْنِي نارُ الْفُرْنِ الْحامِيَةُ. فَلأَنْجُوَنَّ بِنَفْسِي، قَبْلَ أَنْ أَسْتَهْدِفَ لِهَذا الْخَطَرِ الدَّاهِمِ الْمُمِيتِ!»

والْتَفَتَ «فاضِلٌ» إِلَى أُمِّهِ بَغْتَةً، وَقالَ لَها: «يا لَلْعَجَبِ! أَلا تُبْصِرِينَ هَذِهِ النَّمْلَةَ، يا أُمَّاهُ؟ إِنَّها تَتَنَزَّهُ عَلَى فَطِيرَتِنا. فَيا لَها مِنْ نَمْلَةٍ جَمِيلَةِ الشَّكْلِ، ظَرِيفَةِ الْمَنْظَرِ … لا بُدَّ مِنْ إِخْراجِها!»

فَصاحَتْ بِهِ «أُمُّ مازِنٍ»، وَقَدْ خَشِيَتْ عاقِبَةَ هَذا الْعَمَلِ: «حَذارِ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ، يا «فاضِلُ». اتْرُكْنِي — بِرَبِّكَ — أَذْهَبْ إِلَى حَيْثُ أَشاءُ.»

وَلَكِنَّ «فاضِلًا» لَمْ يَفْهَمْ شَيْئًا مِمَّا تَقُولُ، لأَنَّهُ لا يَعْرِفُ لُغَةَ النَّمْلِ.

وَثَمَّةَ أَمْسَكَ «أُمَّ مازِنٍ»، وَقَبَضَ عَلَيْها بِإِصْبَعَيْهِ فَتَوَجَّعَتْ، وَأَنَّتْ مِنْ فَرْطِ الأَلَمِ، وَقالَتْ لَهُ ضارِعَةً مُتَوَسِّلَةً: «شَدَّ ما آلَمَتْنِي قَبْضَةُ أَصابِعِكَ، أَيُّها الْقاسِي! فَدَعْنِي، وَإِلا اضْطُرِرْتُ إِلَى قَرْصِكَ.»

وَلَمْ يَفْهَمْ «فاضِلٌ» شَيْئًا مِنْ وَعِيدِها، وَلَكِنَّهُ وَضَعَها فِي راحَةِ يَدِهِ مُتَرَفِّقًا. ثُمَّ نادَتْهُ أُمُّهُ، فَوَضَعَ «أُمَّ مازِنٍ» عَلَى الْمائِدَةِ، وَخَفَّ إِلَى أُمِّهِ مُسْرعًا.

(١١) فَصْلٌ مِنْ كِتابٍ

وَرَأَتْ «أُمُّ مازِنٍ» أَمامَها فُرْصَةً سانِحَةً لِلْهَرَبِ، فَنَزَلَتْ مُسْرِعَةً مِنَ الْمائِدَةِ، واخْتَبأَتْ فِي صُنْدُوقِ الْقُمامَةِ (الْكُناسَةِ)، بَيْنَ فُتاتِ الْخُبْزِ وَأَخْلاطِ الطَّعامِ. وَأَصْبَحَتْ — حِينَئِذٍ — آمِنَةً مِنَ الأَخْطارِ. وامْتَلأَتْ نْفَسُها غِبْطَةً وَسُرُورًا، حِينَ رَأَتْ «فاضِلًا» يَعُودُ لِلْبَحْثِ عَنْها، وَفِي يَدِهِ مِصْباحٌ، وَأَبْصَرَتْهُ وَهُوَ يُفَتِّشُ عَنْها فِي أَرْجاءِ الْمَطْبَخِ كُلِّهِ، عَلَى غَيْرِ طائِلٍ.

وَجاءَ «أُبُو فاضِلٍ» فَسَأَلَ وَلَدَهُ: «ماذا تَصْنَعُ؟»

فَحَدَّثَهَ بِقِصِّةِ النَّمْلَةِ والْبُرْقُوقَةِ. فانْتَهَزَ «أَبُو فاضِلٍ» تِلْكِ الْفُرْصَةَ السَّانِحَةَ، وَظَلَّ يُحَدِّثُ وَلَدَهُ عَنْ خَصائِصِ النَّمْلِ، وَمَزاياهُ، وَنَشاطِهِ النَّادِرِ، وَحِيَلِهِ الْعَجِيبَةِ. فَدَهِشَ «فاضِلٌ»، وَأُعْجِبَ بِما سَمِعَ، وَقالَ لأَبِيهِ: «لَعَلَّ هَذا أَعْجَبُ دَرْسٍ سَمِعْتُهُ فِي حَياتِي!»

وَرَأَى الْوالِدُ أَنَّ ابْنَهُ لا يَزالُ فِي حاجَةٍ إِلَى سَماعِ الْمَزِيدِ، فَقالَ لَهُ: «ما دُمْتَ تَطْلُبُ الْمَزِيدَ، فاذْهَبْ إِلَى هَذا الْقِمَطْرِ، وَأَحْضِرِ السِّفْرَ الْعاشِرَ مِنْ كِتابِ «نِهايَةِ الأَرَبِ»، لأَقْرَأَ عَلَيْكَ نُبْذَةً شائِقَةً مِمَّا كَتَبَهُ مُؤَلِّفُهُ عَنِ النَّمْلِ.»

فَأَسْرَعَ «فاضِلٌ» إِلَى الْقِمَطْرِ. وَأَحْضَرَ السِّفْرَ الْعِاشِرَ مِنْ «نِهايَةِ الأَرَبِ»، فَقَرَأَ عَلَيْهِ أَبُوهُ الْقِطْعَةَ الَّتِي اخْتارَها لَهُ، مِنْ ذَلِكَ السِّفْرِ النَّفِيسِ وَإِلَيْكَ ما اخْتارَهُ:

والنَّمْلُ مِنَ الْحَيَوانِ الْمُحْتالِ فِي طَلَبِ الْمَعاشِ. يَتَفَرَّقُ لِذَلِكَ، فاذا وَجَدَ شَيْئًا أَنْذَرَ الْباقِينَ، فَيَأْتِينَ إِلَيْهِ، وَيَأْخُذْنَ مِنْهُ. وَكُلُّ واحِدٍ مُجْتَهِدٌ فِي إِصْلاحِ شَأْنِ الْعامَّةِ، غَيْرُ مُخْتَلِسٍ لِشَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ دُونَ صَحْبِهِ.

وَمِنْ تَحَيُّلِهِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ: أَنَّهُ رُبَّما وُضِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ما يُخافُ عَلَيْهِ مِنْهُ ما يَمْنَعُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ مِنْ ماءٍ أَوْ شَعَرٍ، فَيَتَسَلَّقُ فِي الْحائِطِ، وَيَمْشِي عَلَى جِذْعٍ مِنَ السَّقْفِ، حَتَّى يُسامِتَ (يُقابِلَ وَيُوازِيَ) ما حُفِظَ مِنْهُ، ثُمَّ يُلْقِي نَفْسَهُ عَلَيْهِ. وَفِي طَبْعِهِ وَعادَتِهِ أَنْ يَحْتَكِرَ (يَجْمَعَ وَيَحْتَبِسَ) — فِي زَمَنِ الصَّيْفِ — لِزَمَنِ الشِّتاءِ. وَهُوَ إِذا خافَ — عَلَى ما يَدَّخِرُهُ مِنَ الْحُبُوبِ — الْعَفَنَ، والسُّوسَ، أَوِ التَّنَدِّيَ مِنْ مُجاوَرَةِ بَطْنِ الأَرْضِ: أَخْرَجَها إِلَى ظاهِرِ الأَرْضِ، حَتَّى تَيْبَسَ، ثُمَّ يُعِيدُها. وَإِنْ خافَ عَلَى الْحَبِّ أَنْ يَنْبُتَ مِنْ نَداوَةِ الأَرْضِ، نَقَرَ فِي مَوْضَعِ الْقِطْمِيرِ مِنْ وَسَطِ الْحَبَّةِ (وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِى يَبْتَدِئُ مِنْهُ النَّباتُ)، وَيَفْلُقُ جَمِيعَ الْحَبِّ أَنْصافًا. فَإِنْ كانَ مِنْ حَبِّ الْكُزْبَرَةِ فَلَقَهُ أَرْباعًا، لأَنَّ أَنْصافَ حَبِّ الْكُزْبَرَةِ تَنْبُتُ.

فالنَّمْلُ — مِنْ هَذا الْوَجْهِ — فِي غايَةِ الْحَزْمِ، فَسُبْحانَ الْمُلْهِمِ، لا إِلَهَ غَيْرُهُ. وَلَيْسَ شَيْءٌ — مِنَ الْحَيَوانِ — يَقَوَى عَلَى حَمْلِ ما يَكُونُ ضِعْفَ وَزْنِهِ مِرارًا: غَيْرُ النَّمْلَةِ. والنَّمْلُ يَشُمُّ ما لَيْسَ لَهُ رِيحٌ، مِمَّا لَوْ وَضَعَهُ الإِنْسانُ عِنْدَ أَنْفِهِ، لَما وَجَدَ لَهُ رِيحًا.

وَمِنْ أَسْبابِ هَلاكِ النَّمْلَةِ، نَباتُ الأَجْنِحَةِ لَها. فَإِذا صارَ النَّمْلُ كَذِلِكَ، صادَتْهُ الْعَصافِيرُ، وَأَكَلَتْهُ.

وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ أَبُو الْعَتاهِيَةِ:

«وَإِذا اسْتَوَتْ لِلنَّمْلِ أَجْنِحَةٌ
حَتَّى يَطِيرَ، فَقَدْ دَنا عَطَبُهُ»

•••

وَلَمَّا انْتَهَى «أَبُو فاضِلٍ» مِنْ قِراءَةِ هَذا الْفَصْلِ الْمُعْجِبِ النَّفِيسِ، امْتَلأَتْ نَفْسُ «فاضِلٍ» فَرَحًا بِما أَدْرَكَ مِنْ حَقائِقَ. وَكانَ لِهَذا الدَّرْسِ أَبْلَغُ الأَثَرِ فِي نَفْسِهِ.

(١٢) فِي غُرْفَةِ الْمائِدَةِ

وَنَعُودُ إِلَى صاحِبَتِنا «أُمِّ مازِنٍ» الَّتِي لَبِثَتْ فِي مَكانِها مُخْتَبِئَةً لا تُبْدِي أَقَلَّ حَراكٍ، لِنَرَى: ماذا فَعَلَتْ؟

لَقَدْ جَهَدَها ما لَقِيَتْ مِنْ إِرْهاقٍ وإِعْناتٍ، فاسْتَسْلَمَتْ لِلنَّوْمِ الْعَمِيقِ، وَظَلَّتْ تَحْلُمُ بِالْبَراغِيثِ الشَّهِيَّةِ مَرَّةً، وَبِفَطِيرَةِ الْبُرْقُوقِ مَرَّةً أُخْرَى.

وَلَمَّا اسْتَيْقَظَتْ مِنْ سُباتِها، رَأَتْ أَهْلَ الْبَيْتِ قَدْ نامُوا جَمِيعًا، وَسادَ الصَّمْتُ والسُّكُونُ، وانْطَفَأَتِ الأَضْواءُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْها إِلَّا بَصِيصٌ ضَئِيلٌ، كانَ يُرْسِلُهُ الْقَمَرُ فِي زاوِيَةٍ مِنْ زَوايا الْمَطْبَخِ.

فَتَشَجَّعَتْ «أُمُّ مازِنٍ» وَخَرَجَتْ مِنْ مَخْبَئِها، باحِثَةً — فِي جَمِيعِ الأَرْجاءِ — عَنْ ثَقْبٍ تَنْفُذُ مِنْهُ إِلَى خارِجِ الْبَيْتِ. وَما زالَتْ تَسِيرُ، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى حُجْرَةِ الْمائِدَةِ، وَهِي حُجْرَةٌ فَسِيحَةٌ مُنَسَّقَةٌ أَجْمَلَ تَنْسِيقٍ. ثُمَّ وَقَفَتْ واجِمَةً قَلِقَةً، لأَنَّها سَمِعَتْ جَمْجَمَةً بِالْقُرْبِ مِنْها.

وَظَلَّتْ تُنْصِتُ، لِتَتَثَبَّتَ مِمَّا سَمِعَتْهُ، فَطَرَقَ سَمْعَها صَوْتٌ ضَئِيلٌ. فَهَمَسَتْ «أُمُّ مازِنٍ» قائِلَةً: «تُرَى: مِنِ الطَّارِقُ؟»

فَسَمِعَتِ الصَّوْتَ واضِحًا: تِكْ، تِكْ؛ ثُمَّ ارْتَفَعَ الصَّوْتُ صائِحًا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ: رن … رن … رن …! إِيذانًا بِأَنَّ السَّاعَةَ الثَّالِثَةُ الآن.

فاشْتَدَّ رُعْبُ «أُمِّ مازِنٍ»، وَهَرَبَتْ مُسْرِعَةً، وَهِيَ لا تَعْرِفُ: إِلَى أَيْنَ تَقْصِدُ؟ وَلا تَهْتَدِي إِلَى مَخْرَجٍ لَها مِنْ ذَلِكَ الْمَكانِ الْمُوحِشِ الْمُخِيفِ: وَكانَ الظَّلامُ حالِكًا، والسُّكُونُ يَسُودُ أَهْلَ الْبَيْتِ.

وانْسَلَّتْ «أُمُّ مازِنٍ» الصَّغِيرَةُ مِنْ تَحْتِ الْبابِ، باحِثَةً عَنْ مَنْفَذٍ تَخْرُجُ مِنْهُ، فَإِذا بِها قَدْ عادَتْ مِنْ حَيْثُ أَتَتْ. وَرَجَعَتْ إِلَى الْمَطْبَخِ الَّذِي كانَتْ بِهِ.

(١٣) فِي الْمَطْبَخِ

وَلَمْ يَكَدْ يَقَرُّ قَرارُها فِي الْمَطْبَخِ، حَتَّى أَبصَرَتْ دابَّةً تَقْرِضُ تَحْتَ خِوانٍ، وَهِيَ جادَّةٌ فِي عَمَلِهِا، فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «ما أَشْبَهَ هَذِهِ الدَّابَّةَ بِأُمِّ راشِدٍ وَأُمِّ أَدْراصٍ! وَإِنْ كانَتْ أَضْخَمَ مِنْهُما. عَلَى أَنَّ أَنْفَها الْمُحَدَّدَ يُماثِلُ أَنْفَيْهِما، وَلا يَفْتَرِقُ عَنْهُما فِي شَيْءٍ. وَلَسْتُ أَشُكُّ فِي أَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ لَيْسَتْ إِلا فَأْرَةً، فَلا أُضَيِّعَنَّ الْفُرْصَةَ. وَلا بُدَّ مِنْ سُؤالِها، لَعَلَّها تُرْشِدُنِي إِلَى وَسِيلَةٍ لِلْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ.

ثُمَّ أَسْرَعَتْ «أُمُّ مازِنٍ» إِلَى الدَّابَّةِ السَّمْراءِ. وَلَكِنَّها رَأَتْ عَيْنَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ خَضَراوَيْنِ تَقْدَحانِ نارًا، فَلَمْ تَدْرِ: أَيَّ عَيْنَيْنِ هاتانِ؟

وَأَرْهَفَتْ سَمْعَها، فَلَمْ تَسْمَعْ إِلا صَوْتَ الْفَأَرَةِ الصَّغِيرَةِ، وَهِيَ تَقْرِضُ بِأَسْنانِها. فاسْتَأْنَفَتْ «أُمُّ مازِنٍ» سَيْرَها، وَهِيَ تَقُولُ فِي نَفْسِها: «لَقَدْ كُنْتُ واهِمَةً — بِلا رَيْبٍ — فِيما حَسِبْتُهُ فَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي أَرَى عَيْنَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ تَقْدَحانِ نارًا، فَلَمَّا أَنْعَمْتُ النَّظَرَ، لَمْ أَعْثُرْ لَهُما عَلَى أَثَرٍ. وَلَعَلَّ سَبَبَ هَذا الْوَهْمِ عائِدٌ إِلَى ضَعْفِ أَعْصابِي، الَّتِي أَضْناها ما بَذَلْتُهُ مِنَ الْجُهْدِ، وَكابَدْتُهُ مِنَ الْعَناءِ، فِي الْيَوْمِ السَّابِقِ.»

ثُمَّ تَقَدَّمَتْ إِلَى الْفَأْرَةِ، قائِلَةً: «سُعِدَ لَيْلُكِ، يا سَيِّدَتِي الْفَأْرَةَ!»

فَقالَتْ لَها الْفَأْرَةُ مُسْتَعْجِبَةً: «سُعِدْتِ وَسَلِمْتِ، يا عَزِيزَتِي … آه … إِنَّكِ نَمْلَةٌ صَغِيرَةٌ … فَأَيُّ حادِثٍ أَتَى بِكِ إِلَى هَذا الْبَيْتِ، الآهِلِ بِساكِنِيهِ؟ لَقَدْ غَرَّرْتِ بِنَفْسِكِ (عَرَّضْتِها لِلْهَلاكِ) فَإِنَّكِ مُسْتَهْدِفَةٌ لِلأَخْطارِ، إِذا أَصْرَرْتِ عَلَى الْبَقاءِ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَما أَيْسَرَ عَلَى أَيٍّ كانَ أَنْ يَسْحَقَكِ بِقَدَمِهِ، عَنْ قَصْدٍ، أَوْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. فارْجِعِي إِلَى وادِيكِ، إِنْ أَرَدْتِ السَّلامَةَ. فَما أَظُنُّكِ قَدِمْتِ إِلَى هُنا — أَيَّتُها الشَّرِهَةُ الصَّغِيرَةُ — إِلا رَغْبَةً فِي أَنْ تَأْكُلِي مِنَ السُّكَّرِ، وَأَلْوانِ الْحَلْوَى، والْفَطائِرِ اللَّذِيذَةِ … إِنِّي جِدُّ عارِفَةٍ بِما تُؤْثِرِينَهُ مِنْ لَذائِذِ الأَطْعِمَةِ!»

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ»: «كلَّا، يا سَيِّدَتِي الْفَأْرَةَ، ما جِئْتُ هُنا مُخْتارَةٌ، بَلْ ساقَتْنِيَ الْمَقادِيرُ مُرْغَمَةً إِلَى هَذا السِّجْنِ. وَقَدْ بَذَلْتُ جُهْدِي، مُتَلَمِّسَةً مَنْفَذًا لِلْخُرُوجِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ، فَلَمْ أُوَفَّقْ فِي سَعْيي إِلَى الآنَ. وَلَكِنْ خَبِّرِينِي — مُتَفَضِّلَةً — بِكُنْيَتِكِ، لأُكَرِّمَكِ بِها إِذا نادَيْتُكِ.»

فَقالَتْ لَها الْفَأْرَةُ: «كُنْيَتِي — أَيَّتُها الْعَزِيزَةَ — هِيَ أُمُّ دِرْصٍ.»

وَلَمْ تَكَدْ «أُمُّ دِرْصٍ» تُتِمُّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ، حَتَّى سَمِعَتْ حَرَكَةً تَنْبَعِثُ مِنْ رُكْنٍ مُظْلِمٍ. فَرَفَعَتْ «أُمُّ دِرْصٍ» أَطْرافَ أَنْفِها، وَأُذُنَيْها، مُرْتاعَةً؛ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْها حِينَ تَلَفَّتَتْ فَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا فِي الْحُجْرَةِ فَقالَتْ ساخِرَةً: «ما أَشَدَّ غَبائِي وَجُبْنِي! فَإِنِّي دائِمَةُ الْخَوْفِ مِنَ الْقِطِّ، لأَنَّ أُمِّي طالَما حَذَّرَتْنا مِنْهُ، وَأَوْهَمَتْنا أَنْ خَطَرَهُ لا يُدْفَعُ، وَأَنَّ بَأَسَهُ مَرْهُوبٌ.

وَقَدْ طالَما حَدَّثَتْنا أَحادِيثَ مُفْزِعَةً عَنِ الْقِطَطِ، وَمَصايدِ الْفَأْرِ. وَقَدْ حَظَرَتْ عَلَيْنا الدُّخُولَ فِي هَذا الْمَطْبَخِ الْحافِلِ بِأَشْهَى الأَطْعِمَةِ …

وَلَكِنَّنِي لَنْ أَعْبَأَ بِنَصِيحَتِها — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — فَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّها تُغالِي فِي الْخَوْفِ والْفَزَعِ، مِمَّا لا يُخِيفُ وَلا يُفْزِعُ …

أَلا تَرَيْنَ هَذا الْبابَ أَيَّتُها النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ؟ إِنَّ خَلْفَهُ مِنْ نَفائِسِ الأَطْعِمَةِ، وَلَذائِذِ الْمآكِلِ الْمُرْتَقِياتِ، ما يُنْسِي الْجَبانَ جُبْنَهُ، وَيَجْعَلُهُ شُجاعًا جَرِيئًا يَسْتَهِينُ بِالأَخْطارِ، وَلا يُبالِي بِالْعَواقِبِ …

إِنَّهُ فِيهِ كَثِيرًا مِنْ أَلْوانِ الْخُبْزِ، والأُرْزِ، والْجُبْنِ اللَّذِيذِ، وَما إِلَى ذَلِكَ مِنْ أَصْنافِ الطَّعامِ …

أَلا تَشَمِّينَ هَذِهِ الرَّائِحَةَ الطَّيِّبَةَ؟ لَقَدْ طالَما نَعِمْتُ بِاقْتِحامِ هَذا الْبابِ، وَأَكَلْتُ ما شِئْتُ مِنْ هَذِهِ اللَّذائِذِ … ثُمَّ عُدْتُ إِلَى أَهْلِي راضِيَةً مَسْرُورَةً … فَإِنَّ أُسْرَتِي تَقْطُنُ مُسْتَوْدَعَ الْقَمْحِ الْقَرِيبَ مِنْ هَذِهِ الْحُجْرَةِ حَيْثُ تُخْفِي زادَنا مِنَ الْجَوْزِ، و …»

وَهُنا وَقَفَتْ «أُمُّ دِرْصٍ» عَنِ الْكَلامِ، فَقَدْ سَمِعَتِ الْحَرَكَةَ تَنْبَعِثُ مِنَ الرُّكْنِ الْمُظْلِمِ، مَرَّةً أُخْرَى. والْتَفَتَتْ «أُمُّ مازِنٍ» فَرَأَتِ الْعَيْنَينِ الْبَرَّاقَتَيْنِ الْكَبِيرَتَيْنِ تَقْدَحانِ بِالشَّرَرِ.

وَكانَتِ الْقِطَّةُ — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — قَرِيبَةً مِنْها، فارْتَجَفَتْ «أُمُّ مازِنٍ». وَلَمْ تَكُنْ قَدْ رَأَتِ الْقِطَّ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَلَمْ تَسْتَبِنْ — مِنْ خِلالِ الظَّلامِ — إِلا عَيْنَيْهِ، فَقالَتْ مَذْعُورَةً: «الْزَمِي الصَّمْتَ، يا «أُمَّ دِرْصٍ». فإِنِّي أَتَوَجَّسُ شَرًّا، وَقَدْ خُيِّلَ إِلَيَّ أَنَّنِي أَرَى شَيْئًا مُخْتَبِئًا فِي بَعْضِ الزَّوايا.»

(١٤) غُرُورُ الْفَأْرَةِ

فَقالَتْ «أُمُّ دِرْصٍ» هازِئَةً: «ها! ها! ها! يا لَكِ مِنْ رِعْدِيدَةٍ خائِرَةِ الْعَزْمِ! عَلَى أَنَّ مَجالَ الْعُذْرِ أَمامَكِ فَسِيحٌ، لأَنَّكِ حَشَرَةٌ ضَعِيفَةُ الْحَوْلِ والطَّوْلِ … أَمَّا أَنا فَلَسْتُ جَدِيرَةً أَنْ أَخْشَى كائِنًا كانَ … إِنَّنِي لا أُبالِي بِالنَّاسِ، وَلا بِمَصايدِ الْفَأْرِ، وَلا بِالْقِطاطِ، لأَنَّنِي عاقِلَةٌ رَشِيدَةٌ، وَإِنْ كانَتْ أُمِّي تَأَبَى إِلا أَنْ تُعامِلَنِي كَما تُعامِلُ طِفْلَةً صَغِيرَةً. وَلَها الْعُذْرُ فإنَّ حُبَّ الأُمَّهاتِ كَثِيرًا ما يَدْفَعُهُنَّ إِلَى تَخْوِيفِ بَناتِهِنَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ … إِنَّنِي جَرِيئَةُ الْقَلْبِ، يا «أُمَّ مازِنٍ»، وَقَدْ كُنْتُ أَقْرِضُ الأُرْزَ أَمْسَ — فِي هَذا الْمَكانِ — فِي وَضَحِ النَّهارِ، أَمامَ رَبَّةِ الدَّارِ، وَعَلَى مَرْأَى مِنْها … وَقَدْ شَعَرْتُ — أَوَّلَ مَرَّةٍ — بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ، ثُمَّ عاوَدَتْنِي الشَّجاعَةُ … وَلَعَلَّكِ لا تَعْرِفِينَ: ماذا فَعَلْتُ؟»

فَقالَتْ لَها «أُمُّ مازِنٍ»: «كَلا، لا أَعْرِفُ شَيْئًا!»

فَقالَتْ «أُمُّ دِرْصٍ»: «إِنَّها لَمْ تَكَدْ تَفْتَحُ هَذِهِ الْغِرارَةَ (الزَّكِيبَةَ) الَّتِي أَمامَنا، حَتَّى قَفَزْتُ فِي وَجْهِهِا. فاشْتَدَّ خَوْفُها وَلاذَتْ بِالْفِرارِ، وَصاحَتْ تَطْلُبُ النَّجْدَةَ. وَسَأَلْجأ إِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَتَى رَأَيْتُ قِطًّا!»

(١٥) نَشِيدُ الْفَأْرَةِ

وَما زالَتْ «أُمُّ دِرْصٍ» سابِحَةً فِي أَحْلامِها، مُتظاهِرَةً بِالْجُرْأَةِ، مُسْتَهِينَةً بِالأَخْطارِ، غَيْرَ مُقَدِّرَةٍ لِلْعَواقِبِ حِسابًا. ثُمَّ خَتَمَتْ غُرُورَها، مُتَغَنِّيَةً بِالأُنْشُودَةِ التَّالِيَةِ:

حَدَّثَتْ أُمِّي، وَما أَعْـ
ـجَـبَ ما قالَتْهُ أُمِّي!
«حَدَّثَتْنا بِحَدِيثٍ
كانَ وَهْمًا: أَيَّ وَهْمِ!
حَدَّثَتْنا أَنَّ بَأْسَ الْـ
قِطِّ: مَرْهُوبٌ، مُخِيفُ
وَهُوَ — فِي رَأْيي — جَبانٌ
خائِرُ الْعَزْمِ، ضَعِيفُ
إِنْ رَأْى — مِثْليَ — سَـ
ـبَّاقًا، تَوانَى عَنْ لِحاقِهْ
أَيْنَ بَأْسُ الْقِطِّ مِنْ بَأْ
سِي؟ وَسْبِقِي مِنْ سِباقِهْ؟!
أَبْلِغُوا الْقِطَّةَ عَنِّي:
«أَنَّنِي أَشْجَعُ مِنْها
لَسْتُ أَخْشاها، وَلا أَفْـ
ـزَعُ إِنْ حُدِّثْتُ عَنْها!»
لَيْتَها تَبْدُو أَمامِي
لِتَرَى عَزْمِي، وَبَأْسِي
عَلَّنِي أُلْقِي عَلَيْها
— إِنْ أَتَتْ — أَبْلَغَ دَرْسِ
عَلَّها تُؤْمِنُ أَنَّ الْـ
ـفَأْرَ لا تَرْضَى الْفِرارا
وَتَرَى أَنِّي عَنِيدٌ
— فِي صِراعِي — لا أُبارَى
وَتَرَى مِنَّا — إِذا ثُرْ
نا — أَشِدَّاءَ كِرامَا
لا يُبالُونَ — إِذا ما
غَضِبُوا — الْمَوْتَ الزُّؤاما!»

(١٦) نَشِيدُ الْقِطِّ

وَما كادَتْ «أُمُّ دِرْصٍ» تُتِمُّ آخِرَ كَلِمَةٍ فِي هَذا النَّشِيدِ، حَتَّى امْتَلأَ قَلْبُها ذُعْرًا. فَوَقَفَتِ الْمِسْكِينَةُ عَنِ الْكَلامِ، وَقَفَّ شَعْرُها مِنْ فَرْطِ الرُّعْبِ، وَجَحَظَتْ عَيْناها، وَصاحَتْ، وَهِيَ تَرْتَجِفُ: «رَبَّاهُ! ماذا أَرْىَ؟

أَدْرِكِينِي يا أُمَّاهُ! إِنَّهُ الْقِطُّ. فَما حِيلَتِي فِي دَفْعِهِ؟»

وَأَقْبَلَ عَلَيْها الْقِطُّ يُطارِدُها، وَيُنْشِدُ تائِهًا مَزْهُوًّا:

أَيُّها الْمَغْرُورُ: أَهْلًا
بِكَ إِذْ جِئْتَ وَسَهْلَا
قَدْ تَمَنَّيْتَ لِقائِي
ضَلَّةً مِنْكَ، وَجَهْلا
أَنْتَ لِي أَفْخَرُ زادٍ
أَنْتَ لِي أَشْهَى طَعامْ
فَتَأَهَّبْ لِلِقائِي
واغْنَمِ الْمَوْتَ الزُّؤامْ.

وَظَلَّتْ «أُمُّ دِرْصٍ» تَجْرِي فِي أَرْجاءِ الْمَطْبَخِ، عَلَى غَيْرِ هُدىً، والْقِطُّ يُطارِدُها وَيَسُدُّ عَلَيْها مَنافِذَ الْهَرَبِ؛ وَهِيَ تُغَوِّثُ، طالِبَةً النَّجْدَةَ، فَلا يُغِيثُها أَحَدٌ.

وَكانَتْ «أُمُّ دِرْصٍ» خَفِيفَةَ الْحَرَكَةِ، سَرِيعَةَ الْقَفْزِ، فَأَسْرَعَتْ إِلَى جُحْرِها، حَتَّى إِذا دانَتْهُ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى بُلُوغِهِ إِلا قَفْزَتانِ، أَدْرَكَ «أَبُو خَداشٍ» غَرَضَها، فَوَثَبَ عَلَيْها وَثْبَةً واحِدَةً، فَإِذا هِيَ بَيْنَ مَخالِبِهِ.

وَهَكَذا حالَ دُونَ ما تُرِيدُ، وَبَدَّلَ أَمْلَها يَأْسًا، وَأَصْبَحَتْ بَيْنَ بَراثِنِ الْمَوْتِ، بَعْدَ أَنْ كانَتْ أَقْرَبَ ما تَكُونُ إِلَى النَّجاةِ؛ فَلَمْ تَرَ بُدًّا مِنْ مُعاوَدَةِ النِّضالِ.

(١٧) عاقِبَةُ الْغُرُورِ

فانْسَلَّتْ مِنْ بَيْنِ أَرْجُلِ عَدُوِّها اللَّدُودِ، وَأَسْرَعَتْ تَجْرِي بِكُلِّ سُرْعَتِها، حَتَّى وَجَدَتْ مِكْنَسَةً فِي زاوِيَةِ الْمَطْبَخِ، فاخْتَبَأَتْ خَلْفَها، وَهِيَ تُعَلِّلُ نَفْسَها بِكاذِباتِ الأَمْانِيِّ، وَتَظُنُّ أَنَّ «أَبا خَداشٍ» لَنْ يَراها. وَتَقُولُ لِنَفْسِها نادِمَةً مَحْزُونَةً: «لَيْتَنِي أَصْغَيْتُ إِلَى نُصْحِكِ يا أُمَّاهُ! إِذَنْ لَنَجَوْتُ مِنَ الْخَطَرِ الدَّاهِمِ، وَلَكِنَّ غُرُورِي أَوْرَدَنِي مَوارِدَ الْهَلاكِ … وَلَئِنْ نَجَوْتُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، لَمْ أُخالِفْ لَكِ قَوْلًا بَعْدَ الْيَوْمِ!»

وَلَكِنَّ آمالَ «أُمِّ دِرْصٍ» تَبَدَّدَتْ، وَذَهَبَتْ أَدْراجَ الرِّياحِ، فَقَدْ رَبَضَ «أُبُو خَداشٍ» أَمامَ الْمِكْنَسَةِ، وَظَلَّ يَتَرَقَّبُ فَرِيسَتَهُ، بِفارِغِ الصَّبْرِ، وَهُوَ يَتَحَفَّزُ لِلْفَتْكِ بِها، والانْقِضاضِ عَلَيْها، وَقَدْ سالَ لُعابُهُ شَوْقًا إِلَى ازْدرادِها. وَظَلَّ يُمِرُّ لِسانَهُ عَلَى شَفَتَيْهِ مِرارًا، وَهُو فَرْحانُ بِهَذا الْفَطُورِ الشَّهِيِّ الْوَشِيكِ!

وَما كادَتْ «أُمُّ دِرْصٍ تُطِلُّ بِرَأْسِها الصَّغِيرِ، حَتَّى انْقَضَّ عَلَيْها «أَبُو خَداشٍ»، وَأَمْسَكَ بِها بَيْنَ مِخْلَبَيْهِ، فَقالَتْ لَهُ ضارِعَةً: «اصْفَحْ عَنِّي — فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ — يا أَبا خَداشٍ! وَإِنِّي مُعاهِدَتُكَ عَلَى تَرْكِ الدَّارِ … اغْفِرْ لِي — بِرَبِّكَ — هَذِهِ الزِّلَّةَ؛ فَلَنْ أَعُودَ إِلَى اقْتِرافِها بَعْدَ الْيَوْمِ.»

وَلَكِنَّ «أَبا خَداشٍ» لَمْ يُصْغِ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا تَقُولُ، وَأَمْسَكَ بِها بْيَنَ بَراثِنِهِ.

وَلَمْ تُطِقْ «أُمُّ مازِنٍ» أَنْ تَرَى مَصْرَعَ صَدِيقَتِها التَّاعِسَةِ الْمِسْكِينَةِ: «أُمِّ دِرْصٍ»، الَّتِي عُوقِبَتْ عَلَى غُرُورِها وَبَلاهَتِها أَشْنَعَ عِقْابٍ، فاخْتَبَأَتْ «أُمُّ مازِنٍ» حَتَّى غابَ «أَبُو خَداشٍ»، وَمَعَهُ فَرِيسَتُهُ، الَّتِي خالَفَتْ نُصْحَ أُمِّها فَلَقِيَتْ حَتْفَها جَزاءً وِفاقًا!

(١٨) بَيْنَ «فاضِلٍ» وَ«كَوْثَرَ»

وَلَمَّا أَصْبَحَتْ «أُمُّ مازِنٍ»، وَنَفَذَ — إِلَى الْمَطْبَخِ — أَوَّلُ شُعاعٍ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ الْوَضَّاءَةِ، أَقْبَلَتْ «أُمُّ مازِنٍ» عَلَى الْمائِدَةِ، تَلْتَهِمُ سُكَّرًا مَسْحُوقًا وَظَلَّتْ تَأْكُلُهُ فِي شَرَهٍ عَجِيبٍ، شَأْنُ بَناتِ جِنْسِها جَمِيعًا.

وَإِنَّها لَتَلْتَهِمُ السُّكَّرَ الْتِهامًا، إِذْ سَمِعَتْ صَوْتَ خُطُواتٍ ثَقِيلَةٍ، تَدِبُّ فِي الْمَمْشَى، وَرَأَتْ «كَوْثَرَ» قادِمَةً عَلَى الْمَطْبَخِ.

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ» فِي نَفْسِها: «لَقَدْ حانَ وَقْتُ الْهَرَبِ، حَتَّى لا تَرانِي هَذِهِ الْفَتاةُ، فَتُهْلِكَنِي.»

وَرَأَتْ «أُمُّ مازِنٍ» أَمامَها ذُبابَةً تَطِيرُ، صَوْبَ نافِذَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ مِنْها. فاعْتَزَمَتْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَنْفَذِ، وَأَسْرَعَتْ تَعْدُو (تَجْرِي) إِلَى النَّافِذَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهِيَ حَرِيصَةٌ عَلَى أَنْ تَسْتَخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْ «كَوْثَرَ» الَّتِي كانَتْ مَشْغُولَةً بِإِعْدادِ الْفَطُورِ … وَما زالَتْ «أُمُّ مازِنٍ» تَجِدُّ فِي سَيْرِها — بِعَزْمِ نَمْلَةٍ — حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى النَّافِذَةِ.

وَلَكِنَّها لَمْ تَكَدْ تَبْلُغَ حافَتَها، حَتَّى هالها ما رَأَتْ، فَقَدْ أَبْصَرَتْ هاوِيَةً بَعِيدَةَ الْغَوْرِ (شَدِيدَةَ الْعُمْقِ)، بَيْنَ النَّافِذَةِ والأَرْضِ.

فَحارَتْ فِي أَمْرِها، وَلَمْ تَدْرِ: كَيْفَ تَصْنَعُ؟

وَتَراجَعَتْ — مِنْ فَوْرِها — خائِفَةً مَذْعُورُةً، حَتَّى لا تَتَرَدَّى (لا تَسْقُطَ) فِي تِلْكِ الْهاوِيَةِ السَّحِيقَةِ.

وَإِنَّها لَتَهُمُّ بِالْعَوْدَةِ — مِنْ حَيْثُ أَتَتْ — إِذْ طَرَقَ سَمْعَها صَوْتُ «فاضِلٍ» وَهُوَ يُنادِي أُخْتَهُ «كَوْثَرَ»: «هَلْ أَعْدَدْتِ فَطُورِي، أَيَّتُها الشَّقِيقَةُ الْعَزِيزَةُ؟»

فَقالَتْ لَهُ «كَوْثَرُ» باسِمَةً: «لَقَدْ أَوْشَكْتُ أَنْ أَنْتَهِيَ مِنْهُ.»

فَصاحَ «فاضِلٌ» مَسْرُورًا: «انْظُرِي إِلَى هَذِهِ النَّمْلَةِ الصَّغِيرَةِ، الَّتِي تَسِيرُ حائِرَةً عَلَى حافَةِ النَّافِذَةِ، لَقَدْ بَحَثْتُ عَنْها أَمْسَ، فَلَمْ أَفُزْ بِطائِلٍ مِنْ بَحْثِي، وَها قَدْ عَثَرْتُ عَلَيْها الآنَ!»

فَقالَتْ لَهُ «كَوْثَرُ»: «دَعْها — يا عَزِيزِي — آمِنَةً وادِعَةً، وَلا تُزْعِجْها.»

فَقالَ لَها «فاضِلٌ»: «كَلا، لَنْ أُصِيبَها بِسُوءٍ. وَلَكِنِّي حَرِيصٌ عَلَى دَرْسِ دَقائِقِ تَرْكِيبِها الْعَجِيبِ.»

(١٩) فِي الْهَواءِ الطَّلْقِ

وَلَكِنَّ «أُمَّ مازِنٍ» كانَتْ تُؤْثِرُ (تُفَضِّلُ) أَنْ تَمُوتَ عَلَى أَنْ يَقْبِضَ عَلَيْها أَحَدٌ. فَأَسْرَعَتْ إِلَى حافَةِ النَّافِذَةِ. واعْتَزَمَتْ أَنْ تَهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ، كَبَّدَها ذَلِكَ ما كَبَّدَها مِنْ عَناءٍ وَمُخاطَرَةٍ! فَتَقَدَّمَتْ إِلَى الْحائِطِ فِي صَبْرٍ وَثَباتٍ، وَأَنْشَبَتْ أَرْجُلَها مُتَشَبِّثَةً بِهِ. وَلَكِنَّها لَمْ تَكَدْ تَخْطُو خُطُواتٍ ثَلاثًا، حَتَّى انْقَلَبَ رَأْسُها إِلَى أَسْفَلَ، واخْتَلَّ تَوازُنُها، فَهَوَتْ مِنِ ارْتِفاعِ طابِقٍ كامِلٍ. وَقَدْ كانَ هَذا الارْتِفاعُ كافِيًا لَقَتْلِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنَ النَّمْلَةِ؛ وَلَكِنَّها نَجَتْ مِنَ الْخَطَرِ — لِحُسْنِ حَظِّها — فَقَدْ اعْتَرَضَتْها وَرَقَةُ كَرْمٍ، فَحَمَتْها مِنْ أَنْ تُصابَ بِسُوءٍ.

وانْطَلَقَتْ «أُمُّ مازِنٍ» تَجِدُّ فِي طَرِيقِها، إِلَى بَيْتِها، وَقَدْ أَصْبَحَتْ آمِنَةً فِي الْهَواءِ الطَّلْقِ … وَما زالَتْ جادَّةً فِي السِّيْرِ حَتَّى اقْتَرَبَتْ مِنَ الْبَيْتِ.

(٢٠) فِي وادِي النَّمْلِ

وَلَمْ تَكَدْ تَدْنُو مِنْ وادِي النَّمْلِ، حَتَّى رَأَتْ ما أَدْهَشَها وَهالَها، وَحَزَنَها وَأَقْلَقَ بالَها.

تُرَى: ماذا حَدَثَ؟ وَأَيُّ خَطْبٍ أَلَّمَ بِعَشِيرَتِها، وَحَلَّ بِقَوْمِها؟

لَقَدْ أَبْصَرَتْ طَوائِفَ النَّمْلِ خارِجَةً أَسْرابًا أَسْرابًا، ضارِبَةً فِي فِجاجِ الأَرْضِ (طُرُقِها)، عَلَى غَيْرِ هُدًى.

فَقالَتْ «أُمُّ مازِنٍ» تُحَدِّثُ نَفْسَها مَدْهُوشَةً: «هَذا أَعْجَبُ ما رَأَيْتُ فِي حَياتِي! وَما أَدْرِي: لِمَ خَرَجَتْ عَشِيرَتِي كُلُّها مِنْ دُورِها! أَتُراهُنَّ قَدْ خَرَجْنَ لِيُقابِلْنَنِي؟ ما أَظُنُّ ذَلِكَ!»

ثُمَّ أَبْصَرَتْ «أُمُّ مازِنٍ» صاحِبَتَها «بِنْتَ الشَّيْصَبانِ» قادِمَةً، وَقَدْ بَدَتْ عَلَيْها أَماراتُ الارْتِباكِ والْحَيْرَةِ وَكَأَنَّما هِيَ هارِبَةٌ، وَقَدْ حَمَلَتْ طِفْلا صَغِيرًا.

فَصاحَتْ بِها «أُمُّ مازِنٍ» قائِلَةً: «سُعِدَ يَوْمُكِ، يا «بِنْتَ الشَّيْصَبانِ» ها أَنا ذِي رَبِيبَتُكِ: «أُمُّ مازِنٍ» أَلا تَعْرِفِينَنِي؟ ما بالُكِ خائِفَةً وَجِلَةً؟»

فَقالَتْ لَها «بِنْتُ الشَّيْصَبانِ»: «آهٍ لَنا، يا حَبِيبَتِي! وَواهِ مِنْ تِلْكِ النَّكْبَةِ الَّتِي أَلَمَّتْ بِنا، أَيَّتُها الْعَزِيزَةُ!»

فَصاحَتْ «أُمُّ مازِنٍ» مُرْتاعَةً: «أَيَّ نَكْبَةٍ تَعْنِينَ؟»

فَأَجابَتْها «بِنْتُ الشَّيْصَبانِ»: «لَقَدْ هاجَمَتْنا جُيُوشٌ كَثِيفَةٌ مِنَ النِّمالِ الشُّقْرِ الْخَبِيثَةِ، وَشَنَّتْ عَلَيْنا غارَةً شَعْواءَ. وَلَعَلَّكِ تَعْرِفِينَ أَنَّ أُولَئِكَ الشَّقْراواتِ طالَما خَطَفْنَ بَناتِنا، وَفَجَعْنَنا فِي حَبِيباتِنا. وَلَقَدْ كاثَرْنَنا بِعَدَدِهِنَّ، وَمَلأْنَ السَّهْلَ، وَمَلَكْنَ عَلَيْنا فِجاجَ الأَرْضِ كُلَّها. آه! ألا تَسْمَعِينَ؟ وَداعًا، يا «أُمَّ مازِنٍ». فإِنِّي هارِبَةٌ، حَتَّى لا أَقَعَ فَرِيسةً لأُولَئِكِ الْخَبِيثاتِ.»

(٢١) غَزْوَةُ النَّمْلِ

وَلَقَدْ صَدَقَتْ «بِنْتُ الشَّيْصَبانِ» فَيما قالَتْهُ، فَإِنَّ جُيُوشَ الشَّقْرَواتِ — مِنْ نِمالِ الأَعْداءِ — كانَتْ تَتَقَدَّمُ إِلَى وادِي النَّمْلِ، زاحِفَةً تُحاوِلُ أَنْ تَكْتَسِحَ الْوادِيَ. وَقَدْ رَتَّبَتْ خُطَّةَ الْهُجُومِ والْغَزْوِ، وَسارَتْ مُتَقَدِّمَةً فِي صُفُوفٍ مُتَراصَّةٍ. وَكانَ الْقادَةُ فِي مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، مُسْتَبْسِلِينَ فِي الْحَرْبِ، وَقَدْ رَفَعُوا قُرُونَهُمْ مُهِيبِينَ (صائِحِينَ) بِجُنُودِهِمْ: أَنْ تَقَدَّمُوا إِلَى الأَمامِ، إِلَى الأَمامِ دائِمًا!

وَكانَتِ الشَّقْراواتُ الْكَبِيراتُ آيَةً مِنْ آياتِ الْقَسْوَةِ، فَلَمْ تَرْحَمْ صَغِيرًا وَلَمْ تُوَقِّرْ كَبِيرًا. واضْطَرَبَتْ أَسْرابُ النِّمالِ السُّودِ الصَّغِيرَةِ، وَتَفَرَّقَ حُرَّاسُها أَشْتاتًا، يُغَوِّثُونَ وَيَسْتَنْجِدُونَ. وَخَرَجَتْ جَماهِيرُ النَّمْلِ الأَسْوَدِ، لِصَدِّ غارَةِ الأَعْداءِ، وَقَدْ آلَيْنَ عَلَى أَنْفُسِهِنَّ أَنْ يَمْنَعْنَ وادِيَهُنَّ، وَيَحْمِينَ وَطَنَهُنَّ، وَيَذُدْنَ عَنْ ذَرارِيهِنَّ (نَسْلِهِنَّ)، باذِلاتٍ أَرْواحَهُنَّ رَخِيصَةً فِي سَبِيلِ حِمايَةِ الأَهْلِ والْوَطَنِ!

وانْدَفَعْنَ — فِي شَجاعَةٍ وَإِقْدامٍ لا مَثِيلَ لَهُما — يُحارِبْنَ الْعَدُوَّ، وَيُجْلِينَ الْمُغِيراتِ، وَقَدْ بَذَلْنَ كُلَّ ما وَسِعَتْهُ جُهُودُهُنَّ، وَأَبْلَيْنَ فِي الْحَرْبِ أَحْسَنَ بَلاءٍ.

وَلَكِنَّ الشَّقْراواتِ الْكَبِيراتِ ظَلِلْنَ يَتَقَدَّمْنَ إِلَى الأَمامِ، مُسْتَهِيناتٍ بِكُلِّ ما يَتَعَرَّضْنِ لَهُ مِنْ أَخْطارٍ، وَقَدْ أَصْرَرْنَ عَلَى اقْتِحامِ صُفُوفِ الْعَدُوِّ وَإِذْلالِهِ، كَلَفَهُنَّ ذَلِكَ ما كَلَفَهُنَّ، مِنْ جِهادٍ وَفِداءٍ.

وَصاحَ صائِحُهُنَّ — مِنَ الْقادَةِ — وَهُنَّ يَتَسَلَّقْنَ قِمَّةَ التَّلَّةِ، وَيَعْتَلِينَ ذِرْوَةَ الرَّبْوَةِ: «نَظِّمْنَ صُفُوفَكُنَّ — يا حَفَدَةَ «الشَّيْصَبانِ» — واسْتَلْهِمْنَ مَضاءَ عَزْمِ أَسْلافِكُنَّ. وَلا تَنْسَيْنَ نَصِيحَةَ جَدِّنا الأَكْبَرِ: «الشَّيْصَبانِ» الْعَظِيمِ، فَقَدْ أَصْبَحَ النَّصْرُ مِنَّا قَرِيبًا، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْكُنَّ إِلا خُطُواتٌ يَسِيرَةٌ تَقْهَرْنَ — فِي إِثْرِها — الْعَدُوَّ؛ وَتَنْتَصِرْنَ فِي هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ الْحاسِمَةِ!»

فَسارَتِ الشَّقْراواتُ، زاحِفاتٍ عَلَى أَعْدائِهِنَّ، مُرَدِّداتٍ نَشِيدَ الْحَرْبِ الَّذِى حَفِظْنَهُ مِنْ أَسْلافِهِنَّ، عَنْ جَدِّهِنَّ الأَوَّلِ: «الشَّيْصَبانِ» الأَكْبَرِ.

(٢٢) نَشِيدُ الشَّيْصَبانِ

وَكانَتْ جَماعاتُ النَّمْلِ الشُّقْرِ، جادَّةً فِي طَرِيقِها إِلَى وادِي الأَعْداءِ، وَهُنَّ يَنْشُدْنَ النَّشِيدَ التَّالِي مُتَحَمِّساتٍ:

يا بَناتَ الشَّيْصَبانِ:
قَدْ أَتَى يَوْمُ الطِّعانِ
فَتَوافَدْنَ أُلُوفَا
وَتَجَمَّعْنَ صُفُوفَا
واعْتَلِينَ الْهَضَباتِ
واقْتَحِمْنَ الْعَقَباتِ
ثُمَّ فَرِّقْنَ الأَعادِي
بَدَدًا فِي كُلِّ وادِي!
يا بَناتَ الشَّيْصَبانِ:
قَدْ أَتَى يَوْمُ الطِّعانِ
فَلْيَكُنْ يَوْمَ فَخَارِ
وابْتِهاجٍ وانْتِصارِ
لا تَوانَيْنَ، فَإِنَّا
— إِنْ تَوانَيْتُنَّ — ضِعْنا
فَلْتُدَكْدِكْنَ الْجِبالا
وَلْتُذَلِّلْنَ الْمُحالا!
يا بَناتَ الشَّيْصَبانِ:
قَدْ أَتَى يَوْمُ الطِّعانِ
فَتَسَنَّمْنَ الْوِهادا
وَتَناسَيْنَ الرُّقادا
وَتَسامَيْنَ لِمَجْدٍ
وَتَذَرَّعْنَ بِجِدٍّ
وَتَقَحَّمْنَ السُّهُولا
وَتَدافَعْنَ سُيُولا!
يا بَناتَ الشَّيْصَبانِ
قَدْ أَتَى يَوْمُ الطِّعانِ
جَدُّكُنَّ الشَّيْصَبانُ
مَجْدُهُ لَيْسَ يُهانُ:
إِنَّنا نَحْمِي لِواءَهْ
فَلْنَمُوتَنَّ فِداءَهْ
وَلَنَمُوتَنَّ كِراما
ذَلَّ مَنْ يَخْشَى الْحِماما!

(٢٣) انِتصارُ الشَّقْراواتِ

وَسُرْعانَ ما اقْتَحَمَتِ الشَّقْراواتُ وادِيَ الأَعْداءِ، باحِثاتٍ عَنْ أَطْفالِهِنَّ الصِّغارِ، وَقَدْ تَمَّ لَهُنَّ الظَّفَرُ. وَعُدْنَ، وَفِي فَمِ كُلِّ شَقْراءَ مِنْهُنَّ دُودَةٌ، أَوْ طِفْلٌ، مِنْ ذَرارِيِّ النِّمالِ السَّوْداءِ، وَهِيَ أَعَزُّ ما لَدَيْهِنَّ فِي الْحَياةِ.

وَهَكَذا انْتَهَتْ تِلْكِ الْحَرْبُ الطَّاحِنَةُ بِانْدِحارِ السَّوْداواتِ، وانْتِصارِ الشَّقْراواتِ، وامْتَلأتْ ساحَةُ الْقِتالِ بِالْقَتْلَى والْجَرْحَى، مِنَ السَّوْداواتِ، وَتَكَدَّسَتْ أَشْلاؤُهُنَّ أَكْداسًا.

أَلا قَبُحَتِ الْحَرْبُ! وَقَبُحَ كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ عَلَى إِثارَتِها وَإِلْهابِ نارِها!…

(٢٤) مَجْمَعُ النَّمْلِ الأَسْوَدِ

وَعادَتْ جُيُوشُ الشَّقْراواتِ فَرِحاتٍ بِانْتِصارِهِنَّ، وَقَدْ حَمَلْنَ أَسْلابَ أَعْدائِهِنَّ، وَرَجَعْنَ بِغَنائِمِهِنَّ الثَّمِينَةِ. وَلَوْ رَأَيْتُمُوهُنَّ — أَيُّها الأَطْفالُ الأَعِزَّاءُ — لَرَأَيْتُمْ آلافًا مِنَ الْقُشُورِ الْبَيْضاءِ، سائِرَةً خِلالَ الْحَشائِشِ الْخَضْراءِ.

وَما أَظُنُّكُمْ تَجْهَلُونَ تِلْكِ الْقُشُورَ الْبِيضَ، فَهِيَ ذَرارِيُّ النِّمالِ السُّودِ الَّتِي حَمَلَتْها الشَّقْراواتُ إِلَى وادِيهِنَّ الْبَعِيدِ.

وَنَعُودُ إِلَى «أُمِّ مازِنٍ» لِنَرَى ما فَعَلَتْهُ فِي أَثْناءِ هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ الطَّاحِنَةِ.

والْحَقَّ أَقُولُ — أَيُّها الْقُرَّاءُ الأَعِزَّاءُ — إِنَّ هَذِهِ النَّمْلَةَ الْباسِلَةَ قَدِ اسْتَبْسَلَتْ فِي الدِّفاعِ، واسْتَماتَتْ فِي سَبِيلِ الذَّوْدِ عَنِ الْوَطَنِ والْعَشِيرَةِ، وَقاتَلَتْ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، حَتَّى خَرَّتْ صَرِيعَةً فِي الْمَيْدانِ، وَرَقَدَتْ بَيْنَ الأَشْلاءِ، وَهِيَ إِلَى الْمَوْتِ أَقْرَبُ مِنْها إِلَى الْحَياةِ.

وَبَعْدَ قَلِيلٍ جاءَتْ السَّوْداواتُ باحِثاتٍ عَنِ الْجَرْحَى، واسْتَيْقَظَتْ «أُمُّ مازِنٍ» مِنْ رَقْدَتِها، فَجَمْجَمَتْ تَقُولُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ: «تُرَى: أَيْنَ أَنا؟»

وَرَآها صَواحِبُها، وَهِيَ تُحَرِّكُ إِحْدَى أَرْجُلِها، فَتَقَدَّمَتْ إِحْداهُنَّ إِلَيْها، وَصاحَتْ قائِلَةً: «آه! ها هِيَ «أُمُّ مازِنٍ»! يا عَزِيزاتِي! فَهَلُمِّي أَيَّتُها الرَّفِيقَةُ الْباسِلَةُ!»

فَنَهَضَتْ «أُمُّ مازِنٍ» مِنْ رَقْدَتِها. وَبَذَلَتْ جُهْدًا شَدِيدًا، حَتَّى اسْتَطاعَتْ أَنْ تَقِفَ عَلَى أَقْدامِها، وَظَلَّتْ تُحَرِّكُ أَرْجُلَها لِتَتَفَقَّدَها. فَلَمَّا اطْمَأَنَّتْ بِوُجُودِها، حَمِدَتِ اللهَ عَلَى السَّلامَةِ، وَقالَتْ: «شُكْرًا للهِ عَلَى أَنَّنِي لَمْ أُصَبْ بِسُوءٍ، وَلَمْ تُكْسَرْ لِي قَدَمٌ واحِدَةٌ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ الطَّاحِنَةِ.»

ثُمَّ سارَتْ مُسْتَنِدَةً إِلَى إِحْدَى رَفِيقاتِها، وَما زالَتْ تَتَوَكَّأُ عَلَيْها حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى قاعَةِ الاجْتِماعِ، فَرَأَتْ جَمْهَرَةً مِنَ النِّمالِ تَتَحَدَّثُ وَتُناقِشُ مُناقَشاتٍ حادَّةً.

وَسَمِعَتْ إِحْداهُنَّ تَقُولُ: «هَلْ وَضَعْتُنَّ حارِساتٍ عِنْدَ السِّياجِ، قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ؟»

فَأَجابَتْها نَمْلَةٌ أُخْرَى: «لَمْ يَفُتْنا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ — بِلا رَيْبٍ — فَقَدْ وَقَفْنا جَماعَةً مِنَ الْحارِساتِ فِي الْجَبْهَةِ الأُخْرَى، وَإِنِّي جِدُّ واثِقَةٍ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمَأْساةَ الْمُفجِّعَةَ لَنْ تَتَكَرَّرَ بَعْدَ الْيَوْمِ.»

فَقالَتْ نَمْلَةٌ ثالِثَةٌ: «لَقَدْ جاءَتْ «بِنْتُ الشَّيْصَبانِ» سُعِدَ مَساؤُكِ، أَيَّتُها الأُخْتُ الْعَزِيزَةُ. خَبِّرِينا ماذا تَحْمِلِينَ؟ إِنِّي أَراكِ تَحْمِلِينَ طِفْلًا!

يا للهِ! لَقَدْ حَسِبْناكِ فِي عِدادِ الْهَلْكَى، أَيَّتُها الرَّفِيقَةُ الْكَرِيمَةُ!»

فَقالَتْ «بِنْتُ الشَّيْصَبانِ» بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ طِفْلَها أَمامَهُنَّ: «أَسْعَدَ اللهُ مَساءَكُنَّ يا عَزِيزاتِي! أَلا تَرَيْنَ أَنَّنِي لَمْ أُضِعْ وَقْتِي عَبَثًا؟ فَقَدِ انْسَلَلْتُ فِي أَثْناءِ الْمَعْرَكَةِ، وَخَبَّأْتُهُنَّ فِي ذَلِكَ الثَّقْبِ الأَمِينِ، الَّذِي فِي جِذْعِ شَجَرَةِ الْبُرْقُوقِ.»

فَقُلْنَ لَها: «أَيَّ شَيْءٍ خَبَّأْتِ فِي جِذْعِ الْبُرْقُوقَةِ، يا بِنْتَ الشَّيْصَبانِ؟»

فَقالَتْ مَزْهُوَّةً فَخُورَةً: «لَقَدْ خَبَأْتُ الأَطْفالَ الأَعِزَّاءَ! فَقَدِ انْسَلَلْتُ إِلَى وادِينا خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَحَمَلْتُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ طِفْلا، وَها هُوَ ذا أَحَدُ الأَطْفالِ! فَتَعالَيْنَ مَعِي، لِنُحْضِرَ الْباقِينَ.»

فارْتَفَعَتْ أَصْواتُ الثَّناءِ والإِعْجابِ بِها مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، وَقُلْنَ لَها: «يا لَكِ مِنْ مُرْضِعٍ نَبِيلَةٍ، يا بِنْتَ الشَّيْصَبانِ! فَلَكِ مِنَّا أَطْيَبُ الشُّكْرِ، وَأَجَلُّ الاحْتِرامِ.»

(٢٥) خُطْبَةُ «أُمِّ مشغولٍ»

وَأَرادَتْ «أُمُّ مازِنٍ» أَنْ تَتَعَرَّفَ عَدَدَ الْقَتْلَى، فاقْتَرَحَتْ عَلَى صَدِيقَتِها «أُمِّ نَوْبَةَ» أَنْ تُنادِيَ الأَسْماءَ.. وَلَمْ تَكَدْ تَفْعَلُ، حَتَّى ظَهَرَ أَنَّ عَدَدَ الْقَتْلَى قَدْ فاقَ كُلَّ حُسْبانٍ.

وقالت «أُمُّ نَوْبَةَ»: «وَلَقَدْ هَلَكَ — فِي هَذِهِ الْمَوْقِعَةِ الْهائِلَةِ — كَثِيرٌ مِنَ الْقُوَّادِ، مِنْهُمْ: الْعُجْرُوفُ، والدُّعْبُوبُ، والدِّعامَةُ، والْجَفْلُ، والْجَثْلُ. وَهَلَكَتِ السُّمْسُمَةُ؛ وَهِيَ زَعِيمَةُ جَيْشِ الأَعْداءِ، وَقائِدَةُ جُمُوعِهُمْ. وَقُتِلَ جُمْهُورٌ ضَخْمٌ مِنَ الدَّبى: وَهِيَ تِلْكِ النِّمالُ الصِّغِيراتُ، الْعَزِيزاتُ عَلَيْنا، كَما هَلَكَتْ جَماعَةٌ مِنَ السماسِمِ، وَهُمْ إِخْوَتُنا مِنَ النِّمالِ الَّتِي تَعِيشُ فِي الْبَساتِينِ. وَلَمْ يَكُنْ لَها يَدٌ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ الطَّاحِنَةِ، وَلَكِنَّها ذَهَبَتْ فَرِيسةً بِلا ثَمَنٍ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِها، رافِعَةً قَوائِمَها إِلَى السَّماءِ، وَهِيَ تَدْعُو اللهَ أَنْ يَثْأَرَ لَنا مِنَ الشَّقْراواتِ الْجائِراتِ، اللائِي بَغَيْنَ، واعْتَدَيْنَ عَلَيْنا أَشْنَعَ اعْتِداءٍ.

فَسَأَلْتُ اللهَ أَنْ يُجِيبَ دُعاءَها، وَيَنْتَقِمَ لَنا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.»

فَوَجَمَتِ النِّمالُ السَّوْداءُ، وَحَزِنَتْ لِمَصارِعِ أَخَواتِها.

وَصاحَتْ «أُمُّ مازِنٍ» مُتَأَلِّمَةً: «لَقَدْ فَتَكَ بِنا النَّمْلُ الأَشْقَرُ فَتْكًا ذَرِيعًا، وَفَجَعَنا فِي أَعَزِّ صَواحِبِنا، وَأَبَرِّ صَدِيقاتِنا، وَأَكْرَمِ أَهْلِينا عَلَيْنا. وَلَقَدْ أَثارَها عَلَيْنا غارَةً شَعْواءَ، وَذَبَحَ مِنَ السَّوْداواتِ عَدَدًا لا يُحْصَى، وَلَمْ يَبْقَ فِي غُرَفِ الْمُرَبِّياتِ أَحَدٌ. فَلْنُشَيِّعْ قَتْلانا غَدًا — فِي احْتِفالٍ مَهيبٍ — إِلَى مَقْبَرَتِنا الَّتِي خَلْفَ السِّياجِ.»

وَلَمَّا أَتَمَّتْ «أُمُّ مازِنٍ» كَلامَها، سادَ الصَّمْتُ والْحُزْنُ، ساعَةً مِنَ الزَّمانِ، ثُمَّ انْبَعَثَتْ أَصْواتٌ — مِنْ أَرْجاءِ الْقاعَةِ — تَقُولُ: «اصْغَينَ إِلَى خِطابِ أُمِّ مَشْغُولٍ!»

فَتَلَفَّتَتِ النِّمالُ إِلَى «أُمِّ مَشْغُولٍ»، وَهِيَ نَمْلَةٌ عامِلَةٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَقَدْ صَعِدَتْ عَلَى ظَهْرِ نَمْلَةٍ أُخْرَى لِتُسْمِعَ رَفِيقاتِها صَوْتَها فِي وُضُوحٍ وَجَلاءٍ.

وَأَرْهَفَتِ النِّمالُ آذانَهُنَّ لِسَماعِ ما تَقُولُهُ «أُمُّ مَشْغُولٍ».

وَقَدْ أَنْشَأَتْ تَقُولُ: «أَبْنائِي، وَبَناتِ أَخَواتِي، وَحَفَدَتِيَ الأَعِزَّاءَ: إِنَّ هَذا الْيَوْمَ لَنْ يُمْحَى مِنْ ذاكِرَتِنا، ما حَيينا؛ فَهُوَ يَوْمُ حُزْنٍ وَحِدادٍ، وَقَدْ تَبَدَّلَ فِيهِ هَناؤُنا شَقاءً، وانْقَلَبَ فَرَحُنا تَرَحًا.

وَلَقَدْ أَقَمْنا رَدَحًا مِنَ الزَّمَنِ، فِي هَذا الْوادِي الْخَصِيبِ، وَقَضَيْنا فِيهِ عَهْدًا سَعِيدًا، مَرَّ بِنا كَما تَمُرُّ أَشْهَى الأَحْلامِ. ثُمَّ دالَتْ دَوْلَتُنا، وَرَمانا الدَّهْرُ — فِي هَذا الْيَوْمِ الأَسْوَدِ — بِفادِحِ الْخُطُوبِ والْمِحَنِ … فَقَدْ رُزِئْنا فِي بَناتِنا الْعَزِيزاتِ وَكُنَّ مَصْدَرَ سُرُورِنا وَإِيناسِنا، وَمُرادَ آمالِنا وَأَمانِيِّنا.

لَقَدْ قَضَيْنا الصَّباحَ فِي مَرَحٍ وَسُرُورٍ، فِي هَذا الْوادِي الْجَمِيلِ، الْحَبِيبِ إِلَى الْقُلُوبِ، وَها نَحْنُ أُولاءِ: نَقْضِي الْمَساءَ حَزِيناتٍ، مُوجَعاتٍ مُقْرَّحاتِ الْعُيُونِ.

لَقَدْ أَغارَتِ الشَّقْراواتُ عَلَى دِيارِنا، وانْتَهَبْنَ ما تَرَكْنا، مِنْ بَيْظٍ وَأَطْفالٍ أَعِزَّاءٍ عَلَيْنا، هُمْ مَناطُ آمالِنا وَمَعْقِدُ رَجائِنا، واتَّخَذْنَهُنَّ عَبِيدًا لَهُنَّ وَأَرِقَّاءَ، لِيُؤَدِّينَ — فِي قَرْيَةِ الأَعْداءِ — أَعْمالَ الْخَدَمِ والْعَبِيدِ، وَلَيْسَ لَنا مِنْ أَمَلٍ فِي عَوْدَةِ أَبْنائِنا بَعْدَ الْيَوْمِ!…»

فَبَكَتْ بَناتُ «الشَّيْصَبانِ» جَمِيعًا، حِينَ سَمِعْنَ هَذِهِ الْكَلِماتِ الدَّامِيَةَ …

وَصَمَتَتْ «أُمُّ مَشْغُولٍ» لَحَظاتٍ يَسِيرَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ، قائِلَةً: «لَيْسَتْ هَذِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَدْهَمُنا فِيها أُولَئِكَ الأَعْداءُ. بَلْ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّالِثَةُ، فِيما أَعْلَمُ. فَقَدْ أَلِفَتِ الشَّقْراواتُ الْخَبِيثاتُ أَنْ يُغِرْنَ عَلَى وادِينا وَيَنْتَهِبْنَ أَسْلابَنا؛ وَيُخَرِّبْنَ بُيُوتَنا، وَيَسْتَعْبِدْنَ أَبْناءَنا وَبَناتِنا.

فَما حِيلَتُنا الآنَ؟ لَيْسَ لَنا مِنْ حِيلَةٍ إِلا أَنْ نُصْلِحَ ما خَرَّبَتْهُ الشَّقْراواتُ مِنْ قَرْيتِنا، وَ …»

فانْبَعَثَ صَوْتٌ ضَعِيفٌ، مِنْ آخِرِ الْقاعَةِ، يَقُولُ: «عُذْرًا — يا سَيِّدَتِي أُمَّ مَشْغُولٍ — واغْفِرِي لِي مُقاطَعَتِي إِيَّاكِ!

لَقَدْ تَهَدَّمَ نِصْفُ بَيْتِنا، وَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّنا غَيْرُ آمِنِينَ عَلَى حَياتِنا، وَحَياةِ ذَرارِينا. وَلَنْ نَشْعُرَ بِطُمَأْنِينَةٍ فِي هَذا الْوادِي، فَقَدْ أَلِفَتِ الشَّقْراواتُ أَنْ يُغِرْنَ عَلَيْهِ، وَيُفاجِئْنَنا بِأَحْداثِهِنَّ، بَيْنَ حِينٍ وَآخَرَ. أَلا يَجْدُرُ بِنا — إِذَنْ — أَنْ نَبْحَثَ عَنْ مَكانٍ آخَرَ، نَتَّخِذُهُ مَقَرًّا لَنا فِي غَيْرِ هَذا الْوادِي؟»

فَصاحَتِ النِّمالُ — كُلُّها — قائِلَةً: «لَقَدْ أَحَسَنْتِ وَأَصَبْتِ، وَبِفَصْلِ الْخِطابِ نَطَقْتِ!»

(٢٦) فِي الْوادِي الْجَدِيدِ

فَنَهَضَتْ «أُمُّ مازِنٍ» قائِلَةً: «لَقَدِ اهْتَدَيْتُ — فِي هَذا الصَّباحِ — إِلَى وادٍ خَصِيبٍ، فِي مَوْقِعٍ بَدِيعٍ، لا يَبْعُدُ عَنَّا كَثِيرًا، وَهُوَ فِي آخَرِ غابَةٍ صَغِيرَةٍ، وَأَرْضُهُ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ طِينِيَّةٌ رَطِبَةٌ، فَهِيَ أَصْلَحُ الْمَوادِّ لِبِناءِ جُدْرانِ بُيُوتِنا؛ لأَنَّها قَوِيَّةٌ لا تَهُدُّها الرِّياحُ.

وَنَحْنُ — الآنَ — فِي فَصْلِ الْبُرْقُوقِ، وَلَدَيْنا مُتَّسَعٌ مِنَ الْوَقْتِ، لِتَشْييدِ دُورِنا، قَبْلَ حُلُولِ فَصْلِ الشِّتاءِ.»

فانْبَعَثَتْ أَصْواتٌ عِدَّةٌ، قائِلَةً: «لَقَدْ أَصَبْتِ فِي اقْتِراحِكِ، «يا أُمَّ مازِنٍ»، وَنَحْنُ عَلَى رَأْيكِ فِيما تُقَرِّرِينَ.»

ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ «أُمُّ مَشْغُولٍ»: «ما دامَ اقْتِراحُ أُمِّ مازِنٍ» قَدْ لَقِيَ مِنْكُنَّ قَبُولا حَسَنًا، فَإِنِّي أَنْصَحُكُنَّ أَلا تُضِعْنَ شَيْئًا مِنَ الْوَقْتِ، فِيما لا طائِلَ تَحْتَهُ.

وَأَرَى أَنْ تَذْهَبَ طائِفَةٌ مِنْكُنَّ مَعَ «أُمِّ مازِنٍ» فِي صَباحِ الْغَدِ، عِنْدَما تُشْرِقُ الشَّمْسُ، وَتُبَلِّلُ الْمُرُوجَ بِالنَّدَى، لِتَتَعَرَّفْنَ مَوْقِعَ الْوادِي الْجَدِيدِ.

وَلا يَفُوتُكُنَّ — أَيَّتُها الْعَزِيزاتُ — أَنَّ بِناءَ بَيْتِ النَّمْلِ لَيْسَ مِنَ الْهِناتِ الْهَيِّناتِ. فَهَلْ عَرَفْتُنَّ ماذا يَجْدُرُ بِكُنَّ أَنْ تَعْمَلْنَهُ، مُنْذُ الآن؟»

فَتَقَدَّمَتْ «أُمُّ نَوْبَةَ» إِلَى وَسَطِ الْقاعَةِ، ثُمَّ قالَتْ: «إِنِّي أَعْلَمُ ذَلِكَ حَقَّ الْعِلْمِ، فَإِنَّ أَوَّلَ واجِبٍ عَلَيْنا، هُوَ أَنْ نَحْفِرَ فِي الأَرْضِ حُفَرًا واسِعَةً، حَيْثُ نُنْشِئُ الْغُرَفَ، وَنُشَيِّدُ الأَرْوِقَةَ.»

فَقالَتْ «أُمُّ مَشْغُولٍ»: «صَدَقْتِ، يا «أُمَّ نَوْبَةَ».

فَهَلْ وَعَيْتُنَّ ذَلِكَ، أَيَّتُها الصَّغِيراتُ الْعَزِيزاتُ؟

وَلا يَفُوتُكُنَّ أَنْ تُنْشِئْنَ — فِي بَيْتِنا الْجَدِيدِ — حُجُراتٍ لِتَرْبِيَةِ الأَطْفالِ، عَلَى غِرارِ الْحُجُراتِ الَّتِي أَنْشَأْناها فِي بَيْتِنا الْقَدِيمِ. وَلْيَكُنْ فِيهِ قاعَةٌ كَبِيرَةٌ لِلاجْتِماعِ.»

فَقالَتْ «أُمُّ نَوْبَةَ»: «نَعَمْ يَجْدُرُ بِنا أَنْ نُشَيِّدَ الْقَرْيَةَ الْجَدِيدَةَ، عَلَى نَسْقِ تِلْكِ الْقَرْيَةِ الْقَدِيمَةِ، فَنَجْعَلَ فِيها تَعارِيجَ تُعَوِّقُ سَيْرَ الْمَطَرِ عَنْ دُخُولِ الْقَرْيَةِ وَنُشَيِّدَ طابَقَيْنِ، واحِدًا فَوْقَ الآخَرِ، حَتَّى نَأْمَنَ عَلَى ما نَدَّخِرُهُ فِي قَرْيَتِنا مِنَ الْبَلَلِ، وَنُشَيِّدَ فِيها مَنازِلَ وَدَهالِيزَ وَحُجُراتٍ مُعَلَّقَةً، لِنَمْلأَها حُبُوبًا وَذَخائِرَ، لِفَصْلِ الشِّتاءِ الْقادِمِ.»

فَقالَتْ «أُمُّ مَشْغُولٍ»: «لَقَدْ وَهَبَنا اللهُ — سُبْحانَهُ — آلاتٍ ثَمِينَةً، لأَداءِ هَذِهِ الأَعْمالِ الْجَلِيلَةِ فَلْتَحْفِرْ كُلُّ واحِدَةٍ — مِنْكُنَّ — أَرْضَ الْقَرْيَةِ الْجَدِيدَةِ، بِقَوائِمِها السِّتِّ، وَلا تُضِعْنَ شَيْئًا مِنْ أَوْقاتِكُنَّ عَبَثًا.»

فَصاحَ شَبابُ النَّمْلِ: «السَّمْعُ والطَّاعَةُ لَكِ، يا «أُمَّ مَشْغُولٍ»!»

(٢٧) خاتِمَةُ الْقِصَّةِ

ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ «أُمُّ مَشْغُولٍ» قائِلَةً: «لَقَدْ حانَ وَقْتُ التَّفَرُّقِ، بَعْدَ أَنْ جَنَّ اللَّيْلُ، وَبَقِيتْ لِي كَلِمَةٌ، أُفْضِي بِها إِلَيْكُنَّ، قَبْلَ أَنْ يَنْفَضَّ هَذا الاجْتِماعُ الْحاشِدُ: لَقَدْ كانَتْ فِكْرَةُ الْهِجْرَةِ، مِنِ اقْتِراحِ «أُمِّ مازِنٍ»: تِلْكِ النَّمْلَةِ الصَّغِيرَةِ، الَّتِي فاقَتْ — عَلَى صِغَرِها — كُلَّ نِمالِ الْقَرْيَةِ ذَكاءً.

وَعِنْدِي أَنَّها جَدِيرَةٌ أَنْ تُصْبِحَ مُهَنْدِسَةَ الْبَيْتِ، وَمُدِيرَةَ الْعَمَلِ فِي إِنْشائِهِ، فَماذا تَرَيْنَ فِي هَذا، يا بَناتِ الشَّيْصَبانِ.»

فَصاحَتِ النِّمالُ كُلُّها، وَهِيَ ذاهِبَةٌ إِلَى غُرُفاتِ النَّوْمِ: «أَصَبْتِ، «يا أُمَّ مَشْغُولٍ»، وَوُفِّقْتِ إِلَى الصَّوابِ، وَأُلْهِمْتِ الرُّشْدَ والسَّدادَ. فَلْتَحْيَ «أُمُّ مازِنٍ»! فَلْتَحْيَ «أُمُّ مازِنٍ»!».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤