الفصل الثاني

حالة الفلاح في عهد محمد علي باشا

قال إسماعيل باشا مخاطبًا نواب الأمة في سنة ١٨٦٧: «إن جدي محمدًا عليًّا قضى على الاضطراب في مصر، وأعاد الأمن إلى ربوعها، ووضع أنظمة تضمن لها مستقبلًا سعيدًا.»

وليس بخافٍ ما بذله ذلك الأمير العظيم من الجهود التي لا تقل عن جهود بطرس الأكبر في إنهاض الأمة من وهدتها، وبعث البلاد التي اتخذها موطنًا من موتها؛ بمنحها نظامًا حكيمًا فيه كل قابلية التقدم.

ولا يسعنا تقفي خطاه في المجال الذي أبلى فيه بلاء المجدد الهمام، فنكتفي بأن نقول: إنه قد أصاب إذ اعتقد أنه لا يمكن ترقية القطر إلا إذا بدئ بتحسين زراعته، وإغناء أهله، ونشر أسباب الحضارة بينهم. من أجل هذا تراه قد خص الزراعة بأولى عناياته، وأمضى عزائمه، وكانت باكورة أعماله إلغاء الالتزام؛ لشدة حيلولته دون التقدم الزراعي، وهدم جميع الأساليب التي كان الملتزمون يستعملونها في عهد المماليك لاستغلال الأرض، على أنه ترك لملتزمي الوجه البحري والجيزة أراضي الأوسية تركًا عمريًّا، وأعفاهم من الضريبة، ومنحهم دخلًا سنويًّا مدة حياتهم تعويضًا لهم عن الإتاوات التي كانوا يجبونها من الفلاحين.

أما ملتزمو الوجه القبلي الذين كانوا قد ثاروا عليه وحملوا السلاح في وجهه، فقد نزع منهم أراضي الأوسية، ولم يعطهم بدلًا (راجع تقرير بطرس باشا السابق ذكره).

وإلى محمد علي يرجع الفضل في إعادة الأشغال العمومية التي كانت قد وقفت ردحًا طويلًا من الزمن بجهل المماليك واستبدادهم، فقد استعان بنخبة من المهندسين والعلماء الأوروبيين تخير جلبهم من فرنسا، وشرع يعمل بعزم ثابت.

وإليك ما قاله لينان دي بلفون باشا، أحد الذين عاونوه منذ الساعة الأولى بذكاء ظاهر، ونشاط عظيم: «لما تولى محمد علي باشا في بداية هذا القرن وأراد أن يصلح شئون الولاية التي دخلت في حكمه، تبين الفوائد الكبرى التي تجنى من الأشغال العمومية لزيادة مياه الري وتنظيمها، فبدأ باحتفار ترع كثيرة، وأنشأ جسورًا وطرقًا في أرجاء البلاد، وخصوصًا في الصعيد الذي عني فيه بكر أنجاله، إبراهيم باشا، بإتمام الجزء الأكبر منها، بعد أن طهر هذا الجزء من الأشقياء الذين كانوا يعيثون فيه فسادًا.

وفي عهد محمد علي باشا، حوالي سنة ١٨١٦، بُدِئَ بإنشاء الفروع العظمى للنيل، وتقوية جسوره، وعملت كل هذه الأعمال بطريقة السخرة السهلة الإجبارية؛ إذ كانت فائدتها تعم الجميع، فكانت تتم بسرعة مدهشة. وقد بلغت هذه الأعمال العمومية في سنة واحدة خمسين مليون متر مكعب ردمًا، هذا بصرف النظر عما أجراه منها كل فرد وكل قرية بالانفراد.»

ولتتبين أهمية ما قام به محمد علي، يجب أن نذكر أن إرواء مصر كان جاريًا بالطريقة التاريخية التي ترجع إلى عهد مينا، وهي طريقة ري الحياض التي لا يتسنى بها إلا إرواء الأراضي المحاذية للنيل، وترك سائر الأطيان بائرة.

وهذه الأراضي المجاورة للنيل كانت في مصر العليا مقسمة إلى مربعات مختلفة الحجوم بواسطة جسور على محاذاة النيل، تجعل منسوب المياه بين حوض وآخر لا يزيد فرقه على متر واحد، وكانت هذه الحياض متصلًا بعضها ببعض، يبدأ بملئها من الجنوب بواسطة ترعة تعرف بترعة الإيصال، وفي نهاية كل سلسلة من هذه الحياض حوض أوسع منها منفتح نحو النيل يستخدم لصرف المياه، وكانت تلك المياه تبقى في الحياض نحو شهرين ونصف شهر؛ أي في أوائل أغسطس إلى أواخر أكتوبر، فتجلب للأرض المواد المخصبة التي تكون زراعة السنة قد استنفدتها.

هذه الطريقة البسيطة جدًّا، والتي لا تزال إلى الآن مستعملة في الوجه القبلي، يتعذر إجراؤها إلا في زمن الفيضان؛ أي في إبان الصيف، فلا يتسنى معها إلا زرع الأصناف الشتوية التي ليست بأكثر الأصناف موردًا لمصر، وهذا على شرط أن يكون الفيضان وافيًا.

فقبل الإصلاح الذي أحدثه محمد علي كان ثلث الأرض يبقى بائرًا في السنوات التي يشح فيها الفيضان،١ فالفضل كل الفضل عائد إلى محمد علي، وإلى النخبة العظام من المهندسين الذين استعان بهم؛ كلينان وموجيل وغيرهما، في وضع الخطط الشاملة لري الدلتا، وهم الذين بصنيعهم قد ضمنوا لمصر الخصب، وللفلاح الثراء.

ولا حاجة بنا إلى تعديد جميع الأعمال التي عملت في هذا الباب، غير أننا نذكر منها: إعادة بناء جسر أبي قير الذي هدمه في سنة ١٧٩٩ الجيش الإنجليزي التركي، وجسور حوض قشيشة وطمية وبحر «بلامة»، وإنشاء قناطر شبين، ثم القناطر الخيرية التي تعد من أفخم آيات البناء، وبها ضبط النيل في مصبه لرفع منسوب مياهه أو خفضها تبعًا للحاجة.

قال شيلو بك: من سنة ١٨٣٤ إلى سنة ١٨٤٠ بلغت أعمال إنشاء الترع ١٠٤٣٥٦٦٧ مترًا مكعبًا، وأعمال البناء ٢٨١٤١٤٠ مترًا مكعبًا، فحق القول أن محمدًا عليًّا أبو الرقي الزراعي بفضل ما أنشأه هو نفسه من الأعمال التي عم بها الخصب الأرجاء المصرية المترامية الأطراف عن مجرى النيل، وبفضل الأعمال التي وضع تصميماتها ثم تمت بعدُ، ويقولون: إن محمدًا عليًّا قد فكر أيضًا في إنشاء خزان أسوان، وبحث في وسائله، ولم يثنه عن إخراجه إلى حيز الوجود إلا عواز المال.٢

فلننظر الآن إلى أي حد تطورت حالة الفلاح في عهد محمد علي عما كانت عليه أيام المماليك.

إن معظم المؤرخين والمترجمين قد أنصفوا محمدًا عليًّا حق الإنصاف مثنين عليه بما هو أهله، وإن شهادتهم بإضافتها إلى ما شهد له بهِ أساطين السياسة في البلدان الأخرى قد زكت مجد ذلك الأمير العظيم، وإن كان فريق من الكتاب لا ندري دوافعهم النفسية قد جاروا في حكمهم على محمد علي، نخص بالذكر منهم: مسيو هامون، الذي ألمع إلى أن الفلاح في عهد محمد علي لم يكن أحسن حظًّا منه في أيام المماليك، وأن الفاقة لزمته، وأنه استُخدم بلا رحمة في أشق أعمال السخرة، وأقسى الحروب التي امتلأت بها مدة هذا الوالي (راجع كتاب مسيو هامون: مصر في عهد محمد علي سنة ١٨٤٥).

والدوق داركور الذي اطلع على مؤلف مسيو هامون يشاطره رأيه فيه، قال في كتابه مصر والمصريون: «إن محمدًا عليًّا على نقيض ما يطنطن به في باريس من خطب رنانة؛ إذ كان لم يعبأ قط بحرية شعبه ولا برفاهته.»

لا جرم أن حالة الفلاح لم تتحسن طفرة في عهد محمد علي، وما كان لها أن تتغير بين عشية وضحاها؛ لاستحالة ذلك في أعمار الأمم التي نزل بها الاستبداد دهرًا طويلًا إلى وهدة من الانحلال أفقدتها كل همة، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن محمدًا عليًّا لم يكن له شغل مدة حياته إلا بإسعاد مصر، وإقالتها من عثرتها، وبالتالي إعداد أسباب السعادة والهناء لشعبه، وكان شغفه بالرقي السريع يدفعه إلى تحميل الفلاح أعباء ثقيلة من السخرة، إلى تقييد حريته أحيانًا باضطراره إلى زرع بعض الأصناف التي يراها أفيد للبلاد وأصلح لترويج تجارتها دون الأصناف الأخرى، وعذره في ذلك تعجيل النعمة والثراء للفلاح.

وكان همه الأكبر أن الأعمال العمومية الحيوية لبلاد زراعية كمصر، والتي كانت مهملة كل الإهمال قبله، يجب أن تتم في أسرع ما يستطاع.

على أن العاملين الأولين في فلَاح مثل هذا المقصد، وهما: حسن معاونة الشعب ومتانة الخزانة، لم تتاحا له بتاتًا.

فأما الشعب فكان منغمسًا في الجهالة لا يرجى منه أن يضطلع بمنويَّات الأمير، فكان الأمير مجبرًا أن يسوقه قهرًا في سبيل التمدين ولو لم يدرك كنهه، وأن يدفعه إلى العمل لإصلاح شئونه كما يدفع المعلم القاسي تلميذه إلى التعلم؛ فالصرامة في هذه الحالة كانت أمرًا محتومًا لتسخير أولئك الجماهير من العمال بلا أجر، ومن أين كان يجلب ذلك الأجر والخزانة خاوية على عروشها، والبلد مبتز مستنفد المادة.

فلإحراز النصر في محاربة الفاقة والدمار اضطر محمد علي إلى تشغيل الأهلين بطريقة أشبه بالتكاليف العسكرية حتى يكون لهم من العوض في المستقبل أن تتوافر الثروة توافرًا يعم الجميع، فينسيهم كل ما عانوه سابقًا من حرمان وتعب.

سار سيره هذا إلى الأمام، وما كان من عائق ليعوقه، ولا من تضحية لتصده عن بلوغ الغاية التي رمى إليها من تجديد البلاد، وربما نشط به فرط التعجل فركب الخطأ، وكان من ذلك أنه فكر يومًا في تقويض أهرام الجيزة ليبني بأنقاضها القناطر الخيرية. وهو عمل تقتيري حمله عليه شغفه بإقامة تلك القناطر بأقل كلفة ممكنة، ولو تم كما أراد لألصق بعهده عارًا لا يُمحى، ولسوَّد صحيفة مجده، لولا أن رده عنه لينان دي بلفون، بأنه وضع التصميمات الهندسية للهدم فأظهر بها أن تكاليف الهدم تربو كثيرًا على استخراج الحجر من معادنه في الجبل. وقد أورد هذه الحكاية لينان باشا نفسه في مذكراته السابق الإيماء إليها.

ولا بد لنا من الاعتراف أن رجال الإدارة في أيام محمد علي قد ارتكبوا استباحات كثيرة، لكن ذلك كان يقع بلا علم من الأمير وعلى الرغم منه، كما يقع مثله في كل بلد خاضع لسلطة الفرد المطلقة، غير متمتع بالنظم النيابية، ليس فيه صحف تنطق بألسنة أهله. فهذا الحاكم بأمره كان يجهل — ضرورة — أمورًا جمة مما يقترفه رجاله باسمه، وقد يعرف بعضها فلا يستطيع لها ردًّا، وإن كان مطلق الولاية؛ لذلك عُدَّ من أكبر نعم الحكم الدستوري وجود تلك الصلات بين الحاكم والمحكوم يقف بها الحاكم على شكايات شعبه وآلامه فيعالجها.

أمران كانا على الأخص مبعثًا لأفدح المظالم؛ أولهما: جباية الضرائب عينًا، والثاني: الاحتكار الذي توهم محمد علي أنه أجدى الوسائل لاستزادة الدخل.

والاحتكار كان مرتبطًا بأسلوب زراعي خاص، بمعنى أن الحكومة كانت بالتبعية لما تقدره من حالة التجارة تقضي بزرع نوع دون الآخر في سنة بعد سنة؛ فآنًا تأمر بزرع القطن، وطورًا بزرع النيلة أو الأرز، وعند حصاد الزرع كانت المحصولات تنقل إلى شون الحكومة فيؤخذ جزء منها لسداد الضرائب، والجزء الباقي تشتريه الحكومة وتتولى الاتجار به بنفسها.

وهذه هي الاشتراكية الحكومية بأجلى مظاهرها. طريقة منتقدة من عدة وجوه، ولا سيما من جهة المظالم التي كان يأتيها الوسطاء بين الوالي والفلاح بلا وازع، فكانوا يبخسون الثمن، ويطففون بالكيل والميزان.

وفي بعض الأحيان إذا خلت الخزانة من المال سددت الحكومة ما لدائنيها «بأذونات» صادرة بكميات من بضائعها يتسلمها أولئك الدائنون بأثمان باهظة.

رأَى فريق من الكتاب أن الاحتكار ضرر ضروري، ونظام شاذ قضت به حالة البلاد الاجتماعية قهرًا على محمد علي.

وإليك ما كتبهُ مسيو رونشتي في كتابه «مصر ورُقيُّها لعهد إسماعيل باشا»، طبع مرسيليا ١٨٦٧، قال: «كان لا يتيسر الاعتماد على الشعب المصري لإنجاح التجارة بالنظر إلى جهله وتقادم عبوديته بأساليب التجارة والزراعة، فالسبيل الوحيد المتحتم لنجاته هو الذي سلكه محمد علي، بوضع نفسه موضع المحرك المباشر للزراعة والتجارة، وبطريقة الاحتكار الحكومي خلق نوعًا من الدكتاتورية الزراعية والتجارية كانت حاجات البلاد تقتضيه بلا مناص.

فالحماية المباشرة التي كان ولي الأمر يشمل بها الأرض ضمنت حسن إنتاجها، وحسن تصريف غلاتها، منقذة إياها من ضغط المضاربة التي كانت لولا ذلك واقعة حتمًا على شعب لا دراية له ولا خبرة.

وقد أثبت مسيو رونشتي، بأرقام أوردها، النتائج الطيبة لهذا النظام الشاذ الذي استعمله، بحكمة، أميرٌ كَلِفٌ بإسعاد قومه، فتجرد ذلك النظام بين يديه من عيوبه المنافية للرقي التي تلزمه عادةً متى تأتَّى من السلطة المطلقة والاستبداد.

أما الطريقة الزراعية المتبعة في استغلال الأرض، والتي هي أساس نظام الاحتكار، فليست من بنات أفكار محمد علي، وربما عدت مظهرًا من مظاهر التحول الاجتماعي الذي مرت به الشعوب كافة.

إن الزراعة قبل أن تصبح طليقة بدأت كما بدأت سائر الصناعات بالتقييد، فلما كانت الملكية مشتركة وجدت ضرورة تقييد حرية الزارع في تخيُّر ما يزرع من الأصناف، ثم لما أصبحت الملكية فردية لم تتلاشَ كل القيود التي كان تلاشيها متحتمًا، بل بقيت زمنًا مديدًا، وكثير منها لا يزال باقيًا إلى يومنا هذا (راجع كتاب مسيو كوفيس في الاقتصاد السياسي، الجزء الأول، ص٤٨٣-٤٨٤).

ومهما يكن من قيمة لهذه الأقوال التي تقدمت، فلا مشاحة في أن الاحتكار قد ولد استباحات متعددة شقي بها الفلاح، ولم تنتفع بها التجارة العامة في البلاد انتفاعًا يضاهي أقل شيء مما لو تركت حرة في ميدان المزاحمة، وفي الواقع لا يكون التوسع في اختصاصات الحكومة عملًا حميدًا؛ فهي متى خرجت عن حدها الطبيعي، وتصدت للاتجار أو الاستصناع، شلت حركة المجهودات الفردية، ولم تستفد من ذلك أمرًا كبيرًا.

وإن أصحاب الرأي الإطلاقي Ecole libérale قد قضوا على مذهب الاشتراكية الحكومية، وأبدوا حججًا واضحة تحول دون توسيع اختصاصات الحكومة، وأثبتوا أن الحكومة المندفعة وراء حدها Etat propulsif غير مرغوب فيها.

عزز هذا الرأي مسيو بول ليروا بوليو في كتابه «الحكومة العصرية وشئونها» ببراهين قاطعة، مبينًا أن الحكومة ككل جماعة يسود فيها روح التوظف تكون مجردة من قوة الابتكار، فهي أداة تمحيص، وتنظيم، وتعميم، وإذاعة ليس غير.

ولنضف إلى ذلك أن الحكومة يعوزها الإبداء والنشاط؛ لأنها ليست مندفعة بمحرك المصلحة الذاتية، وبعامل المزاحمة، ولأنها لا تمتاز عن الأفراد من جهة الكفاية والنزاهة والمتابعة، وخصوصًا من جهة كونها في العهد الجديد مرتبة في كل بلد ترتيبًا لا يوافق وظيفتها الاقتصادية (راجع كتاب شارل جيد في مبادئ الاقتصاد السياسي).

وإذا كنا قد استصوبنا ذكر هذه المناقشة النظرية، فإنما أردنا التدليل على أنه بالرغم من عبقرية محمد علي وثبات عزمه على النجاح، وهو الثبات الذي يفعل المعجزات، لم تأت تجرباته في باب الاشتراكية الحكومية، وما كان لها أن تأتي بنتائج حسنة، بل إخفاقه فيها دليل يضاف إلى أدلة المعارضين لهذا المذهب؛ لذلك ولما أنتجه الاحتكار من المعايب والنقائص التي أشرنا إلى بعضها آنفًا تنكب سعيد باشا عن السير في هذا السبيل.

ومن جانب آخر، فإن محمد علي لشدة كلفه بالمدنية الأوروبية، ولشدة رغبته في انتفاع بلاده بكل مزايا تلك الحضارة، حاول أن يوطن الصناعة الكبرى في مصر، فكان عمله هذا تطبيقًا آخر لمذهب الاشتراكية الحكومية، واجتراءً ما كان لغيره أن يجترئه.

ولما كانت مصر حين تولى محمد علي بادئة في الخروج من الفوضى التي أوقعها فيها حكم المماليك الجائر، كان التصدي لتحويلها بغتة وهي بلا أجهزة معدة ولا حياة إلى بلاد صناعية، ولجعل الفلاح مع كونه في أحط دركات الذلة والبله صانعًا ماهرًا خبيرًا، قادرًا على العمل كزميله الغربي، كان طلب ذينك الأمرين كطلب المستحيل.

غير أنه قد قيل: إن المستحيل لا وجود له عند أصحاب العقول الرجيحة والعزائم القوية، فما هو إلا أن أبدى محمد علي تلك المشيئة وقال: لتكن المصانع، حتى قامت في حواضر الأقاليم تحت إدارة مسيو جوميل المغازل القطنية العظيمة.

كتب لينان دي بلفون باشا في مذكراته: «إن تلك المغازل في مبدأ أمرها، وتحت سيطرة مديرها، أتت بنتائج باهرة من حيث العمل، ولكن لا من حيث الفائدة المالية، وكانت النمر الرفيعة من القطن تغزل في هذه المعاهد وتباع في أسواق الهند.

شغلت هذه الصناعة الكبرى ما يربو على عشرين ألف عامل، ثم لم تلبث أن أقفلت معاملها بحكم الضرورة القاسية.

ومما أنشأ محمد علي أيضًا مصانع للطرابيش، والملح، والنيلة إلخ إلخ.

غير أن كل هذه المعاهد التي أنفق عليها ما أنفق لم تُفلح إلا إفلاحًا وقتيًّا، ثم هُجرت هجرة جاءت برهانًا آخر على أن الاشتراكية الحكومية مقضيٌّ عليها بالفشل، ألستَ ترى أن تلك الصناعات كانت إما غير مرجوة النجاح، وإذن فقد أثبتت الحكومة أنها لم تكن بالبصيرة حين إنشائها، ولو ترك أمرها لأفراد لما خاطروا برءوس أموالهم في عمل مُنذرٍ بالخيبة.

وإما أن إخفاقها قد تأتى من عدم الكفاية الحكومية لإدارة المصانع، وهذا لا يقوم دليلًا البتة على أن حكومات أخر لو تولَّت مثل هذا الشأن لكانت أجدر بالإفلاح فيه.

وعلى هذا فخير من الاختبار لمعرفة النتيجة الإقلاع عن تلك الفكرة؛ لأنها تقتضي بذل أموال طائلة في أمر مُرِيب.

هنا مجال للتساؤل: هل تنجح الصناعة الكبرى في القطر المصري نجاحها في سائر الأقطار؟ الأمر يحتمل ردودًا:

أما لينان فكأنه يقول: لا، وأقوى برهان يقدمه هو استحالة حفظ تلك الآلات الدقيقة التي تستعمل للغزل في حمارة الصيف؛ «حيث الجو أشبه بالأتون، وحيث العثير منتشر في الهواء ينفذ إلى كل شيء، ويتلف كل شيء.»

وأضاف آخرون إلى هذا السبب سببًا آخر مهمًّا جدًّا هو إعواز الوقود؛ إذ لا غابات في البلاد ولا مناجم فحم، فأنَّى للمصنوعات المصرية أن تزاحم مصنوعات أوروبا في الأسواق؟

ولا ينبغي أن ننسى أيضًا قولهم: إن العامل المصري، وهو مبتدئ بالصناعة، أحط بكثير من العامل الغربي الذي أكسبته الخبرة الطويلة إجادة وحذقًا.

أتكفي هذه البراهين للإقناع بأن الصناعة القطنية مقضي عليها في مصر قضاءً محتومًا؟ لا نعتقد ذلك.

فأما أولًا: فلأننا لا نظن أن العثير يجعل حفظ الآلات في حكم المستحيل، ومشهود في المختبرات الكيماوية أن أجهزة أدق جدًّا من أجهزة المصانع القطنية تصان صونًا تامًّا، ولا شيء أيسر من الحيلولة دون وصول العثير إلى تلك الآلات، وهل من حاجة إلى مزيد بيان في هذا الشأن؟

وأما عدم ارتياض الصانع المصري فليس إلا عائقًا وقتيًّا قريب الزوال، وإن في خاصة الاقتباس الموجودة في غريزة المصري بقوة عجيبة، وفي صفتيه المعروفتين اللتين طالما امتدحه بهما المشاهدون، من الجلد والمتانة البدنية، ما يحمل على الاعتقاد بأن ذلك العامل لا يمكث زمنًا حتى يصبح مناظرًا يعتد به لزميله الغربي، وإن العمل الذي يعمله في المصانع القائمة الآن يثبت كل الإثبات صحة ما نقول.

وأما الوقود فغلاؤه لعدم وجوده في مصر يعادل رخص اليد العاملة فيها، وبوجود الجزء الأكبر من القطن الذي يغزل في نفس البلاد.

إذن فنجاح الصناعة الغزلية يرتبط بمجهودات يبذلها أفراد مستنيرون لإيجادها، ولا تعاكسهم الحكومة بفرض رسوم فادحة على تلك الصناعة، أو بأي نوع آخر من المثبطات.

وهنا يجدر بالذكر أن الدولة الإنجليزية قد استنفدت وسائل المعارضة لإخفاق كل مسعى عملي في سبيل إنشاء المصانع بهذا القطر، وبرغم هذه الممانعة قد تأسست حديثًا شركة إنجليزية لإقامة مغزل قطني في القاهرة، وسيرينا المستقبل أيكتب له عمر وفلاح أم لا يكتب؟٣

وبما أننا فرغنا من نقد ما رأيناه جديرًا بالنقد من سياسة محمد علي الاقتصادية، وجب علينا إنصافًا للرجل العظيم أن نقول من جهة أخرى: إنه استنفد ما في وسعه لإصلاح حال الفلاح.

وقد قال مسيو رونشتي، بحقٍّ، في كتابه المارِّ ذِكْرُه: «إن عطفه على منافع شعبه لم يضارعه إلا تفانيه في المصلحة العامة، وإن مدة عهده لم تكن إلا سلسلة طويلة من الإصلاحات الحكيمة المتجهة بأجمعها إلى بعث شعب أخنى عليه الظلم والوحشية.»

وقال مُترجمًا لحياة هذا الأمير: «إنه كان يستمد من نشاطه الذي لا حد له قوة، ويجد من وقته متسعًا للسيطرة على أدق جزء من أجزاء ذلك الصنيع العظيم الذي شرع فيه، الصنيع الذي رمى به الى إحياء قوم بالرغم منهم، مجاهدًا بلا انقطاع في الخارج والداخل، مراقبًا على الدوام، ومحاذرًا في كل آن، هادمًا بيد ومجددًا بالأخرى.»

ويسرنا أن نورد شهادة أخرى جاءت من رجل مطلع نزيه، توفي حديثًا، هو مسيو بندتي، قنصل فرنسا بمصر أيام محمد علي، فقد أثنى ثناءً طيبًا على ما قام به ذلك الوالي العبقري من تمدين مصر، ووصف جميع أنواع التقدم الاقتصادية والسياسية التي نجمت من همته وذكائه. كل ذلك دونه مسيو بندتي في مذكراته التي نشرت بعد وفاته، وإن لهذه الشهادة التي سطرها سياسي يكتب ما يمليه عليه ضميرٌ صافٍ لقيمة عالية في جانب الإنصاف.

ثم إذا أضفنا إلى ما تقدم القناطر الخيرية، وهي التي شرع في تشييدها محمد علي كما شرع في جميع الأعمال العمومية التي امتاز بها زمانه، وتوطيد دعائم الأمن على يد ابنه إبراهيم باشا الذي طهر البلاد من البدو المرهوب جانبهم، ومدينة الإسكندرية التي استعادت مجدها التجاري من طريق اتصالها مع داخل القطر بترعة المحمودية. فهذه الأمور إن هي إلا طائفة أخرى من الإجراءات التي أجراها محمد علي، وبها بذرت بذور الحضارة الحقيقية في البلاد بحيث لم يبق على خلفائه إلا إتمام صنيعه.

وقبل ختام هذا الفصل نفرد كلمة فيما يختص بالإسكندرية، حاضرة القطر الثانية؛ فإن استكشاف رأس الرجاء الصالح في حينه، وهو الاستكشاف الذي حول طريق الهند عن مصر، كان قد طعن تلك المدينة طعنة نجلاء قاتلة، وقلل تقليلًا عاجلًا تجاراتها حتى لم يبق منها شيء يذكر أيام المماليك. فلما تولَّى محمد علي لم يكن عدد ساكنيها إلا نحوًا من ثمانية آلاف نفس، وكانوا قديمًا قد أربوا على ثلاثمائة ألف، حتى إن السائح نوردن كتب في القرن الثامن عشر يقول: «إن مدينة الإسكندرية تشبه يتيمًا لم يترك له آباؤه العظماء من التراث سوى الاسم المجيد.»

فلمحمد علي مِنَّة لا تجحد بتجديده حياة تلك المدينة التي أصبحت الآن من أكبر المرافئ التجارية في العالم.

١  راجع للاستزادة من البيان: مقالًا وافيًا نشر في جريدة الديبا الأسبوعية يوم ٢١ أبريل ١٩١٠، وكذلك بحثًا للكلونيل روس بعنوان «الري والصناعة بمصر»، نشر في سكوتش جيوغرافيكال ماجازين في أبريل سنة ١٨٩٣، ومذكرة عن الحياض في الوجه القبلي لمسيو برونت المهندس الفرنسوي، أحد مديري السكة الحديدية المصرية، قدَّمها للمعهد المصري في ٢٦ ديسمبر سنة ١٨٩١.
٢  ومن المؤرخين من زعم أن هذا الخاطر بعينه كان قد خطر لأحد الفراعنة، سوى أن الأجل لم يمهله حتى يشرع فيه. وروي أنه دار في خلد بعض الفراعنة أن يصل البحر الأبيض بالبحر الأحمر.
٣  وقفت هذه الشركة أعمالها لأن الحكومة فرضت من الفور على منتجاتها رسمًا مميتًا يوازي الرسم الجمركي المأخوذ على المغزولات الواردة من الخارج. ولما كانت الحكومة قد ألغت حديثًا؛ أي حين طبع هذا الكتاب باللغة العربية، ذلك الرسم، فقد أصبح الرجاء معقودًا بأن يُعنى المصريون بتشييد المغازل القطنية التي تمهدت لها أسباب النجاح بهذا القرار، وبوجود مناجم البترول في القطر؛ إذ بها حلت عقدة الغلاء الفاحش في ثمن الوقود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤