الفصل الثالث

الفلاح ذو الملك الصغير

القسم الأول: الملكية الصغيرة في القطر المصري

أوضحنا بإيجاز في الجزء الأول من هذا البحث ماهية الملكية العقارية بمصر إلى آخر عهد الخديوي إسماعيل، ورأينا أن عدم الأمن الذي عاش فيه الملاك إلى أن رقى محمد علي الأريكة، وأن المظالم المتواصلة والمغارم التي كانت تحرمهم ثمار كدهم، حملت جماهير أولئك البائسين على الهجرة تاركين أرضهم وديارهم لينجوا من مظالم الجباية التي لم يسمع بمثل قسوتها من قبل.

نعم إن محمد علي حمى الملاك من غزو البادية، ولكن السلطات المحلية استمرت لعهده في إرهاقهم، ولم يتيسر تخفيض الضرائب؛ لأن الإصلاحات الكبيرة التي كان يقوم بها محمد علي إلى جانب الحروب المتعددة التي كان يخوض غمارها كانت تقتضي نفقات طائلة، فبالرغم من عطف ذلك الوالي العظيم على شعبه لم تتحسن حال المالك الصغير تحسنًا بينًا لا في أيامه ولا في أيام حفيده عباس الأول.

رأى محمد سعيد باشا هذه الحالة المهددة لثروة البلاد فأزعجته، فشرع في معالجتها، وما فتئ مدة ولايته عاملًا على رد الطمأنينة إلى الفلاح، وتخفيف أعبائه، وتنجيم الضرائب تنجيمًا ملحوظًا فيه الإنصاف، ثم وزع الأراضي التي لم يكن لها ملاك هبة على رؤساء القرى والعشائر، وأعفاهم من الضرائب زمنًا على إثر تلك الهبة ليشجعهم على الفلاحة، فكان من جراء ذلك أنهم أحبوا الأرض وأكبوا على زراعتها بشغف واطمئنان.

غير أن تلك الطمأنينة لم يطل أجلها — ويا للأسف — فما عتم المالك الصغير أن وجد المظالم تعاوده مضاعفة بأنواع المغارم، فتألم شديدًا، وفتَّ في ساعده، ثم اضطر للخلاص منها إلى بيع أعيانه بالثمن البخس، وإلى دفن نقوده في جوف الثرى لتكون بمأمن من الجباة، وما زال اختلال الأمن والاستبداد في الحكم مورثين هذه النتيجة السيئة في كل زمن، ومن ثم نشأ اعتياد الشعب المصري على تخبئة نقوده؛ لرزوحه تحت نير العبودية من أول الدهر، وإلى اليوم لا يزال العمال الذين يحتفرون الأرض يعثرون على كنوز دفينة من بقايا الحُقب المواضي.

هذا الذعر الذي أدى إليه ارتباك المالية في عهد الخديوي إسماعيل بخس أثمان الأطيان، ومع ذلك لم يوجد لها مشترٍ إلا ما ندر، وإن وجد ذلك المشتري كان الدافع له هو الأمل بعودة تلك الأيام الميمونة التي عاشتها مصر مدة الحرب الأهلية الأمريكية، حيث بلغ ثمن الحاصلات الزراعية سعرًا ما كانوا به يحلمون.

الإصلاحات الأساسية التي تمت منذ تولية الخديوي محمد توفيق، والأمن الذي كان يزداد استتبابًا كل يوم رفعا ثمن الأطيان تدريجيًّا، وحببا إلى الفلاح اقتناءها؛ فاليوم بالرغم من الهبوط العام في الأسعار قد علت أثمان الأطيان علوًّا كبيرًا، وهذا الميل إلى الارتفاع آخذ في الازدياد، والفلاح يحتفظ بالقطعة الصغيرة التي استطاع حمايتها من المرابين، وقد أصبح عدد صغار الملاك من أجل ذلك عظيمًا كما يرى من الجدول الآتي:

في سنة ١٨٩٧ بلغ عدد ملاك الأطيان بحسب الإحصاء الذي وضعه السير ألوين بالمر، المستشار المالي:

٧٦٧٢٤٢ من هؤلاء الملاك يظهر من الإحصاء المذكور أن:
٦١١٠٧٤ يملكون أقل من خمسة أفدنة
٨٠٨١٠ يملكون من خمسة إلى عشرة أفدنة
٤١٢٧٦ يملكون أقل من عشرة إلى عشرين فدانًا
١٢٩٢٨ يملكون من عشرين إلى ثلاثين
٩٢٩٧ يملكون من ثلاثين إلى خمسين
١١٨٥٧ يمكلون أكثر من خمسين فدانًا
وبمقارنة عدد ملاك الأطيان بالمساحة العمومية المنزرعة، وقدرها ٥٧٥٧١٠٠ فدان، يظهر أن كل مالك يقتني سبعة أفدنة ونصفًا في المتوسط.١

فإذا قابلنا بين عدد ملاك الأطيان وعدد الزراع في القطر، وهو ٦٢٠٨٠٧٣ نفسًا، وجدنا مالكًا واحدًا بين كل ثمانية أشخاص من سكان الريف.

ومن هذه البيانات يظهر أن عدد صغار الملاك كبير بالنسبة إلى مركز البلاد، ولكن لا ينبغي أن تعطي الأرقام المذكورة من المعنى أكثر مما تحتويه؛ ففي الظاهر أن سواد الملاك الصغار عظيم، وفي الحقيقة ما زال أكثر الأطيان بين أيدي أمراء الأسرة الخديوية، وبعض الدوائر؛ كالدومين، والدائرة السنية،٢ والمثرين من الأفراد.

وليس في الأحوال ما يدل على أن الأرض سيزداد تقسيمها بين المقتنين، بل هناك ما يشير إلى أن الملكية مهددة بالزوال.

أجل إن المالك الصغير قد وجد الأمن بعد فقده، وصار يعامل بالإنصاف، ويلقى من الإدارة رأفة وعدم استبداد، وإذا تقاضى فُتحت سُبل العدل في وجه مطالبه، ولكن داءً دويًّا ينخر عظم الملكية الصغيرة قد يفضي إلى انقراضها، إلا إذا تدورك؛ وذلك الداء هو الربا.

القسم الثانى: حاجات المالك الصغير إلى النقود

الفلاح في حاجة أبدًا إلى الاقتراض، وهو كسائر الملاك يفتقر إلى المال لإدارة حركة أرضه في خلال السنة؛ ذلك لأن الزراعة لا تؤتي ريعها إلا في مواقيت معينة، إما مرة في العام أو مرتين للزارع المصري الذي يمتاز عن أمثاله من هذا القبيل، على أن النفقات التي تطلبها الأرض مستمرة، فلا بد للزارع دوامًا من تسليف الأرض ما تعيده إليه، من أجل ذلك شعر الناس في مختلف البلدان بضرورة تنظيم اعتماد زراعي، حتى قيل: إن ذلك الاعتماد وجد في الصين منذ الأزل (راجع كتاب مسيو شارل جيد: مبادئ الاقتصاد السياسي).

وهذا الاعتماد الزراعي قد أنشأته ألمانيا في صورة شركات تعاونية بين الملاك، وأشهرها ما هو معروف باسم بنوك راي فايزن Banques Raiffeisen، وهو أيضًا متخذ في فرنسا وإيطاليا وغيرهما صورًا وأشكالًا متنوعة.

أما في مصر فلا يوجد شيء من هذا، ولم يفطن الملاك فيها للتآزر بينهم على حماية أنفسهم من المرابين، وعلى تقليل نفقات الإنتاج، وإدخال التحسينات المتنوعة التي أحدثها الرقي الزراعي على أراضيهم بالاشتراك في استعمال الآلات والأسمدة والسكة الحديدية الضيقة وما إليها، كما أنهم لم يفكروا في جمع كلمتهم لبيع محصولاتهم بثمن مناسب.

وفيما عدا المصروفات الزراعية التي تلزم الفلاح بصفته مالكًا قد أثارت فيه الحضارة الجديدة والميول الفطرية إلى الإسراف احتياجًا يوميًّا إلى النقد، فأما الحضارة التي دخلت هذا البلد بكل ما يتبعها من أسباب الترف والتأنق؛ فإنها خلقت للفلاح برغم ما في سليقته من الصبر على شظف العيش، والرضى الذي بثه فيه الروح الديني، حاجات جديدة لم تأت موارده على قدرها؛ فهو اليوم يسافر في السكة الحديدية، وكان يقطع المسافات ممتطيًا حماره أو جمله أو حصانه بدون أدنى نفقة.

وهو اليوم يستخدم البريد والبرق، ويلبس الملابس الحريرية التي هي أغلى من الملابس الإفرنجية المتقنة، وكان قبلًا يكتفي برداء من القطن، أو بجلابية مصبوغة من الصوف.

وعلى الجملة، فإن مطالب العيش قد ازدادت كل يوم وأخذت تحمله ما لم يكن يتحمله في الزمن السابق، ثم إن ميوله الفطرية هي أيضًا تدعوه إلى السرف كما ذكرنا؛ فبينما تجده يقنع بالكفاف لنفسه إذا هو ما زال محتفظًا بعادات أسلافه العرب من السخاء وإكرام الوفادة، وقلما يجلس إلى مائدته إلا وحوله الضيوف يقدم لهم ما وفر وطاب مما تجيء نفقته كبيرة عليه، قال بيوبك،٣ في محاضرة ألقاها بالجمعية الجغرافية يوم ٢٠ مايو سنة ١٨٩٧: «تحتوي مائدة الأوساط من الناس على ألوان تتعدد وتتنوع من الأطعمة، تعددًا وتنوعًا يدهش لهما الأجنبي كلما رآهما، فيظن نفسه قد عاد في الزمن إلى عصر النهمين الأولين.»

يختن الفلاح ولده أو يزوجه أو يزوج أحد أقاربه الأبعدين فينفق من سعة ما يستنفد ماله، وكم من أوروبي زار مصر وشهد هذه الحفلات فرأى بعيني رأسه ما فيها من البذخ! إذ الأبواب مفتحة للقاصدين، وكل يجلس إلى الموائد الممدودة مدعوًّا كان أو غير مدعو. والعادة من هذا القبيل واحدة في المدن وفي القرى.

ومما يزيد في نفقات الفلاح ما يضطر إلى دفعه أحيانًا في استرضاء رجال الإدارة ولا سيما المسيطرون على الري منهم.٤
أضف إلى ذلك ما حل بأثمان الحاصلات منذ عشرين سنة من الانحطاط الذي يعاني الفلاح من جرائه أزمة أوشكت أن تصير مرضًا عقامًا؛ فقد هبط سعر القطن والحبوب وسائر الغلات هبوطًا فاجعًا، أشار إليه مسيو برونت M. Prompt في سنة ١٨٩١، ولورد كرومر في تقريره عن سنة ١٨٩٤، فالقطن مثلًا كان القنطار منه في سني ١٨٨٠-٨١-٨٢ بمتوسط ٢٧٦ قرشًا، فنزل تدريجيًّا حتى بلغ في يناير سنة ١٨٩٣ مائتين وأربعة قروش، وفي سنة ١٨٩٤ مائة واثنين وخمسين قرشًا.

كذلك أصيبت أثمان سائر الغلات من قمح وشعير وسكر وفول إلخ إلخ، فالسكر مثلًا هبط من ٤١ إلى ٢٦ فرنكًا للمائة كيلو، والقمح من ٨٨ إلى ٦٨ قرشًا للأردب، والفول من ٧١ إلى ٦٤ (راجع تقرير لورد كرومر السابق ذكره).

وبالتالي هبطت إيجارات الأطيان؛ فإن متوسطها كان ١٤٠ قرشًا في سنة ١٨٨٠، فهبط إلى ١٠٥ قروش في سنة ١٨٩٠، ولم ينهض إلى الساعة (راجع جدولًا قدمه مسيو برونت للمجمع العلمي المصري في ٦ فبراير سنة ١٨٩١).

منذ سنة ١٨٩٤ لم يطرأ تحسن وبقيت الأسعار في هذا المستوى المنخفض القليل الجدوى، فحالة أصحاب الأطيان سيئة جدًّا إن لم نقل: إنها في يأس، وخصوصًا زراع الوجه القبلي الذين يستمدون رزقهم من محصول واحد سنوي ما زالت أسعاره في تدهور.

هذا الانحطاط العام في الأسعار الذي تألمت منه مصر نيفًا وعشرين عامًا لا يصح نسبته برمته إلى حالة مصر الاقتصادية؛ فإن أوروبا تتألم هذا الألم، وتشكو هذه الشكوى.

وما السبب في حدة هذا الألم واستمرار تلك الشكوى إلا كون الوحدة الاقتصادية — والمراد بالوحدة الاقتصادية كل جماعة تكفي نفسها اقتصاديًّا من غير مبادلة مع أية جماعة أخرى مشاكلة لها أو غير مشاكلة — سائرة في سبيل الامتداد، بل متمادية في الانتشار حتى تكاد تعم العالم قاطبة. ومعنى هذا أنه لا يوجد في أيامنا جمهور مهما بلغت أهميته يستطيع — بسبب تقسيم الأعمال وازدياد هذا التقسيم كل يوم — أن يجد في حيزه ما يسد كل حاجاته.

وإن أعظم البلدان لتستمد من الخارج كفايتها قمحًا وحديدًا وقطنًا إلى سائر الأشياء الضرورية لتقويم الأود.

في الأزمنة السالفة كانت الوحدة الاقتصادية على نقيضها اليوم، وكانت الحالة المثلى لا أن تكفي الأمة نفسها فحسب، بل أن تكون الجماعة مهما قل عددها، بل العشيرة كذلك.٥

ولقد كان هذا التضييق في الوحدة الاقتصادية — على ما لاحظ أحد أساتذتنا في كلية باريس — ضرورة ظاهرة أيام كانت الشعوب تعيش في حرب مستمرة النشوب.

وكان إذن كل شعب لا يستطيع الاعتماد إلا على نفسه فيما يقوم به أوده، ولا يقدر على إيجاد صلات تجارية ذات بال بينه وبين شعب يجاوره؛ لاستمرار الخوف على تلك الصلات بين آن وآن من أن تبتَّها الحرب.

وعلاوة على ذلك، فإن التوسع في التجارة بين الدول كان يعاق بأن السبل غير أمينة، وأن وسائط النقل السريعة التي أحدثتها المدنية كانت غير موجودة؛ فالوحدة الاقتصادية كانت قديمًا ضيقة النطاق جدًّا.

أما اليوم فهي تشمل جميع الأمم التي يتجر بعضها مع بعض، بحيث إننا نقرب من تكوُّن سوق عالمية وحيدة تتزاحم فيها الواردات الآتية من جميع الأرجاء، فيُحدث تزاحمها نزولًا في الأسعار. وقد وصلنا إلى هذه النتيجة بفضل إتقاننا وسائط النقل والمراسلة إتقانًا أوشك أن يزيل المسافات، ويهدم العزلة الاقتصادية القديمة. وبفضل زوال الحواجز التي كانت تقيمها القوانين في كل مكان لحبس كل منطقة في دائرتها، وجعلها وحدة اقتصادية تكفي نفسها بنفسها.

قال مسيو جبريل هانوتو،٦ في محاضرة ألقاها بمدينة الهافر، في ٢٣ نوفمبر سنة ١٩٠٠: «إن طرق المواصلات برًّا وبحرًا قد امتدت بين القارات فقربت بعضها من بعض، أو شقت بين البحار فجمعتها. فتحت أفريقية، واهتزت آسيا في أقاصي فيافيها كأنها تتهيأ للحركة النهائية التي ستفضي إلى افتتاحها أيضًا، ولن تكون الأرض عما قليل إلا سوقًا شاسعة الأرجاء تجلس فيها الأمم حول ميدان واحد، ويعرضن بضائعهن.»

الملاحة التجارية والسكك الحديدية قد مكنت من استعمار أقصى أرجاء البسيطة، وإدخال جميع مستكشفات العلم الحديث فيها لاستخراج أكثر ما يتسنى من كنوزها الطبيعية. وتلك المستعمرات في الأراضي البكرية قد أخذت بدافع أولئك المستعمرين المقاديم تنقل غلات وافرة رخيصة الأثمان، ما كادت تترامى إلى أسواق العالم القديم لرخص أسعار النقل البحري حتى أحدثت فيها اضطرابًا عظيمًا وكسادًا شعرت بمفعوله جميع الأقطار؛ من ذلك أن القمح في الخمس والعشرين السنة الأخيرة قد هبطت أسعاره ٤٠٪ في أهم أسواق العالم؛ إذ كان متوسط سعره في ألمانيا سنة ١٨٧٩–١٨٨٢ ستة وعشرين فرنكًا وربع فرنك للمائة كيلو، فأصبح في سنة ١٨٩٥ لا يساوي إلا ثمانية عشر فرنكًا، وفي باريس كانت المائة كيلو تباع بمتوسط ٢٣ فرنكًا سنة ١٨٩٢، فهبطت إلى ١٩ فرنكًا و٣٧ سنتيمًا في سنة ١٨٩٥، وذلك برغم الرسوم الجمركية التي كانت موضوعة لحماية أسعار القمح المحلي.

هذه الأزمة التي فعلت أفاعيلها في كل البلاد قد آذت المنتج المصري إيذاءً كثيرًا، في حين أنه كان أقدر من سواه على تخفيف شدتها، فإن تحسين الري قد سهل زراعة أراضٍ أوسع من التي كانت تزرع، غير أن الأدوات المستخدمة في الفلاحة لم تزل غير متقنة، حتى استطاع بيوبك أن يقول: «إن الأدوات الزراعية المرسومة على آثار السلالات الإنسانية الأولى تكاد تكون نفس الأدوات التي يستعملها الفلاح في أيامنا.» ومن هذا نجم أنه وإن كانت المساحة المزروعة قد اتسعت إلا أنها لم تكافئ الضَّعْف الذي أصاب التربة من جراء استنزافها بلا تعويض.

فالإنتاج العام يزداد، ولكن الإنتاج بالفدان يقل على توالي الزمن، وهذه هي العلة الأصلية في ضيق حالة الفلاح، ففي اليوم الذي يعنى فيه بتسميد الأرض تسميدًا يرد إليها خصبها، وتستعمل الآلات لتخفيف نفقات الاستغلال تعوض زيادة الريع ما نقص من ثمن الحاصلات، وإذا كانت المساحات الشاسعة التي استصلحت اليوم في أمريكا وروسيا والهند والصين قد أحدثت اضطرابًا في أسواق العالم كما قدمنا، فمن الثابت أن الزارع المصري باستعماله الوسائل الراقية للفلاحة يستطيع أكثر من كل زارع غيره تحمل نتائج هذه الأزمة العامة؛ إذ فيما عدا قلة حاجاته بالنسبة إلى أمثاله في أوروبا، فإن أرضه من أخصب الأراضي. وهذا الخصب معروف في كل مكان، ومضروب به المثل، حتى إنه من العبث تكرار القول لتأكيد أن ثروة مصر موفورة في تربتها.

برغم هذه الحقيقة قام دوق دركور الذي ينكر على المصريين كل شيء يحاجُّ أيضًا في خصب أرضهم بقوله: «من الخطأ الظن أن تربة مصر ذات خصب ممتاز، وأن الحاصلات فيها زكية، فأما القمح فإن الأطيان التي يغمرها فيضان النيل لا تغل منه في المتوسط بحسب الإحصاءات إلا ١٤ هكتو لترًا و٤٠ لترًا للهكتار، في حين أن الأطيان الجيدة في شمال فرنسا تغل ٣٢ هكتو لترًا، وقد يربو المحصول على هذا كثيرًا في الأحوال الملائمة.» (راجع كتاب مصر والمصريين، ص٢٦٢).٧

فليُلاحظ أولًا أن دوق دركور يقارن بين متوسط غلة الأرض المغمورة بالنيل والغلة العادية للأراضي الجيدة في شمال فرنسا، وأنه أغفل عمدًا أن يذكر ما إذا كانت الأطيان التي يعلوها النيل من النوع الجيد كالتي يقابلها بها في فرنسا أو لا، ولو أتى بهذا الإيضاح لكان خطؤه أوضح؛ إذ إن الفدان المسمد تسميدًا حسنًا في مديرية المنوفية مثلًا قد يعطي عشرين أردبًّا؛ أي تسعة وثلاثين هكتو لترًا وستين لترًا، ولما كانت مساحة الفدان ٤٢٠٠ متر مربع، فتكون غلة الهكتار، أي العشرة آلاف المتر المربع ٩٤ هكتو لترًا و٢٤ لترًا، وبعد أن يحصد القمح من ذلك الفدان يخرج هو أيضًا حاصلًا مضاهيًا له من الذرة، ثم يزرع برسيمًا، وكل ذلك في اثني عشر شهرًا؛ أي من نوفمبر إلى أكتوبر في السنة التالية.

فمن الواضح الجلي أن المناطق التي تسمد أرضها كما ينبغي يجيء حاصلها عجيبًا، ولكن لا بد للمنتج المصري إلى اليوم الذي يستعمل فيه أصلح الوسائل الزراعية من أن يتألم من الأزمة الحاضرة.

وقد ازدادت هذه الأزمة تعقيدًا في سنتي ١٨٩٩ و١٩٠٠ بما طرأ على الأسعار من التقلبات الشديدة، التي أفضت إلى خراب الكثيرين من صغار الملاك وكبارهم الذين ضاربوا في بورصة القطن، بإغراء سماسرة أطمعوهم في المكاسب الطائلة والإثراء المرجو، فاندفعوا في هذا التيار الخطر وخرجوا منه خاسرين.

فعلى الحكومة أن تضع حدًّا لهذه المضاربات الجنونية التي أصبحت مقابر الثروات الصغيرة، وأن تنظم البورصة تنظيمًا لا يتسنى معه لمتصيدي أموال الفلاح الساذج، الذي يستسلم لهم استسلام الأعمى، أن يضحكوا منه ويقتنصوا ماله اقتناصًا.

نحن لا نذهب إلى أنه يجب على المشرِّع المصري التمييز بين أعمال البورصة التي يراد منها الشراء أو البيع الجدي لأجل، والأعمال الوهمية التي هي مجرد مراهنات على الأسعار، واعتبار الأخيرة منها ملغاة؛ لأنها تدخل في المقامرة المحظورة، فإن هذا التمييز يكاد يكون مستحيلًا، فقد لا تنتهي صفقة بيع جدية لأجل بتسليم البضاعة إذا فضل المشتري أن لا يتسلمها في حالة نزول الأسعار، وأن يتحمل الخسارة الناتجة من هذا النزول (راجع كتاب ليون كان ورينو في القانون التجاري).

ولسنا نرى من جهة أخرى أنه يمكن تحريم التعامل بالأجل بيعًا وشراءً؛ لأن في هذه الطريقة مصلحة كبيرة تسهل المعاملات التجارية، فلا مندوحة إذن للمشرع المصري من اتباع الخطة المثلى التي سار عليها المشرع الفرنسي في سنة ١٨٨٥، واعتبار العقود المؤجلة صحيحة ملزمة، وعدم إجازة قبول الدفع بأنها أعمال مقامرة، لكن إذا كانت مقتضيات التجارة تمنع المشرع من التدخل مباشرةً في أشغال البورصة، فليس بمتعذر عليه أن ينظم وظيفة السمسار بحيث لا يجيز مزاولتها إلا للأشخاص الكفاة أو المستقيمين.

وإنه لثابت أن السماسرة لو كانوا خاضعين لنظام دقيق من وضع الحكومة، أو من وضع هيئتهم نفسها، لقل التمادي في المقامرات ولتحددت الخسائر؛ فإنها قد بلغت من الجسامة حدًّا حمل المضاربين على الامتناع عن الدفع معتلين — كما اعتل المضاربون الفرنسويون سنة ١٨٨٢ — بأن أعمالهم كانت أعمال مقامرة غير ملزمة لهم، وفي هذه البلاد لم يسنَّ قانون خاص لتأييد صحة الصفقات المؤجلة، وحرمان المضارب الدفع بالمقامرة، على أن هذه المسألة منظورة الآن في المحاكم، ورأيها فيها مرتقب باهتمام، وقد أصدرت محكمة مصر المختلطة الابتدائية حكمًا غير موافق للمضاربين.

وهذا الحكم إذا قدر أنه غير منطبق تمامًا على نص القانون، فهو على كل حال فوز للعدالة وسلامة الأخلاق في حالة النجاح؛ إذ إن الأخذ بمذهب أولئك المضاربين الذين يأبون الدفع في حالة الخسارة، ولا يعفون عن قبض الأرباح في حالة النجاح يكون تشجيعًا لسوء النية، ومكافأة لفساد الأخلاق.

لهذا نعتقد أن محكمة الاستئناف المختلطة لن تتردد في تأييد الحكم الابتدائي إذا رفع الأمر إليها.٨

ثم وافت سنة ١٩٠٠ منذرة بالقحط؛ لأن فيضان النيل فيها جاء أوطأ فيضان عرف منذ شرعت وزارة الأشغال في تدوين مقاييس النيل، فاضطرت الحكومة لإنقاذ محصول القطن إلى أن تؤخر إطفاء الشراقي، فتأخرت زراعة الذرة، وهي القوت الضروري للفلاح، ومع ذلك أصاب المحصول القطني ضرر جسيم لا يقدر بأقل من ٢٥٪ عجزًا، غير أن ارتفاع الأسعار قد عوض ذلك العجز، ولكنه من جهة أخرى أحدث صعودًا عامًّا في أسعار الماشية والبذور وسائر الحاجيات بإطلاقها؛ إذ بلغت أثمانها ضعفيها.

فلاقتران كل هذه الطوارئ ولسد النفقات المتعددة التي تترتب على الفلاح في مدار السنة، وُجد المالك الصغير مجبرًا حتمًا على الاقتراض.

القسم الثالث: المالك الصغير والمرابون

إن المصارف والمعاملات الائتمانية التي لا تبلغ غاياتها إلا عند الشعوب المتقدمة في مراقي الحضارة ما زالت قليلة في هذه البلاد، والبنوك تبالغ في الحذر من عملائها، ولا سيما الفلاح؛ فهو في العادة لا يستطيع أن يحصل على النقود إلا برهن أطيانه للبنك العقاري المصري، أو بالالتجاء إلى الأفراد.

أما البنك العقاري فهو يتلقاه أيضًا بالحذر، ولا يقبل رهنًا إلا الأعيان التي تثبت ملكيتها بعقود رسمية أو بعقود عرفية، مضى على تسجيلها خمس سنين، وهو الأجل الذي يكتسب فيه واضع اليد بسند صحيح حق التملك بمضي المدة.٩

ومن جهة أخرى، فإن أقل مبلغ كان البنك العقاري يقبل إقراضه هو ثلاثمائة جنيه مصري، إلا أنه في سنة ١٨٩٩ بعد إلحاح ولجاجة من الحكومة وافق على نقص هذا الحد الأدنى إلى مائة جنيه، على أن هذا القدر نفسه لا يزال فوق طاقة الفلاح الصغير. وخليق بالذكر هنا أن الفلاح يخشى البنك العقاري حرصًا على ملكه المرتهن من أن تنزع ملكيته إذا لم يسدد في الميعاد، وما تعود فلاحنا مثل هذا التدقيق في مواعيد الدفع.

إذن فلم يكن له بد من الالتجاء إلى الأفراد، وهؤلاء من أراد منهم أن يكتفي بفائدة معتدلة لم يقبل إقراض الفلاح لسوء سمعته في مواعيد الوفاء، ولأن توظيف المال بأمان تام مع ربح حلال وافٍ هو ميسور كل اليسر في مصر، فلم يبق إلا فئة المجازفين الذين يرضون معاطاة الأعمال المالية معه على علاتها، وهؤلاء هم فرسان الربا الذين يوسعون له سبل الاقتراض على توقيعه أو ختمه، ويستغلونه استغلالًا فاضحًا.

يفد إلى القرية رجل حقير البزة لافتتاح حانوت، فيبتدئ بأن يبيع على السذج أصنافًا مغشوشة وبضائع من أردأ الأصناف بأفدح الأثمان، وهو إلى جانب ذلك يبدأ بالمراباة الجزئية معطيًا عشرة قروش ليأخذ خمسة عشر في نهاية الأسبوع؛ أي في يوم السوق الذي يستطيع فيه مدينه أن يبيع شيئًا مما عنده ليفي بما عليه، فإذا حال الحول يكون قد ربح ما يُمكِّنه من توسيع تجارته، ومنها التسليف، فلا يعتمُّ هذا الرجل الخامل أن يصبح نابهًا معروفًا، وأن يتلقب بلقب الصيرفي، وعندئذٍ يجري على الخطة الآتي بيانها:

يحتاج الفلاح إلى نقود، فيعطيه الجنيه الإنكليزي بمائة وخمسة وعشرين قرشًا؛ أي بفائدة ٢٧٪، وأحيانًا ٣٠٪، وهو نفسه يحرر سندًا بالمبلغ فيوقع عليه الفلاح بختمه آمنًا، جاهلًا ما يخبئه له الصك لأنه لا يقرأ.

على أن هذه الفائدة لم تكن في الحقيقة إلا جزءًا من الربح الذي يطمع فيه المرابي.

وإليك بيان مكاسبه الأخرى؛ فهو أولًا يجعل ميعاد استحقاق جميع السندات شهر أكتوبر؛ أي الشهر الذي يبيع فيه الفلاح قطنه، والفائدة محسوبة عن سنة كاملة أيًّا كان الوقت الذي يقع القرض فيه، فإن تم القرض في يونيو أو يوليو لدفع قسط الأموال المستحق في هذا الموعد، فالفائدة تحتسب عن السنة كلها، مع أن الدفع سيكون بعد أربعة أشهر أو خمسة. وكم من خيبة! وكم من منهبة يخبئها للفلاح المسكين شهر أكتوبر الذي يسميه القرويون شهر المرابين! فإذا حل أجل السلفة وقد لا يشعر الفلاح بحلوله لجهله السنة الغربية، ولأنه غير متعود الدفع في المواعيد، وغير جنوح إليه، جاءه المرابي يطالب بماله، فمتى رآه ارتعدت فرائصه.

وقديمًا كان الدائن الذي يمطل يلجأ إلى كبير القرية فيأذنه بلا مقاضاة بطرد مدينه من غيطه وبيته وبتملكهما. فذكرى هذه الموبقات التي لم يسمع بمثلها أبقت للمرابي مهابة في النفوس، وبالنظر إلى كون الفلاح لم يستعد للدفع، فإنه يبيع على المرابي قطنه بثمن بخس، سببه الاضطرار من جهة، وجهل الأسعار من جهة ثانية.

ومعلوم أن للقطن تقلبات سريعة متعددة في أسعاره، فالمرابي الواقف على تلك التقلبات بما يرده من البرقيات المتوالية يستغل هذه المزية العظيمة، وربما كانت القرية بأسرها متأثرة لهبوط وقع منذ أسبوع في الأثمان، مع أن هذه الأثمان تكون قد ارتفعت منذ يومين ولم يجئها نبأ الارتفاع، فعندئذٍ يأتي المرابي ويجعل المدية في رقبة مدينه مُكرهًا إياه على بيع قطنه بأدنى سعر. وهذا هو الباب الثالث للربح الذي كان طامعًا فيه، على أنه ليس بالأخير؛ فإن ذلك الجلاد الذي لا يعرف الشفقة يتربص لفريسته ساعة تسليم القطن ليُجهز عليها.

القطن يجب أن يوزن، والمشتري هو الذي يزن، فيسرق من الوزن ما شاء بلا استحياء؛ وذلك أن الميزان الغالب استعماله في مصر ما زال «السيبيا»، وهي آلة تشبه الميزان الروماني قديمًا، صعبة التحريك، لا يستطاع استعمالها أو مراقبتها إلا بعد مران طويل.

فالحكومة أرادت تخفيف الاستباحات الناجمة عن استخدام «السيبيا» فعينت قبانية رسميين، وسنت قانونًا لمهنتهم، وفرضت رسم إبانة يُجبى للخزانة، إلا أن أمرًا عاليًا صدر سنة ١٨٨٩ جعل مهنة القبانة طليقة، وأُلغي الرسم المذكور، كما أُلغي الحظر الذي على الأفراد بأن يقتنوا موازين (راجع مجموعة جلاد).

فلم يبق من حائل يمنع التجار الذين لا ذمة لهم من السرقة في الوزن، فإذا تم تمت السرقة بدون أن يشعر البائع بها وقضي الأمر، وأما إن احتج وعارض أجابه المشتري بصراحة أنه يريد أن يترك له مقدارًا معينًا من الأرطال في كل كيس؛ لأن القطن من رتبة واطئة، أو لأنه مبلل بالماء.

وفي الواقع قد يضيف الفلاح جزءًا من الماء إلى قطنه ليستعيض بزيادة الوزن التي تحصل بهذه الإضافة عن بعض ما يتوقع سرقته منه عند تسليم قطنه للتاجر، على أن حيلته هذه مفضوحة لا يخفى أمرها على المشتري الذي يتذرع بها ليتمادى في نهب عميله، وهذا يخضع صاغرًا لما للمرابي عليه من السلطان الأدبي، ولأنه لا يرى له مصلحة في إغضابه وهو سيكون عن قريب في حاجة إليه.

ولا غرابة ولا عجب؛ فإن ثمن قطنه لا يمكن أن يقوم بسد ما عليه وتوفير ما يحتاج إليه من المال لنفقات السنة القادمة، وقد وقع عليه عند البيع غبن مزدوج في الثمن وفي الوزن، فيتفق الطرفان على تأجيل جزء من الدين للسنة التالية بحيث إن الفلاح إذا دخل في تعامل مالي مع المرابي لا يستطيع أن يرفع ذلك الغل الحديدي الذي يضعه ذلك المرابي في عنقه؛ فتصبح حاصلات أرضه التي كد في إخراجها طول سنته هو وزوجته وأولاده لا تكاد تفي بفوائد الدين المترتب عليه.

فإذا جمعنا في آخر السنة الأرباح التي يكون المرابي قد جناها وجدناها بالغة من ٦٠٪ إلى ٧٠٪ على أقل تقدير، وعلى هذا الحساب لا يمضي زمن طويل حتى يكون قد أحرز ثروة طائلة؛ فيعود إلى وطنه الأصلي ليعيش من ريع هذا المال الحلال.

وإلى جنب مرابي القرى تجد مرابي المدن والذين ينسجون على مناويلهم، وليسوا بأقل منهم كسبًا.

قد وصفنا حالة الفلاح التعس إذا استدان وصفًا حقيقيًّا لا مبالغة فيه، وكل من عاش في القرى زمنًا يعرف هذه الاستباحات المخجلة التي تجد من الامتيازات الأجنبية حاميًا وظهيرًا، وقوانين البلاد عاجزة عن منعها أو تناول مرتكبيها بعقاب رادع.

ويمكننا أن نقول بجرأة: إن الفلاح المصري هو بين زُرَّاع العالم المتمدين طرًّا أكبر ضحية للربا، وهو المخلوق الذي تقع عليه أفظع جنايات السلب والنهب.

القسم الرابع: مداواة حالة المالك الصغير

تبيَّنت الحكومة المصرية من أمد بعيد هذه الحالة التي يعانيها الفلاح صابرًا، فلم توفق إلى وسيلة ناجعة في علاجها. والحق أن الداء صعب الشفاء، الفلاح ليس بالمدين الذي يهضم حق دائنه، إلا أن عيبه الأكبر هو أنه لا يحرص على الدفع في الميعاد، وكلمة غد في فمه تعني خمسة عشر يومًا أو شهرًا؛ «لا يقدم النظر في العواقب، كما قال بيوبك، بل يستدين ما استطاع بأفحش الفوائد غير مبال بأجل السداد الذي يُخبِّئ له على الدوام أسوأ المفاجآت.» وعدم التبصر بالعواقب يتأتَّى للفلاح من حالته الاجتماعية الشبيهة بحالة الإنسان الفطري، كما يتأتَّى أيضًا من التواكل الذي يدفعه إلى قضاء العاجل من حاجاته غير ناظر إلى ما وراء ذلك.

على أن الإنسان يجب أن يألف بحكم التربية وحكم الأسلوب المعاشي إجهاد الفكر، ورياضة النفس بالنظر إلى المعنويات — وما المستقبل كله إلا معنويات — حتى يستطيع أن يكون متبصرًا، ولا يعيش يومًا بيوم.

الفلاح لا يزال جاهلًا غير مثقف، ينشط لإنفاق ما بين يديه غير مهتم بما يأتي به الغد، وشأنه في ذلك شأن الهمجي الذي وصفه مونتسكيو بأنه يقطع جذر الشجرة ليجني ثمرتها (راجع كتاب جيد).

فدون مقاتلة الربا والتغلب عليه عقبة كئود، وسنرى كيف حاولت الحكومة أن تدرك هذا الغرض، باحثين في الطرائق التي اتخذتها لمنع الربا وحماية الملكية الصغيرة، مستمدين لذلك أصدق الأخبار من التقارير السنوية التي كان لورد كرومر يصدرها.

على أن الحكومة كانت قبل ذلك أرادت أن تتبين ما إذا كان الزراع يقبلون بسهولة منع صلاتهم مع الصيارفة الصغار في المدن والقرى ليستدينوا من غيرهم بشروط أصلح، وما إذا كانوا وافين للدين أو غير وافين؛ لذلك أقرضتهم في سنة ١٨٩٦ على سبيل التجربة مبلغ عشرة آلاف جنيه، فدلت هذه التجربة على أنهم يقبلون جذلين كل ذريعة تمكنهم من الاقتراض بفائدة قليلة، إلا أنهم بالرغم من هيبة الحكومة لم يردوا المطلوب منهم إلا بمشقة.

وفي سنة ١٨٩٨ تأسست شركة مساهمة إنجليزية باسم البنك الأهلي المصري جعلت إدارتها في يد سير ألوين بالمر، الذي كان مستشارًا ماليًّا لدى الحكومة المصرية، وكان من حذقة الماليين، ولما كان من أغراض البنك المذكور إمداد أصاغر الفلاحين بتسليفهم لمدد قصيرة، حاز البنك المذكور موافقة الحكومة وتعضيدها، لحسبانها أن في ذلك حلًّا للعقدة التي طالما سعت إلى حلها ولم تستفد فتيلًا.

فمن أجل أن يضطر الفلاح إلى الدفع في الأوان، ويسهل على البنك تحصيل أقساطه، استصدرت الحكومة أمرًا عاليًا ناط بالصيارف الرسميين جباية مطلوب البنك الأهلي مع أقساط الضرائب العقارية، فشرع البنك يجرب الإقراض في مركز بلبيس، وفيه ثمان وستون قرية، منها خمسون يملك أراضيها صغار الفلاحين، وأخرج ٤٧٨٠ جنيهًا لألف وخمسمائة وثمانين مالكًا صغيرًا في ربيع سنة ١٨٩٩ وفي أول صيفها، وجعلت هذه المبالغ مستحقة الدفع في خريف ذلك العام، فأبلغ سير ألوين بالمر لورد كرومر في آخر سنة ١٨٩٩ أنه راضٍ تمام الرضى عن هذه التجربة، وأن المبالغ المُقرَضة قد حصلت جميعها (راجع تقرير لورد كرومر سنة ١٨٩٩).

غير أن ديون الفلاح من نوعين؛ أحدهما: يشمل المبالغ الصغيرة التي يقترضها في أول السنة ويفيها في موسم القطن. وهذا ما يصح اعتباره رأس مال الحركة لاستغلال الأرض، وثانيهما: يشمل المبالغ التي يقترضها في أثناء السنة لأسباب أخرى. وهي أكبر مقدارًا من الأولى، وذات آجال أبعد.

فلو أن عمل البنك الأهلي قصر على تسليف المبالغ التي من النوع الأول لما كانت خدمته للزارع الصغير جديرة بالذكر؛ لأن الدين الأكبر والأبهظ لعاتق الفلاح هو النوع الثاني؛ إذ يكفي أن يدخل الفلاح فيه حتى يؤخذ أخذ القطاة بالشرك، فلا مفر له منه مهما قل المبلغ الذي اقترضه في الأصل، فمن أجل ذلك رضي البنك الأهلي أن يقرض ٢٦٧٢٠ جنيهًا تدفع في خمس سنين بمركز بلبيس.

وتختلف القروض التي لخمس سنوات عن القروض المستحقة في نفس السنة بأن هذه لا تقل عن خمسين قرشًا، ولا تزيد على عشرين جنيهًا، وأنها تؤدى على توقيع كل من يدفع ضريبة عقارية. أما تلك فتتراوح بين عشرة جنيهات ومائتي جنيه، ولا تؤدى إلا على رهن، وكان يخشى أن لا يجني البنك الأهلي من هذه الأعمال الصغيرة ما يوازي تعبه ونفقاته، فرأت الحكومة أن تضمن له ربحًا كافيًا لتمكنه من الاستمرار في هذا التسليف الصغير، وتنشل الفلاح من أيدي المرابين؛ لذلك أجازت له أن يتقاضى ١٪ بصفة عمولة لوكلائه في الأرياف، علاوة على فائدة ٩٪ — وهي أقصى فائدة تعاقدية يجيزها القانون المصري — ويُقدر أنه يخرج من التسعة في المائة ٣٪ لنفقات البنك، فيبقى له ربح صاف قدره ٦٪ تخصم من الديون التي لا يمكن تحصيلها (راجع تقرير لورد كرومر عن سنة ١٨٩٩).

ويرجى أن يستطيع البنك توسيع نطاق التسليف لصغار الملاك، وقد بدأ فعلًا بإقراضهم في سنة ١٨٩٩ مائة ألف جنيه في ثلاثة مراكز أخرى، من ذلك ٢٥٠٠٠ جنيه لمدة سنة واحدة، و٧٥٠٠٠ جنيه لمدة خمس سنوات، وقد عينت إدارة البنك موظفين في الوجه البحري للتسليف في عدة جهات، وإذ إن صندوق الدين قد قبل أن يمد البنك بالمال بفائدة يسيرة، فينتظر أن تزيد أعمال التسليف التي يرجى منها خير كثير لصغار الزراع.

هذا ما عملته الحكومة باتحادها مع البنك الأهلي لمساعدة الفلاح، وتخفيف أعباء دينه، وهي بلا ريب خطوة كبيرة إلى الأمام، ولكنا لم نصل بعد إلى اليوم الذي يتسنى له فيه فك القيود التي تعوقه عن التمتع بثمار كده. والبنك الأهلي حتى الآن لم يجاوز مرحلة التجربة، كما قال اللورد كرومر، الذي يرجع إليه الفضل في إنشاء التسليف لصغار الفلاحين. ولا يمكن الجزم منذ الآن بأن البنك سيجد في كل الأقاليم ما صادفه من التسهيلات في المراكز التي ابتدأ عمله فيها.

ومن جهة أخرى، قد يمضي زمن طويل قبل أن يكسب البنك ثقة الفلاح الذي جَفَّلهُ الامتياز الممنوح من الحكومة بتحصيل أقساط الدين بالطرق الإدارية.

ولا غرابة في خوف الفلاح منها وذكريات قسوة الإدارة وعسفها لا تزال عالقة بذهنه، فإذا خفض المرابون فوائدهم قليلًا تحت ضغط المزاحمة فضل الفلاح معاملتهم، وإن تحمل ٤ أو ٥٪ زيادة على ما يطلبه البنك منه؛ لأنهم ألين مراسًا، فإذا تعذر عليه الدفع في الميعاد لم يتعرض من فوره للإجراءات الإدارية التي تتناول مملوكاته بالحجز ثم البيع على وجه السرعة.

على أنه يجب على الحكومة ريثما تحل عقدة الربا الفاحش حلًّا حاسمًا أن تتذرع بذرائع أخرى لحماية مصالح المالك الصغير وتحسين حاله، وأول هذه الواجبات تنوير ذهنه وتعليمه حتى لا يكون طعمة لجميع الذين يستغلون جهله فيرهقونه بالربا.

وعليها أيضًا أن تتخذ الوسائط اللازمة لإطلاع ساكني القرى على أسعار الحاصلات الزراعية، وخصوصًا القطن، بطريقة سريعة مستمرة حتى تمنع المفاجأة والغبن الناجمين عن عدم وقوف القرويين على تقلبات الأسعار.

وأخيرًا ينبغي مراقبة الإبانة رقابة دقيقة، والضرب بشدة على أيدي المتلاعبين بالموازين.

على أن أفضل وسيلة وأخلقها بحماية الملاك الصغار هي تخفيض الضريبة العقارية التي توقر كواهلهم، وتلك الوسيلة تقضي بها الضرورة؛ لأن الضريبة العقارية ثقيلة إلى حد أنها أصبحت غير محمولة، في حين أنه لو فرضت إتاوات خفيفة على منتجات سائر الموارد الاقتصادية لأمكن تخفيف عبء الضريبة العقارية، مع زيادة في دخل الخزانة.

وإنه لمن الظلم البين أن تعفى من كل جباية إيرادات التجارة والصناعة والحرف الحرة والسهام التي تكوِّن الثروة المنقولة تلك الثروة التي تزداد الآن ازديادًا كبيرًا في القطر، ويلقى كل حمل النفقات العامة على ظهر الفلاح، مع أن مصلحة هذه البلاد الاقتصادية التي تعيش من زراعتها تقضي بتخفيف ذلك الحمل عن الأرض ما تيسر؛ بقصد التشجيع على استعمال الأدوات الزراعية المتقنة الكثيرة الثمن.

أما هذا التجنِّي على الزارع بإرزاحه تحت الجانب الأكبر من النفقات العامة، فعلاوة على ما فيه من الجور هو أيضًا منافٍ للمبادئ الاقتصادية؛ لأنه يثبط الهمم، ويحول دون إدخال التحسينات واستعمال رءوس الأموال الكبيرة في الأعمال الزراعية أحوج ما هي إليها في مصر؛ لبقائها على قديمها منذ الأزل.

ولكن إذا نظرنا إلى المسألة من جهة الذين يتحملون هذه الضريبة العقارية أكبرنا فداحتها؛ لأنها تقع كلها على مالك الأطيان الذي يصعب عليه أن يلقي جزءًا منها على المستأجر وعلى المستهلك؛ لما ذكرناه آنفًا من استحكام الأزمة التي تعانيها البلاد منذ عشرين عامًا، وقد نزلت بأسعار الحاصلات الزراعية وإيجار الأطيان نزولًا كبيرًا.

إن الطريقة التي جرت عليها الحكومة في وضع الضرائب بمصر تشبه أن تكون طريقة «الضريبة الوحيدة» على الأرض، وهي الطريقة التي حبذها مذهب «الفيزيوقراطيين»، ومستر هنري جورج، الاقتصادي الأميركي الشهير، فهي محل لجميع الانتقادات التي وجهت بحق إلى المذهب المذكور، وأكبر عيوبه أنه يثبط التقدم الزراعي بحرمان المالك ما يكسبه من الزيادة في ثمن أرضه بفضل كده، وبذل ماله «جيد، في مبادئ الاقتصاد السياسي».

غير أن الحكومة المصرية والحق يقال قد تنبهت من أمد إلى عيوب نظام الضرائب وما ينجم عنه، لكنها — ويا للأسف — غير قادرة على إصلاح هذا النظام وتوزيع النفقات العامة توزيعًا يكون أدنى إلى العدالة؛ إذ الامتيازات الأجنبية التي امتدت في هذه البلاد امتدادًا مجاوزًا للحد، وتدخل أوروبا في كل مصالحنا منذ أصبحنا مدينين لها، «في حين نرى كثيرًا من البلاد تتخلص من الدين بشهر إفلاسها»، هما قيدان ثقيلان يقيدان حرية حكومتنا.

خرجت مصر بقانون التصفية من الورطة المالية التي كانت واقعة فيها، «وفوائد دينها مخفضة تخفيضًا كبيرًا، فأصبحت قادرة على القيام بتعهداتها مرة أخرى، ولكنها خرجت منها أيضًا مغلولة اليدين غير قادرة على التنفس بدون إذن من أوروبا.» (راجع كتاب إنجلترا في مصر، لسير ألفريد ملنر).

وقد نجمت عن ذلك من الوجهة الدولية حالة شاذة أشبه بحالة المحجور عليه، انتقصت ولاية الحكومة لأمر نفسها، كما أنها أضعفت سلطانها ومهابتها، وعاقت بالتالي نمو قواها الاقتصادية.

ولكي يستطاع تخفيض الضرائب العقارية يجب خلق إتاوات جديدة، والأجانب لا يمكن إلزامهم بهذه الإتاوات إلا إذا وافقت دولهم، فالحكومة مرغمة إذن على الاحتفاظ بالضريبة العقارية كما هي؛ لأنها مع فداحتها تشمل الأهلين جميعًا، أما إذا استعاضت عن بعضها بالإتاوات يدفعها فريق من سكان القطر دون الآخر كان ذلك هو الظلم بعينه.

في سنة ١٨٩١ على أثر مفاوضات طويلة شاقة صدر أمر عال يفرض على الأجانب رسم «الباطنطا»، وقد وافقت عليه الدول، فجاء ذلك عدلًا؛ إذ المصريون كانوا يدفعون هذا الرسم ولم يكن جائزًا استمرارهم في دفعه دون الأوروبيين، مع أنه كان خفيفًا محمولًا، على أنه لم يكد هذا الأمر العالي ينشرُ حتى ثارت ثائرة الاحتجاجات، وعلت من أجله الصيحات، فاضطرت الحكومة إلى إلغاء الباطنطا عن الوطنيين والأجانب معًا.

وهذا الامتياز الذي يتمتع به الأجانب بأن لا يكونوا خاضعين لضرائب البلاد أصبح الآن شذوذًا لا ينطبق على حالة الزمن Anachronisme، وربما كان معه عذر حين وجوده؛ لأن الأجانب يومئذٍ كانوا فيه مرجوحين بالنسبة إلى الوطنيين، ولم يكن لأولئك ما لهؤلاء من المزايا، أما اليوم فالأجانب ينتفعون بكل مزايا النظام الحالي كما يتمتع به الوطنيون أنفسهم أو أكثر، فلماذا لا يتحملون نصيبهم من النفقات العامة؟ ولماذا توضع كل هذه القيود المذلة في أقدام الحكومة المصرية؟
١  من ذلك ٣٤٣٧٣٠٠ فدان في الوجه البحري، و٢٣١٩٣٠٠ فدان في الوجه القبلي. وهذه المساحة المنزرعة تزداد سنة بعد سنة.
٢  مما يتعين إيضاحه أن الدومين والدائرة السنية قد شرعتا تقسمان تفاتيشهما الواسعة إلى قطع صغيرة، وتبيعانها على الزراع بأثمان طيبة، وبذلك تربحان ربحًا عظيمًا، وتساعدان على تجزئة الأرض.
٣  M. piot.
٤  يلاحظ أن هذه الحالة كانت جارية حين تحرير هذا الكتاب؛ أي من نحو ربع قرن، وقد تحسنت اليوم تحسنًا بينًا يجوز معه القول أنها تلاشت أو كادت.
٥  الأسرة قديمًا كانت أوسع اشتمالًا من الأسرة اليوم؛ ولهذا هي أجدر باسم العشيرة؛ فقد كان للأب سلطان على امرأته وعياله الذين في ولايته، وأزواج أولاده وذريتهم، والمتبنين والملحقين بالأسرة Adrogés، والعتقاء inmanips والأرقاء. ومن المحررين من كان يساعد الأسرة انضواء تحت حق الولاية paironat بموجب قسم يقسمه على خدمة يقدمها بدلًا من الأجر.
٦  Gabriel Hanotaux.
٧  Duc d’Harcout. – L’Egypte et les Egyptiens.
٨  صدر حكم الاستئناف المختلط فعلًا بعد طبع النسخة الفرنسوية من هذا الكتاب بتأييد ذلك الحكم الابتدائي.
٩  البنك العقاري المصري شركة مساهمة رأس مالها ٨٠ مليون فرنك، أسس بموجب أمر عالٍ مؤرخ في ١٥ فبراير سنة ١٨٨٦، وأوشك في أوليات أيامه أن يفلس لعقده عدة سلفيات على أعيان لا قيمة لها، فلاتقاء هذا الخطب أصدر في أول مايو سنة ١٨٨٦ أربعمائة ألف سند من سندات النصيب، قيمة كل منها ٢٥٠ فرنكًا بفائدة ٣٠ في المائة، يستهلك منها عدد كبير كل عام بطريقة الاقتراع. أما الآن فقد أصبح يحتاط كل الاحتياط في معاملاته، على أن تلك الاحتياطات نفسها، مع ما فيها من التعقيد والتدقيق والكلفة المجاوزة للضرورة، تجعل المقترض الصغير يتجنب معاملته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤