الفصل الثاني عشر

كيف فاز أمير كوندة مرة ثانية على الدوق دي جيز

ولما رجع أمير كوندة إلى منزله بادر الدوق دي جيز إلى ملاقاة الملك مرة ثانية، فرآه يرتعد من تذكر الحادث الذي وقع أمامه. وكان مونمورانسي قد مضى، والكردينال ممتعض ينظر إلى السُّهى صامتًا يسأل عما حمل أخاه على الرجوع عن عدوه. أما كاترين فكانت تتظاهر بأنها تصلي.

فلما جلس الدوق قرب أخيه قال له: هل لك في إيضاح معنى خروجك من هنا الساعة؟

فأجابه: لقد سرنا في طريقٍ غير قويمة؛ ولذلك لم يكن بد من الرجوع.

قال: كيف ذلك ونحن واثقون بأنه كان زعيم المؤامرة؟

وقالت كاترين: إنه من أمراء البيت المالك في فرنسا!

قال الكردينال: ليس في نظر العدالة أمير أو كبير!

فقال الدوق: أصبت يا أخي، ولكن ليس ذا وقت التعرض له. فهل أبصرت النار التي اتقدت في عينيه، والطمأنينة التي لاحت عليه وهو يتكلم؟ وقد يكون موته سببًا في فتنةٍ عامة، وفي تصديق المنشورات والكتب المهيجة التي تطبع، وتنشر في كل يوم، ولا تتضمن إلا الطعن على آل جيز. فهم يتهموننا بأننا نروم ملاشاة الدم الملكي.

قال: أنت تبالغ يا أخي!

أجاب: أنا أبالغ؟ خذ وانظر!

وألقى الدوق على المنضدة كتابًا صغيرًا على الصفحة الأولى منه هذه الكلمة: «النمر». مطبوعة بالأحمر وتحت هذه الكلمة صورة «أرمة» بيت جيز فقال: إليك ما يكتبونه ضدنا.

فنظر الكردينال في الكتاب وصاح غاضبًا: من أين هذا؟

فأجابه الدوق: من أورليان.

– أتعرف اسم الكتبي الذي تجاسر على طبعه؟

– كلا، غير أن فيلار تلقى أوامري بهذا الشأن، وسيقبض على الكتبي ويشنق غدًا، ومن سوء الحظ أن الوشايات والسعايات تنتشر بسرعة، فقد وزعت ألوف من هذا الكتاب، فلا بدَّ لنا من أن نبرهن لأعدائنا أن هذه المطاعن افتراء وكذب. أما أمير كوندة فسوف نلقاه عندما تقوى جيوشنا، وكن مطمئن القلب يا أخي فذلك أمر لا تطول مدته.

وكانت كاترين تسمع هذه المحادثة وهي صامتة، والملك يصغي دون مشاركة في الحديث مع أن الأسئلة تتعلق بتاجه، وذانك الرجلان قابضان بأيديهما على نصيب المملكة، ولم ينبهه من ذهوله إلا الأمل بالقبض على أمير كوندة، فقال: نعم، لا بدَّ من مراقبته، ومتى قدرنا على القبض عليه ومحاكمته و…

وهنا هاجه الغضب فنهض وتمشى إلى النافذة، وقال: الهواء الهواءَ وَإلَّا اختنقت!

فوثبت كاترين إلى ولدها، وقد أدركت مراده، إلا أنه لم يستنشق الهواء حتى تراجع إلى الوراء، وسقط مغشيًّا عليه، وفيما كانت والدته تنهضه دنا الدوق والكردينال من النافذة فتقهقرا في الحال؛ لأن الهواء كان يحمل رائحة خبيثة فاسدة صادرة من الجثث التي أسرع إليها النتن، وكانت ملءَ شوارع المدينة، ورائحتها ملءَ الفضاء فيها وفي ضواحيها، وقد شنق يومئذٍ من البروتستانتيين عدد كبير في كل مكان حتى في جوار القصر، وقرب النهر.

وبعد هنيهة استفاق الملك، فكانت أول كلمة نطق بها قوله: هيا بنا نسافر!

فقال الدوق: إلى أين؟

– إلى شنونسو، أو إلى بلوا، أو إلى حيث تريدون، فإن الرائحة هنا لا تطاق، وقال الدوق: ولكن متى يكون السفر؟

أجاب الملك: في هذا اليوم بعينه، فلست أريد المبيت ها هنا. فتدبروا يا عماه، إن هذه الرائحة تؤذيني.

وخرج ووالدته كاترين تسنده.

وبعد بضع ساعات كان البلاط يسير إلى شنونسو، وحملوا الملك على محفة، وقد أصابته حمَّى شديدة، وقال الطبيب فرنل: إن الخطر ينذر حياته إذا بقي في أمبواز.

وتبع آل جيز الملك وهم حانقون؛ لأن سفره حبط تدابيرهم. وأُخبر أمير كوندة بما جرى، وكان قد خرج راكبًا جواده، فقال إنه لا يرجع إلا في المساء؛ وذلك لأن سفره أعاد إليه حريته، وعرف الأخوان أن الأمير لم يتردد طويلًا فيما عزم عليه، وأنه إما أن يكون قد سافر إلى باريس، أو إلى النافار، وكان في هذه المملكة أخوه أنطوان دي بوربون ذو الشأن والسلطة والأميرة دي كوندة، وإنه متى ابتعد عن البلاط أمكنه أن يهيئ فتنة جديدة، ويجمع جنودًا. فلما وصل الدوق دي جيز والكردينال إلى شنونسو أرسلا إلى أمير كوندة رجلًا اسمه دي جنليس لكي يكون جاسوسًا عليه، فلم يرض كوندة أن يقابله إلا في اليوم التالي، فقال له جنليس: لم أشأ يا مولاي رجوعًا إلى البلاط قبل أن أعلم إذا كان لديك ما تقوله لجلالة الملك.

فأجابه: لا شيء عندي سوى أنني ألحق بالملك عند تمكني من ذلك، وإذا رام الاطلاع على خبري، فقل له: إنني خادمه المطيع الخاضع ونسيبه الودود، وإنني برغم التهم التي رميتُ بها عنده سوف يَرى مني إخلاصًا دائمًا، إلا إذا أكرهني على اعتناق غير مذهبي، فأنا لا أسمع قداسًا، وأحتج على الإكراه في الدين.

– هذه أنباء سيئة ليتك تعهد بها إلى غيري.

– حبًّا وكرامةً يا مسيو جنليس، ولئن لم تبلِّغ رسالتي فأنا سأبلغها بنفسي، وآمل أن ألقى أخي ملك النافار، ولست ألقاه إلا بعد الاستئذان من ملك فرنسا.

وبعد رحيل جنليس، نادى أمير كوندة جاليو فقال له: إن الوقت لا يتسع للحديث، وقد فهمت كنه ما ينويه ابن عمي دي جيز. فهو يروم أن يقتادني إلى باريس، وهو فيها السيد المطلق والآمر المطاع، أو إلى مجلس النواب، وله فيه الكلمة العليا، وقد خسر ابن عمي المعركة الأولى منذ يومين، فخير لي أن أتمهَّل لأتمتع بفشله وانتصاري. فهل تودُّ يا جاليو أن تقابل برداليان مرة ثانية؟

أجاب: لا يلذُّ لي شيءٌ مثل أن أتحفه بضربة ثانية من سيفي لعله يتأدب معي.

– إياك والمبارزة في هذا الوقت، وإنما يجب أن تعلن على رءوس الأشهاد أنك راحل إلى باريس لتلتحق بالبلاط، ثم تسبقني يومًا واحدًا.

– وبعد اليوم الواحد؟

– متى انقضى النهار ولم تجدني أتيت تظهر الدهش والتعجب، فيسألونك عني، فتمازح برداليان حتى يلوح لك أن دائرة المزاح قد ضاقت، فتسافر لاحقًا بي إلى غسقونيا.

ولقد أنجز جاليو الأمر فوصل إلى شنونسو، وكان الملك قد عزم على الوقوف فيها أيامًا قبل الاستمرار إلى باريس. فظل جاليو ثلاثة أيام يجاوب رجال البلاط عن مولاه أمير كوندة، ولما رأى أن المستفهمين قد قلَّ وثوقهم بكلامه عزم على السفر. إلا أن مرسلين وعدته بليلة في حديقة شنونسو، فسار إلى الموعد ولقي حبيبته في خميلة ملتفة، وهي ترتعد فرحًا وخوفًا، إلا أن سرورهما باللقاء لم تطل مدته؛ لأن حملة البنادق أحاطوا بالخميلة من كل جهة، وكان فيهم الدوق دي جيز وغيره من رجال الدوق. فقال الدوق: هل تحققت يا برداليان من دخوله هذه الخميلة الكثيفة؟ فأجابه: نعم.

قال الدوق: سدُّوا المنافذ! وهل عرفتَ السيدة التي سبقته إلى هنا؟

– كلا، فإنها كانت مبرقعة.

– لا جرم أنها صاحبته التي اجتمع بها في الفندق. إذن فنحن نكرههما على أن يسلمانا رسالة كاترين المكتوبة إلى أمير كوندة، فإني على يقين من أن الملكة الوالدة تراسل الأمير، وأن جاليو هو الرسول.

ثم رفع الدوق صوته، وقال: اقبضوا على الاثنين!

وسمع جاليو هذه الكلمات، فقال في نفسه: هيهات، يا مرسلين تنبهي جيدًا إلى ما يجري. متى سمعتني أصرخ «إليَّ أيها البواسل» اهربي إلى ناحية القصر؛ لأن الطريق تكون وقتئذٍ خالية لك.

وضاقت دائرة المهاجمين شيئًا فشيئًا، وقال الدوق: اخرجا وإلا فالنار!

إلا أن جاليو كان يحاول أن يعرف عدد خصومه، فتحقق أن ممشيين من المماشي الثلاثة المؤدية إلى الخميلة قد وقف فيهما بعض الأشراف متقلدي السيوف وحملة البنادق، وأن الثالث ليس فيه إلا اثنان من حملة البنادق. فقال في نفسه: إذن ويل لهما، وفي أسرع من رد الطرف وثبَ عليهما، فطرحهما على الأرض بضربتين من قبضتيه قبل أن يتمكنا من العلم بوجوده، وصاح لساعته: «إليَّ أيها البواسل!»

فتواثب الدوق ورجاله مزدحمين في الممشيين، وفي أثناء ذلك كانت مرسلين قد انسلت إلى طريق القصر، ومن سوء الحظ أن المهاجمين سمعوا وقع خطى مرسلين فحاولوا اللحاق بها، غير أن المسافة التي بين ذلك الموضع والقصر كانت بعيدة، فقالوا: سوف نقبض عليها قبل أن تصل، وهو أمر عوَّل جاليو على أن يمنع وقوعه، ولما وصل الدوق ورجاله إلى الممشى ألفوا جاليو شاهرًا سيفه، فقال برداليان: هذا هو!

فقال الدوق: افعل به ما شئت يا برداليان، ولكن لا تقتله.

فأجابه جاليو: شكرًا لك أيها الدوق، فإن انعطافك ملأ فؤادي سرورًا.

ثم جالد برداليان بسيفه حتى أدناه من وجهه، واضطرَّ الدوق إلى مدِّ يده ليمنع صاحبه، وإذا بالرجال الثلاثة قد أخذوا يتجالدون بالسيوف وجاليو يتقهقر شيئًا فشيئًا، وكان قد استند إلى شجرة، وأمن أن يُضرب من خلف، فاكتفى بأن جعل يمد سيفه إلى صدر الدوق تارة، وإلى صدر برداليان تارةً أخرى بسرعة مدهشة، حتى لم يجسر أحد منهما على الدنو، وما زال يدافع عن نفسه ويمانع حتى خذلته قواه وأيقن أن مرسلين نجت، ثم خذلته ساقاه فانحنى فأصابته ضربة من سيف الدوق جرحته، وأقبل الرجال فأمسكوه، وقال له الدوق: إن هذا الفتى شيطان في صورة إنسان.

قال برداليان: إنه قتل اثنين.

قال الدوق: ولو أنه التقى بكل منا على حدة لجرحنا نحن الاثنين.

فضحك برداليان وقال: انظر إلى صدرتك يا مولاي فإنها مخضبة بدمك.

قال الدوق: كصدرتك أنت! فانظر إليها.

فقال برداليان: نعم، ولكن هذه الجروح خدوش.

وذلك أن جاليو أصابهما بجراح خفيفة تدل على حذق وبراعة كبيرة في لعب السيف. فقال برداليان: هذا هو الذي ضربني بسيفه تلك المرة قد تحققت من معرفته اليوم.

ولما وصلوا إلى القصر بحثوا في جيوب جاليو فلم يجدوا معه رسالة، وتكلم الدوق عن استنطاقه، فظن جاليو أن وقت الاستنطاق قريب، فتظاهر بالإغماء، فطرحوه في سجن عند قنطرة جسر، وفي اليوم التالي عُصبت جراحه، وجيء به إلى الدوق دي جيز فرآه جاليو غاضبًا؛ لأن دي جنليس جاسوسه وافاه بأنباء سيئة، وذلك أن أمير كوندة وصل إلى بلوا فأنبأ حكام المدينة أنه لاحق ببلاط الملك، لكنه لم يبتعد عن أسوار المدينة إلا قليلًا حتى انحرف إلى طريقٍ آخر، وصحبه رجل اسمه روبر دلاهاي فأعمل في شاكلة جواده المهماز سائرًا في طريق بواتيه، وقال جنليس أيضًا: إن الأمير لقي في بواتيه شريفًا لا يزال يجهل اسمه فصحبه إلى غاسقونيا.

فكان الدوق تلقاء هذا الخبر السيئ، خبر نجاة عدوه، يروح ويجيء في الحجرة، وأحسَّ جاليو بالهلاك فقال في نفسه: أتظاهر بالبله، وإذا بالدوق قد تمشى إليه، وقال له: أهكذا تخدعنا يا رجل؟ أجاب: أنا يا مولاي؟ قال: نعم أنت. هيَّا فأعد على سمعي الإيضاحات الحقيقية التي تلقيتها من مولاك. أجاب: لقد أمرني الأمير بأن أسبقه وأنتظره في البلاط. ورفع جاليو بصره إلى السماء.

فقال الدوق: ألم تكن تدري بأنه ينوي نية أخرى؟

قال: وهل كان ينوي غير ذلك؟

أجاب: بلا شك؛ لأنه سافر إلى غسقونيا.

قال: سافر الأمير؟ سافر بدوني؟ أواه، لقد كنت أتمنى أن أصحبه في سفره! تلفظ بهذه الكلمات بلهجة صدق وأسف حتى نظر إليه الدوق منذهلًا، وقال: قسمًا بشرفي لست أدري إذا كان هذا اللعين صادقًا أو كاذبًا فلم يبق إلا الجلاد، عليَّ بفيلار (اسم الجلاد).

وللحال أقبل فيلار، وكان مشهورًا بالقسوة، فارتعدت فرائص جاليو لما رآه، فقال له الدوق: أتعرف هذا الرجل؟

أجاب: لا يا مولاي.

قال: إنه سجين لا يريد الكلام، فعليك أن تحلَّ عقدة لسانه!

وفيما كان فيلار يدنو من جاليو دخلت الملكة الوالدة حجرة الدوق، فقالت له: إن ولدي يروم الرجوع إلى باريس، ويطلب إليك أن تأمر بالتأهب للرحيل.

أجاب: سمعًا وطاعةً يا سيدتي فغدًا نسافر.

فقالت: من هذا الشاب؟

أجاب: سجين قبضنا عليه أمس أنا والمسيو دي برداليان، وهو شاب ذو علاقات بوصائفك.

قالت: ما اسمه؟

أجاب: اسمه جاليو دي نرساك.

ولم يكن جاليو قد تكلم بعد، إلا أنه أمل خيرًا من قدوم الملكة، فرفع بصره إليها مستعطفًا، وقال: اسمي جاليو دي نرساك، من رجال الأمير، وهم عازمون على تعذيبي.

قالت: عازمون على تعذيبك؟! ألم تكن مع الأمير عندما سافر؟

أجاب: نعم يا سيدتي.

قالت: وهل يتأخر مولاك عن الحضور؟

فقال الدوق: نعم يتأخر ولا شك؛ لأنه فرَّ إلى غسقونيا لعلمه بأنه مجرم، وأرسل إلينا وصيفه هذا ليخادعنا به، ولا يريد هذا الغبيُّ أن يتكلم، فعهدنا إلى فيلار بحلِّ عقدة لسانه.

وكان فيلار قد لصق بجاليو وأمسك يده، فتقدمت إليه الملكة ونظرت إليه، وقالت: مسكين!

ثم خفضت صوتها وهمست تقول للجلاد: لك خمسون دينارًا إذا ادعيت أن آلات التعذيب ليست عندك.

وقال الدوق: خذ الفتى فإننا لاحقون بك.

أجاب: نعم، ولكن ليس في طاقتي أن أفعل شيئًا هنا.

قال: لماذا؟

– لأننا رحلنا على عجل من مدينة أمبواز، فغادرت فيها آلاتي.

– أليس لديك شيء منها؟

– كلا يا مولاي، ولا يسعنا استنطاق هذا الشاب إلا حين وصولنا إلى أورليان أثناء ذهابنا إلى باريس. فعض الدوق شفتيه، ولم يدر في خلده أن الجلاد كاذب؛ لأنه قضى زمنًا طويلًا في خدمة الدوق، وكان فيه أمينًا فاكتفى بأن لعن قلة توفيقه. فقال الدوق لجاليو: صبرًا إن العذاب لا يفوتك.

أجاب: ليس لديَّ ما أقوله يا مولاي في أورليان، ولا ها هنا زيادة على ما قلت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤