الفصل الرابع عشر

ليلة جميلة

كان الدوق دي جيز قد عزم على الوقوف في أورليان ليأمر باستنطاق جاليو دي نرساك، وكان معنى الاستنطاق في ذلك الزمن تعذيب المتهم بآلات التعذيب، ولكن لما ذكر للدوق اسم الكتبي الذي شُنق بالأمس أوسع الخطى خائفًا أن تجمعه الصدفة بمادلين. فاكتفى بأن أمر برداليان بشدة مراقبة سجينه، ولقد كان سفَر السجين على مركبة مقفلة محوطة برجال مسلحين تلقَّوا أمرًا بقتل السجين إن هو حاول فرارًا، وفيما كانوا خارجين من أورليان، قال جاليو لبرداليان: إني أرى لك وجهًا باسمًا بشوشًا وطلعة بهيةً.

– هب الأمر كذلك.

– إن توفيقك ينسيني حبيبتي الحسناء، وكان جاليو يحاول بمثل هذا الكلام أن يحمل سجانه على الثرثرة والهذر؛ لأنه رآه يطالع تذكرة، وقال في نفسه لعلها تذكرة غرامية ضرب له فيها موعد، فإذا ذهب إليه تمتع جاليو بحريته ساعة من الزمن.

وفيما كان جاليو يأكل طعامه عند المساء أحسَّ بورقة في اللقمة فارتعد، ولما أشعل الحراس مصابيحهم انتهز تلك الفرصة فقرأ في الورقة هذه الكلمات:

كنْ مستعدًّا في هذه الليلة، إنا نسعى لك.

فقال في نفسه: هذه رسالة من الملكة الوالدة؛ لأن ورقها معطَّر وكتابتها دقيقة، وأطلَّ من المركبة فأبصر البارون ما زال يقرأ تذكرته، وكانوا قد وصلوا إلى موضع يقال له أرتناي، ودخل بعض الأشراف بيوتًا فيه ترجى منها حسن الضيافة، وأما القسم الأكبر منهم فتهيأ للرقاد في المركبات، ولم يشأ جاليو رقادًا من غير أن يخاطب برداليان، ويتمنى له الهناء التام في ليلته، فقال له: أسأل الله لك يا عزيزي برداليان أحلامًا تبرز فيها لك حور الجنان متبرجات متزينات، فقد عزمت على الرقاد.

وبعد هنيهة تمدد جاليو على وسائد المركبة، وأخذ يغطُّ غطيط المستغرق في نومه، ولبث برداليان بقربه ساعة، وأخذ يشدد التنبيه على رجاله بالمراقبة والحراسة. ثم بادر إلى موعد ضربته له إحدى وصائف الشرف في التذكرة الآتي نصها:

عزيزي البارون

متى وصلنا إلى أرتناي، وانطفأت الأنوار، ونام سجينك، تعالَ إليَّ وقف تحت نافذتي، فإني أود سماع كلماتك الغرامية.

أناييس

فلما مضى برداليان فتح جاليو عينيه، وجعل ينظر إلى الطريق، وكان عنده أربعة من الحراس، رابعهم زعيمهم، وكان يتمشى الثلاثة وهم يتحدثون، أما الزعيم فكان واقفًا وحده يترنم بأنشودة غرامية، ويقول في نفسه: قاتل الله الوحدة!

وكأنما أجاب الله دعاءه فمرت به وقتئذٍ ماشطة الملكة، وهي فتاة إيطالية اسمها «جذابة»، فقال لها: إلى أين؟ أجابت: إني أتنزه أيها الزعيم واقتطف الأزهار. قال: ألا تخافين من التنزه ليلًا؟ أجابت: أنا أخاف؟ أنت تدري إنني لا أخاف الرجال. قال: لا يليق بك يا جذابة أن تسيري وحدك ليلًا، فبحقك إلا ما أذنتِ لي بصحبتك؟

وبهت جاليو لما رأى تلك الإيطالية قد تناولت يد الزعيم، فقال في نفسه: إن جذابة هذه سريعة الانقياد!

ولم يكد ينطلق الزعيم والإيطالية حتى أقبل خادم يحمل زجاجات ملأى. فقال له أحد الحراس: إلى أين؟ فأجابه: إني أبحث عن جنود البارون برداليان. قال: لقد وصلت، فنحن جنوده. قال: لقد سرَّني ذلك؛ لأن ساعدي يكاد ينكسر من ثقل هذه الزجاجات. أحقًّا إنكم جنود البارون؟ أجاب: نعم، فما الذي تحتاجه منهم؟ أجاب: إن البارون أرسل إليكم هذه الزجاجات.

– أيروم حفظها لدينا؟ أجاب الخادم: بل أرسلها لتشربوها.

– غدًا؟ أجاب: بل الليلة. فإن البارون طروب، وقد ودَّ أن يطرب جنوده مثله. ثم إنه أعطاني هذا النرد.

قال أحد الجنود: هذا يصلح للعب، وليس لدينا نقود. فقال الخادم: ولقد أرسل إليكم نقودًا كذلك، لكل منكم ستة دنانير.

فأجابه الجندي: ليس ذلك الكرم من عادات سيدنا البارون، فهل لك في مشاطرتنا اللعب والخمر؟

– حبًّا وكرامة يا أصدقائي.

وكان جاليو يرى ويسمع فظنَّ أن حورية من حور الجنان أتت هذه المعجزات لنجاته، وللحال شرب الجنود الخمرة، وتفرقت الدنانير بين أيدي الرجال من رابح وخاسر، كما تفرقت الخمرة في الرءوس فأسكرتهم. فقال جاليو في نفسه: لم يبق إلا أن أنتظر الدفعة الأخيرة، وما وراءها إلا جواد وسيف ونقود، يا لله! أفي يقظة أنا أم في منام؟ ذلك لأنه أبصر امرأة تتمشى على مهل، فمرَّت على مقربة من الجنود، وقد أخذهم النعاس، ففتحت باب المركبة وأمسكت يد جاليو، وقالت: تعال!

فارتعد جاليو وقد عرف الملكة الوالدة، فتبعها من غير أن يتلفظ بكلمة، فخرجا من أرتناي، وتجاوزا الحراس بعد أن ألقت الملكة كلمة المرور. فقال لها جاليو: إلى أين أيتها السيدة؟

أجابت: اخفض صوتك يا غلام فإن الجواسيس حولنا، وقد يسمعنا سامع.

ولم يتجرأ جاليو على الكلام، فسارا حتى ابتعدا عن أرتناي، وجاليو يعجب بتلك المرأة التي تتحمل مشقة السير أكثر من كل وصيفة من وصيفاتها، وإذا بوقع حوافر جواد قد طرق آذانهما، فقالت الملكة: قد وصلنا!

وكان للطريق عطفة وقف عندها رجل بيده زمام جواد مسرج، وعلى سرجه سيف طويل وغدارتان وخنجر، فصاح جاليو: إنكِ أنقذتني يا سيدتي، فشكرًا لكِ من صميم فؤادي.

قالت: وكيف جرحك؟

أجاب: إنه شفي تمامًا الآن.

قالت: قد يسيل دمه من حركة الجواد، فخذ هذا المرهم إنه يتمم الشفاء.

أجاب: أزيدكِ شكرًا يا مولاتي وأسألكِ: أي حاجة لك؟

قالت: إن أمير كوندة ينتظر وصولك، فلا تنكر عليَّ أمرًا قد حزرته. فخذ هذه الرسالة إليه، ولا تسلمها لأحد سواه. فإذا تبعك أحد فاعمل في شاكلة جوادك المهماز، وتحت السرج نقود كافية لشراء جواد آخر، وإياك أن تدع الرسالة تسقط منك، أو تصير إلى يد سواك.

أجاب: سوف أهلك يا سيدتي قبل أن أسلمها إلى أحد.

قالت: وتسلم الأمير هذه الرسالة التي كتبتها الآنسة دي ليمول.

وكان ضوء القمر مشرقًا على وجه الملكة، ودهش جاليو من حسنها، فقال: إنى لكِ يا مولاتي روحًا وجسدًا. بل أنا مستعد لأن أموت في الدفاع عنك، ولكن أودُّ ألَّا أموت دون أن أتزوَّد بنظرة من وجهك.

فتبسمت الملكة وحلَّت من عنقها تصويرة مصغَّرة لطيفة، دائرها مرصع بالحجارة الكريمة، ودفعتها إلى جاليو. فتناولها منها ولثم يدها، ثم وثبَ إلى جواده. فتأملته الملكة هنيهة، وأشارت إليه إشارة وداع، وقالت: أدعو لك بالتوفيق، فتشجع!

وللحال اختفى جاليو، وعادت الملكة إلى أرتناي وهي تقول: عسى أن تكون أناييس قد تمكنت من حجز البارون عندها.

وكانت أناييس قد اجتذبت البارون برداليان إلى الجهة الأخرى من القرية، وتمكنت من استبقائه لديها حتى انتصف الليل. فشيعها إلى بيتها، وهو يقول لها: ما أحلى هذه الليلة يا حبيبتي!

فقالت له: كفى يا بارون تغزلًا، فلي حاجة إليك.

– تكلمي.

– لقد عهد إليك الدوق بالقيام على حراسة شاب جميل المنظر.

– نعم، هو جاليو دي نرساك رسول أمير كوندة!

– يقال إنه صبيح الوجه.

– قد يخطئ القائلون.

– ويقال إنه حلو المعاشرة، بارع الظرف.

– ذلك ضلال.

– وإنه شجاع!

– بل يحسن الدفاع عن نفسه إذا هجم عليه مهاجم ليقتله. فما مرادكِ من هذه الأسئلة المتوالية؟

– أود أن أرى سجينك غدًا.

– ما هذا الخاطر الذي خطر لكِ؟

– عدني بذلك يا بارون.

– وهل أستطيع أن أرفض؟

ومضت إلى موضعها بين وصائف الملكة، وعزم برداليان على الذهاب إلى فراشهِ للرقاد، لكنه رأى أن يرقب سجينه قبل ذلك، ولما تبيَّن له من بعيد أن أنوار الحرس مطفأة تولاه شيء من القلق. ثم تحول قلقه إلى انزعاج لما لم يجد زعيمهم قرب المركبة، ولما اقترب وأبصر جنوده نائمين ملء جفونهم في وسط الطريق، وبجوارهم زجاجات الخمر الفارغة والنرد، هاج هائجه حنقًا، ودخل المركبة فلم يجد جاليو فيها، فضرب برجله أحد الجنود وبعد عناءٍ أيقظه، وقال له: ماذا تفعل يا حيوان؟

فنهض يمسح عينيه، ويقول: إني، أنام.

قال: تنام وتغفل عن الحراسة، والسجين؟

فكرر قوله: الحراسة والسجين؟ ثم تساقط على الأرض من شدة السكر.

فاضطرَّ برداليان إلى إيقاظ كل جندي واحدًا بعد واحد، وتنبيههم جيدًا حتى وقف الثلاثة أمامه وهم يترنحون سكرًا. فقال لهم وصوته يرتجف غضبًا: ما معنى هذه الزجاجات الفارغة؟

فأجابوه: إنها زجاجاتك أيها المولي!

قال: وكيف ذلك؟

قالوا: إنها تلك التي أرسلت بها إلينا مع الخادم.

قال: أنتم مخطئون، ولا يزال السكر آخذًا منكم. فما هذا الكلام؟

فأجابه أحدهم: هو الحقيقة.

قال: أين زعيمكم؟

أجابوا: زعيمنا؟!

وقال أحدهم: لست أدري إذا كان ينبغي أن أتكلم.

قال برداليان: ويك تكلم وإلا قتلتك!

أجاب: إن زعيمنا ذهب مع امرأة!

قال: من تلك المرأة؟

أجاب: اسمها «جذَّابة».

قال: لعنة الله على الإيطالية اللعينة. إني وقعت في الشرك!

وللحال عقد برداليان نيته على أمر، فبادر وأخبر أحد رجال الدوق دي جيز أن سجينه قد تمكن من الفرار، ولم يزده بيانًا سوى أنه سيلحق به، ثم غادر جنوده، ولم يكونوا في حالة صالحة للمساعدة، فاختار ستة آخرين وأركبهم أفراسًا، ووثب وإياهم في طريق أورليان وهو يعتقد أن جاليو قد سافر إلى غسقونيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤