الفصل التاسع عشر

فرنسوا الثاني

لقد علم القراء في الفصل السابق بما كان من فشل الدوق دي جيز وأخيه الكردينال ليلة نجا منهما جاليو دي نرساك وصديقه ترولوس بعناية الملكة كاترين دي مدسيس.

واشتغل قصر فونتنبلو بالحديث عنهما في صباح اليوم التالي، فكان الكل معْجبين بجرأة ذينك الرجلين اللذين قاوما الدوق دي جيز تلك المقاومة، وتخلصَا منه بمعونة امرأة من نساء القصر، وشكا الملك إلى والدته من سوء سيرة وصائفها فدافعت عنهن، وقالت إنهن أجدر بالشفقة. ثم غيَّرت موضوع الحديث.

فلما انتصف النهار أظهرت رغبتها في التنزه، وكان الكردينال يرصدها ويرقبها، وقد جاء إلى البلاط بحجة التسليم عليها. فرأى بين الأشراف الذين يتبعونها شابًّا جديدًا، لابسًا ثيابًا قاتمة اللون، رافعًا رأسه، تيهًا على الأقران، فقال في نفسه: هذا وجه لم أعرفه قبلًا، ولعله الرسول الغسقوني الذي أشارت إليه كاترين في حديثها أمس. ثم قال للملكة: هل استرحتِ أيتها السيدة من متاعب الليلة البارحة؟

فأجابته: نعم أيها الكردينال.

قال: لعل هذا الشريف رسول ابن عمي أمير كوندة؟ وأشار إلى ترولوس. فأجابته: نعم يا عزيزي الكردينال، وهو كما تراه فتًى من خيرة الفتيان أدبًا وبسالةً وكمالًا.

قال: إنه يكفي أن يكون من ذويك، أيتها الملكة.

قالت: اسمه ترولوس كونت دي مزغونة، ولئن رأى أخوك إحدى الفرق في حاجة إلى قائد، فهذا الكونت يعجبه. فكن نعم الوسيلة لديه.

قال: سأفعل يا سيدتي. ثم حياها وابتعد وهو ممتعض يقول في نفسه: أيكون ترولوس هذا بطل الليلة السالفة؟ وهل أتى من غاسقونيا حقًّا؟ وهل تهواه الملكة الوالدة؟

وكان الكردينال على علم بأخلاق كاترين دي مدسيس وتماديها في الهوى، فقال: ربما أحبت هذا الكونت، واتخذته نديمًا لها، وحظيًّا عندها، ولكن أتراه ذا مطامع؟ تلك أسئلة مرت في ذهنه كأنها أسرار معقدة.

ولو سأل كاترين نفسها عنها لما قدرت على جواب، وربما استمالها إلى الشاب ما رأت من بسالته وإقدامه، وقد عرفت له الجميل؛ لأنه حاول التقرب إليها بوسيلة غير الوسائل التي تتخذ في البلاط، وأحست بشيء من الاضطراب لما تأملت نظراته العميقة، ورأته يختلف عن سائر الشبان الظرفاء الذين يلاطفونها كملكة لا كامرأة حبيبة.

ولما خرج الدوق دي جيز بالأمس من غرفتها فتحت باب المخدع الذي حبست فيه الصديقين، وكان جاليو يصارع النعاس، أما ترولوس فكاد يجنُّ سرورًا فوثب وجثا أمام الملكة ولثم يديها، فقالت له: يا لك من فتًى جاهل، أتخاطر بحياتك هذه المخاطرة؟

فأجابها: إنما خاطرت بها لأجلك يا سيدتي.

قالت: ولقد كدت تقتل.

أجاب: لو قتلت لعددت نفسي سعيدًا؛ إذ أكون قد قضيتُ، وأنت ناظرة إليَّ.

قالت: إذن أنت تهواني قليلًا.

قال: أتسألينني عما إذا كنت أهواك، آه لست أدري يا سيدتي كيف أبوح لك بما في قلبي، وإنما أقول: إنني عبدك، وإن حياتي لك تفعلين بها ما تشائين. مُري بموتي أمت طاعة لك.

•••

وانعقد مجلس الأعيان مرة ثانية بعد يومين لم يحدث فيهما أقل تغيير، وظلَّ الملك يُظهر كل الميل إلى مونمورانسي. فكان آل جيز يضربون أخماسًا بأسداس، ويعدون المعدَّات. فلما انعقدت الجلسة في اليوم الثالث والعشرين من شهر أبريل (نيسان) أمر الملك أسقف فالانس بالكلام، فقام وأوسع أبناء المذهب الجديد (البروتستانت) طعنًا، وامتدح آل جيز، وتشاءَم من الحالة الحاضرة، وأشار على الملك بأن يقتدى بداود النبي والملك الذي نصر دينه، وأذلَّ الأديان الأخرى، ثم طلب إلى الملكتين أن يرددا مزامير داود في صلاتهما، وأطال في هذا الموضوع. ثم نهض أسقف بروتستانتي آخر فدافع عن أبناء شيعته، وطلب لهم الرفق، وتلاه مونمورانسي فخاطب بقوله: من الخطر أن يتخذ الملك هذا الجمَّ الغفير من الحراس، ولا فائدة منهم إلا أنهم يحدثون ارتباكًا، ويتطلب وجودهم نفقات كبيرة، فإن الملك محبوب من رعاياه، وهو ليس بحاجة إلى جيش من الحراس، وحاشية لا يحصى عددها.

وكان هذا الكلام أشبه بشكوى من الدوق دي جيز، فنهض الدوق، وصاح بحدَّة: لقد تبين يا مسيو دي مونمورانسي أنك لم تشهد مؤامرة أمبواز، فإن الرعايا الأمناء أتوا يومئذٍ مدججين بالسلاح بحجة أنهم يرومون أن يرفعوا ملتمسًا إلى الملك، ومنذ ذلك اليوم اضطررنا إلى إقامة هذا العدد الكبير من الرجال لحراسة الملك، وهو ما تلومنا عليه الآن، ومما لا جدال فيه أن الملك يحتاج إلى خدم صالحين وجنود بواسل، وهو قادر على استخدام الجيوش، ولئن قدرت على أن تضمَّ إلى صوتك أصوات خمسين ألفًا فلا يصعب على الملك أن يجد مليونًا من رعاياه الأمناء يوافقونه ويخالفونك فيما تروم، وكل ما يريده جلالة الملك مقبول لدينا. أما رأيي في مذهبك الجديد فلا يتحول ولا يتبدل. إني أعتبره كارثة مشئومة على فرنسا!

وكان صوت الدوق عاليًا خشنًا، وكلامه قاسيًا، فاهتزَّ الحضور خوفًا من شر العاقبة، ولم يتمالك مونمورانسي والبروتستانتيون أن رفعوا الأيدي، وقال مونمورانسي: ما العمل بهذا التعصب الذميم!

وإذ ذاك اقترح الكردينال شقيق الدوق دي جيز جمع حكام الولايات، وترك كل عمل موقوفًا إلى حين اجتماعهم، وقال: إن الملك يحق له وحده أن ينظر فيما يختص بالأمن العام.

فصاح مونمورانسي: هذا اقتراح خال من العدالة؛ لأنه يسلمنا إلى أيدي الحكام وأكثرهم أعداؤنا.

فقال الملك: هل نسيت أن للملك وحده الحق في حفظ الأرواح والأموال؟

أجاب: لماذا تسنُّ القوانين أيها الملك ضد البروتستانت؟ وهم قوم مسالمون مخلدون إلى الهدوء والسكينة، ولا أمنية لهم إلا ممارسة شئونهم الدينية، وليس فيها إضرار بأحد.

وفيما كان مونمورانسي يتكلم بهذا الكلام دخل قاعة المجلس شريف يكاد يحجبه العرق والغبار، وطلب مخاطبة الدوق دي جيز أو مقابلة أخيه الكردينال. فخرج الأخوان، وبعد هنيهة رجعا، وكل منهما مكفهر الوجه، فقال الملك للدوق: ما وراءك يا عماه؟

فأجابه: إن أعداءك أيها الملك لا يفتئون يسعون سعيهم ضدك.

قال: ما معنى هذا الكلام؟

– لقد حاولوا اليوم ما هو شر من حادثة أمبواز، ولكنني لا أستطيع التكلم ها هنا.

– بل تكلم!

– لست أعلم أيها الملك إن أعداءنا سيحسبون كلامي افتراءً؟ إن لمذهب البروتستانت المخيف أعوانًا ونصراء قادرين، وكم من مغرور يودُّ أن يقتادك أيها الملك إلى طريق الرفق والرحمة في حين أن الضرورة تقضي باستخدام العنف والقوة.

– زدنا إيضاحًا أيها الدوق!

وكان أكثر الحضور قد نهضوا يتململون ضجرًا، وجعل مونمورانسي يده على قبضة سيفه، ولبث القوم منتظرين ما يكون، وشرع الدوق يفضُّ رسائل عديدة بين يدي الملك، وفيها أن البروتستانت في جهات متعددة قد ثاروا وحاولوا مهاجمة مدينة ليون، واستفزاز المدن المجاورة، وإن أملاك البابا في بعض هذه النواحي قد هُدمت.

فصاح الملك: ما بال هؤلاء البروتستانت لا يرعوون؟ فهم يرومون الاستيلاء على مدينة ليون، بينما نحن نبحث في الملتمس الذي رفعوه إلينا على يد مونمورانسي.

ثم أمر حاكم ليون — وكان حاضرًا تلك الجلسة — أن يعود إلى تلك المدينة عاجلًا. فأجابه: أنه يسافر في ذلك المساء.

فقال له: اذهب واعضد السلطة الملكية، وقد أذنت لك بفتح المدن والقصور بالمدافع، واستخدام القوة لإهلاك كل مقاوم، ومعاقبة كل من يقصر عن القيام بما يجب عليه، وصادِرْ أموال السكان عند احتياجك إلى القوت لرجالك ولخيلك.

فصاح مونمورانسي: إذن هذه حرب مدنية.

فأجابه الملك: إن البروتستانت بدءوها فالذنب ذنبهم، ولا بد لنا من الدفاع عن تاجنا.

قال: أناشدك الله أيها الملك أن تمنع وقوع هذه الحرب.

أجاب الملك: سنفعل ما نراه واجبًا حسنًا.

ثم مرَّ الملك بوالدته ومونمورانسي وسائر الأعيان والكبراء دون أن يخاطب أحدًا، ودنا من الدوق دي جيز وأخيه، فقال لهما: إني شاكر لكما يا عمَّي المحبوبين هذه المساعدة التي جاءت في وقتها، ولي حاجة إليكما هي أن تتما تقاريركما، فإن هؤلاء الثائرين لا يأتون عملًا من تلقاء أنفسهم.

قال الدوق: يوجد دلائل على أنهم تلقوا أوامر بهذا الشأن.

أجاب: نعم، كالأوامر التي تلقاها لارنودي فيما مضى. فمن يكون صاحب هاتيك الأوامر؟ فلم يجب الدوق ولا أخوه.

فقال الملك: إنكما لا تجسران على اتهام أحد؛ لأن المجرم ينتمي إلى الأسرة المالكة. إذن فأنا أرفع صوتي وأسميه. إن تلك الأوامر ولا ريب عندي آتية من غاسقونيا أو أمير كوندة.

قالت كاترين: إنك تتهم يا بنيَّ من غير برهان.

فأجابها: لست أجهل أيتها السيدة أن أمير كوندة من أصدقائك، وهو قد أرسل إلينا ذلك الرسول الذي ألحقته بك منذ أيام، بدلًا من أن يكون في جملة الحضور. أليس في ذلك إقرار بمشاركته في قضية أمبواز؟

فسكت الجميع؛ لأن إصرار الملك على الشكوى من أمير كوندة ألجم الأفواه، وأوجب على أعز أصدقائه السكوت.

فقال الملك: هيا بنا يا عمَّي الحبيبين لنكتب الرسائل إلى عمالنا وقضاتنا وحكامنا، وندعو الحكام إلى جمعية عامة.

وانصرف الملك، فتبعته زوجته والملكة، والدوق دي جيز، والكردينال.

أما كاترين فإنها قالت: اليوم خمر، وغدًا أمر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤