الفصل العشرون

الملك في باريس

كانت باريس قائمة قاعدة من شدة القلق والفزع منذ ما اتصلت بها حادثة أمبواز، ولم يكن فيها أحد قادرًا على أن يتَبيَّن وجه الخطر الذي يُخشى وقوعه. إلا أن الكاثوليك كانوا يذهبون إلى أن البروتستانت علة ذلك الخوف والخطر، والبروتستانت يعتقدون كذلك أن الكاثوليك هم منشأ الاضطرابات، ومصدر القلاقل والهواجس، وفيما هم كذلك شاع أن الملك تعطف فعقد النية على المرور بعاصمته أثناء ذهابه إلى أورليان حيثما تعقد مجالس الحكام، ومعلوم أن الباريسيين يحبون مشاهدة موكب ملك شاب، وملكة حسناء، وبلاط زاهر، فكان ذلك النبأ سببًا في رجوع السرور إلى المدينة الكبرى، واجتمع جمهور غفير عند باب سن أنطوان ينتظر ذلك الموكب مبتهجًا، وكان بين ذلك الجمهور نيكول بوصَّه صاحب فندق حملة السلاح، وقد جاء ليظهر تعلقه بالملك والأستاذ برنابا وجاليو وهما نازلان في فندق نيكول.

وكان جاليو قد عاد إلى باريس يوم ذهب الدوق دي جيز للصيد والقنص، فغافل رجال الدوق وخرج من القصر. فلما وصل إلى باريس أخذ يتمرن على استعمال السيف مع رجل إيطالي، ويدرس التاريخ على أستاذه برنابا، ويستعد للدسائس الجديدة والمناضلات.

وكان الجند يُكره الجمهور على الوقوف في جانبي الشارع، وامتلأت النوافذ بالفضوليين، ولاحظ جاليو — ولم يكن يفوته شيء — نافذة أمامه ليس فيها أحد، وكانت في ذلك الشارع النافذة الوحيدة التي لا يطلُّ منها أحد، وقال نيكول: هنا قوم لا يحبون الملك. إلا أن الأصوات سكنت عندما أقبلت فرقة من الفرسان، فتذكر الشعب مواكب هنري الثاني وفرنسوا الأول، وأقبل الملك أيضًا في لباس الحرب، وتلا الحراس حملة الطبول فكانت أصواتها تدوي وتحول دون سماع الهاتفين، وكانت تدق دقات الحرب وهو ما لم يتوقعه الجمهور. فكان كلما همَّ بالهتاف للملك والجند والحراس ورأى ذلك السلاح والاستعداد الحربي تخفت أصواته.

وكان جاليو في جملة المشاهدين، فاكتأب من ذلك المشهد. أما نيكول فأسف؛ لأنه ترك فندقه، وأما برنابا فقال له: لقد أنبأتك أن الموكب لا يكون في هذه المرة سارًّا، فأجابه جاليو: ذلك من تدبير الدوق دي جيز. قال: أتظن ذلك؟ أجاب: كيف لا؟ إن الدوق لا ينكر عليه أمر كهذا، فهو يدري أن شعب باريس ينتظر الملك ليهتف له، فأدخله المدينة كما يدخل بلدة قد افتتحها بسيفه.

ومرَّ الموكب أمام الجمهور، فقال نيكول: ما أكثر الفرسان الحاصلين على الوسامات، فأجابه جاليو: وا أسفاه! إنهم لم يحصلوا على وساماتهم إلا بالمداجاة والمصانعة لا بالبسالة وقوة السيف.

ولما ظهر الملك للأقوام كادوا يهتفون له كعادتهم إلا أنهم رأوه ممتقع اللون متعبًا كأنه شبح ميت، فسكتوا، وكانت كاترين قد اقترحت دخول الملك المدينة في موكب بهيج؛ لعلمها بأن الناس مفتونون بتلك الظواهر، الزواهر، ولا تجهل أن ملوك فرنسا كانوا في كل زمن يتقربون إلى شعبهم بمثل تلك المواكب. غير أن الدوق دي جيز أشار على الملك بغير هذه، إذ قال له: إن باريس ممتلئة بالأعداء ففيها البروتستانت في كل زقاق وسوق وشارع، فلا بدَّ من أن نبرهن لهم على أن لملك فرنسا قوة مسلحة، وأنه مستعدٌّ للقتال عند الحاجة.

ولذلك لم يلبس الملك إلا اللباس الخالي من كل زخرف، وهو ابن عشرين سنة يحب الزهو والإعجاب، ويقضي أيامه في مداعبة زوجته الصبية. لكنه انقاد إلى مشورة الدوق مرغمًا، وكان العرق ينسكب من جبينه. أما الدوق فكان على عكس ذلك مستويًا فوق سرج جواده مدرعًا، يحجب درعه ثوب من القطيفة الحمراء موشاة وشيًا نفيسًا، وفيما كان الأشراف شاهرين سيوفهم ترك سيفه مغمدًا، وأطلق العنان لجواده، وكان أعلى من جواد الملك؛ فارتفع في الجمهور الهتاف له، بدلًا من الهتاف للملك.

وظلَّ جاليو ينظر إلى النافذة المفتوحة التي لم يطلَّ منها أحد، وفيما كان أشراف الملك وفرسانه يمرون أطلت من تلك النافذة امرأة لابسة ثيابًا سوداء، وهي فتانة المحاسن، وقد ظهرت للفرسان فبهتوا، ولما رآها الدوق دي جيز اصفرَّ وجهه، وأوقف جواده من غير انتباه، ثم حثه على السير، وللحال دوى طلق بندقية من قرب المرأة، وأصابت ثوب الدوق رصاصة لم تتجاوز الدرع، فقال الملك: ما هذا؟

فأجابه الدوق: لا شيء أيها الملك سوى أنها رصاصة أخطأت مرماها.

قال: سوف يعذب الشقيُّ الذي أطلقها، ثم يشنق!

أجاب: اعلم يا مولاي أن القتلة لا يستحقون هذا الاهتمام.

فلما تحقق الجمهور أن الدوق لم يصب بسوءٍ استرسل في حماسته، وارتفع الصياح من كل ناحية، ليحي الدوق دي جيز!

وتواثب كثيرون إلى البيت الذي صدر منه الطلق فكسروا بابه وأبواب غرفه، ولما وصلوا إلى النافذة لم يجدوا أحدًا. ولما أمسى المساء شاع نبأ الحادثة، وقال القائلون: إن البروتستانت هم الذين أقدموا على ذلك، ولم يتمكنوا من الاحتجاب إلا لأنهم باعوا نفوسهم من الشيطان.

ولما وصل الملك إلى اللوفر استقبل أعضاء مجلس النواب، وقال لهم: قد يخامر التعجب سكان مدينتنا من دخول الملك كمحارب، على أنكم تعلمون أننا وفقنا إلى معرفة المجرمين الحقيقيين الذين ارتكبوا الجناية الفظيعة في أمبواز، فهم أمراء أسرة بوربون، وأخصهم لويس دي بوربون أمير كوندة، فإن لابن عمنا دي كوندة أصدقاء عديدين في باريس، ولسنا نجهلهم، وحسبنا برهانًا تدبيره الشائن الذي سعى به ضد عمنا الدوق دي جيز، ولذلك جمعنا جنودنا لنكون في أمن على شخصنا. فاذهبوا أيها السادة، وأعيدوا ما سمعتموه على كل سكان باريس مدينتنا المحبوبة.

وعند المساء اجتمع جاليو وبرنابا في فندق نيكول، وضُرب الباب، فقال جاليو: لعل القادم ترولوس؟

فأجابه ترولوس: نعم، جئت لأحييك أيها الصديق، وأنت أيها الأستاذ الفاضل.

قال: ولك منا التحية أيها الكونت بعدما تركتنا.

أجاب: كلا، ولكنني لم أكن قادرًا على الرجوع إلى باريس دون أن ترجع الملكة؛ لأنني كما يعلم جاليو قد صرت من رجالها.

قال جاليو: نعم بهذا المنصب السعيد!

أجاب: وا أحر قلباه، إني به لسعيد سيئ الحظ معًا، وآه لو تدري ما انطوى عليه بلاط فرنسوا الثاني من مفاسد ومكائد.

قال: ما إخالك تشكو ما دمت ترتع مع الراتعين.

وبعد أن أكلوا، أوصل جاليو برنابا إلى مخدعه، ثم اتجه الشابان إلى اللوفر، فقال جاليو: ألا تنبئني عن مرسلين؟

أجاب: إنها صارت من نديمات الملكة؛ لأن بين المرأتين سرًّا يمنع كلًّا منهما أن تخون الأخرى. أما المحامي أفنيل فإنه لا يتجرأ على مفارقة البلاط، ولا أظن إلا أنه أتى أمرًا يعنف عليه نفسه؛ لأن عمله كاد يقضي عليه بالقدوم إلى باريس.

قال جاليو: ذلك من الممكنات، ولكن هل عرف الدوق اسم رفيقي الذي صعد في سلم الحبال معي؟

أجاب: لقد حلف الدوق بأن يشنقك يوم يجدك.

قال: لله دره من رجل كريم الخلق.

قال ترولوس: أما أنا فإنه لن يعرفني قط، وأنت تدري أن الملكة عرفتني بالبلاط في اليوم الذي تلا يوم الحادثة، وقالت: إنني رسول أمير كوندة، ولم أفارق الملكة منذ ذلك اليوم، فإن كاترين اختارتني لأصحبها في نزهاتها، وكنت أضطرم هوًى بقربها، وأنتظر منها إشارة لأدنو منها عند ركوبها جوادًا أو مركبة.

وهنا تبسم، وقال: لكنني أخشى مضايقتك بخبري. قال: ألست أخي في السلاح؟ فتكلم.

– إن الملكة أذنت لي بالاقتراب منها ونحن في الغابات، والوصائف الإيطاليات اللواتي يصحبنها مخلصات لها فلا تخشى خيانة منهن، ويومئذٍ حدثتني بسيرتها الماضية، وما أصابها من يأس وذل في عهد زوجها وعشيقته ديانا دي بواتيه، وقد أراد هنري الثاني تطليقها، وهي الحسناء الفتانة. ولطالما جلستُ إليها تحت أشجار الأدغال أقرأ وإياها أناشيد بترارك وقصائد دانتِ، وكانت كلما قرأنا محادثة غرامية تأمرني بأن أتلو كلمات العاشق، وهي تنشد أبيات العاشقة، وكذلك كنت أطارحها الهوى.

– إنك خجول يا صديقي.

– أنت غلام، فهل فاتك أن هذه المرأة ملكة، وأنها ملكة حسناء كثيرة العشَّاق، وقد أذنت لي بمخاطبتها عن غرامي، وتفضلت عليَّ بأن ألقي إليها بتلك العبارات المحرقة التي ينظمها الشعراء في سلك قصائدهم الرنانة؟ فهل أستطيع أن أطلب إليها شيئًا آخر؟ وهي قد كانت تقول لي: «أنت يا ترولوس قبس من نور ظهر في سماء حياتي المحجبة بالغيوم.» وإنما دعتني باسمي، دون لقبي؛ لأنها طلبت مني أن أدعوها كاترين. فلما أبيتُ، قالت لي: هل تغير أبيات دانْتِ لتحشر بينها قولك أيتها الملكة؟

ودخل الصديقان إلى اللوفر فتناول ترولوس يد جاليو، وأوصله إلى نافذة ينبعث النور منها، وقال له: هناك تنام عشيقتي. فأين عشيقتك؟ أجاب: نعم، كنت ذات يوم أنشد أشعار بترارك، فطلبت إليَّ كاترين إعادتها مرتين، ثم قالت لي: إن صوتك يعذب عندما تقول: «أهواكِ»، فضاعَ صوابي وفقدت رُشدي وعدلت عن التكلم بالأشعار، وكنا في صميم غابة بديعة من غابات فونتنبلو، مبتعدين كثيرًا عن الحاشية، والهواء يحمل طيبًا، فنسيت الملكة أنني شريف مسكين لا أنتمي إلى الأسرة المالكة، والآن أودعك!

فتركه جاليو حتى دخل القصر، وعاد يقول في نفسه: وا رحمتاه لفؤادك أيها الصديق، ولا قدر الله أن يغدو ألعوبة بين يدي تلك المرأة فتكسرها في ساعة لهو ولعب.

•••

ولم يقف الملك وجيشه في باريس إلا يومًا واحدًا، ولكن جاليو اكتشف في ذلك اليوم أمورًا خطيرة؛ لأنه تجوَّل في البلد، فطاف في شوارعها وأسواقها، ودخل فنادقها وحاناتها، وتجرأ حتى على دخول قصر اللوفر غير خائف أن يصادف الدوق دي جيز مع علمه أنه أقسم على إهلاكه، وتمكن من التقاط عبارات رابته وأوجس منها خوفًا على مولاه أمير كوندة؛ لأنه سمع القوم يتكلمون عن إنفاذ العدل في مجلس أورليان، وأمير كوندة مدعو إلى ذلك المجلس، ولا بدَّ من ذهابه إليه. فرأى جاليو أن الواجب يقضي عليه بالسير إلى أورليان لينذر سيده بما ينويه الملك، وينقل إليه الجملة التي خاطب بها أعضاء النواب.

فسبق جاليو موكب الملك، ولما علم أستاذه بعزمه على السفر بكي شفقة عليه، وقال له: ألا تزال تخاطر بنفسك؟ ألا تدري أن المخاطر ليس بمحمود وإن سلم، «وما كل مرَّة تسلم الجرة» كما يقول المثل.

أجاب: بل أرجو السلامة يا أستاذي، وأعتقد أن طالعي سعيد، وأن الله لم يقدر لي الهلاك.

قال: لو أنك مسافر لتلحق بامرأة تهواها لفارقتك غير آسف، ولكنك مسافر لتلقي بنفسك إلى التهلكة.

– إني ذاهب لألقى أمير كوندة، وبيني وبينه عهد، مراعاته فرض واجب عليَّ، ولست أدري أي ويل يحيق به. إلا أن نفسي تحدثني بقرب وقوع خطب جسيم، فلا بدَّ لي من الانضمام إلى الأمير في وقت الخطر، وهب أني أقمت معك، فما أرانا نسرُّ بالإقامة وهذه حالتنا. ألم تر أن الكآبة دخلت باريس مع حاشية الملك وبطانته؟ ولعلَّ وراء الحجاب خيانة مدبرة، فإذا نبهت الأمير كفيته شرها. على أن بشاشتي وطلاقة محيَّاي لم تمت، بل هي راقدة، فلو أردت الضحك اليوم لما قدرت، ولا أشتهي إلَّا مبارزة أكون فيها فائزًا أو خاسرًا، فليس ذا وقت العشق والغرام.

قال: مع السلامة يا عزيزي جاليو، وإني أتبعك عن بُعد ومتى عدتَ متبرمًا متضجرًا من هذه الحياة التي تكتنفها الدسائس والمهالك تجد عندي زجاجات ملأى بالراح وكتبًا تزيِّنها قصائد شعرائنا المجيدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤