الفصل الحادي والعشرون

كلام الملك

وصل جاليو إلى أورليان بعد ثلاثة أيام، فألفى الكآبة والغم سائدين فيها سيادتهما في باريس، ووجد فيها أحد أصدقاء الدوق دي جيز اسمه فيليب دي مرسيلي، قدم المدينة منذ أوائل شهر أكتوبر (تشرين الأول) مأمورًا بنزع السلاح من سكان المدينة، ولقد أنزل هذا الرجل جنوده في بيوت السكان الذين يعلم أنهم من أبناء المذهب الجديد (البروتستانت) وطرح في السجن من أبى قبول هؤلاء الجنود.

ونزل جاليو في فندق صغير في زقاق مُظلم قرب نهر اللوار، ثم أخذ يطوف في المدينة، وأول نبأ وصل إليه هو أن الله أراد الانتقام لسكان تلك المدينة من حاكمها، فسلط عليه منذ يومين داء النقرس فبات يصرخ من شدة الألم، وخطر لجاليو أن ينظم أبياتًا بهذا المعنى، وفي اليوم التالي قرأ سكان المدينة أبياتًا مكتوبة على ورقة ملصقة على باب بيت الحاكم، ولا بأس من ترجمتها للقراء، قال فيها:

يا مَن يمرُّ! أتدري لمن هذا القبر، وما حوى من المخازي؟ فهو قبر رجل لا أمنية له من دنياه إلا أن يكون جلادًا لعباد الله. أنفق العمر ولم يأت حسنة، ولذلك رأى الله أن يعاقبه؛ لأنه تعالى لم يطق فظاظته، فرماه بداءِ النقرس ليكون عبرةً لكل من يمر بهذا المكان.

واستمرَّ جاليو يتفقد شئون الناس حتى وصل إلى بيت يحوط به الجند من كل ناحية، وهو مسور بالحديد، فقال لأحد الجنود: ما هذا البيت المشئوم؟ وهل يقيم فيه أحد؟ فأجابه الجندي: كلا. قال: لعله لأحد أبناء المذهب الجديد اللعين؟ أجاب: بلا شك.

فأخذ جاليو يضحك، ثم ضرب بيده كتف الجندي، وقال: ما أظن الأمير يواصل السير إلى هنا لو درى بهذا المنزل المعدِّ لسكناه.

قال الجندي: صه! إني لأخشى أن يسمعنا أحد من أصدقاء الأمير.

قال جاليو: أصبتَ، فما كل الناس كاثوليكيين مثلنا!

ومضى وهو منكمش الصدر، وقد فهم المراد من قولهم في باريس أن سينفذ العدل في أورليان، وفيما كان مارًّا قرب الأسوار أبصر قلعة تحدق بها فرقة من حملة البنادق، وقسيسًا ينظر إليها نظرة المتشفِّي، فقال له جاليو: ألا ما أنبأتني يا أبَتِ عن البروتستانتي الذي يكابد عذاب هذا السجن؟

قال: ألا تعرف اسم هذه القلعة؟ فهو يغني عن الإيضاح.

قال جاليو: وما اسمها؟

أجاب القسيس: اسمها قلعة الأميرال، يا بنيَّ.

قال: لقد فهمت، فإنها معدة لذلك الشيخ اللعين جسبار، زعيم تلك الطائفة الممقوتة ونصيرها.

ورجع جاليو إلى الفندق يفكر في ذلك الذي يسمونه عدلًا. ثم تقلد سلاحه وعول على مفارقة البلدة ليلقى أمير كوندة ويحذره، وفيما كان راحلًا عن أورليان دخلها الملك في موكبه الحربي الذي أحزن أهل باريس، وكان فيليب دي مرسيلي، صديق الدوق دي جيز، قد أقام حراسًا في كل شارع وساحة من ساحات المدينة، وشمل الرعب أهل المدينة كما شمل نواب الأقاليم الذين وفدوا ليحضروا مجتمع الحكام.

فلم يهتف للملك أحد، واستقبل جلالته مختار البلد، واسمه جيروم جروسو، وهو رجل كان متهمًّا بالاشتراك في مؤامرة أمبواز، فقال له: «إذا لم تصلح سيرتك عاقبناك معاقبة يعتبر بها الآخرون.» وكان جيروم هذا قد هيأ خطابًا ليلقيه بحضرة الملك مضمونه احتجاج السكان على هذه المعاملة، وإظهار إخلاصهم للملك. فعلم فيليب دي مرسيلي، رسول الدوق بالخطاب، فلما وقف جيروم ليلقيه صاح: هذا هو قائد البروتستانت!

فذعر جيروم المسكين، وعظم ارتياعه لما رأى ما في نظرات الملك من الشراسة، فاضطرب وتلعثم، وللحال اتهمه فيليب دي مرسيلي أمام الملك بأنه اعترضه في نزع سلاح السكان، فقال الملك: لقد بلغني سوء تصرف هذا المختار من زمنٍ طويل، فاطرحه يا مسيو دي مرسيلي في السجن، ولينظر القضاة في قضيته غدًا.

وهكذا كانت فاتحة عمل الملك الأمر بالقبض ظلمًا على ذلك الرجل الشهم، وتهيأ الحراس للهجوم والدفاع كأنهم في مدينة عاصية يحاولون إخضاعها.

هذا وأمير كوندة قضى شهورًا وهو يشاور نفسه في الأوبة إلى بلاط الملك وإجابة الدعوة، ولا يدري هل يذهب وحده أو يستصحب أصدقاءه ورجاله، وكان الملك قد كتب من فونتنبلو إلى ملك النافار شقيق أمير كوندة يطلب إليه أن يستصحب أخاه ليبرر نفسه من التهم الملقاة على عاتقه. ثم إنه أرسل إلى غاسقونيا رسولًا، هو الكردينال دي بوربون، وألحقه بآخر هو البارون دي كرسول، وأكد الاثنان لأمير كوندة أن حقوقه كأمير من الأسرة المالكة أو الدم الملكي ستُحفظ وتراعى، وكانت لزوجة أمير كوندة وحماته مراسلات مع نساء البلاط، فأشارتا على الأمير بألَّا يلبي تلك الدعوة، وحذرتاه من الانقياد إلى ملك فرنسا. إلا أن أخاه ملك النافار أقنعه بالذهاب معه. فسافرا معًا، وهما لم يقرَّا كيفية دخولهما على بلاط الملك، ولحق بهما بضعة آلاف من الأشراف إلى ليموج، ووعدهما زعماء المذهب البروتستانتي بجيش مؤلف من ستة آلاف رجل، إلا أن وصولهما على تلك الصورة يدل على معنى الحرب والتأهب للنضال. وجاءهما رجل اسمه أرميناك يزعم أنه قريبهما، وهو في الحقيقة مأجور من الدوق دي جيز، فأكد لهما حسن نية الملك فرنسوا الثاني. فأكره ملك النافار الأمير أخاه على عدم استصحاب رجاله وأصدقائه بحجة ألَّا حاجة إليهم.

وأرسل الدوق دي جيز الماريشال دي ترم لاستقبالهما فتلقاهما بالاحتفاء المشكور، فأولاهما ذلك ثقة وحسن ظن، ولما لقي أمير كوندة جاليو في ضواحي أورليان، كان ممتلئًا بالآمال الحسنة. فوقف جاليو أمامه ففرح بلقياه، وقال له: حياك الله يا جاليو!

فأجابه: لقد سرني لقاؤك يا سيدي.

قال الأمير: لقد ظننتك سجينًا أو ميتًا؛ لأنني لم أتلقَّ خبرًا عنك، وبت أسأل نفسي عما إذا كنت قد هجرتني.

– معاذ الله أن أتركك يا مولاي.

– وماذا جرى للفيكونت دي شارتر المسكين، ألم تفلح في إنقاذه من محبسه؟

فتعجب جاليو من شهامة الأمير؛ لأنه لم ينس صديقه السجين، وهو أجدر منه بالإنقاذ من كيد الماكرين، فأجابه: ليس غرضنا الآن يا مولاي إنقاذ الفيكونت دي شارتر، وإنما إنقاذك أنت! ولا يزال في الوقت متَّسع لرجوعك، فعد إلى غاسقونيا، واجمع أصدقاءَك، ولا تأت إلى أورليان إلا وحولك جيش قادر على حمايتك.

قال: شكرًا لك يا جاليو على ما فعلت لأجلي، ومن كان أميرًا يسُرَّه أن يجد من يخدمه خدمتك إياي دون نفع ولا جدوى؛ لأنك تخدم أميرًا لا مال عنده ولا قوة له، وربما بات في الغد سجينًا أو أسيرًا، ومد يده إلى يد جاليو يصافحه، ثم قال: إذن أنتَ تظن أن وراء الأكمة ما وراءها؟

أجاب: لا مجال للظن يا مولاي فإني متيقن، وحبسك حاضر كحبس الأميرال دي شاتيليون.

– وهل تدري كيف يقبضون عليَّ؟ أعند دخولي أورليان، أم عند الملك، أم في مجلس الحكام؟

– إني أجهل ذلك يا مولاي، ولكنني على علم بأن القوم قد هيئوا محاكمتك والحكم عليك.

– ومع ذلك فما إخالهم يتعرضون لي بأذية؛ لأنني أمير، دمي من دم الملوك، وقد أبلغت الملك خبر قدومي إلى أورليان قبل نهاية شهر أكتوبر، فغدًا أكون فيها.

قال جاليو: إنك تلقي بنفسك في أتون التهلكة!

أجاب: ليس الموت يروعني، وفضلًا عن ذلك فقد وعدت، ولا أخلف وعدي، والأفضل عندي أن أحاكم، ولا أرجع في كلامي رجوع كاذب، بل حسبي ما يحدق بي من الدسائس التي أريد إزالتها. وهل أكون أنا المذنب إذا شاء الدوق دي جيز تحويل ملتَمس أمبواز إلى مؤامرة؟ هل أكون المذنب إذا كان الكاثوليكيون يُلجِئون أتباع مذهب كلفين إلى الدفاع عن أنفسهم؟ وهل أكون المذنب إذا ثار ماليني وحاول الاستيلاء على مدينة ليون برغمي؟ وهل أكون المذنب إذا كان أحد القواد البروتستانت يروم الانتقام لأخيه؟ إنهم يحسبونني علة لكل ويل ينزل بفرنسا، ولكل خطب يقع فيها. والأجدر أن يهتدي ملك فرنسا إلى الصواب فيعلم أن آل جيز علة هاتيك العلل، لا أمير كوندة! فليحبسوني، وليحاكموني، وليحكموا عليَّ!

وفي اليوم التالي وصل ملك نافار وأمير كوندة إلى أبواب مدينة أورليان، وكان الدوق قد علم بوصولهم من أعوانه، فجمع المقاتلين من جند وحراس وسلَّحهم تسليحًا كاملًا وصفَّهم صفًّا محكمًا، أوله عند باب البلد، وآخره عند قصر الملك.

فقال الضباط: هل من عدو مفاجئ؟

فأجابهم الدوق: نعم، وإنه ألد عدو للملك أيها السادة.

وأراد بعض الأشراف مقابلة الأمير إلا أن الدوق لم يأذن بمقابلته ومقابلة أخيه لأحد غير أقربائهما كالكردينال دي بوربون، والأمير دي روشسوريون. وغاظ ملك النافار وأخاه ذلك الاستقبال السيئ، وزاد طنبور سخطهما نغمةً أن بعض الضباط الذين سمعوا كلمات الدوق دي جيز تظاهروا بأنهم يهينون الأميرين. غير أن أكثر من كان معهما جرد السيوف، وفي الجملة جاليو، فوصل الأميران من غير حادثة تذكر إلى قصر الملك. (وهذا القصر منزل عمدة المدينة) فدهشا لما أبصرا الأبواب الكبرى مقفلة، وطلبا من الحراس فتحها فأجابوهم بشراسة أن الأبواب الكبرى لا تفتح إلا للملك.

فقال أمير كوندة في نفسه: لقد كان جاليو مصيبًا. وترجَّل وأخوه عن فرسيهما ومعهما الكردينال دي بوربون والأمير دي روشسوريون فدخلوا «بلاط الشرف» ولما علم الملك بقدومهما جلس في أعلى أريكته مع عميه وسائر رجال البلاط، فلم يتقدم لاستقبالهما أحد من الأشراف، واستمر الملك يتحدث مع عمَّيه كأن الأميرين غير حاضرين.

هذا وقد صعد الأخوان درج الأريكة الملكية، وألقيا تحيتهما على الملك، فقال لهما ببرود: ها قد جئتما يا ابنيَّ العم بعدما طال الأمد على دعوتنا إياكما.

واضطرب ملك النافار من هذا الاستقبال البارد فلم يجب بكلمة، إلا أن أمير كوندة لم يرتبك، بل قال: إننا لا نكون قادرين على خدمتك أيها الملك ما دمنا في البلاط؛ لأن مناصبنا قد انتُزعت منا، والأمر بالعكس إذا كنا في الولايات فإنا نستطيع أن نقوم بالواجب علينا.

قال الملك: عندنا ضباط يتولون خدمتنا في جميع الولايات.

وكان أمير كوندة يتوقع تعرُّض الدوق دي جيز وأخيه، إلا أنهما لم يكادا يسلمان عليه وعلى أخيه، ثم نهضا كأنهما لا يودان التداخل في شئون عائلية لا تعنيهما.

فانثنى الملك إلى أمير كوندة، وكأنه نسي ملك النافار، وقال: إنك كثير التشكي من إدارة المملكة، إني أعرف ذلك يا ابن العم.

وإذ ذاك وصلت الملكة الوالدة، وقد أظهرت كل مودة للأميرين بعدما ابتعد عنهما أكثر رجال الحاشية، وشعر كوندة بالفراغ حوله، فطلبت الملكة الوالدة إلى ولدها أن يأتي معها وتبعها الأميران كذلك. فاجتمعوا اجتماعًا عائليًّا في غرفة الملكة.

وكان أمير كوندة ينتظر أن يكلمه الملك، إلا أن فرنسوا الثاني كان منفعلًا أشد انفعال، فقال للأمير: لقد اتصل بي من مصادر عديدة أنك روح المؤامرات، وأنني ومملكتي هدف لسهامها، وما دعوتك إلا لأطلع منك على الحقيقة.

– لست أدري أيها الملك من الذي يتهمني، ولكنني أؤكد لجلالتك أن الساعين بي كاذبون.

– وهل كانت الرسائل التي كتبها إليك أصدقاؤك كاذبة؟! وهل كذب أسرى أمبواز، وهم مشرفون على الهلاك؟ وهل كذب دي رشيان، وماليني، ومونبرون، وغيرهم من الثائرين الذين يتخذون من اسمك درعًا لمباشرة أعمالهم الشائنة؟ وهل كذب البروتستانت عندما ادعوا أنك زعيمهم؟

– كل هذه التهم أيها الملك افتراء محض، وليس مصدرها من ذكرتهم، بل مصدرها آل جيز دون سواهم!

– لا تهن أفضل أصدقائي، وأصدق الناصحين!

– لقد أتيت أيها الملك غير مستصحب جنودي ولا متقلدًا سلاحي، وكان في وسعي أن أجعل بصحبتي جيشًا عرمرمًا، لا بعض أصدقاء، فهل كنت أسلك هذا المسلك معك لو كنت أنوي غدرًا بك وقيامًا عليك؟ ولا شأن لي فيما فعله ماليني من هجومه على ليون، ولا علاقة لي بثورة دي رشيان، فالرجل إنما ثار؛ لأنه طالب عدل، وثار وقد قتل أخوه ظلمًا.

– أيطلب العدل واحد من أبناء ذلك المذهب الساقط؟

أجاب الأمير: إن أبناء ذلك المذهب الساقط، كما تدعوهم أيها الملك، هم رعاياك قبل كل اعتبار آخر، بل هم مخلصون لك كأبناء المذهب الكاثوليكي، وهم على الأقل أبناء الأرض الفرنساوية، لا غرباء كالناصحين اللذين تحبهما وتكرمهما وهما غير فرنساويين.

قالت كاترين: لا ينبغي يا ولدي أن تعامل أمراء من البيت المالك في فرنسا هذه المعاملة، وإن أمير كوندة لا يروم إلا أن يخدمك بصدق وشهامة، فثق به كما أنا واثقة.

فأجابها الملك: إنك ما برحتِ تنصرين أعدائي أيتها السيدة. أما أنا فإني أحسن الدفاع عن سلطاني.

ثم نادى قائد حراسه المسيو شافيني، وقال: سلمه سيفك يا ابن العم.

وأنت أيها القائد سِرْ به إلى المسكن الذي أمرت بإعداده للأمير.

قال أمير كوندة: أسلمه سيفي؟

أجاب الملك: نعم.

قال: أتتجرأ على إصدار أمرك بالقبض عليَّ؟

أجاب: ألستُ الملك؟

قال: ومن ذا الذي تجرأ فوقَّع على الأمر الصادر بالقبض عليَّ؟ لا جرم أن آل جيز هم الفاعلون!

قال الملك: أطلع ابن عمي — أيها القائد — على الأمر الذي بيدك.

فألقى الأمير نظرة على ذلك الأمر المكتوب، وقال: لا بأس! فهذا اسم الملك فرنسوا حفيد من كان يدعو نفسه أول شريف في فرنسا موقع على أمر ينقض به كلامه. إلا أنك يا ذا الجلالة قليل الاحترام لكلامك. وأبناء فالوي، سلالة سن لويس، كأبناء البوربون، لكنهم تناسوا كرامة أجدادهم ونبذوا شرفهم. قال: أنت تتجرأ على إهانة مليكك؟

أجاب: يحق لي أن أرفع رأسي تيهًا يا فرنسوا؛ لأنني لم أرجع في كلامي قط، ولم أحنث بوعودي وأقسامي، وها أنت قد رجعت في كلامك، كما حنثت بوعودك وأقسامك.

فنهض الملك وهو يرتعد غضبًا، ومدَّ يده إلى الباب، فانحنى الأمير نحو الملكة الوالدة، وقال لها: كان الدم الطاهر الشريف ساريًا في عروق أسرتك من قبل، ولست أدري أيتها السيدة إذا كان دمك الذي أفسده. بل أجهل إذا كنتِ كاذبة أو إذا كنت تنطقين بالصدق عندما تتكلمين.

فأجابته كاترين بكآبة: اعلم أيها الأمير أنني لست الآن بملكة فرنسا، ولقد أصبت، فإن والد زوجي فرنسوا الأول لم يكن ليأتي مثل هذا العمل، وأقسم لك بذلك الملك الذي كان يحبني كأنني ابنته، على أن دعائي لك يصحبك في سجنك.

فدنا الملك من والدته، وصاح يقول: أهذه هي واجبات الوالدة؟ أنت تهينينني أمام ألد أعدائي! إن هذا لا يليق بك أيتها السيدة.

فحيا أمير كوندة كاترين بإجلال وإكرام، والتفت إلى قائد الحراس، وقال: إني مستعد للحاق بك، وإليك سيفي، فهيا بنا!

ولبث أنطوان دي بوربون ملك النافار صامتًا، وخرج مع أخيه، لكنهم منعوه من مصاحبته، وكان الكردينال دي بوربون، وهو شقيق أمير كوندة أيضًا، ينتظر نتيجة المقابلة عند الباب، فقال له الأمير: لقد كان كلامك الحامل على الطمأنينة سببًا في إهلاك أخيك.

وأحس جاليو بالدموع تسيل على خديه عندما مر به، فرآه الأمير ومدَّ إليه يده، وقال: أودعك يا عزيزي جاليو، فإنك لم تقل إلا الحقيقة.

فأجابه: وا أسفاه يا مولاي!

– خذ فرسي فلست بحاجة إليه بعد اليوم، وأودعك! ورآه جاليو من بعيد يدخل مع قائد الحراس ذلك السجن المشئوم الذي وقف به منذ أيام.

ودخل الدوق دي جيز وأخوه حجرة الملكة الوالدة، فأبصر الملك في أسوأ حال؛ لأنه أصيب بنوبة عصبية شديدة بعدما عمل بمشورتهما، وألقى القبض على ابن عمه، وأغمي عليه. فمددته كاترين على سريرها وكشفت الملابس عن صدره، وجعلت تدلك صدغيه بالماء البارد، فأفاق فرنسوا شيئًا فشيئًا إلا أن وجهه ظل ملطخًا ببقع صفراء. فلما عاوده رشده، قال لكاترين: أين الملكة؟

أجابت: إني أمامك يا بنيَّ.

– إني أروم أن أرى زوجتي الملكة دون سواها. فأنت لا تحبينني، بل أنت من أعدائي. فابعث يا عماه من يدعو الملكة!

ولما وافت ماري ستوارت دُهشت من ذلك الانقلاب الذي تولى زوجها، ومن اكفهرار وجهه، فتأملها الملك بانعطاف، وقال لها: هل تحبينني؟

أجابت: ما هذا السؤال أيها الملك؟

قال: وأنت يا عمي شارل (يعني الكردينال) هل تحبني؟

فتناول الكردينال إحدى يديه.

فقال: وأنت يا دوق، يا سيفي القاطع، أمسك يدي الثانية.

فتناول الدوق يده الأخرى، ونظر الملك إلى الثلاثة الذين كانوا أمامه، وهم كل من كان يحب. أما كاترين فقد تراجعت عنه، ولم يخاطبها أحد منهم، فكانت تلك الضربة موجعة؛ لأن ابنها أنكرها، فخرجت من مخدعه تمشي الهوينا، وكان ترولوس عند الباب فأمسكت يده واجتذبته إلى دهليز مظلم، وقالت له: لم يبق لي أحد سواك، فهل تحبني أنت؟

فأجابها: كيف تسألينني هذا السؤال يا سيدتي؟ أولا تعرفين مني ما يكون جوابي عليه؟

قالت: أيحملك الحب على أن تطيعني في كل شيء حتى في القتل؟

قال: من الذي ترومين قتله؟

فتوقفت عن الجواب وكانت تنوي أن تقول له: «ابني».

وأدرك ترولوس منها ذلك فنظر إليها مرتاعًا، فقالت: ويلاه! قال: أنتِ ترومين الانتقام يا مولاتي! قالت: لقد أُصِبتُ بعارض جنون يا ترولوس. آه ما أسوأ حظي! لا يوجد أحد في هذا البلاط أُحبه غيرك، أنت وابني الآخر، هنري!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤