الفصل الرابع

أحد أبطال هذه السيرة

كان «برنار أفنيل» محاميًا بارعًا مقيمًا في باريس في بيت أنيق، وقد ترك له والده أطيانًا ومالًا، فزاد برنار المال والأطيان بجدِّه واجتهاده، وكان من أهل الجد والإقدام، متزوجًا من امرأة فتانة المحاسن اسمها مرسلين إلا أنها كانت طائشة تحب الملذات والمسرات.

وكان برنار قد ناهز الخمسين من عمره، أما زوجته فكانت دون العشرين سنًّا، ولا ندري كيف رضي بالاقتران بها، أو رضيت هي بالاقتران به، غير مراعيين ما بينهما من تفاوت في السن والخلق، إلا أنه كان يهواها، وإن لم تكن تهواه فلم يمنعها ذلك من تدبير شئون منزله كما يجب.

وعلاوة على كل اختلاف بينهما كانت هي كاثوليكية، وهو بروتستانتيًّا، وهذا الخلاف كان خطير الشأن في ذلك الزمن (وللأسف ما زال كذلك للآن).

ولبثت مرسلين عدة شهور تتضجَّر من الذهاب وحدها إلى الكنيسة إلى أن كان أحد الأيام؛ إذ أبصرت في الكنيسة شابًّا من الأشراف حسن المنظر يرنو إليها باسمًا، ويقدم إليها الماء المقدس، فقالت في نفسها: خير لي ألَّا يكون زوجي معي، وكانت قد تلقت تربية حسنة، فما لبثت أن تناست ذلك الشاب ولم تفكر فيه، حاسبة أن الأشراف لم يُخلقوا لمن كانت مثلها؛ لأنهم يميلون إلى السلوان والنسيان، ولا يعرضون عن سيدات البلاط إلا حبًّا في التنقل أو ضجرًا منهن، ثم لا يلبثون إلا وقتًا قصيرًا حتى يرجعوا إليهنَّ. فقالت في نفسها: لئن قُدِّر عليَّ أن أتزوج ممن لا أحبه، فإني أستطيع أن اختار لي حبيبًا لا يجب أن يكون من طبقة الأشراف.

وفي ذات يوم ذهبت لتحضر صلاة العصر في يوم عيد، ولما انتهت الصلاة همَّت بالانصراف لكي لا تدع زوجها ينتظرها طويلًا، وعندما أوشكت أن تطبق كتابها الصغير رأت ورقة زرقاء قد سقطت عليه، وعليها شريط ذهبي، وكلمات قليلة علمت أنها من محب عاشق يطلب ودَّها.

فقالت في نفسها: من يكون هذا الوقح الذي تجرأ على أن يكتب إليَّ؟ ولم تشأ أن تقرأ تلك الرسالة الغرامية، لكنها ما لبثت أن قالت: لا بد من معرفة ذلك المجرم لأعاقبه على اجترائه. ثم قرأت ما فيها، وإليك نصها:

أيتها السيدة النبيلة

على مقربة منك، في موضع خافٍ عليك، إنسان يرقب نظرة من نظراتك.

فقالت: لا شك أنه غبي من أهل بلاط الملك، ونهضت لتخرج من الكنيسة. فلما وقفت قرب جرن الماء المقدس اصفرَّ وجهها، ولم تجسر على التقدم؛ لأنها أبصرت فتًى واقفًا أمامها باسطًا إليها يده بذلك الماء، فقالت في نفسها: إنه لصاحب الرسالة التي قرأتها.

على أن ذلك الشاب لم يكن من أشراف حاشية الملك، وإنما هو طالب يتلقى العلم في كلية سوربون، واسمه «جاليو دي نرساك»، وكان طويل القامة، هزيل الجسم، صغير الرأس، أزرق العينين، أشقر الشعر، وكأنه فتاة بحسن وجهه، وكان رفاقه في المدرسة يدعونه «الوجهُ الصبيح». وقد درس اللغتين اليونانية واللاتينية، وكانت أسرته تنوي إلباسه طيلسان الراهب، أو ثوب الحاكم؛ لأن أباه مات في حصار «مِتْس» وكان له أخَوان قُتلا في المبارزة، وكان أخوه الأكبر مقيمًا مع والدته في الريف يخاصم جيرانه، فرأت الوالدة المسكينة أن تجنب ولدها الباقي لها حمل السلاح؛ لأنه أصغر بنيها وأحبهم إليها، فأشفقت عليه أن يصيبه ما أصاب أخويه من قبل. فعهدت بتربيته إلى الأستاذ «برنابا مرفزان» من أساتذة كلية السوربون، وكان رجلًا عالمًا إلا أنه سكير يحب اللهو والطرب. فلزمه «جاليو دي نرساك» وكان في بدء أمره تلميذًا مجتهدًا، غير أن مدة اجتهاده لم تطل أكثر من ثلاثة شهور، وأحبَّ جاليو دروس التاريخ وكره سائر العلوم، وكان في أكثر الأوقات يناوئ العسَس ويعاكسهم، ويبادر إلى سماع الوعظ عندما يعلم أن هنالك فتياتٍ حسانًا من البروتستانتيات، ويزاول لعب الحكَم بالسيف (المثاقفة)، وكان أستاذه برنابا يغضُّ الطرف عنه، وفي بعض الأحيان يشاركه في مسراته، إلا إذا تهور فيها تهورًا كبيرًا.

ولما رأى جاليو «مرسلين» شغف بها، فهجر دروسه ولذاته، وعكف على تتبعها ومراقبتها دون أن تشعر به. فمنذ ذلك اليوم صارت تراه في طريقها، وكان لطيفًا رقيقًا، شديد الاحترام والحياء حتى عطفت عليه وجرأته على الاقتراب منها، فأقسم لها يمين الوفاء حتى جعلها تحنث باليمين التي أقسمتها لزوجها.

وكان يحدث في ذلك العهد أمور دينية ذات شأن شغلت برنار أفنيل عن سلوك زوجته؛ لأن البروتستانت بدءوا يشرحون التوراة، ويجدون فيها كل يوم ما يوجب القضاء على بلاط فرنسا، والكردينال دي لورين، وأخيه فرنسوا دي جيز. وكان رجال طائفة البروتستانت يجاهرون بما تكلم به المجتمعون قبلًا في فندق حملة السلاح ملمحين لا يجسرون على إيضاح وإفصاح.

على أن برنار أفنيل لم يكن على رأي القائلين باستخدام الشدة، وإنما يذهب إلى أن الدين لا يقاوم إلا بالشرع، ولكنه لم يتجرأ على مخالفة ذوي الأفكار الثائرة، وكان أبناء الطائفة جميعًا يضربون على وترٍ واحد.

وفي ذات يوم سمع خطب الوعاظ، وخرج قاصدًا بيته فأحس بيد وقعت على كتفه، وسمع قائلًا يقول: السلام عليك يا برنار!

فأجاب: أأنت هنا يا لارنودي، وقد كنت أظنك مقيمًا في طوران؟

وكان برنار يميل كل الميل إلى الرجال المنتمين إلى أمير كوندة المفضلين عنده، ولارنودي يحب برنار اعترافًا بجميله، لأنه هو الذي ترافع في قضية عديله جسبار مرافعةً استحق من أجلها امتنان لارنودي وإن لم تجدِ جسبار نفعًا.

فقال لارنودي: لقد عدت منذ صباح اليوم إلى هنا، ولما كان منزلي مهملًا في غيابي فكَّرت في الإقامة عندك بضعة أيام.

فأجابه: أنت صاحب البيت يا سيدي لارنودي، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بك!

– شكرًا لك، ولكنني لا أسألك ضيافة بسيطة.

– تكلم، أي حاجة لك؟

– إني لفي حاجة إلى استقبال رجل عندك، والاجتماع به ومخاطبته سرًّا.

– قلت لك إن البيت بيتك يا لارنودي، فافعل ما تشاء.

وسار الرجلان في طريق بيت برنار وهما يتكلمان في مواضيع مختلفة ليس لها شأن خاص، محاذرين التكلم في المواضيع الدينية خيفة أن يسمعهما أحد الكاثوليكيين، فلم يتداولا في أمرٍ هامٍّ إلا مساءً عندما ذهبت مرسلين تعدُّ غرفة للضيف.

فقال لارنودي إذ ذاك: أيها العزيز برنار، إن ديانتنا تعدُّك من أنصارها، بل من أشدهم إخلاصًا، وقد أزف وقت العمل.

فاعترت برنار هزة، وقال: إني متأهب للمرافعة أمام مجلس النواب.

– إن مجلس النواب يبغضنا، فصوتك فيه لا يُسمع!

– إذن أية وسيلة تروم أن أتخذ؟

– أي وسيلة؟ وهل لنا غير القوة؟

– أتدعوني إلى مؤامرة؟

– نعم، وقد تهيأ كل شيء.

– ومتى تُعلن هذه المؤامرة؟

– في أوائل شهر مارس المقبل. إن بلاط الملك بين أيدي آل جيز، وهم شر أعداء مذهبنا. فلسوف نذهب إلى البلاط، وننقذ الملك منهم.

– وماذا تفعلون بآل جيز وأعوانهم؟

– لقد تهيأت أسباب التوفيق، ومن يدري؟ فقد يسقطون قتلي.

فحدَّق برنار في وجه لارنودي مدهوشًا، وقال: أتتجرءون على مهاجمة الدوق دي جيز والكردينال دي لورين؟

– ولماذا لا نفعل؟

– إنهما عمَّان للملكة ماري.

– إن ماري ستوارت امرأة أجنبية، أما زوجها فرنسوا فهو مجرد من الإرادة، وقد انتزعت السلطة من أيدي أمرائنا الشرعيين، فمن واجبات أشراف الفرنساويين أن يقاتلوا في سبيل إعادة السلطة إلى أمرائنا.

فلم يجب برنار. ومما لا ريب فيه أنه كان يحب مذهبه ويفضله على سائر المذاهب، إلا أنه أكبر تلك المؤامرة وخاف منها؛ لأنه كان رجلًا مسالمًا ذا ثروة كبيرة، فبات يسأل نفسه عما يصيبه ويصيب زوجته مرسلين، ووظيفته في مجلس النواب، وأملاكه إذا خسر الثائرون أو المتعصبون، أو إذا علم الدوق دي جيز بأن لارنودي بات ليلة في منزله، وزارهُ فيه خفية شخص مجهول. ولم يفكر برنار في الاستعلام عن اسم ذلك الشخص المجهول؛ لأنه يعلم أنه لا بد أن يكون عدوًّا للدوق دي جيز، أو هو شريف من رجال البلاط لا يروم أن يراه أحد في باريس، في حين أنه يُظن موجودًا في طوران. فلما نهض لارنودي قال لبرنار: إني ذاهب لأبحث عن الشخص الذي يجب عليَّ الاجتماع به عندك، فلا تدع أحدًا يقف أمامه أو يبصره عند مروره. فهل فهمت؟

فأحسَّ برنار بالرعدة تسري في عروقه، وفكر يقول: ويحي لقد صرت من المتآمرين على السلطة الحاكمة دون أن أروم ذلك، وهذا بيتي صار ملجأ لزعماء المؤامرة، ويلاه، لو درى مسيو دي جيز بذلك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤