الفصل السابع

في أمبواز

وفي اليوم التالي كان بلاط الملك في أمبواز، وقد جهل رجال الحاشية ووصائف الشرف والملكتان السبب الذي من أجله ارتحلوا عن بلوا، وأراد آل جيز والملك أن يفتضح المتآمرون، أما أمير كوندة فلم يكن الكلام في هذا الشأن من مصلحته، وأما المحامي أفنيل، فلم يكن يجسر على الخروج من المخدع الذي اختصَّ به.

فلما كان يوم ١٠ مارس (آذار) شعر القوم بحركة أو حادثة خطيرة، إلا أنه لم يتبيَّن لأحدٍ ما هي.

أما المتآمرون، فكانوا يأتون عصابات تؤلف كل منها من خمسمائة رجل إلى ستمائة. يتوافدون من البرية مختبئين في الغابات والقصور والفنادق، وهي عصابات غريبة؛ لأنها مؤلفة من جنود، وعامة ومقاتلين وبروتستانتيين وقرويين، جاء أكثرهم في الموعد المضروب مغمضي الأعين، حاسبين أنهم إنما أتوا ليقدموا ملتمسًا إلى الملك، والرؤساء وحدهم كانوا يعلمون أن القصد من ذلك المسعى قهر الدوق دي جيز، وهؤلاء لم يروا إلا التظاهر بغرض صالح. أما لارنودي فكان حاضرًا في كل مكان يُرى في الطرق والفنادق، وفي مقدمة كل عصابة ناقلًا إلى الرؤساء أوامره الأخيرة. إلا أنه كان قلقًا؛ لأنه لم يتلقَّ نبأ من أمير كوندة، ومع ذلك فقد حسب أن الحذر قضى على الأمير بالسكوت، وألَّا بدَّ أن يلقاه وقت دخول المدينة مستعدًّا لتولي رئاسة المتآمرين، ولقد أخلَّ بخطته انتقال الملك ورجاله من بلوا إلى أمبواز، إلا أنه تحاشى الخلل بسرعة.

ففي مساء يوم ٩ مارس (آذار) لم يكد يدخل الفندق الذي اتخذه مقامًا متوسطًا حتى التفَّ بردائه، واضطجع قرب الموقدة، ويده على قبضة سيفه والأخرى على غدارته. فنام ساعات ولم يستيقظ إلا عندما أطفأ صاحب الفندق أنواره استعدادًا لإغلاقه. وإذ ذاك أبصر لارنودي في زاوية من مخدعه عينين محدقتين فيه، فقال في نفسه: لقد وقع بصري قبلًا على هاتين العينين.

وكان كثير الارتياب، شأن من يهمُّ بأمرٍ خطير، فاتجه إلى تلك الزاوية من الحجرة حاملًا مصباحًا، ثم وقف وقال: هذا بلترو!

أجاب: نعم، أنا ذاك يا مسيو دي لارنودي. ألم تكن تتوقع أن تراني؟

قال: بلى، ولكن في غير هذا المكان، وإنني كنت أحسبك الآن في أمبواز.

أجاب: أصبت، وكان ينبغي أن الحق بالبلاط، إلا أن المسيو دي جيز أمر بإقفال الأبواب قبل الوقت المعتاد، فاضطررت إلى المبيت هنا.

فتفرس لارنودي في وجه الرجل، وصاح: ما دهاك؟ وما هذا الذي في رأسك؟

أجاب: إنه تذكار من الدوق دي جيز.

قال: هل دس عليك من يقتلك؟

– كلا لم يدس عليَّ أحدًا، بل تولى الأمر بيده، ولئن لم يفلح فليس الخطأ خطأه.

– حدثني بذلك يا بلترو.

– قصتي قصيرة. كنت أهوى فتاة حسناء، فتنت مدينة أورليان.

– قال: لعلها ابنة الكتبي لوم؟

– نعم، وأبوها صديقي كما تعلم. فلما عدت من مدينة نانت، أردت الاجتماع بهما، وفي ذلك المساء بعينه قضت الصدفة بأن أقتفي خطوات الدوق دي جيز، وكان ذلك ساعة هممت بمغادرة أورليان. فتبعته حتى رأيته وقف بحانوت الكتبي يعقوب لوم، وأبصرت سلمًا من الحبال تدلى إليه من شرفة مادلين، فتسلق الدوق على الحبل، وصعد إلى حجرة تلك الفتاة التي كنت أهواها.

قال لارنودي: قبَّحه الله من فاسق!

قال بلترو: ألا تذكر يوم سألتني في نانت عما إذا كان يوجد سبب شخصي يحملني على معاداة الدوق دي جيز وأجبتك أنني إنما أبغضه؛ لأنه عدو مليكي ومذهبي. فالآن أنا أبغضه؛ لأنه عشيق مادلين، وأسأل الله أن يبقي على حياته إلى أن ألتقي به وأقتله بيدي.

– ولكن كيف جرحت؟

– تبعته وما كدت أصل إلى الشرفة حتى انفتح باب غرفة الفتاة مادلين، ثم شعرت بألم شديد في رأسي، فسقطت من الشرفة إلى أرض الشارع، ولبثت ممددًا هناك حتى الصباح. فلما فتح يعقوب لوم مكتبته أبصرني فأدخلني بيته، وعالجتني مادلين من غير أن تتكلم، ولم أخاطبها بكلمة؛ لأنني لم أقو على توبيخها، ولا شك عندي أن الدوق أغراها وخدعها، وقال لها إنه من رجال البلاط دون أن يعرِّفها بنفسه.

قال لارنودي: إن مصابك يا بلترو يشدد حبل ولائنا واتحادنا، وإنما نحن، أنا وأنت، لا غرض لنا من حياتنا إلا الانتقام لأنفسنا!

– هذا صحيح.

– لقد أقسمت لي إذ كنا في مدينة نانت على أن تنتقم لي إذا متُّ قبلك انتقامك لأحد أقربائك.

– إني لا أزال على عهدي وقسَمي.

– شكرًا لك، ولست أدري هل نفلح في مشروعنا أم لا؟ غير أن نفسي تحدثني بالخيبة. فإذا هلكت.

– أكون أنا حاضرًا يا مسيو لارنودي، أما أنا فأشعر أنني لا أموت إلا بعد أن يُنتقم لي.

وخرج الرجلان من الفندق للاهتمام بمعدات الهجوم.

•••

وبعد رحيلهما ببضع دقائق وقف بغل وحِصان بباب الفندق، وكان على البغل امرأة، أما الحصان فكان يمتطيه شاب. فترجل الشاب وأقبل على المرأة فمدَّ إليها يده ليساعدها على النزول. ثم طرق باب الفندق، وطلب غرفة وسريرًا وعشاءً. فتذمر صاحب الفندق ودمدم ساخطًا على الذين يسافرون ليلًا إلا أنه لما رأى دينارًا وهاجًا يلمع بيد الشاب ذهبت عنه كشرته، وبادر إلى الطبقة السفلى من الفندق ليأتي بالنبيذ المطلوب. فلما خلا الشاب إلى المرأة قال لها: قاتل الله زوجك أيتها السيدة! كيف رأى استقدامك من باريس، وقد كنا فيها على أتم نعيم وسرور، وايم الحق لقد كان في وسعنا أن ندعه وشأنه بضعة أسابيع أيضًا.

قالت: لقد أخبرتك يا جاليو أن لهذا الأمر علاقة بحياتنا وثروتنا، فإن زوجي سافر من باريس مسرعًا مبادرًا إلى البلاط فمنعوه من العودة، فطلب إليَّ اللحاق به، فهل في ذلك ما يدعو إلى العجب؟

أجاب: لقد كان يجب على زوجك — أيتها السيدة — أن يفكر في أن السفر لا يخلو من خطر إذا كانت الطرق مزدحمة باللصوص، ولم نصادف منذ هذا الصباح إلا سكارى وجنودًا مسلَّحين وأشرارًا كأن ملك إسبانيا محاصر مدينة متس.١

قالت: يظن زوجي أن معي خدمًا أمناء، ولكن هل خفت أيها الطالب من الرجال المسلحين الذين رأيناهم في طريقنا؟

أجاب: أنا خفت؟ أنا جاليو دي ترساك أخاف! وحدق في وجه مرسلين، ثم قال: إني أجهل الخوف، ولا أفهم معناه، لكنني أعجب لاجتماع الرجال الذين صادفناهم في الطريق، وأكثرهم مدجج بالسلاح، وبعضهم يقرأ التوراة.

قالت: لعلهم من البروتستانتيين.

أجاب: ما أحسب هؤلاء الوعاظ يتقلدون السلاح، ويسيرون إلى أمبواز، وقد انتقل إليها بلاط الملك، فهم لا يجرءون.

قالت: لا تنظر إليَّ يا جاليو هذه النظرات. فأنا أعرف أنك باسل، ولكنني أتوسل إليك أن تدع خنجرك جانبًا إذا نشب القتال غدًا.

– وهل ينشب القتال غدًا؟

– أنى لي معرفة ذلك؟!

– إذن فلماذا تكلمينني عن ذلك؟

وجاء صاحب الفندق باللحم المقدد والخمر فذاقها جاليو، وقال: إنها خمرة جيدة، وسوف أهدي إليها أستاذي برنابا، ولم يكد يتم هذه الكلمات حتى ضرب باب الفندق، ففتحه صاحبه، ودخل رجل بادن أحمر الوجه صغير العينين. فما كاد يراه جاليو حتى صاح: هذا أستاذي! فأجابه: نعم أستاذك أيها الجاهل! قال: هذه كلمة لا أطيق سماعها يا برنابا، فارجع فيها وإلا تكدرتُ منك.

أجاب: إني رجعت فيها عن طيبة خاطر.

قال: والآن اجلس أيها العالم الشهير قريبًا منا، وحدثنا فإنني لك سامع، واسمح لي بأن أعرفك بأجمل امرأة جلست إلى وجهك القرمزيِّ لأول مرة.

قال: إني لأعجب من مبارحة تلميذي لباريس، وكيف ألجأني إلى اللحاق به!

قال: كيف لحقت بي؟

أجاب: إني اكتريت بغلًا إلا أنه لطيف فيلسوف.

– لقد أثَّر فيَّ هذا البرهان الذي يدلني على ولائك. فاشربَ يا أستاذي، والذي أراه أن النعاس قد تغلب عليك، بل أرى البهيم قد نام.

وكان برنابا قد أطبق عينيه وفمه ملآن بما دسَّه فيه من طعام، وكانت الصبية قد لزمت الصمت أمام الأستاذ. قالت: إني لأخشى أن يكون قد عرفني. فأجابها: لا تخافي، وهبي أنه عرفك فهو كتوم، وقلما يهمه النظر إلى وجوه النساء؛ لأنه لا يحب إلا الكتب والخمر والطعام.

– وهل يحبك أنت؟

– على سبيل العادة، فهو قد تبعني؛ لأنه اعتادني، وعلاوة على ذلك فإنه من ألطف الندمان وإن تجاوز الخمسين، وعنده حكايات مطربة على الدوام، وكيس ملآن قد ينفعني عندما أفارقك.

– أتروم أن تفارقني يا جاليو؟

– وا أسفاه إنك تصبحين بعيدة عني حالما تدخلين أمبواز. أما الآن وقد وصلت إليها فلا حاجة بك إلى رفيق. فما رأيك إذا رجعتُ إلى باريس؟

– هل اشتقت إلى ليزة ومارجو؟

– لا، ولكن لأفكر فيكِ هنالك. أما إذا لبثتُ وحيدًا في أمبواز فإني سأتحرش بالحراس وأقاتلهم تلهبًا.

– لا حاجة بك يا جاليو إلى مثل هذا التلهي، فإن المرأة لا يصعب عليها أن تلقى من تهواه عندما تشاء، وأنا أهواك كما تعلم.

وهكذا بقيا يتحدثان حتى سمعا غطيط برنابا، فتنبها إلى أن وقت الرقاد قد حان. فاضطجعا وأفاقا على دوي الطلقات النارية، وكذلك أفاق برنابا من نومه، إلا أنه بقي متمسكًا به برغم رأي صاحب الفندق ونصحه له بالنهوض.

•••

أما لارنودي وبلترو فقد راقبا التأهبات، وكانا قد ركبا جوادين ودارا دورة حول أمبواز، واجتمع المتآمرون في الطرق منتظرين بذاهب الصبر طلوع النهار ليدخلوا المدينة، وبعد أن تحققا أن كل شيءٍ قد أعدَّ كما ينبغي أرادا أن يتعرَّفا أحوال المدينة، فأبصرا بعض الحراس عند جدرانها يتمشون كعادتهم والأبواب مفتوحة كالعادة أيضًا، والسكينة سائدة على المدينة، وأبصر بلترو نورًا من خلال نافذة من نوافذ القصر الذي يقيم فيه الملك وبلاطه، فقال: لا شك أن أمير كوندة ينتظرنا.

فأجابه لارنودي: وعسى ألَّا يكون هذا النور في غرفة الدوق دي جيز، وألَّا يكون ساهرًا يترقب.

ثم رجعا فألفا ثلاث كتائب، وجعلا عند كل باب كتيبة، ووقف لارنودي في أشد المواقف خطرًا عند أحد الأبواب، وعهد إلى كلٍّ من بلترو وبول دي رشيان بالوقوف أمام البابين الآخرين، ثم تقدموا.

وكان حاكم أمبواز، وهو الدوق دي نيفار، داخل السور يراقب، فدخل وقتئذٍ على الملك وصاح: لقد تقدموا أيها الملك!

قال الملك: لا شك أنهم أبناء مذهب كلفين، وزعيمهم لارنودي.

أجاب: إنَّا نجهل ذلك أيها الملك، ولا ندري سوى أن العدو يدنو منا.

قال: إذن فجردوا السيوف واهجموا على الهاجمين، فهم ألد أعداء مملكتنا!

واستيقظ القصر من رقدته إذ ذاك، ودخلت إحدى الوصائف على الملكة الوالدة تقول لها: إن العصابات المسلحة هاجمة على المدينة، وإنهم من البروتستانتيين.

ثم خرج الملك وعيناه حمراوان يكاد الدم يفيض منهما، وسيفه مجرد بيده وهو يقول: إني لا أرى ابن عمي كوندة، فأين هو؟

فأجابه أمير كوندة وكان يرى ويسمع قال: إني أعددت أمضي السيوف لمقاتلة أعداء الملك.

وهو لم يكن يجهل أن كل شيء يظهر في بلاط الملك، فقضى ليلته عند عشيقة له في القصر ليبعد عنه الظنون. فقال الملك: إن أشياع مذهب كلفين هاجمون علينا، وهم بضعة آلاف تجرءوا على مليككم، فلا بدَّ من إنفاذ العدل، والمأمول من عمنا الحبيب الدوق فرنسوا دي جيز أن يسير بكم إليهم.

وجرَّد الأشراف سيوفهم، فقال الملك مخاطبًا أمير كوندة: على أبناء أمراء البيت المالك أن يكونوا حضورًا ساعة الخطر، وسوف يوليك عمنا الدفاع عن أحد الأبواب.

فأجابه أمير كوندة: إنني أتمنى أيها الملك أن أموت في سبيل خدمتك!

١  ورد ذكر حصار متس مرارًا؛ ولذلك رأينا أن نذكر شيئًا عنه. فمتس مدينة فرنسية على بعد ٣١٦ كيلومترًا من باريس. استخلصتها فرنسا من شارلكان سنة ١٥٥٢ على عهد فرنسوا الثاني. وحاصرها شارلكان فدافع عنها فرنسوا دي جيز أحسن مدافعة. أما الآن فهي من المدن الألمانية، إذ تخلت فرنسا عنها بعد حرب السبعين، ثم استعادتها بعد ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤