الفصل الأول

في تغير الأنواع

نقول: لقد كان الاعتقاد سابقًا أنَّ الأنواع خلق خصوصي كل نوع مخلوق وحده، إلا إنَّ الطبيعيين رأوا في الأحياء أشياء كثيرة لا تتفق مع هذا القول. أولًا: قابلية كل فرد، بل كل نوع للتغير تبعًا لنواميس حيوية حقيقية لا فرضية؛ كتغير الجماد تبعًا لنواميس طبيعية، ثانيًا: وجود أعضاء كثيرة لا فائدة لها في الحال، ولا تفهم غايتها إلا أنها كانت في الماضي، أو ربما صارت في المستقبل ذات فائدة في أحوال أخرى، ثالثًا وحدة الناموس الرابط للأحياء بعضها ببعض، وهذا كله يجب ألا يكون في مذهب الأنواع الذي يقتضي أنْ تكون ثابتة، وأنَّ كل نوع منها يتضمن فيه وفي جرثومته كل الأعضاء اللازمة له، لا أكثر ولا أقل، فقام في ذهن بعض المحققين أنه ربما كانت الأحياء كلها من مصدر واحد متكونًا بعضها من بعض، متحولًا بعضها عن بعض كما تتكون أصناف الحجارة في عالم الجماد.

وأول من قال هذا القول وأسنده إلى بعض مستندات علمية «لامرك الفرنسوي»، إلا أنَّ قوله هذا صادف وقتئذٍ من التقاليد ونقصان الأبحاث العلمية موانع جمة حالت دونه ودون انتشاره، فقوبل بالإعراض شأن كل أمر لم تستعد له العقول، ولبث مطويًّا في زوايا الإهمال حتى قام دارون في هذا العصر وأخرجه إلى عالم البحث والنظر، وقد عززه بأن بسطه بسطًا كافيًا، وشرحه شرحًا وافيًا مستندًا فيه إلى اكتشافات العلماء المتفرقة، وكانت قد كثرت فصادف هذه المرة أرضًا معدة وعقولًا مستعدة، فنبت ونما وتعالى وطما حتى كادت أبحاث العلماء تقتصر عليه ولا تنظر إلا إليه.

ولا نقول: إنه لم يقم له خصوم؛ فخصومه كثيرون، فبعضهم خاف منه على اعتقاد موروث، وهم أصحاب التقاليد، فشرعوا الأسنة، وأطلقوا الأعنة، ونادوا الجهاد الجهاد في سبيل الحقيقة والسداد؛ لأنه كما لا يخفى عليك كل واحد يدعى الحقيقة له، وهي واحدة، والناس منقسمون، فصاروا يقومون ويقعدون، ويجأرون ويزأرون، ويكفرون ويعطلون، وهم يُخطِّئون مرة، ويُصوِّبون أخرى، حتى وهنت منهم القُوى، فتحصن عقلاؤهم وراء حصن الحياة، وأعقلهم وراء حصن الخلق الكلي تحت نظام كلي، وسنن كلية، وتركوا الطبيعة تدبر أمرها بإذن باريها.

وقد أثبتوا بذلك حكمة الخلق أكثر من سواهم من فرقتهم؛ إذ أثبتوا وحدة الخلق في الطبيعة أو كادوا، واتفقوا مع الواقع أو كادوا، وبعضهم — وهم فرقة من العلماء — رأوا ما رأوا، وعلموا ما علموا، ولكنهم حاروا بين المنقول المتأصل والمنقول المتحصل، وبعضهم — وهم فرقة من العلماء أيضًا — رأوا ذلك وعلموه جيدًا، إلا أنهم تصعبوا فيه، فطلبوا أنْ يروا بالعيان إنسانًا منشقًّا من حيوان، وربما كان السبب الأكبر لعدم انضمامهم إليه رفعة مقامهم في عالم العلم، والعين قالوا: لا تحب نظيرها، فكان ذلك فيهم مصداقًا لما في مذهب دارون، ألا وهو تنازع البقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤