الفصل الثاني

في تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي

إنَّ مذهب دارون بسيط جدًّا، ويقدر كل إنسان أنْ يدركه إذا نظر إلى الأشياء كما تعرض له، وتأملها بعين العقل التي لا يشوبها كدورة سبق الاقتناع، وإنَّا نعجب من أولئك الذين يشقون حجب الغيب بقوة عقلهم، ويدركون ما وراءها من الأسرار كيف أنهم لا يقدرون على إدراك ما هو أمامهم، وواقع تحت حواسهم كما هو حقيقة. والغريب أنهم يوميًّا في زرع النبات وتربية المواشي يجرون على قواعد هذا المذهب عمليًّا، وإذا سألتهم عنها نظريًّا أنكروها، وذلك دليل من أقوى الأدلة على ما لسبق الاقتناع من السطوة، وما للعقل من القابليات المختلفة الخاضعة لأحكام الحياة من مثل التغذية والوراثة.

فمن يجهل يا ترى اختلاف أفراد النبات والحيوان؟ وهل يستطيع أحد زارعًا بسيطًا كان أم عالمًا أنْ ينكر أنَّ من هذا الاختلاف ما هو صالح لبعض الأحوال وغير صالح للبعض الآخر؟ أو ينكر ما للغذاء والأحوال الأخرى الطبيعية من اليد القوية في إحداث هذا الاختلاف تبعًا لناموس المطابقة؟ وما للوراثة من القوة في نقل صفات هذا الاختلاف في النسل، وكيف أنَّ هذه الصفات تقوى إذا ناسبتها الأحوال، وتضعف إذا لم تناسبها؟

لا لعمري، فالزارع كالعالم يعرف أنَّ البذار الجيدة؛ أي المتميزة ببعض الصفات لمناسبتها لبعض الأحوال، أحسن من البذار الرديئة التي ليس لها ذلك؛ فيفضلها عليها، ويعرف كذلك أنَّ الأرض الجيدة أنسب من الأرض الرديئة فيفضلها عليها أو يعتني بها، فيقدم لها المواد اللازمة لإصلاحها، ويقتلع منها كل الأعشاب؛ لعلمه بما يحصل بينها وبين مزروعه من التنازع على الغذاء والمكان، وما يلحق بمزروعه من الضعف بسبب هذا التنازع؛ فيمهد له الأرض حتى تنصرف كل قواه إلى التغذية والنمو.

ويعرف كذلك أنَّ المواشي الحسنة المنظر، والصحيحة البدن، والشديدة، أنسب من سواها مما ليس فيه هذه الامتيازات، فيعتني بتربيتها وتوليدها، فهل رأيت امرءًا يريد شراء دابة ولا يقلبها ظهرًا وبطنًا، وما غايته بذلك سوى قنية ما يعتبره أنسب له، ثم إذا اقتناها ألا يعتني بغذائها ومسكنها وما شاكل مفضلًا مبدلًا؟ ولماذا هذا التفضيل والتبديل لولا معرفته بما لذلك من التأثير في تغيير صفاتها في الشكل والقد والحسن والقوة … إلخ؟

وإذا أراد استيلادها، ألا ينتخب لها الأحسن من نوعها، ولمَ ذلك لولا يقينه بما لعمل التوليد من القوة على نقل الصفات المختلفة، حسنة كانت أم قبيحة؛ فالزارع البسيط لا يجهل مثل هذه الأمور، بل هو من أشد الناس اعتبارًا لها، وكل طبيعي عارف بالفسيولوجية يعلم أنَّ التغذية كالوراثة من قوى الحياة الحقيقية المثبتة لا الفرضية.

وإذ تقرر ذلك، فاسمح لنا أنْ ننظر إلى نتيجته، فالاختلاف الذي ينشأ عن المطابقة؛ أي عن انفعال القوة الغاذية بالأحوال الخارجية الطبيعية، وإنْ كان قليلًا، يجعل في الأحياء قابليات وجودية مختلفة، فيطلب الضعيف القوت، فينازعه القوي عليه، وإذا كان القوت قليلًا يهلك الضعيف، أو إذا اشتد البرد أو قل الماء فلا يثبت إلا ما كان أقوى على تحمل البرد، وأصلح لتناول الرطوبات من الهواء.

ولا يخفى عليك أنَّ عدد البيوض أو الجراثيم التي تولدها الأحياء، والتي يقدر كلٌّ منها أنْ يولد حيًّا إذا وافقته الظروف هو أكثر كثيرًا من عدد الأحياء المتولدة حقيقة، فالعدد الأكبر من هذه الجراثيم يهلك في أوائل حياته، ولا يسلم إلا القليل المتميز ببعض صفات تسهل له قطع هذا الطور من الحياة الكثير الأخطار، كما يتضح لك من مقابلة عدد بيوض كل نوع بعدد الأحياء فيه، أو من مقابلة عدد الأحياء الكثيرة الجراثيم أو البيض بغيرها من القليل الجراثيم، فلا تجد نسبة بينهما، فإن عددًا كبيرًا من الحيوانات الفقرية القليلة الوجود يبيض بيوضًا كثيرة حال كون غيرها من الفقرية أكثر منها وجودًا، مع أنه لا يبيض إلا بيوضًا قليلة.

وكما في الحيوان كذلك في النبات أيضًا؛ فإن كثيرًا من الطائفة الثعلبية يلد ألوفًا من الجراثيم، وهو مع ذلك قليل جدًّا حال كون بعض المشععة من الطائفة المركبة كثيرًا جدًّا، مع أنَّ بذوره قليلة، فعدد الأشخاص التي تحيا لا يتوقف ضرورة على عدد الجراثيم، بل على أحوال مختلفة غالبًا على نسبة متبادلة بين الحي والأشياء التي من خارج، فما كان من الأحياء أنسب من غيره سلم وبالعكس، وقس على ذلك سائر الأحياء مع سائر الأحوال الطبيعية الحيوية، فهذا ما يسمى في مذهب التحول «تنازع البقاء»، فهل يُشك الآن في أنَّ تنازع البقاء حقيقة وجودية كحقيقة الاختلاف؟

ثم إذا سلمت بهذا التنازع بين الأحياء، وجب عليك ضرورة أنْ تسلم ببقاء البعض وفناء البعض للأسباب المار ذكرها، وهذا ما يراد «بالانتخاب»، ويسمى «طبيعيًّا» إذا كان بين الأشياء التي من خارج وبين الأحياء، أو بينها بعضها مع بعض، و«صناعيًّا» إذا كان بواسطة الإنسان، كما في الزراعة وتربية المواشي كما مرَّ، فالانتخاب الطبيعي ليس فرضًا بدون إثبات، أو رأيًا من صور الوهم كما قدمت، وكما يدعي خصوم دارون؛ لأن دارون — كما رأيت — لا يقول في تحول الأحياء بأسباب طبيعية مجهولة حتى يكون الانتخاب فرضًا؛ بل يجعله نتيجة لازمة لأعمال حيوية معروفة كالمطابقة التي هي نتيجة التغذية، والاختلاف الذي هو نتيجة المطابقة، والتنازع الذي هو نتيجة الاختلاف. فالانتخاب الطبيعي نتيجة لازمة للتنازع، ولا يصح في قياس عاقل أنْ يجعل الانتخاب الطبيعي بعد ذلك فرضًا، ولا سيما إذا كان عنده أقل إلمام بمبادئ الفسيولوجية.

وربما سلَّم خصوم دارون بالاختلافات المذكورة، ولكنهم لم يسلموا بصيرورتها جوهرية بحيث تتكون عنها الأنواع، فقالوا: إنَّ الاختلافات لا تتناول إلا الأعراض فقط، فنقول لهم: إنه لا يلزم لإثبات مذهب الانتقال غير التسليم بحصول الاختلاف لاختلاف الأحوال، فالاختلاف الذي يكون بين الأحياء يجعل الأولاد تختلف فيما بينها، وتختلف عن الأصل المتولدة منه، وبتنازع البقاء والانتخاب الطبيعي يهلك بعض الأولاد، ويبقى البعض الآخر، فهذا الباقي مختلف عن أصله — كما رأيت — ومختلف فيما بينه.

ولا يخفى أنَّ في البيولوجية ناموسًا معلومًا كثير الاعتبار جدًّا هو ناموس «الوراثة»، فهذا الباقي المختلف والمتميز ببعض صفات مناسبة لأحوال المكان والزمان تنتقل صفاته المتميز بها في بِذَارَته أو نسله، وتتوضح أكثر وتتكيَّف بكيفيات أُخَر تختلف عنها في الأصل، وقل مثل ذلك أيضًا عن بذارة هذا الباقي، وهكذا عن بذارة بذارته. وانظر إلى ذلك بتلسكوب الزمان في ألوف الأجيال، بل ربواتها، ثم قل لي إذا كان يمكن بعد ذلك أنْ تبقى الأبناء كالآباء، وإنْ لم تستطع فاهمس لي في أذني، فإني أقبل عذرك؛ فليس جميع الناس سواء في التصريح عن آرائهم، وأكثرهم على ما وصف الإمام الغزالي في بعض كتبه حيث قال: «إنَّ الآراء ثلاثة أقسام، رأي يشارك فيه جمهور فيما هم عليه، ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد، ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده.» ا.ﻫ.

قال ابن خلدون متكلمًا في التاريخ: «وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة فلا بدَّ وأنْ يفزعوا إلى عوائد من قبلهم، ويأخذوا الكثير منها، ولا يغفلوا عوائد جيلهم مع ذلك، فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول، فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم، ومزجت من عوائدهم وعوائدها خالفت أيضًا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة، ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة.» ا.ﻫ.

وهذا القول إذا أطلق على أثر الطبيعة وأطوارها في الأحياء لم يلزم أنْ يضاف إليه شيء لتعليل المباينة في مذهب دارون.

قلنا: وإذا لم يكن بعد قطع هذه المسافات الطويلة أنْ تبقى الأبناء كالآباء، أفلا يصير الاختلاف بعيدًا جدًّا، وإذا بعد أفلا يصير جوهريًّا — لا تنسَ ربوات الأجيال — أولًا تكون نتيجته تكوُّن التباينات والأنواع وما شاكل. مثال ذلك: لو نمت نباتات مختلفة في أرض يابسة لاقتضى أنْ تتنازع أولًا مع اليبوسة، وثانيًا بعضها مع بعض، ولما كان الوبر الدقيق الذي يكسو الورق يفيد لامتصاص الرطوبة من الهواء، كان من الضروري أنْ يفوز في هذا التنازع ما كان هذا الوبر في ورقه كثيرًا، ويهلك ما سواه.

ثم يقوى هذا الوبر في الجيل الثاني بالوراثة والانتخاب والتنازع، ويتميز جيلًا عن جيل حتى يتكون منه نوع جديد، ثم إنَّ نتائج الاختلاف لا تقتصر على عضو واحد، بل تمتد إلى سائر الأعضاء، فيحصل عن زيادة نمو وبر الورق نقصان في نمو أعضاء أخرى، كالزهر مثلًا؛ لانصراف جزء من غذائه في نمو الأوراق، فيكون لتنازع البقاء نتيجة أخرى غير الانتخاب الطبيعي، وهي «التحويل» أيضًا.

وهذا كل ما يلزم لتحول الأحياء، وتكوُّن الأنواع، فكان الأولى بهؤلاء الخصوم الحريصين على الموروث أنْ يقصروا تشبثهم على مبدأ الحياة لا على فعلها في تحويل الأنواع؛ لأن الاتفاق على الحياة — أقوة طبيعية هي أم قوة فائقة الطبيعة؟ — ربما كان أبعد من الاتفاق على تحول الأحياء، ولا يخفى أنه كلما بعُد الاتفاق كان ذلك أنسب لهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤