أمنمحات الثالث (١٨٤٩–١٨٠١ق.م)

تولى «أمنمحات الثالث» عرش الملك بعد وفاة «سنوسرت الثالث» الفاتح العظيم، واتخذ لنفسه لقب «نيماعت رع» (أي صاحب عدل إله الشمس)، ويحتمل أن تكون هذه التسمية قد حُرفت وأُخذ منها الاسم الذي أطلقه مؤرِّخو «اليونان» وهو «لمارس» أو «لبارس» … إلخ كما سيأتي بعد.

fig28
شكل ١: الملك «حور» بن «أمنمحات الثالث».

ويعتبر «أمنمحات الثالث» في نظر التاريخ من أعظم فراعنة مصر وأقدرهم، فقد كان حكمه الطويل الذي دام نحو ثمانية وأربعين عامًا عصر هدوء وسكينة ومشاريع عظيمة، وأعمال جليلة حيوية اجتماعية بقدر ما كان عصر والده «سنوسرت الثالث» عصر حروب وغزوات وتوسيع في رقعة البلاد.

والظاهر أنه أشرك معه في الحكم أميرًا يسمى «حور»١ إلا أنه مات قبله، وبذلك يكون قد حكم البلاد منفردًا أكثر من أي فرعون آخر قبله في هذه الأسرة بقوة وحزم واتساع أفق، مما خلد أعماله العظيمة على تعاقب الأجيال.

والباحث فيما قام به من أعمال يجد أنها كانت للإصلاحات الداخلية من حيث الزراعة والتعمير الدنيوي والديني، وسنتناول البحث أولًا في بعوثه التي أرسلها لجلب المعادن والأحجار وما قام به من مبانٍ وفتوح، ثم نتكلم عن مشروعاته الزراعية وما أفاضت على البلاد من فائدة، وأخيرًا نتناول بالبحث مبانيه الدينية وهرمه الذي دُفن فيه، ثم نتكلم عن أخلاقه واتصالها بالفن في عصره.

(١) فتوحه

إن ما لدينا من الوثائق يؤكد لنا أن هذا الفرعون قد قام في وقت ما بحملة عظيمة إلى بلاد السودان، غير أنه لم تصلنا حقائق صريحة عنها، وقد وجدت آثار لهذا الفرعون في «كرمة» عند الشلال الثالث، وهي آخر الحدود التي كان يسيطر عليها حاكم السودان «زفاي حعبي» في عهد «سنوسرت الأول» (Reisner, “Kerma”, II, P. 512) ومن بين هذه النقوش لوحة مؤرخة بالسنة الثالثة والثلاثين اليوم الأول من الشهر الأول الفصل الثالث، وقد سجل في هذا النقش أنه قد تم بناء أقامه مدير اسمه «أنتف» وقد استعمل في بنائه ٣٥٣٠٠ لبنة.

(٢) بعوثه إلى شبه جزيرة «سينا»

وقد كان أهم نشاط لهذا الفرعون في استخراج المعادن متجهًا إلى شبه جزيرة «سينا» التي كان يعتبرها جزءًا من مصر، وقد عثر فيها على نقوش تحمل اسمه، تدل على أنه كان يستغلها بدرجة عظيمة في كثير من سني حكمه، فأرسل البعوث في السنة الثانية، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والثامنة، والحادية عشرة، والثالثة عشرة، والخامسة عشرة، والثامنة عشرة، والعشرين، والثالثة والعشرين، والخامسة والعشرين، والسابعة والعشرين، والتاسعة والعشرين، والثلاثين، والحادية والثلاثين، والثامنة والثلاثين، والأربعين، والحادية والأربعين، والثانية والأربعين، والثالثة والأربعين، والرابعة والأربعين، والخامسة والأربعين من سني حكمه (Gardiner and Peet, Sinai) فمن ذلك يتضح أنه أرسل إلى هذه الجهة نحو أربعة وعشرين بعثة للتعدين وقطع الأحجار.
وأقدم هذه النقوش هي التي دوَّنها رئيس الخزنة المسمى «خنمسو» (Petrie, “Sinai”, 94) الذي يقول:
إنه أرسل في السنة الثانية من حكم «أمنمحات الثالث» إلى «سينا» ليحضر حجر الدهنج أو الفيروز والنحاس، وكان عدد جنوده سبعمائة وأربعة وثلاثين، وترك لنا لوحة في «وادي مغارة»، هذا إلى أنه اشتغل كذلك في سرابة الخادم حيث ترك لنا جنوده رسمًا يمثل الفرعون أمام الإلهة «حتحور» ربة بلاد الدهنج أو (الفيروز) (L. D. II, Pl. 137 a).

وعثر على نقوش لأحد موظفي المالية ورئيس الصيادين اسمه «حور نخت» الذي كان لا بد مع البعثة السالفة؛ لأن نقوشه مؤرخة بنفس السنة، والظاهر أن البعثة كانت قد اتخذت طريق البحر إلى هذه المناجم بدلًا من طريق الصحراء الطويل المتعب.

وقد جاء في هذه النقوش: المنتخب أمام رعاياه والذي يسهر في سبيل المنعم عليه يقول:

لقد سرت بطريق البحر حاملًا التحف بأمر «حور» رب القصر (الفرعون).

ومن المحتمل أن «حور نخت» كان مكلفًا بحمل هذه القرابين إلى معبد الإلهة «حتحور» مما حدا به إلى كتابة هذا النقش (Breasted, A. R. Vol. I, Par. 717-718).

(٢-١) بعثة «سبك حرحب» لافتتاح منجم في «سرابة الخادم»

وفي السنة الرابعة والأربعين من حكم هذا الفرعون أرسل «سبك حرحب» ليفتح منجمًا جديدًا في «سرابة الخادم» وكان يلقب رئيس المستخدمين (أي هيئة البعثة) (Breasted, Ibid, Par. 725–727).

وقد ترك لنا نقشًا جاء فيه افتتاح مكان للتعدين بنجاح واسم المنجم «يفلح جيشها الذي يقدم ما فيه». في السنة الرابعة والأربعين من حكم ملك الوجهين القبلي والبحري … «أمنمحات الثالث» محبوب «حتحور» سيدة الفيروز معطي الحياة مثل «رع» أبدًا، أنتم يا من تعيشون على الأرض، ويا من سيأتون إلى أرض المنجم هذه؛ كما أن ملككم قد ثبتكم، وكما أن آلهتكم يحبونكم لأجل أن تصلوا إلى «وطنكم» في أمان؛ فعليكم أن تقولوا: «ألف رغيف، وآنية من جعة، وماشية وطير، وبخور وعطور، وكل شيء يعيش منه الإله لروح مدير هيئة المستخدمين للخزانة المسمى «سبك حرحب» عاش ثانية سعيدًا معيدًا حياة هنيئة»، ووالدته هي السيدة «حننوت» المرحومة، وهو الذي يقول: «لقد حفرت حجرة للتعدين لسيدي، وعاد شبابي، (جنودي) جميعهم دون خسارة، ولم يمُت منهم واحد»، وقد عزا رئيس البعثة نجاحه إلى سيدة الفيروز الإلهة «حتحور» التي كان يبتغي عطفها ورضاها ولذلك يقول: لقد أحضرت لها موائد قربان وكتان، وقدمت لها قربانًا إلهيًّا، وقد قادتني بعطفها إلى داخل المنجم الذي حفرته لها؛ وإني أقسم أني أقول الصدق.

(٢-٢) نقوش طريفة لبعض الموظفين الذين ذهبوا إلى هذه المناجم

ومن طريف النقوش التي عثر عليها لبعض الموظفين الذين أتوا إلى هذه المناجم النائية، التحذيرات التي تركوها لمن سيأتي في المستقبل طالبين منهم أن يترحموا على أرواحهم، فمثلًا جاء في إحدى هذه النقوش:

ليته يكون محبوبًا ويصل (إلى بلاده) سالمًا، من سيقول: صلاة من أجل روح حامل الختم «سبك حتب» محبوب الإلهة «حتحور» سيدة بلاد الدهنج أو (الفيروز) ولحارس المخزن «ياتو» ورئيس قصر الفرعون «سنب تفي» وللعشرين حجَّارًا الذين معهم.

وفي نقوش أخرى نقرأ:

ليت الإله «بتاح» المنفِي، والإلهة «حتحور» سيدة بلاد «الفيروز» يحبان من سيقول: «صلاة من أجل روح حامل الختم «سنوسرت».

(٢-٣) بعثة سبك حرحب والتحامه مع البدو الأسيويين

ولدينا نقش آخر تركه لنا موظف مالي اسمه «سبك حرحب» السالف الذكر يقول فيه:

أنتم يا أشراف الملك وعظماء القصر، قدِّموا المديح للملك، وفخِّموا شهرته، وامدحوا الملك، وحافظوا على ما هو له؛ لأن الجبال تقدم ما في جوفها له، والتلال تقدم ثروتها، أنتم يا من يعيشون على الأرض ومن سيأتون إلى مراكز التعدين هذه.

فكما أن الملك قد وطنكم والآلهة حفظتكم حتى تصلوا إلى وطنكم سالمين، فقولوا «دعاء» لأجل ألف قربان لروح رئيس المالية «سبك حرحب».

وقد ترك لنا حامل الختم الإلهي (أي الملكي) المسمى «بتاح ور»٢ في السنة الخامسة والأربعين من حكمه، نقشًا يقول فيه: «كنت امرأ مرسلًا لإحضار موارد عدة من بلاد … وكنت ماهرًا في عمل تقاريري لسيدي، وأخضعت بلاد الأسيويين لمن في القصر (أي الفرعون)، وجعلت «سينا» تركع تحت قدمه، واخترقت الوديان الوعرة، ووصلت إلى التخوم المجهولة (من العالم)، أنا رئيس هيئة المستخدمين وحامل الخاتم.» المظفر الذي وضعته أمه «ياتا».

ومن هذا النقش نعلم أن هذا الموظف قد التحم في أحد بعوثه مع قبائل البدو والأسيويين؛ وكذلك أخضع ثورة كانت في شبه جزيرة «سينا».

وهذه النقوش قد بلغ عددها ما يقرب من الستين، منها لوحات قائمة بذاتها، ومنها نقوش مدوَّنة على الصخور، وكذلك وجدت له موائد قرابين وأجزاء من نقوش معابد، وقد وجدت هذه النقوش مبعثرة في أنحاء شبه الجزيرة، فوجدت بعضها في «وادي مغارة»، وبعضها الآخر في «سرابة الخادم»، ومعبدها، والعدد الأكبر منها لوحات تذكارية للحملات والرجال الذين قاموا بها.

(٣) أهم لوحة في «سينا» من عصر «أمنمحات الثالث»

على أن أهم نقش عثر عليه من هذا العصر في «سينا» لم يُذكر عليه اسم الفرعون الذي نُقش في عهده، ولكن الآراء متفقة على أنه دوِّن في عهد «أمنمحات الثالث»، وقد حُفر هذا المتن على لوحة حُفظت لنا حتى الآن وقد جاء فيها ما يأتي:

المصاعب التي لاقاها «حور وررع» في استخراج الفيروز في فصل القيظ: أرسل جلالة الملك حامل الختم الإلهي (أي الملكي)، ومدير هيئة جماعة المستخدمين «في الحملة»، ومدير الصناع (؟) المسمى «حور وررع» إلى أرض المعادن هذه، وقد وصلت إلى هذه الأرض في الشهر الثالث من الفصل الثاني، وإن لم يكن الوقت مناسبًا للذهاب إلى أرض هذه المناجم. (Breasted, Ibid, Par. 733 f.f.)
وقد قال حامل الختم الإلهي هذا لموظفيه الذين كانوا سيجيئون لأرض المعادن هذه في هذا الفصل (أي فصل القيظ): «لا تجعلوا وجوهكم تبتئس بسبب ذلك، واعلموا أن «حتحور» ستجعل ذلك خيرًا، ولقد نظرت لنفسي وردعتها، وعندما حضرت من مصر تخاذلت، وكان الأمر صعبًا عليَّ؛ لأن الصحراء شديدة القيظ، والصخور تكوي الجلود، وعند انفلاق الفجر يرتاع الإنسان «لشدَّة الحر».» ثم بعد ذلك يصف لنا كيف أنه أغرى رجاله على المضي معه بقوله لهم: إنهم ذوو حظوة لدى الملك فأرسلهم لذلك إلى «سينا» في هذا القيظ الشديد فيقول: «ما أعظم حظوة الرجل الذي يكون في أرض المناجم هذه!» وقد كان جواب العمال مفحمًا ينطوي على التهكم والسخرية؛ إذ أجابوه قائلين: «حقًّا إن حجر الدهنج و(الفيروز) لفي هذه التلال الخالدة، ولكن من الحمق أن يبحث عنه في هذا الفصل من السنة، وإنه لمن الشطط أن يبحث عنه في هذا الفصل المحرق.»٣ ولكن رغم هذا التقريع الذي كاله العمال «لحور وررع»، فإنه كان واضعًا نصب عينيه الأمر الملكي الذي بعث من أجله، مما شجعه على المضي في عمله، وبعث فيه روحًا قويًّا يشجعه على السعي للحصول على ما جاء من أجله فيقول: «وعندما أرسلت لأرض المناجم هذه وضعت أرواح الملك هذه المهمة في قلبي، وبعد ذلك وصلت إلى تلك الأرض وأخذت في العمل بنجاح، وقد وصل جيشي كاملًا ولم يسقط واحد منهم، ولم يتخاذل وجهي أمام العمل.» والواقع أن الحظ لا يواتي الرجل الذي يتخاذل أمام الصعاب؛ ولذلك فإن بطلنا حامل الخاتم الإلهي مضى قدمًا في عمله حتى عثر على ضالته المنشودة في الوقت الذي يخصص لمثل هذه البعثة فيقول: «لقد أفلحت في استخراج صنف جيد من الدهنج أو الفيروز، وانتهيت في الشهر الأول من الفصل الثالث، وحملت معي أحجارًا من الطراز الأوَّل لتكون تحفًا بكمية لم يظفر بمثلها أحد قبلي، هذا فضلًا عن أنها أجود مما لو حضرت في الفصل المعتاد (من السنة) لاستخراجها.»
ومن الطبعي أن ينسِب «حور وررع» نجاحه إلى سيدة الفيروز «حتحور»، فإنها الإلهة المحلية لهذه الجهة، وقد نصح غيره أن يتضرعوا إليها إذا أرادوا نجاحًا؛ «قربوا قربانًا حينئذ إلى ربة السماء، واستعطفوا «حتحور»، فإذا فعلتم ذلك كان فيه الخير لكم، وإذا أحسنتم معاملتها سارت الأمور سيرًا حسنًا معكم.» وبعد ذلك يصف لنا نصيبه من الفخار في نجاح البعثة، ذاكرًا ما له من الصفات الحسنة كما هي عادة كل مصري في هذا العصر وما قبله: «لقد قدت جيشي بشفقة زائدة، ولم أنهر عمالي، وكنت مثال الرأفة مع جنودي كلهم، وكان اعتقادهم فيَّ عظيمًا.» ولا شك في أن موقف «حور وررع» يحتم عليه أن يتصف بهذه الصفات؛ لأن الرجل الذي يستطيع أن يستعمل مثل هؤلاء العمال والجنود في مثل الفصل اللافح الحر من السنة؛ لقمين أن يتصف بهذه الأخلاق النبيلة. وأكبر دليل على أهمية هذه المحاجر في عهد «أمنمحات الثالث» ما قام به من الإصلاحات في معبد العمال «بسرابة الخادم». وقد عثر فيه على آثار تدل على أنه كان قائمًا في هذه الجهة منذ الفرعون «سنفرو»، وقد زاد «أمنمحات» في بنائه ومده بموائد القربان، وأضاف فيه رواقًا، وحذا حذوه خلفه «أمنمحات الرابع» (Historical Studies, P. 11).

(٤) نشاط «أمنمحات الثالث» في «وادي الحمامات»

أما عن نشاط هذا الفرعون في «وادي الحمامات» فقد أشرنا إلى نقش الموظف «سنوسرت» وحملته التي قام بها لقطع أحجار تماثيل الملك العشرة، وكذلك أشير إلى هذه الحملة في نقش آخر يمتاز بما يقدم لنا من المعلومات عن عدد العمال الذين كانوا يستعلمَون لقطع الأحجار اللازمة للتماثيل فيقول: عشرون من جنود الجبانة، وثلاثون حجَّارًا وثلاثون بحارًا، هذا بالإضافة إلى جيش عديد مؤلف من ألفي جندي، ومن ذلك الإحصاء يمكننا أن نعرف نسبة مهرة العمال الذين كانوا يُستخدمون لقطع الأحجار إلى غيرهم من المدرِّبين الذين كان أهم عمل لهم جر الأثقال ونقلها بإشراف عمال المحاجر، والثلاثين بحارًا من رجال الأسطول.

(Breasted, A. R. Vol. I, Par. 313, 314).

على أن «أمنمحات» لم يقتصر في استخراج الأحجار على «وادي الحمامات»، بل استعمل المحاجر الهامة الأخرى في أنحاء القطر حسب حاجته إلى نوع الحجر اللازم له.

(٥) بعوث «أمنمحات الثالث» إلى محاجر الديوريت في صحراء النوبة الغربية

فأرسل البعوث إلى محاجر الديوريت الصلبة وغيرها من الأحجار الواقعة في صحراء النوبة الغربية، وعثر هناك على لوحات أقيمت تذكارًا لبعوثه، وهي منحوتة من الحجر الرملي، منها لوحة أرِّخت بالسنة الرابعة في الشهر الأول من فصل الحصاد «أخت» من حكم الفرعون «أمنمحات الثالث»، وقد جاء في نقوش هذه اللوحة أن البعثة وصلت إلى هذه الجهات، غير أن معظم نقوش هذه اللوحة لم تحل بعد. ونجد في نهاية اللوحة نفسها تاريخًا آخر وهو الشهر الثالث من فصل الزرع «برت» السنة الرابعة …

(٥-١) لوحة «سابستت» لاستخراج الأحجار الثمينة

وفي السنة السادسة من عهد هذا الفرعون أقام «سابستت» بن «رنبت نفرت» لوحة من الحجر الرملي الأحمر في هذه الجهة، وكان يحمل لقب «رئيس الخزانة الأمين»، وقد ذكر في نقوش اللوحة أن غرض هذه البعثة هو استخراج أحجار ثمينة «ماعو» ونجد في هذه اللوحة دعاء للإلهة «حتحور» سيدة «نخنت».

ووجد لنفس الموظف مائدة قربان متآكلة نقوشها وقد ذكر عليها نسبه.

وكذلك عثر على لوحة أخرى في هذه الجهة منحوتة من الحجر الرملي، غير أنها مكتوبة بالخط الهيراطيقي وكتابتها غامضة، وهاك ما وصل إليه الأستاذ «شيرني» من حل رموزها.

السنة س + ٢ الشهر الرابع من فصل الفيضان، اليوم العشرون في عهد ملك الوجه القبلي والوجه البحري «نيماعت رع» «أمنمحات الثالث» عاش مخلدًا، أتى قاطع الأحجار «نختي» بن «خنتخاتي» الذي وضعته «نت»؟ … وقاطع الأحجار «إني» بن «بتاح حتب» لأجل أن يحضر … على حسب … ما أمر به «سابستت»، والكاتب «منتو وسر»، ومما يؤسف له أن نوع المادة التي ذهبت هذه البعثة لإحضارها لم تذكر، (A. S. Vol. XXXIII, P. 73).

وفي محاجر «طرة» المقابلة «لمنف» التي كان يستخرج منها أحسن نوع من الحجر الجيري الأبيض الجميل، وجد نقش باسم هذا الفرعون يخبرنا أن الفرعون في السنة الثالثة والأربعين فتح محاجر للحصول على الحجر الجيري الأبيض من «عيان» لمعبد «الإله» لملايين السنين.

(٦) آثار «أمنمحات الثالث» في أنحاء القطر

وتوجد لهذا الفرعون آثار متفرقة عثر عليها في طول البلاد وعرضها ونخص بالذكر منها ما يأتي: (L. D. II, 143, Vyse, “Operations” Vol. III. P. 94).
وجدت له لوحة في مدينة «الكاب» مؤرخة بالسنة الرابعة والأربعين من حكمه، وتحدثنا عن جدار بني في هذا المكان خارج أسواره، وقد أقامه «سنوسرت الثاني» كما أسلفنا، وفي «تل اليهودية» وجد له قاعدة تمثال وخاتم أسطواني، ويقع «تل اليهودية» هذا على بُعد عشرين كيلومترًا من شمال شرقي القاهرة على الطريق المستقيم الموصل لأرض «غوشن»، و«وادي طليمات» والحدود المصرية السورية. (Petrie, Hyksos and Israelite Cities I).
وفي «منف» زاد «أمنمحات» في معبد الإله «بتاح»، وقد عثر له هناك على عتبة باب ضخمة باسمه عند «البوَّابة» الشمالية (Petrie, Tarkhan, Vol. I, Pl. LXVII).
وكذلك عثر على تمثال جميل في هذا المكان نفسه لهذا الفرعون، وهو موجود الآن بمتحف برلين (British Museum, No. 1121)، وفي «إهناسية المدينة» عثر على قطعة حجر من عصره أيضًا نقش عليها اسمه الحوري. (Petrite, “Ehnasya,” Pl. XIV).
أما في «الكرنك» فقد عثر له على تمثال كبير وآخر صغير (Legrain, “Statues”, Nos. 42014, 42019).

والأول مصنوع من الجرانيت الأسود.

وفي بلدة «نخن» (الكوم الأحمر الحالية) المقابلة «للكاب» عاصمة الصقر القديمة؛ وجد في وسط خرائب المعبد تمثال له أيضًا (Rec. Trav, X. 139)، وفي «بترو جراد» يوجد له تمثال (Rec. Trav, XV. 136 I–V)، وفي مجموعة «مريمار» يوجد له تمثال في صورة «بو الهول» بدون رأس (Mirmar, Catalogue XXIX)، هذا وتوجد له آثار عدة في أنحاء متاحف العالم تشتمل على مجوهرات وجعارين وأختام أسطوانية الشكل، ولوحات صغيرة وتماثيل (Petrie, “History” I, P. P. 192–194).

(٧) تعاليم «سحتب أب رع» لأولاده ومكانتها التاريخية

ومن أهم الوثائق التي تكشف لنا عن مقدار ما وصل إليه الفراعنة في أواخر الأسرة الثانية عشرة من الاحترام والتقديس، ومقدار ما وصل إليه الأمراء الوراثيون رغم ما يحملون من ألقاب ورتب من الخضوع للفرعون، «لوحة العرابة» المعروفة بالتعاليم؛ إذ تدلنا على أن روح الوحدة دب في جسم الدولة خلال حكمه بفضله وفضل ما قام به أسلافه من القضاء على الأمراء الإقطاعيين، وبخاصة «سنوسرت الثالث»، وكذلك بفضل جيل الموظفين الجديد الذي عمل ملوك هذه الأسرة على إنشائه ليلتف حولهم، وليكون لهم نصيرًا وظهيرًا على تسيير أداة الحكم في البلاد، والقضاء على حكام المقاطعات الذين كانوا أكبر عقبة في سبيل توحيد نظام الحكومة والنهوض بها؛ فلا غرابة إذن أن نرى هؤلاء الموظفين حريصين على بث روح الطاعة والمحبة لمليكهم العادل في نفوس أولادهم، وقد بلغ بهم حب الفرعون درجة جعلت تعاليم بعضهم لأبنائهم تدور حول حب الفرعون وخدمته والإخلاص له، لا أن ترشدهم إلى الحياة الصالحة السعيدة، كما كان شأن التعاليم التي وصلت إلينا حتى الآن في العهود القديمة، بل إن الكاتب الذي فعل ذلك غالى، فلم يشأ أن يكتب تعاليمه على ورق بردي، بل نقشها على صفحة من الحجر، وجعلها شاهدًا لقبره حتى يضمن خلودًا ويراها أولاده في كل وقت يزورون فيه قبره؛ لأن القبور كما نعلم كانت مُحاطة بكل عناية في كل أزمان التاريخ المصري، كما كان الابن الأكبر هو الذي يُنصب كاهن والده الجنازي؛ ولا غرابة إذن في أن تشيع هذه العادة في ذلك العهد، ولكن بكل أسف لم تصلنا إلا هذه اللوحة الحجرية التي ذكرناها، وقد يكون لكاتبها صلة خاصة وثيقة بالفرعون أكثر من غيره، فغالى في حبه لمولاه ونقش هذه التعاليم إظهارًا لولائه له، وليسير أولاده على نهجه في حبهم وولائهم، والواقع أن كاتب هذه النصائح كان موظفًا كبيرًا في المالية، وسنرى في المتن أن الملك كما يقول صاحب اللوحة قد مدحه أمام الملايين، وأنه كان صديقًا حميمًا لسيده الذي كان يطلعه على أسراره الخفية، ونرى في الوقت نفسه أنه صاغ عقود المدح للفرعون وأظهر عظمته، وأن المؤلف ينصح أولاده أن يحاربوا إلى جانب الملك مما يتفق وروح العصر الذي كان عصر نضال وحروب بين حكام المقاطعات والعرش لتوحيد البلاد تحت حكم ملك واحد مسيطر سيطرة تامة على كل المقاطعات من كل الوجوه، ولا نزاع في أن هذه الوثيقة كانت نوعًا من الدعاية للملكية المطلقة في ذلك العهد، ولكنها دعاية فريدة حاذقة في بابها، ومن الجائز أنها كانت دعاية منتشرة في وقتها، غير أنه لم يصلنا نحن منها إلا هذه الوثيقة، وتنقسم قسمين: مناقب المؤلف وصفاته، ثم تعاليمه لأولاده، وها هي ببعض الاختصار. (A. S, XXXVIII, P. 269; XI, P. 209 ff.).

(٧-١) تحدُّث اللوحة عن مناقب صاحبها

الأمير الوراثي، حامل الخاتم الملكي، والمشرف على ما له قرن وما له حافر وما له ريش، (أي الحيوان الملكي)، والمشرف على مستنقعي الملاهي (أي حيث صيد الأسماك ومأكولات الصيد)، ويصف نفسه بأنه عند وصوله (إلى القصر) يصغي إليه كل البلاط، وإليه يتحدِّث الناس عن أمورهم. ومن يلاحظ رب الأرضين صفاته الحسنة، وهو الذي رقَّاه، وهو يملك الفضة والذهب، ولديه الكثير من الأحجار الكريمة، وهو رجل صدق، مثل الإله «تحوت» (إله الحكمة) ورئيس الأشياء السرية في المعابد، ورئيس الأشغال في قصر الملك، وهو أكثر دقة من الموازين، ومثل ميزان، متفوق في النصيحة، يتكلم الحسن ويعيد المرغوب فيه، حسن الإصغاء ممتاز في الكلام، وهو أمير يحل معضلات المسائل، خلو من عمل الغش، مخفف المصائب، ويعمل الأشياء على مبدأ قويم … إلخ؛ ثم يقول: إنه قد ألف نصيحة شعرية لصالح أولاده فيقول:

(٧-٢) نصيحة مؤلف التعاليم لأولاده

إني أتحدث إليكم في أمر عظيم، وأجعلكم تصغون إليه، وإني أنقل إليكم فكرة للأبدية (أي فكرة تفكرون فيها دائمًا)، وحكمة للحياة الصحيحة حتى تمضوا مدة الحياة في نعيم، احترموا الملك «نيما عت رع» بأجسامكم، وألِّفوا بين قلوبكم وجلالته، إنه هو «الفهم» (سيا) الذي في القلوب، وعيناه تفحصان كل إنسان، وإنه «رع» الذي يرى بأشعته، وإنه يضيء الأرضين أكثر من قرص الشمس، ويجعل الأرضين أكثر نضارة من نيل عالٍ، وإنه ملأ الأرضين قوة وحياة.

والأنوف تصير باردة حينما يجنح إلى الرعب، وعندما يكون طلقًا يتنسم الناس الهواء، ويعطي من يخدمونه القوة الحيوية، ويمد بالطعام من يسير على نهجه، والملك قوة حيوية، وفمه الرخاء بعينه.

وإنه هو الذي يطعم من سيكون، وإنه الإله «خنوم» (المصور) لكل الأجسام، والمبدع الذي يخلق كل الناس، وهو الإلهة «باستت» (وهي الإلهة الشفيقة لها رأس قطة التي تحمي الأرضين) ومن يحترمه ينجُ بساعده، ولكنه الإلهة «سخمت» (وهي الإلهة المريعة وإلهة الحرب لها رأس لبؤة)، لمن يتعدَّى أمره، ومن يكره فإنه سيقع تحت نيره، حاربوا لاسمه، ودافعوا عن حياته، حتى تنجوا من الكريهة (القدر)، ومن كان صاحبًا للملك فإنه سيكون محترمًا، ومن كان عدوًّا للملك فإنه لا قبر له، وجسمه يُلقى في الماء، فافعلوا ذلك لتصح أجسامكم، نعم، إن ذلك لمجد لكم إلى الأبد.٤

ولسنا في حاجة إلى القول بأن هذه الكلمات تنم عن الاحترام العميق الذي كانت تكنه الصدور وقتئذ لهذا الفرعون العظيم، والظاهر أن نفوذه كان ممتدًا إلى الممالك المجاورة، ولا أدل على ذلك مما وجد في خرائب «جبيل»؛ إذ عثر على مقبرة قد دُفن فيها حلي وأوانٍ مصرية، ومن بينها آنيتان للزينة من حجر الإبسيديان؛ نُقش اسم هذا الفرعون على غطائهما بالذهب.

(Academie des Inscriptions; “comptes Rendus” Mai-Juin 1922).

ولا بد أنها كانت ملك أمير أسيوي لهذه المدنية، ويحتمل أنها أرسلت له من قبل الفرعون هدية.

هذا مجمل ما وصلنا عن نشاط هذا الفرعون في بعوثه وآثاره وعلاقاته الأجنبية. والآن ننتقل إلى أعماله الإنشائية في داخل البلاد، وسنتناول الكلام أولًا عن أهم مشروع حيوي للبلاد قام به، وأعني بذلك بحيرة قارون أو بحيرة «موريس» القديمة، وإصلاح أرض الفيوم.

(٨) بحيرة قارون (بحيرة موريس)

لا جدال في أن «أمنمحات الثالث» قد وجه عناية عظيمة لإقليم «الفيوم»، وأعماله العظيمة قام بها هناك. ويعتبر هذا المنخفض أو الواحة التي تتكون منها «الفيوم» بالنسبة لمصر نبات سوسن، تفرع غصنه نحو الغرب جنوب المكان الذي تتفتح فيه الساق عن الزهرة هي الدلتا اليانعة، ويحتمل أن هذا المنخفض قد نجم عن الانفصال في طبقات الأرض، ونتج عنه مجرى النيل الطويل، ولا يزال جزء من هذا المنخفض تشغله بحيرة «قارون» الحالية، التي تعتبر جزءًا من بحيرة عظيمة كانت تغطي منذ عصور ما قبل التاريخ معظم «الفيوم» الحالية بمياه الفيضان، وسطحها ينخفض نحو مائة وتسعة وعشرين قدمًا عن سطح البحر الأبيض المتوسط. وهذه المساحة من المياه كان يطلق عليها المصريون لفظة «حنومِروِر» أي بحيرة «مِروِر»، وهو الاسم الذي حرفه اليونان إلى «موريس» وبذلك أصبحت تسمى بحيرة «موريس» كما ذكر ذلك لنا «هرودوت». وقد كتب الأستاذ «جاردنر» مقالًا عن اسم بحيرة موريس (J. E. A., Vol. XXIV, PP. 37–46)، وقد برهن في هذا المقال على أن لفظة «مِروِر» (موريس) تدل على اسم المدينة «كوم غراب» التي تقع عند منحنى بحر يوسف، أو هو الاسم الذي أطلق على مجرى المياه الذي صار يسمى القناة العظيمة الموصلة إلى المدينة المذكورة، والاسم المصري لبحيرة «موريس» كان «تاحنو-مرور»؛ أي بحيرة «حنو مرور»، وفي هذه الحالة تكون كلمة «حنو» (بحيرة)، أما كلمة «مرور» (موريس) فتدل إما على البلد الآنف الذكر أو المجرى، أو القناة التي تقع عند فمها هذه البلدة.
fig29
شكل ٢: مناسيب بحيرة قارون نقلًا عن علي بك شافعي.

(٨-١) العمل على تجفيف جزء من مساحة البحيرة في عهد أمنمحات الأول

والظاهر أنه قد عملت محاولات منذ الأسرة الخامسة لتجفيف جزء من مساحتها. وفي عهد «أمنمحات الأول» فكر في تجفيف جزء أكبر من هذه البحيرة، كما يدل على ذلك بعض آثاره هناك، ولقد تضاربت الأقوال في وجود هذه البحيرة في تلك الجهة في عهد ما قبل التاريخ، وبخاصة ما ذكر في كتاب Caton Thomson عن «الفيوم»، وقد رد عليها العالم «ليل» وبعد ذلك أثبت «علي بك شافعي» وجودها في رسالة له في هذا الصدد بعنوان «بحيرة قارون وعلاقتها ببحيرة موريس وخزان وادي الريان»، وأردفه بمقال ثانٍ «ري الفيوم كما وصفه النابلسي»؛ غير أننا مع وجود هذه البحيرة لا يمكننا أن نقبل ما قاله «ديدور» نقلًا عن «هيكاتا» Hecataeus of Abdera إن بحيرة «موريس» كانت خصصت لتنظيم فيضانات النيل، في حين أن كلا من «هرودوت» و«استرابون» يقول: إن مياه النيل كانت تتوفر في البحيرة مدة ستة شهور، وفي مدة ستة الأشهر الأخرى من السنة تخرج منها المياه بطريق القناة نفسها، ولكن بوساطة عيون أخرى (Meyer, “Geschichte des Altertums” I, Par. 322).

وعلى أية حال فإن ظواهر الأمور تدل على أن هذه الواحة الغناء (الفيوم) هي من عمل النيل، وسنتكلم عنها فيما يأتي ببعض التفصيل، وبخاصة ما قام به «أمنمحات» من العمل المجيد الذي سيبقى ما بقيت (الفيوم).

ففي كل عام كانت رواسب الطمي من النيل تتخلف على هذا الحوض الطبعي المنبسط، ومن ثم ارتفع منسوب الأرض تدريجًا حتى انكمشت البحيرة في أيامنا هذه إلى مساحة ضئيلة نسبيًّا عما كانت عليه في الأزمان السالفة، وهي التي تعرف الآن ببحيرة «قارون»، أما باقي الجزء من هذا المنخفض العظيم فقد أصبح أرضًا خصبة يانعة مملوءة بالحقول الخضراء والحدائق الغناء — ونعتقد أن الفيوم في عهد «أمنمحات» الثالث قبل إصلاحها كانت رقعة شاسعة من الماء ليس فيها إلا جزء صغير من الأرض الزراعية، انتزع من الماء الضحضاح في الجهة الشرقية؛ حيث كانت تقع بلدة «شدت» (الفيوم) التي كانت الجسور تحميها مما يكتنفها من المياه.

(٨-٢) جهود «أمنمحات الثالث» في عمل خزان الفيوم

والظاهر أن الملك «أمنمحات الثالث» كان يحس الألم والمضايقة من القحط الذي كان يصيب البلاد من جرَّاء انخفاضات مياه النيل المتكررة، والتي كان من نتائجها الجوع وانتشار الأوبئة، والظاهر أنه قد رأى في منخفض الفيوم منقذًا للبلاد من ويلات القحط؛ إذ اتخذه خزانًا طبعيًّا يمكن أن يمد البلاد الشمالية جميعها بالمياه أثناء انخفاض النيل سنويًّا في فصل التحاريق، وكانت مياه الفيضان كما قلنا تنساب في منخفض الفيوم في فصل الخريف، وعند ابتداء انخفاض الفيضان كانت هذه المياه تخرج ثانية مخترقة الحقول إلى النهر ثانية، إلى أن يمنع جريانها الأراضي التي تعترضها، وهي الواقعة بينها وبين النهر، وبذلك تتبقى مساحة من المياه محجوزة في الفيوم لا فائدة منها، والظاهر أن هذا الفرعون أو مهندسيه قد فكروا في طريقة لتنظيم دخول هذا الماء وخروجه، وكانت النتيجة أن فكروا في استعمال الترعة التي يبتدئ فتحها من النيل شمال «أسيوط» عند «ديروط»، وهذه الترعة الطبعية هي المعروفة الآن «ببحر يوسف»؛ ومنها كانت تحمل مياه الفيضان مباشرة إلى خزان «الفيوم»، وهناك تحجز بوساطة حواجز لها عيون تُصرف منها المياه ثانية تدريجًا إلى هذه الترعة، فعندما تكون المياه منخفضة في النيل في شهر التحاريق؛ يمكن أن يبقى منسوب المياه في النيل مرتفعًا الارتفاع النافع لري الأراضي من «أسيوط» حتى البحر الأبيض المتوسط، وقد حسب أنه بهذه الطريقة تخزن كمية هائلة جدًّا من مياه الفيضان تضاعف حجم المياه التي كانت تجري في النهر عندما تنساب فيه تدريجًا خلال فصل التحاريق من أبريل إلى يونيو. (Brown, “The Fayoum and Lake Moeris”.).

وقد أقيم سد عظيم أو خزان لأجل تنفيذ هذا المشروع الهندسي العظيم عند المدخل الطبعي لهذه البحيرة؛ أي عند «اللاهون» ليحصر دخول المياه وخروجها إلى القناة. هذا وقد حصر المهندسون الذين قاموا بتنفيذ هذا الخزان المياه في الجزء المنخفض من «الفيوم»، وذلك بإقامة سد آخر اتخذ صورة نصف دائرة طولها أكثر من عشرين ميلًا، وبذلك استرد من المياه نحو عشرين ألف فدان في الجهة القريبة جدًّا لوادي النيل، وقد تحولت هذه المساحة إلى حقول غنية بإنتاجها، ولولا ذلك لما تبقى من البحيرة إلا المستنقعات التي على حافتها، والجزء الذي تقوم عليه بلدة «شدت» (المستردة) وهي «الفيوم» الحالية، وبهذه الكيفية أصبحت بلدة «شدت» مفصولة عن البحيرة بمساحة من الأرض منتزعة من المياه تبلغ نحو خمسة أميال.

(٨-٣) إعادة بناء المعبد الذي أقامه «أمنمحات الأول» في «الفيوم»

وفي هذه المدينة التي أصلحها «أمنمحات الثالث» أعاد بناء المعبد الذي أقامه جده «أمنمحات الأول» (Petrie, “Hawara”, P. 57. Rec. Trav. XI, P. 98).
وقد عثر على بعض آثار لهذا المعبد (Ibid, Pl. XXVII, 10, 11) وكذلك عثر له على جزء من مائدة قربان في هذه الجهة (Lange and Schafer, “Grab und Denkstein”, No. 20699).

وكذلك أمر هذا الفرعون بإقامة نقش في هذا المعبد كان الغرض منه أن يظهر للعالم جدارته بأن ينتخبه سلفه «سنوسرت الثالث» ليخلفه على عرش الملك، ولم يبقَ منه إلا بعض قطع صغيرة محفوظة الآن بمتحف برلين، والظاهر أن كثيرًا من العبارات اللغوية التي وردت في هذا النص قد كُررت في نقش تتويج الملكة «حتشبسوت».

ويخيل إليَّ أن ترعة «بحر يوسف» التي كانت تملأ بها البحيرة ثم تفرغ كل سنة كانت تلف حول الجزء الجنوبي والغربي لمدينة «شدت» (الفيوم)، ثم تسير جهة الشمال نحو أربعة أميال إلى أن تخترق السد العظيم عند نقطة بالقرب من مدينة «بياهمو» الحالية (وهو اسم قديم لم يحقق أصله حتى الآن)، ولا بد أنه كان يوجد في هذه الجهة خزان ذو عيون تفتح وتغلق، غير أنها اختفت كلية.

(٩) تمثالا «أمنمحات الثالث» في بلدة بياهمو

وكان على الجزء العلوي من جانبي السد قاعدتان هرميتا الشكل من الحجر، يبلغ ارتفاع كل منهما نحوًا من عشرين قدمًا، نصب عليهما تمثالان ضخمان يمثلان الفرعون جالسًا على عرشه، وكان كل واحد منهما قد نُحت في قطعة واحدة من حجر الكوارتسيت الأبيض، ويبلغ ارتفاعه خمسًا وثلاثين قدمًا، وقاعدته أربع أقدام، وبذلك كان رأس كل تمثال يرتفع نحو ستين قدمًا عن قمة الخزان التي كانت تعلو عن سطح الأرض عدة أقدام، وقد كانا لا يزالان موجودين عندما زار «هرودوت» البلاد المصرية، وقد وصفهما بأنهما تمثالان جالسان أقيما على هرمين يشرفان فوق الماء، ولكنهما قد اختفيا الآن، ولم يبقَ منهما إلا بعض قطع محفوظة الآن بمتحف أشموليان بأكسفورد. (Petrie, “Hawara”, Pls. XXV, XXVII).

ولا بد أن «هرودوت» قد رأى التمثالين أيام الفيضان.

ومما لا ريب فيه أن هذا العمل الهندسي العظيم قد أفاد كل البلاد الواقعة شمالي «أسيوط» ونجاها من القحط الذي ينجم عن نيل منخفض، أما الأراضي الواقعة جنوب «أسيوط» فمن المحتمل أن هذا الفرعون قد أقام في سني حكمه الأولى سدًّا عند الشلال الثاني قبل قلعتي «سمنة» و«قمة»، وبذلك يحجز مياه الفيضان في فصل الخريف لتصرف في فصل التحاريق.

(١٠) «أمنمحات الثالث» وتدوين مناسيب النيل

وتعزى فكرة إقامة خزان أو سد في هذا المكان إلى وجود نقوش في صخور «سمنة» و«قمة» في مناسيب مختلفة يستدل منها على ارتفاع النيل في السنين الآتية من حكم هذا الفرعون، وهي السنة الرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، والتاسعة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة، والثانية والعشرون، والثالثة والعشرون، والرابعة والعشرون، والثلاثون، والثانية والثلاثون، والسابعة والثلاثون، والأربعون، والحادية والأربعون (L. D. II. Pl. 39).

وقد كان هذا الفرعون أول من قام بتدوين مقاييس للنيل، ومن ثم اتُّخذت سنة، غير أن هذه المناسيب كانت أعلى من المناسيب الحالية للفيضان العالي بما يقدَّر ما بين ست وعشرين، وثلاثين قدمًا؛ على أنه لم يوجد أي أثر لمثل هذا الخزان الذي يقال إنه أقامه، وسبب ارتفاع منسوب مياه النيل في تلك الأزمان هو إما أن يكون مجرى النهر في بلاد «النوبة العليا» قد انخفض بفعل التعرية والتآكل، أو أن مياه الفيضان كانت منذ أربعة آلاف سنة أكثر مما هي عليه الآن، والسبب الأول أقرب إلى الذهن؛ لأننا نشاهد في عصرنا فعل التعرية والتآكل في مجرى النهر وفي الصخور القائمة في الشلالات. هذا وقد فسر الأستاذ «فلندرز بتري» وجود مقاييس النيل عند «سمنة» و«قمة» بطريقة لا بأس بها، فيقول: «ولكن عند «سمنة» و«قمة» قد وجدت سلسلة نقوش غاية في الأهمية رغم قصرها وهي تسجل ارتفاعات النيل، والأعمال المائية العظيمة التي قام بها «أمنمحات الثالث» لتنظيم مياه النيل عند دخولها وخروجها في منخفض «الفيوم» كانت تحتاج إلى تنبيه مبكر عن ارتفاع النيل وانخفاضه، وقد كان يحفظ بذلك سجل على الصخور، في حين أنه كان من الممكن إرسال المناسيب بوساطة إشارات من تل إلى تل إلى أن تصل إلى «الفيوم» في الوقت المناسب.»

هذا ما كان من أمر الأعمال الحيوية الدنيوية التي قام بها لخير مصر في عالم الدنيا. أما ما قام به لآخرته وآلهته، فكان على جانب عظيم من الإتقان مما لم يضارعه فيه ملك آخر، وبخاصة هرمه ومعبده الجنازي، وهو ما سنتكلم عنه الآن.

(١١) هرم أمنمحات الثالث

لم يشذ «أمنمحات الثالث» عن أسلافه في إعداد هرمين لنفسه، واحد منهما ليتوارى فيه جثمانه الحقيقي، والآخر لتأوي إليه الروح «كا» ويقدَّم القربان إليها فيه، وقد كانت هذه العادة متبعة عند الملوك والأفراد منذ الدولة القديمة، وقد أقام الهرم الأول عند مدخل «الفيوم» والثاني في «دهشور»، وسنفصل الكلام عنهما فيما يأتي؛ لأنهما يعتبران من أهم الآثار التي خلفها هذا الفرعون، بل ومن عجائب الآثار التي تركها لنا الفراعنة في عصور تاريخهم كلها.

fig30
شكل ٣: هرم أمنمحات الثالث «حجرة الدفن».

أقام «أمنمحات الثالث» الهرم الذي دُفن فيه على حافة الصحراء عند مدخل الفيوم، ويبعد هذا الهرم نحو أربعة أميال من شرقي مدينة «شدت» (الفيوم)، وعلى مسافة سبعة أميال من الجنوب الشرقي لعيون الخزان عند «بياهمو»، وعلى بُعد خمسة أميال غربي هرم «سنوسرت الثالث» في «اللاهون»، وأطلق عليه اسم «نفر أمنمحات»، فكأنه أراد بذلك أن يشرف على الخزان العظيم الذي أنفق جزءًا عظيمًا من حياته ومجهوده لإنجازه.

وقد أقام هذا الهرم من اللبن، ثم كساه الحجر الجيري كما فعل أسلافه في هذه الأسرة، ويبلغ طول كل ضلع من قاعدته ثلاثمائة وخمسين قدمًا، أما ممراته الداخلية فقد افتن في نحتها وبنائها لتضليل اللصوص الذين قد يأتون يومًا ما لنهب الذهب والمجوهرات التي دُفنت مع الجثة، وقد بُنيت هذه الممرات من الحجر الصلب.

(١١-١) التفنن في إخفاء حجرة الدفن

وكان أول عمل خالف به من سبقه من ملوك الدولة القديمة أن جعل المدخل في الجهة الجنوبية من الهرم بدلًا من وضعه في الجهة الشمالية كالمعتاد، حتى لا يهتدي اللصوص بسهولة إلى غرضهم فيصرفون وقتا طويلًا في البحث عنه في هذه الجهة المعتاد وضعه فيها، ومن ثم صنع سلمًا طويلًا ينحدر إلى حجرة تظهر للصوص أنها مؤدية لحجرة الدفن، ولكن الواقع أن سقف هذه الحجرة كان قد بُني بانحدار جانبي وفيه فتحة لها ممران: أحدها يمتد مستقيمًا، والثاني يتحول نحو اليمين، وهذا الممر الأخير كان يظهر للصوص أنه ممر مضلل وحسب؛ لأنه قد بقي مفتوحًا، وينتهي بحجرة خالية، أما الممر الثاني فكان مغريًا؛ لأنه كان قد سُد بإحكام بأحجار مرصوصة، كأنه يؤدي إلى الحجرة التي خبئ فيها الكنز الذي يصاحب الجثة، ولكن هذا الممر رغم ذلك قد انتهى عند فحص اللصوص له بالخيبة؛ إذ قد وضعت هذه السدادات لتضليل اللصوص، ولتضييع ما لديهم من قوة وجهد للوصول إلى حجرة الدفن الحقيقية هباء، والواقع أن الممر الذي كان مفتوحًا جهة اليمين كان هو الممر المؤدي إلى حجرة الدفن، وقد قلنا إن هذا الممر أيضًا قد انتهى بحجرة خالية، ولكن كان يوجد هنا أيضًا سقف منحدر يؤدي إلى ممر علوي يسير نحو الشمال وينتهي ثانية بالصخر الأصم، ولكن عثر على شرك مخفي في السقف يؤدي إلى ممر ينتهي ببئر عميقة كان يأمل اللص أن ينزل فيها وهو مملوء بالأمل، ولكن هذه البئر تنتهي بلا شيء، وبعد ذلك لوحظ أن الجدار الذي على يمين هذه الحجرة وهو الذي يقوم بين البئرين، كان مبنيًّا بقطع من الأحجار يخيل أن الدفن تحصن وراءها، ولكن كشف أن هذه كانت خدعة، وأن الباب الحقيقي إلى حجرة الدفن تؤدي إليه فتحة أرضية، وهو موقع قد أحكم انتخابه بطريقة تجعل كل حيل اللصوص تنفد أو تعوقهم بقدر المستطاع؛ لأن كل الشراك الأخرى التي نُصبت لهم كانت في السقف، وهذه الفتحة التي عثر عليها في الأرض تؤدي إلى حجرة الدفن بوساطة ممر قصير، ولكن اللصوص وجدوا أن المدخل كان مسدودًا بحجر ضخم يبلغ زنته خمسة وأربعين طنًّا أعد لإنزاله في مكانه بعد الدفن مباشرة.

وقد نُحتت حجرة الدفن في الصخر الأصم الذي كان يرتفع هنا بمساواة الأرض التي أقيم عليها الهرم، وقد وضع في تجويف هذه الحجرة المستطيلة الشكل كتلة واحدة من حجر الكوارتسيت المصقول، وهذه الكتلة نفسها كانت قد أفرغت بدقة فائقة حتى أصبحت تكوِّن بنفسها حجرة ذات جدران أربعة ورقعة، فكان مثلها كمثل حوض طوله اثنتين وعشرين قدمًا وعرضه ثمانِ أقدام، وسمكه قدمان، وكان يزن بعد الفراغ من نحته نحو مائة وعشرة أطنان، وفي وسط هذه الحجرة الجميلة المؤلفة من حجر واحد وضع التابوت المصنوع كذلك من حجر الكوارتسيت المصقول، أما غطاء هذه الحجرة فكان مركبًا من ثلاث كتل من الحجر نفسه، واحدة منها كانت تسد المدخل، وذلك بإنزالها من أعلى، بعد أن وضع الجسم في مخدعه في تابوت مسطح الجوانب ومحلَّى بالزخارف وله غطاء مقبب، وفوق هذه الحجرة أقيم بناء الهرم الذي كان يخترقه عدة ممرات إلى حجر معقدة ملتوية، وهي التي وصفناها فيما سلف، (انظر شكل ٣).

(١١-٢) دفن الأميرة «بتاح نفرو» في مقبرة والدها «أمنمحات الثالث»

وبعد الانتهاء من بناء هذا القبر المدهش بمدة قصيرة فَقَد هذا الفرعون ابنته الأميرة «بتاح نفرو» التي كانت على ما يظهر أعز بناته.

ويظهر أنه رأى أكبر عزاء له في أن يجعل مضجعها الأخير في الضريح الذي بناه لنفسه، فكان هذا عملًا فريدًا في العادات الجنازية المصرية، وكان غرضه أن يجتمع روحها مع روحه في حجرة واحدة، من أجل ذلك أمر بصنع تابوت لها يتألف من ثلاثة أحجار من «الكوارتسيت»، وُضع في الفراغ الذي تخلف بين قاعدة تابوته وجدران الحجرة ودُفنت فيه، ولما مات الفرعون دفن بجوارها بطبيعة الحال، ولكن بعد مضي زمن انقض اللصوص الذين كان يُخشى بأسهم على الهرم، فضلوا السبيل بما أقامه لهم الفرعون من الأحابيل والحيل المضللة مدة من الزمن، ولكنهم في نهاية الأمر اهتدوا إلى حجرة الدفن، وسرقوا كل ما كان مع الجثتين من ذهب ومجوهرات ثم أتلفوها، وما تبقى أشعلوا فيه النار، ولم يتركوا إلا قطعًا صغيرة عثر عليها «بتري» في أيامنا، وهذه القطع تشمل بعض قطع من أواني المرمر والأطباق ونقش عليها اسم الفرعون، هذا إلى صندوقين من حجر الكوارتسيت لتوضع فيهما أواني الأحشاء، ومائدة قربان من المرمر نُقش عليها اسم الأميرة. (Petrie, “Kahun” P. 12; “History”, Vol. I, P. 197).

مائدة قربان الأميرة «بتاح نفرو»

ويلاحظ في نقوش هذه المائدة ما يكشف لنا عن اعتقاد خرافي غريب منذ الدولة القديمة كما أشرنا من قبل، وذلك أن المصري كان يعتقد أن كل صورة منقوشة أو ملونة لها كيان روحي؛ أي إنها تعيش بمثابة كائن حي في عالم الأرواح؛ حيث تسكن روح المتوفى، وكان المَثَّال نحاتًا أو رسامًا أو نقاشًا يُسمى في اللغة القديمة «سعنخ» (المحيي)؛ أي الذي يجعل الشيء يحيا، ولما كانت معظم الإشارات المصرية القديمة تأخذ شكل حيوانات وطيور وهوام، فإن الكهنة أخذوا يبثون في عقول القوم أن هذه الصور التي كان بعضها مضرًّا يمكن أن تصبح حيوانات أو هوام حقيقية وتلحِق بالمتوفى الأذى، أو تأكل ما يقدَّم له من القربان، من أجل ذلك نجد، على مائدة القربان التي عثر عليها في حجرة دفن، الأميرة أن الحيوانات والهوام التي تتركب منها الألفاظ المنقوشة عليها قد رُسمت مقطوعة أو مبتورة حتى لا يلحق بالمتوفى أي أذى، وهذه العادة نجدها شائعة منذ عهد الدولة القديمة كما ذكرنا، وبخاصة في متون الأهرام المنقوشة على جدران حجر دفن الملوك في عهد الأسرتين الخامسة والسادسة.

(١٢) هرم «أمنمحات الثالث» في «دهشور»

أما الهرم الثاني الذي أقامه، فقد انتخب له «أمنمحات» موقعًا في الصحراء عند «دهشور» القريبة من جنوبي «منف» وكذلك بالقرب من هرم والده «سنوسرت الثالث» (De Morgan, “Dahchour”, Vol. II, Pls. 1, XVI, XVII)، وهو بناء ضخم له روعته، أقيم من اللبن وكُسي بالحجر الجيري الذي لم يبقَ الآن منه شيء، وكان مدخله من الجهة الشرقية خلافًا للمعتاد أيضًا، وقد كان له ممرات داخلية معقدة تؤدي إلى حجرة الدفن حيث يوجد تابوت فاخر، وقد وجدت قمة هذا القبر الهرمية الشكل والمصنوعة من قطعة واحدة من الجرانيت الأسود ملقاة بجواره، وقد نٌقش على جوانبها اسم الملك وصورة الشمس المجنحة، وهي موجودة الآن بالمتحف المصري.
(Breasted, “The Dawn of Conscience”, Fig. 6 facing P. 58).

ولم يوجد بطبيعة الحال؛ أي أثر لجسم الفرعون؛ لأن هذا الهرم كان قد أقيم لروحه «كا» كما سبق ذكره.

(١٣) مقبرتا الأميرتين ومحتوياتهما

وبجوار هذا الهرم عثر «دي مرجان» على مقبرتي أميرتين، وهما ابنتا هذا الفرعون، واسم الأولى «حتحور حتب»، واسم الثانية «نب حتب خرد»، وقد عثر في قبريهما على كمية من المجوهرات الفاخرة المحفوظة الآن بالمتحف المصري، غير أن صياغة هذه الجواهر التي عثر عليها في «دهشور» و«اللاهون» تقل في جودتها وإتقانها عن التي عثر عليها في العهود السالفة من هذه الأسرة؛ إذ يلاحظ أن الصدريات فيها مزدحمة بالرسوم، أو هي تقليد قبيح لسابقاتها، فيلاحظ أن ترصيع الأسوار قد استعمل فيه عجينة زرقاء بدلًا من اللازورد، وكذلك استعمل الفخار المطلي في ترصيع الصدريات بدلًا من اللازورد وحجر «الأمزون» (De Morgan “Dahchour”, Vol. I, P. 128; Vol. II, P. 107).

(١٤) معبد الهرم «اللبرنت»

أما المعبد الجنازي الخاص بالهرم الذي دُفن فيه الفرعون فهو ذلك البناء الهائل الذي بناه الفرعون على الجانب الأيسر منه، وكان يُغطي مساحة من الأرض، يبلغ طولها نحو ألف قدم وعرضها نحو ثمانمائة قدم، وهو في الواقع عبارة عن مجموعة من المحاريب والأبنية والردهات، وصفها كُتاب الإغريق الأقدمون عند زيارتهم لمصر ونعتوها بلفظة «لبرنت»، وهذا هو الاسم الذي أطلقه اليونان على مجموعة من المباني في «كنوسوس» في جزيرة «كريت».

ويرجع عهدها لزمن حكام «المنوان»، وهذا البناء المصري يعده اليونان أعظم أعجوبة في مصر، وقبل أن نذكر ما كتبه اليونان عن هذا المبنى نريد أن نورد ما كتبه عنه الأستاذ «ينكر» في تاريخه (Junker, “Agypten” P. 96)، وقد وافقه في هذا الرأي الأستاذ «هول» (Hall, “Ancient History of the East”, Fig. 154) و«بتري» أيضًا قال: إن البناء المسمى «باللبرنت»، هو في الحقيقة المعبد الجنازي الذي أقامه «أمنحوتب الثالث» لهرمه الواقع عند مدخل الفيوم، وتبلغ مساحته ٣٠٠ × ٢٥٠ مترًا ويشمل خلافًا لأحجار المعبد المعتادة أماكن منفصلة للمقاطعات التي كانت تتألف منها البلاد، وهذه المقاطعات كانت ترغب في أن تمثل في إقامة الشعائر الدينية بجوار الفرعون المتوفى، وقد وجدنا لهذا نظائر بصورة مصغرة في ردهة معبد الفرعون «زوسر» وفي معبد «منكاو رع» «معبد الوادي»، أما «بتري» فيقول (Petrie History, Vol. I, P. 198): إن جزءًا من هذا البناء على الأقل كان معبدًا للفرعون. والآن نعود إلى ما قاله «هرودوت» في وصف هذا المعبد فاستمع لما يقول.

(١٤-١) اللبرنت معبد «أمنحوتب الثالث» كما وصفه هرودوت

تقع «اللبرنت» بعد بحيرة «موريس» بقليل بالقرب من المكان المسمى «كروكود بوليس» وهو الاسم اليوناني لمدينة شدت (أي الفيوم الحالية)؛ وقد زرت هذا المكان ووجدته يفوق كل وصف؛ وذلك لأنه لو جُمعت كل الجدران والأعمال الأخرى العظيمة في مكان واحد، فإنها لا تضاهي هذه «اللبرنت» لا في ضخامة العمل ولا في مقدار النفقات، ومع ذلك فإن معبد «إفسوس» بناء يستحق الذكر، وكذلك معبد «ساموس»؛ هذا إلى أن الأهرام كذلك تفوق الوصف، وتضارع عددًا كثيرًا من أعظم مباني الإغريق، ولكن «اللبرنت» تفوق الأهرام، فهي تشتمل على اثني عشر بهوًا كلها مسقوفة ولها «بوابات» تقابل الواحدة الأخرى تمامًا، ست منها تتجه شمالًا، وست تتجه جنوبًا، ويحيط بالبناء كله جدار واحد. ويوجد في المبنى نوعان من الحجرات، نصفها تحت الأرض، والنصف الآخر على سطح الأرض، والأخيرة مبنية فوق الأولى، والعدد الكلي لهذه الحجرات ثلاث آلاف وخمسمائة من كل من النوعين، ولقد مررت بنفسي في الحجرات العلوية ورأيتها بعيني رأسي؛ وما أقوله عنها هو نتيجة ملاحظتي الشخصية، أما الحجرات السفلية فإني أتكلم عنها حسبما سمعت؛ وذلك لأني لم أفلح في إغراء الحراس ليجعلوني أشاهدها؛ لأنها تحتوي على ضريح٥ الملك الذي بنى «اللبرنت» كما يقصون، وكذلك تحتوي على أضرحة التماسيح المقدسة، وهكذا يمكنني أن أتكلم فقط بطريق السماع عن الحجرات السفلية، أما الحجرات العلوية فقد رأيتها بعيني رأسي ووجدت أنها تفوق أي شيء آخر أنتجه الإنسان؛ وذلك لأن الممرات داخل البيوت، والمنحنيات المتنوعة المؤدية للطرق الضيقة التي تخترق الردهات، بعثت في نفسي إعجابًا لا حد له، وبخاصة عندما كنت أنتقل من الردهات إلى الحجرات، ومن الحجرات إلى قاعات العمد، ومن قاعات العمد إلى بيوت جديدة، ومن هذه ثانية إلى ردهات لم تُرَ من قبل، وكان السقف مثل الجدران كلها منحوتة بأشكال، وكانت كل ردهة محاطة بعمد مبنية من الحجر الجيري الأبيض المرصوص بعضه فوق بعض بإحكام ودقة، وفي نهاية طرف «اللبرنت» أقيم هرم يبلغ ارتفاعه نحو ٢٤٠ قدمًا وقد نقش عليه أشكال كثيرة، ويدخل فيه الإنسان بممر تحت الأرض (Herodotus, Book II, Par. 148-149).

(١٤-٢) اللبرنت كما وصفه «استرابون»

أما «استرابون» فيقول عن هذا المبنى ما يأتي: «ولدينا هنا كانت «اللبرنت» وهو عمل يضارع الأهرام، ويتصل به قبر الملك الذي بنى «اللبرنت» وبعد استئناف السير بعد المدخل الأول للقناة (بحر يوسف) على مسافة ٣٠ أو ٤٠ ستاديا؛ يصادف الإنسان رقعة من الأرض على هيئة مائدة فيها بلدة وقصر عظيم مؤلف من عدة قصور عددها يوازي عدد المقاطعات التي كانت موجودة في القطر المصري سابقًا، وكذلك يوجد عدد مساوٍ لذلك من القاعات، محاطة بعمد يلاصق بعضها بعضًا، وكلها في صف واحد وتؤلف مبنًى واحدًا كأنه جدار طويل فيه القاعات مقابلة للجدار، وأمام المداخل طرق عدة طويلة مغطاة لها ممرات متعرِّجة يوصل بعضها للبعض الآخر، حتى إنه لا يمكن لأجنبي أن يجد طريقه إلى القاعات أو يخرج منها بدون دليل.»

والأمر المدهش هو أن سقف كل من هذه المساكن يتألف من حجر واحد، وأن الطرق المسقوفة في كل امتدادها كانت مسقوفة بهذه الكيفية؛ أي بحجر واحد عظيم الحجم جدًّا يشذ عن حد المألوف دون أن يتخلل ذلك خشب أو أية مادة أخرى، وعندما كان يصعد الإنسان إلى السقف الذي لم يكن مرتفعًا ارتفاعًا عظيمًا؛ لأنه كان يتألف من طابق واحد، كان يرى الإنسان ميدان حجر مؤلف من هذه الكتل، وعندما ينزل الإنسان من السطح ثانية وينظر إلى القاعات فإنه يراها في صف واحد مرتكزة على ٢٧ عمودًا كل منها مؤلف من حجر واحد، وكذلك الجدران كانت مبنية من أحجار لا يقل حجمها عن ذلك.

وفي نهاية هذا المبنى الذي يبلغ طوله أكثر من ستاديوم٦ يوجد القبر، ويتألف من هرم مربع كل ضلع من أضلاعه أربع بلترا (٤٠٠ قدم) في الطول، وطول الهرم مماثل لذلك. والمتوفى المدفون يسمى «إماندس» «أمِنمِس» وقد أكد أنه بنى مثل هذا العدد من القصور؛ لأن تلك كانت العادة لكل المقاطعات التي كان يمثلها عظماؤها، وكان يجتمع كهنتها ومعهم ضحاياهم، لأجل أن يقدموا القربان للآلهة، وكذلك ليتشاوروا في أهم مصالحهم، وكانت على ذلك تحتل كل مقاطعة القاعة المخصصة بها (Baedeker; “Egypt”, “1929” P. 206).

(١٤-٣) اللبرنت كما وصفه «بليني»

وكتب «بليني» ما يأتي: «لقد بُني هذا البناء الهائل بمتانة لم يقوَ كرُّ العصور كلية على تخريبه، وقد ساعد على تخريبه أهل «إهناسية المدينة» الذين قاموا بتدمير بناء كانوا ينظرون إليه دائمًا بعين المقت، وإذا أردنا أن نفصل موقع هذا البناء وأجزاءه المختلفة استحال علينا ذلك؛ لأنه مقسم إلى مناطق ومديريات تسمى كل منها مقاطعة وعددها ثلاثون، لكل منها قصر هائل مخصص بها، ويحتوي بالإضافة إلى ذلك على معابد لكل آلهة مصر، وأربعين تمثالًا «لتمسيس»، ويحتوي كذلك على عدد مماثل من المحاريب، هذا فضلًا عن هرم يبلغ ارتفاعه أربعين ذراعًا، ويشغل مساحة قدرها ستة «أرورا». وإذا ما أعيا الزائر الذهاب والإياب وصل إلى معابد معقدة في الرواقات، وبعد ذلك يوجد كذلك قاعات ولائم قائمة في قمة المصاعد المنحدرة؛ هذا إلى «بوابات» ينزل منها الإنسان بوساطة سلم يبلغ عدد درجاته تسعين درجة، وعمد في الداخل مصنوعة من الصخر البروفيري، وصور آلهة وتماثيل ملوك، وصور وحوش قبيحة، ويلاحظ أن بعض القصور قد أقيم بصورة خاصة، حتى إذا حانت لحظة فتح الأبواب يتردد صوت مخيف مثل صوت الرعد في الداخل، هذا ولا بد من اختراق الجزء الأعظم من هذه المباني في ظلام حالك.»

ولا نزاع في أن سلسلة المباني هذه التي تعد أعظم بناء أقيم في مصر في كل عصور تاريخها كانت تمثل المعبد العظيم الذي كان يقيمه الفرعون لعبادته بعد وفاته، وحوله المعابد الصغيرة التي كانت تمثل كل مقاطعة وملحقاتها كما قلنا من قبل؛ فكأنه كان يريد أن يمثل حكومته وما يتبعها في مماته كما كانت تمثل مدة حياته، وقد شاهدنا ذلك في عهد «زوسر» وعهد «منكاو رع» ولكن بصورة مصغرة (راجع مصر القديمة ج١)، أما ما يظنه بعض علماء الآثار من أنها كانت مقر حكومة البلاد في هذا العهد فظن لا يرتكز على مبررات سديدة؛ إذ قال «ويجول»: «كانت بناء ضخمًا، ولا بد أن يكون مركزًا لحكومة البلاد» (Weigall, “History” Vol. II, P. 124)، والواقع أن مقر الحكم في عهد «أمنمحات الثالث» كان في مكان يُدعى «عنخ أمنمحات» بالقرب من «اللاهون» (A. Z., Vol. 59, P. 53) أما ما يقال من أن أهالي «إهناسية المدينة» قد خربوا هذا المعبد، فقد يعزى إلى ما كان بين سكانها الذين كانوا يعبدون الإله «حرشف»، وهو إله في صورة كبش، وبين عبَّاد الإله «سبك» الذي كان يُعبد في «الفيوم» من عداء، وقد أهدى للأخير معبد «اللبرنت»، ولا غرابة في ذلك فإن «سبك» كان أكبر معبودات الفيوم التي عُني بها «أمنمحات الثالث» عناية خاصة، وهذا لا يحتم أن الجهات الأخرى كانت قد اتخذته إلهًا، بل على العكس كان يُعتبر في بعض الجهات حيوانًا ضارًّا.

(١٤-٤) بقايا «اللبرنت»

على أن ما أبقته يد التخريب على يد سكان «إهناسية المدينة» قد استعمله أهل القرون الوسطى في بناء مساكنهم، وهكذا قد بقيت «اللبرنت» تستعمل بمثابة محجر حتى قضي على البقية الباقية في بناء خط حديد «الفيوم» في خلال القرن التاسع عشر، فحينما كشف «بتري» عن موقع هذا المبنى عام ١٨٨٩ لم يجد إلا أكوامًا من شظيات الأحجار، وبعض أجزاء من رقاع بعض الحجرات، هذا إلى أجزاء من صور بعض الآلهة، وقطع من الأحجار المنقوشة، وقطع من الأعمدة، وبعض بقايا المحاريب وتماثيل الملك.

(Petrie, “The Labyrinth and Gerzeh”, Pls. XXIII-XXXII; “Hawara”, Pl. XXVII; L. D. Vol. II. Pl. 140).

ولا نريد هنا أن نفند ما جاء في أقوال الكُتاب الأقدمين من خيالات وأقاصيص أخذوها عن أدلاء عصرهم؛ لأن التفسير الذي عبر عنه أكبر علماء الآثار بأنه المعبد الجنازي للفرعون «أمنمحات الثالث» كفيل بأن يقوِّض كل الخرافات والمبالغات والمتناقضات التاريخية التي وردت في كتاباتهم، ومع ذلك لا ننكر أنهم قد أدلوا ببعض ملاحظات هامة تطابق الواقع، وبخاصة ما ذكره «هرودوت» وغيره من أن عدد الحُجر قد أقيم بقصد معين، وذلك ليكون لكل مقاطعة من مقاطعات القطر حجرة أو قاعة خاصة بها لإقامة الشعائر الدينية، وهذا في الواقع التفسير الوحيد الذي وصل إلينا من الكُتاب الأقدمين عن ماهية هذا البناء.

(١٤-٥) رأي في تفسير كلمة «اللبرنت»

ويقول «ويجول»: والظاهر أن «اللبرنت» كانت تُسمى في العهد الفرعوني «أمنمحات عنخ»؛ (أي حياة أمنمحات)، وقد يستدل على ذلك بالنقش الذي عثر عليه في محاجر «وادي الحمامات» المؤرَّخ باليوم الخامس عشر من الشهر الأول الفصل الثاني من السنة التاسعة عشرة من حكم هذا الفرعون، ذاكرًا أن الحملة قد أرسلت لإحضار آثار من الحجر الأسود الجميل من «وادي الحمامات» «لأمنمحات عنخ» لأجل معبد الإله «سبك»، وهذه الآثار هي عشرة تماثيل، طول كل واحد منها خمس أذرع، كل واحد منها على عرش، وكلها قد قطعت في هذا العام (L. D. Vol. II, Pl. 138)، ويعتقد الدكتور «هول» أن هذا الاسم هو تحريف لاسم الفرعون «نيماعت رع» الذي حُرف في اليونانية إلى «لمارس» Lamaris أو «لبارس»  Labris(Journal of Hellenic Studies XXV; Hall, “Ancient History” P. 153 note 3); غير أن المؤرِّخ «ويجل» تقدم في خطوة أخرى فقال: «إن لفظة «لبرنت» تقابل لفظة «أمنمحات عنخ» مع إحلال «نيماعت» وهو الاسم الأول من أسماء التتويج لهذا الفرعون بدلًا من أمنمحات»، وبذلك أصبح اسم هذا المعبد: «نيماعت عنخ»، ومن ثم أخذ اسم «اللبرنت» (Weigall, “History”, Vol. II, P. 124).

غير أن هذا التفسير بعيد عن الفهم بعض الشيء، وإن كان من الممكن قبوله شكلًا إذا أطلقناه على مقر حكم هذا الفرعون كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

وقد ظن البعض استنادًا على أقاصيص «هرودوت» أن ملوك الأسرة السادسة والعشرين قد أقاموا هنا أبنية في هذا المكان، إما بصفة إصلاحات للمعبد القديم، أو إضافات له، غير أن البحوث والكشوف التي قامت في هذه الجهة لم تسفر عن أي عمل يبرر هذا الزعم، بل كل ما نعرفه أن «أمنمحات» قد ظل يُذكر بالفخار والاحترام في «هوارة» إلى عصور البطالمة، فقد سميت باسمه (Petrie, “Hawara”, Pl. V, 4–11) في ذلك العهد، ولا يزال كذلك جزء من هذا الإصلاح الذي قام به كل من «بطليموس» و«كليوبترا» موجودًا في مكانه الأصلي، ولا بد أن تاريخه يرجع على أقل تقدير إلى عام ١٩٣ق.م، هذه هي أهم أعمال هذا الفرعون العظيم من الإصلاحات الهامة لبلاده.

(١٥) احتفال «أمنمحات الثالث» بعيد «سد»

وقد احتفل هذا الفرعون العظيم بعيد «سد» وقد أقام هذا الاحتفال في العام الواحد والثلاثين من حكمه، وهذا ظاهر مما جاء في لوحة محفوظة الآن بمتحف بوستون بالولايات المتحدة واللوحة لمحارب اسمه «سعنخ» (Weigall, “History” Vol. 11, P. 132) وهي تنوِّه بهذا العيد، ويستدل مما جاء في ورقة «تورين» بعد إصلاحها أن هذا الفرعون العظيم حكم البلاد نحو تسع وأربعين سنة، ومات في خلال الخمسين من توليته العرش، غير أن أحدث تاريخ له وجد على الآثار هو السنة السادسة والأربعون، وقد جاء ذكر ذلك في ورقة «كاهون»؛ (Griffith, “Kahun Papyri”, XIV. 9.) والظاهر أنه أشرك ابنه «أمنمحات الرابع» في حكم البلاد في أواخر أيامه، فقد وجد اسماهما جنبًا لجنب في نقش، وقد ظهر اسمه واسم «أمنمحات الرابع» مرات عدة على جدران معبد «كوم ماضي» الذي يُنسب لهما معًا كما سيجيء بعد. (Prisse, “Monuments Egyptiens” P. 9).

(١٦) مباني «أمنمحات الثالث» في معبد جدِّة أمنمحات الأول في الفيوم

وتدل الكشوف الحديثة على أن «أمنمحات الثالث» قد أقام حجرة واسعة في المعبد الذي يحتمل أن «أمنمحات الأول» قد أقامه في مدينة «شدت» (الفيوم)؛ إذ عثر الأستاذ «لبيب حبشي» كبير مفتشي الوجه البحري الآن على بقايا أعمدة في «كيمان فارس» اتضح أنها كانت لقاعة أقامها هذا الفرعون، وقد وجد عليها نقوشًا قال عنها: إن أهمية هذا المتن تنحصر في أنه يظهر أمامنا النشاط الذي أظهره «أمنمحات الثالث» لتزيين هذه المدينة (الفيوم) التي شيدها جدُّه «أمنمحات الأول»، فنعلم أن «أمنمحات الثالث» قد أمر بإقامة قاعة واسعة أعمدتها ورقعتها من الجرانيت الوردي، وأبوابها من الذهب النضار، وهذه القاعة كانت قد أضيفت إلى معبد يحتمل جدًّا أن بانيه هو «أمنمحات الأول» (A. S. Vol. XXXVII, PP. 85–95).

(١٧) أخلاقه من فن عصره

fig31
شكل ٤: (أ) أمنمحات الثالث في مقتبل عمره. (ب) أمنمحات الثالث في كهولته. (ﺟ) رأس لأمنمحات الثالث من حجر الثعبان (في برلين) يمثل الشيخوخة المبكرة. (د) «أمنمحات الثالث» في صورة بو الهول. (ﻫ) تمثال «أمنمحات الثالث» من حجر الأبسيديان يمثله في شيخوخته المتقدمة. (و) «تمثال أمنمحات الثالث» من العرابة في شيخوخته الفانية.

وإذا كان الإنسان يمكنه أن يقرأ أخلاق الرجال من صورهم، فإن لدينا سلسلة صور لهذا الفرعون العظيم تحدِّثنا بوضوح تام عما وراء تلك الوجوه من صفات وسجايا، والواقع أنها سلسلة قل أن يوجد مثلها في الفن المصري لما تشف عنه من صادق التعبير الذي تتمثل فيه الطبيعة وتتجلى بكل معانيها، ولا غرابة في ذلك فإن الفن المصري قد بلغ في عصره لمدِّة قصيرة درجة من محاكاة الطبيعة الصافية، لم يتسنَّ له أن يصلها ثانية إلا في عهد «إخناتون»، وقد بلغ من القوة مرتبة لم تتأتَّ له بعد. وقد بدأ التقدم الفني في هذا العصر على يد حفاري الفرعون «نب حبت رع منتو حتب الثاني»، واستمر في طريقه نحو الكمال في عهد ملوك الأسرة الثانية عشرة، التي يمكن أن يقال عنها إنه في عهدها وصل الفن المصري إلى أوجه، فقد كان ذوق المفتنين في الأسرة الثانية عشرة يدعو إلى الإعجاب؛ فهم سواسية مع زملائهم «اليابانيين» في حاسة التنسيق والرقة، كما أنهم يحاكون «اليونان» في حاسة التوازن والشبه، ولا نزاع في أن أحسن ما وصلت إليه يد المفتن في الأسرة الثامنة عشرة يعد سوقيًّا، إذا ما قُرن بما أخرجته يد مفتن الأسرة الثانية عشرة، فمقابر «بني حسن» تعد وحيًا جديدًا للذين قد اقتبسوا معلوماتهم من المباني الضخمة المنكرة القائمة في «الكرنك» أو «أبو سمبل»؛ إذ ليس شيء يعادل ردهة مقبرة «أميني» المتناسبة الأجزاء الرائعة التركيب بما فيها من أعمدة جميلة في كل ما كشف عنه منحوتًا في الصخور المصرية في الأزمنة التي توالت، هذا إلى دقة محاكاة الطبيعة في الجم الغفير من جماعات المصارعين الذين رسموا على الجدران حول المدخل المؤدي إلى الحجرة الداخلية، وهي لا يضارعها في جمالها إلا رسوم الأواني الإغريقية في أزهر عهدها.

على أن مقابر هذا العصر الأخرى لا تقل عنها في روعتها وجمالها، وكذلك حرفه الصغيرة يظهر فيها التفوق في الدقة التي لا تجارَى، فالقطع الفنية الصغيرة من العاج والجعارين والصياغة لا مثيل لها، وبخاصة الصدريات الذهبية والمجوهرات الأخرى المطعمة بالأحجار الجميلة التي كُشف عنها في عهد «سنوسرت الثالث» وسلفه من ملوك هذه الأسرة، وهي التي كشف عنها في «دهشور» كما أسلفنا، ولم نجد ما يضارعها في الأزمان التالية من عهود الفراعنة.

أما صور الملوك المنقوشة على الجدران وتماثيلهم المنحوتة في الأحجار الصلبة فإنه رغم تصوير أجسامهم بهيئة رسمية، وتمثيلها حسب قواعد مرعية ثابتة منذ عهد بناة الأهرام، فإن وجوههم تدل على قوة التمثيل بدرجة لم تضارَع حتى في عهد الأسرة الرابعة. ولا يمكن للمرء أن يناقش صدق تصوير هذه الوجوه بغيرها، فالمثَّال الذي صوَّر الملك «منتو حتب» في الدير البحري قد وضع المثل الأول، ثم حذا حذوه أولئك المثالون الذين أبرزوا لنا وجوه «سنوسرت الأول» في «قفط» و«سنوسرت الثالث» في سلسلة من تماثيله التي وجدت في «الدير البحري» (Naville, Deir el Bahari XI Dyn. Vol. 11, Pl. XIX, Ch. 111) ثم فاقوا المثل الذي احتذوه. ومجموعة صور للفرعون «سنوسرت الثالث» العظيم التي عثر عليها في الدير البحري تمثله في أدوار مختلفة من حياته منذ شبابه إلى شيخوخته، ولدينا رأسان لهذا الفرعون من الجرانيت الأحمر من «العرابة» و«الكرنك» (Petrie “Abydos” Pl. LV. PP. 6, 7) يمثلانه في شيخوخته بوجه يسترعي النظر في كل هذه الصور، لما فيه من تقاطيع تدل على الحياة، وما ينطوي عليه من تمثيل تاريخي لا يحتاج إلى إيضاح، ولكنه مع ذلك لا يصل إلى مرتبة مثل محيا «أمنمحات الثالث» الذي كان يمتاز بتقاسيم خاصة؛ إذ يمكن الإنسان كما أسلفنا أن يقرأ أخلاقه من سلسلة صوره التي وصلتنا (Weigall, “Ancient Egyptian works of Art” PP. 95–103).
فنجد أولًا تمثالًا جميلًا في متحف القاهرة يمثله وهو شاب في مقتبل العمر (انظر شكل ٤أ)؛ وفي مجموعة «أسكار رفائيل» (بلندن) يوجد رأس صغير من حجر الأبسيديان يمثله في كهولته حينما بدت ملامح فمه وذقنه يظهران بعض الحزم والصلابة (انظر شكل ٤ب) وكذلك حينما يلوح في عينيه التفكير. أما الدور الثاني من حياته فيمثله رأس صغير نُحت في حجر الثعبان وهو موجود الآن في متحف برلين، فيشاهد فيه أن جفن العين قد أصبح أثقل من ذي قبل، ويُرى في تقسيم وجهه نظرة الرجل الذي أنهكته الهموم (انظر شكل ٤ﺟ)، وكذلك التمثال الصغير الموجود الآن بمتحف الهرمتاج في «بتروغراد» فإنه يمثله في نفس هذا الدور من حياته، ومن المحتمل أن تمثال «بو الهول» الفاخر الذي عُثر عليه في «تانيس» والمحفوظ الآن بمتحف القاهرة ينتسب إلى هذا الطور من حياته أيضًا، (انظر شكل ٤د)؛ ثم لدينا تمثال كامل في متحف برلين يمثله لنا في صورة رجل ربعة ينم عن وجه عبوس. كما أن تمثال «الكرنك» المحفوظ الآن بمتحف القاهرة يظهره في قصره المعهود، في حين أن وجهه هنا أخذت ترتسم عليه ملامح الكآبة، ويشاهد فيه هذه النظرة التي تنم عن الحزن السافر؛ وفي تمثاله الجميل المنحوت في حجر الأبسيديان في مجموعة «ماك بريجور» يلاحظ فيه أن الجفنين قد ثقلا، وأن تجاعيد غائرة قد خطت تحت عينيه الحزينتين، هذا إلى فم جامد، ووجه قد طغى عليه الشحوب وغمرته الهموم (انظر شكل ٤ﻫ)، وأخيرًا يوجد له تمثال من الجرانيت لم يبقَ منه إلا الرأس، عثر عليه «بتري» في «العرابة المدفونة»، وهو يضع أمامنا آخر مرحلة من مراحل حياة هذا الفرعون، حيث نشاهده رجلًا مسنًّا ذا عينين غائرتين في محجريهما، وملامحهما، ارتسم عليها حزن عميق يعبر عن دنوِّ الأجل ونهاية المطاف في هذا العالم الذي ملأه مجدًا وفخارًا (انظر شكل ٤و)، ومن هذه التماثيل يظهر أمامنا حقيقتان: أولاهما هي أن هذا الفرعون على ما يظهر كان غير متمسك بالتقاليد، فلم يمانع في أن يصوره مثالوه كما هو على حقيقته لا كما كان يحتمه العرف، وهو أن يظهر الفرعون صورة ناطقة تُرسم على فمه ابتسامة هادئة وجسمًا جامدًا لا حركة فيه ولا حياة، والواقع أنه فعل ما لم يفعله غيره من أجداده على قدر ما وصلت إليه معلوماتنا؛ إذ قد سمح لرعاياه أن يروه على حقيقته، شاحب المحيا مظلمه، دون أن يرتسم على وجهه تلك الابتسامة الهادئة المتغطرسة التي كان يُظن أنها رمز الملكية وعنوانها.

والحقيقة الثانية يظهر أنه استخدم مثَّالين أحذق من أولئك الذين عُرفوا من قبل، ولا نزاع في أن رأس مجموعة «ماك جريجور» وأحسن تماثيل «بو الهول» التي وجدت في «تانيس» تعدُّ قطعًا فنية من الطراز الأول في الجودة، وتضارع في عظمتها أي صورة فنية في أي عصر، وفي أي بلد.

والباحث في صور ملوك الأسرة الثانية عشرة وما انطوت عليه من حزن وآلام وبأس وقنوط وجرأة ورزانة، يستدل على أنها كانت في الواقع تمثل حالة العصر الذي وجدت فيه؛ إذ كان كله عصرًا مملوءًا بالريبة والشكوك إلى حد أن ذلك الشعور قد انعكست ظلاله على أعظم أنواع الفن في ذلك العصر، وأعني به فن النحت والتمثيل، وبخاصة في ملوكهم وعلى رأسهم «أمنمحات الثالث» الذي سار بالبلاد إلى القمة في كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية، والزراعية، والدينية، والفنية.

(١٨) تأليه الفرعون «أمنمحات الثالث»

لقد كان «أمنمحات الثالث» من الملوك المصريين الذين بقي اسمهم معروفًا عند الكُتاب الإغريق، فقد كان يُذكر في البردي الإغريقي باسم «لامارس» … إلخ (Mares, Labares, Lamares).
وهذه التسمية تحريف للقَبِه «نيماعت رع» كما ذكرنا آنفًا، وتدل شواهد الأحوال على أن «أمنمحات» أصبح ضمن الفراعنة الذين كانوا موضع تقديس بعد موتهم، بل انتهى الأمر بوضعهم في مصاف الآلهة، واستمرت هذه العبادة إلى العصور المتأخرة من تاريخ مصر كما سنرى، وقد كان «فلكن»٧ أول من وجد اسم «بورامارس» تحريف «نيماعت رع» باسم «أمنمحات»، وقد خالجه الشك في هذا، ولكن ناصره في رأيه كثير من العلماء، وبقيت الحال كذلك إلى أن ظهرت نتائج الحفائر التي قام بها «فوليا نو» في مدينة «كوم ماضي» من أعمال «الفيوم»، فجاءت بالبرهان القاطع لرأي «فلكن» وذلك بما كشف عنه في جزء المعبد الذي أقيم في العهد الإغريقي الروماني.٨
(Vogliano, Primo Rapporto degli scavi … nella Zona di Madinet Madi “Milano, 1936”; secondo Rapporto Milano, 1937).
ولم تدل نتائج هذه الحفائر على أن «بورامارس» Porramarés كان موحدًا مع «أمنمحات الثالث» وحسب، بل على أن «إزيدور» كان يعلم تمام العلم بتوحيد الاسمين، وقد عثر على لوحة لا نعلم مصدرها، وهي تدل بوضوح على بقاء عبادة هذا الفرعون في العهود المتأخرة وهي تحمل اسمه «نيماعت رع» ويلاحظ أن «أمنمحات» كان يوحد على هذه اللوحة مع الإله «سبك» وهو إله الفيوم، وإذن فلا غرابة في هذا التوحيد؛ إذ قد وجد فعلًا أن «أمنمحات» متحد فعلًا مع «سبك» في هذه اللوحة، وكذلك في النقوش، هذا فضلًا عن أن الإله «سبك» كان في عهد «أمنمحات الثالث» يحتل مكانة عظيمة، وبخاصة في نقوش معبد مدينة «كوم ماضي»؛ إذ نجد في الواقع اسمه أبرز من اسم الإلهة «رننوتت» التي أقيم من أجلها هذا المعبد، وها نحن أولاء في نهاية المطاف نرى أن «أمنمحات» الرجل العظيم يفرض على الشعب احترامه وتعظيمه لا بالقوة والعنف، بل بما خلفه من عظيم الآثار الباقية التي أفادت البلاد، وخطت بها إلى الأمام لدرجة أنهم قد وحدوه مع أعظم الآلهة في عصرهم، بل تخطوا ذلك فحذفوا كلية اسم الإله الأصلي، ونقشوا مكانه اسم الملك الذي خلق لهم الإقليم الذي فيه يعبد خلقًا جديدًا. ولا غرابة في ذلك فإن «أمنمحات الثالث» يعد بحق محيي إقليم الفيوم ومغدق نعمة مياه الفيضان على أرض الكنانة.
١  هذا هو الرأي الذي أورده الأستاذ «أرمان» غير أن هناك رأيًا آخر يقول: إنه أحد ملوك الأسرة الثالثة عشرة (راجع (A. Z. Vol. 33 (1895) P.P. 142. 143; Weill, “La Fin du Moyen. Empire Egyptien”, P. 477)).
٢  Gardiner and Peet, “Sinai”, Pls. 18, 33, 36; Breasted, A. R. Vol. I, Par. 728.
٣  راجع معنى هذا اللقب في البحث الذي كتبه «بيبر» في: (Melanges Maspero, I, P. 180).
٤  راجع كتاب الأدب المصري القديم ج١، ص٢١٧ المؤلف.
٥  لقد كان «أمنمحات الثالث» موحدًا مع الإله «سبك» الذي يمثل صورة تمساح في العهد الإغريقي الروماني كما سيجيء بعد.
٦  ستاديوم يساوي ٥٨٢ قدمًا.
٧  Gott. Gel. Anz. (1895) PP. 157; 158; A. Z. Vol. XLIII, (1906) P. 84.
٨  A. S. Vol. XL, P. 553.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤