فن نحت التماثيل (تماثيل الملوك)

يمتاز فن نحت التماثيل في هذا العصر بما يظهره المثَّال من دقة التعبير في الحجرات عن العواطف والمشاعر والوجدانات، غير أن هذا الفن لا يتبع قاعدة معينة ثابتة؛ ولذلك لا نجد له وحدة ولا حدودًا معينة يسير بمقتضاها.

وكذلك يظهر أمامنا بوضوح في هذا العصر أولًا التناقض في فن نحت تماثيل الأفراد، وتماثيل الفراعنة، وحتى في نحت تماثيل الملوك أنفسهم فيما بينهم، فنجد اختلافًا كبيرًا في الفكرة والإخراج، فنلاحظ منها مثلًا مجموعة مرتبطة في كيفية نحتها ارتباطًا واضحًا بتقاليد النحت في الدولة القديمة، وبخاصة في بداية هذه الأسرة، ونجد أن تماثيل الفراعنة كانت تحاكي طراز تماثيل الأسرة السادسة المهذبة؛ وهي التي تنم عن رقة وليونة تعبران عن ذلك المجد الذي أصبح في عالم الفناء. فمثلًا يلفت النظر تمثال «سنوسرت الأول» المنحوت١ في الحجر الجيري الأبيض بما يعبر عنه تقاسميه من طراوة وإبهام وقلة الشخصية، وغير أن محياه في الوقت نفسه يعبر عن طراز الحاكم الوقور اللين العريكة بما ترتسم على وجهه من ابتسامة يُرى من خلفها «الإله الطيب».

وكذلك تمثال الملك «حور» (انظر [أمنمحات الثالث ١٨٤٩–١٨٠١ق.م]) الممشوق القوام اللطيف القد، فإنه مع ما فيه من جمال لا ينجذب إليه النظر لما ينقص تقاسيم محياه من قوَّة التعبير التي تدل على الشخصية، وكذلك يعوزه ذلك الروح الذي تنبعث من وحي الفن الرفيع؛ ولذلك يلاحظ الإنسان أن هذه التماثيل تنسب إلى تقليد فني خاص لم يعد ينطق بما تعبر عنه هذه الحياة الدنيا؛ ولذلك يظن البعض أن هذه التماثيل قد نُحتت لتوضع مع المُتوفَّى في عالم الآخرة. ولا غرابة إذا وجدناها موضوعة في المعبد الجنازي، وهذا ما جعل صناعة نحتها تقليدية. والواقع أنها نحتت لتكون بمثابة عدَّة للمتوفى في عالم الآخرة، ومن ثم يمكننا أن نحكم أن طراز نحتها قد انحدر إلينا من عهد الدولة القديمة عن طريق التقليد المحض، وذلك كان من الصعب أولًا أن نفسر وجودها جنبًا لجنب مع تماثيل عصر الدولة الوسطى التي أُخرجت للناس في صور جديدة ممثلة لروح العصر والحياة اللتين وجدت فيهما؛ إذ من جهة أخرى نجد أنه تنبعث من تمثال الملك «منتو حتب الثاني» روح آخر يمثل شخصية الرجل الذي أعاد لمصر وحدتها. فنرى في تمثاله الجالس ملامح تدل على صلابة في الخلق، وسيطرة قاهرة، وعزم نافذ؛ مما جعله يعتبر من أحسن القطع الفنية التي أنتجتها يد النحات في الفن المصري المبكر لهذه الدولة، وتمثيل الفرعون في الحجر بما يفوق الوصف البشري في عهد الدولة الوسطى كان نسيج وحده في فن نحت التماثيل؛ وذلك لأن الطراز الخاص في نحت تماثيل الملوك في هذا العصر كان شيئًا آخر بالمرة، فلأول مرة تبرز لنا شخصية الفرعون بعد تحفظه المتناهي الذي ظل متبعًا عدَّة قرون، فنشاهد في صوره الجديدة أنه عارٍ عن كل تصنُّع، وأنه أصبح من أهل هذه الأرض، وصار لزامًا عليه أن يحارب، وكذلك أصبح في مقدوره أن يحس ويشعر في داخلية نفسه، كما أنه صار يتألم.

وكل هذه الوجدانات كان قد أهملها تمامًا المثَّال المصري عند تصويره تقاسيم محيا الفرعون حتى هذا العصر الذي نحن بصدده. حقًّا إن تماثيل ملوك الدولة القديمة تنم ملامحها عن شخصيات قوية، غير أنها في الوقت نفسه لا تدعنا ننظر إليها بعمق؛، حتى إننا لا نشاهد منها إلا ما توحي به من هيبة في الوقت الذي نتطلع فيه في شغف إلى معرفة تجاربهم، وما تنطوي عليه حياتهم من مشاعر. أما الآن فإن المثَّال قد جعل الحاكم يقف أمامنا كأنه واحد منَّا لدرجة أن أحد أدباء هذا العصر وهو «خيتي» بن «دواوق» قد جعل «أمنمحات الأول» لا يخجل من أن يلقن تحذيراته وتجاربه لابنه «سنوسرت الأول» عن تلك المؤامرة الفظيعة التي أدت إلى اغتيال حياته، فهذا الفرعون عندما قص علينا فجيعته لم يكن في نظره هذا القول مخزيًا ولا مزريًا، عندما نزل من عليائه الإلهية التي كان لا يمكن الدنو منها، وأخذ بقسطه الوافر مع بني البشر من الهموم، والمصائب التي يعانونها (راجع [أمنمحات الأول ٢٠٠٠–١٩٧٠ق.م] … إلخ).

وفي الحق إنه لمن الصعب أن يوازن الإنسان موازنة صادقة بين تماثيل ملوك الدولة الوسطى وتماثيل ملوك الدولة القديمة، ثم يستخلص من هذه الموازنة نتيجة ذات قيمة؛ وذلك لأن قطع النحت الفنية في عهد الدولة القديمة قد أخرجتها يد الفنان على أساس فكرة خاصة معينة تختلف عن الفكرة التي كانت شائعة في عهد الدولة الوسطى؛ فإن الفن في عهد الدولة الوسطى كان له مثل أعلى آخر في تصوير الملوك، وإذا كان ملوك هذه الأسرة لم يصلوا إلى القوة العلوية التي وصل إليها ملوك الأسرتين الثالثة والرابعة — إذ كانت سلطتهم قد انكمشت — فإنه مع ذلك تنم تماثيل الدولة الوسطى عن تقاسيم أقوى تمتاز بأنها تعبر عن قوة بشرية وتنبعث منها إرادة قدَّت من حديد.

على أنه مما يسترعي النظر في هذا العصر شيوع استعمال التماثيل التي تفوق الحجم البشري الطبعي، وهذا الطراز من التماثيل لم يكن معروفًا من بداية الدولة القديمة؛ إذ لم نعثر منها في هذا العهد حتى الآن إلا على تمثال للفرعون «وسركاف». ولا نزاع في أن الفراعنة قد استعملوا هذا الطراز من التماثيل ليساعد على قوة التأثير، وكثيرًا ما تكون التماثيل التي من هذا النوع ضمن القطع الفنية، ولا يمكننا أن نجزم بأن تماثيل الملوك في الدولة القديمة كانت وقفًا على المعابد الجنازية حيث كانت محجوبة عن أعين الناس، وأنها نُحتت لتجعل روح الملك المُتوفَّى تبقى حية، ولكنا نعرف على وجه التحقيق أن التماثيل الضخمة كانت قبل كل شيء تقام كذلك في عهد الدولة الوسطى في المعابد وغيرها، ولا بد أن زائر هذه المعابد كان يرى قوة الفرعون وعظمته متقمصة في تماثيله هناك؛ إذ كان هو الذي وضع في يديه مصير البلاد، وهذا ينطبق على «سنوسرت الثالث» وتمثاله الذي نصبه عن الحدود الجنوبية لدولته عند «سمنة» ليكون رمزًا لقوته ومهدِّدًا للعدو حتى لا يجسر على تخطى الحدود أو انتهاك حرمتها. أما تمثيل الفرعون في صورة أسد فقد اتخذت شكلًا جديدًا، ويشاهد ذلك في تماثيل «بو الهول» الذائعة الصيت التي عُثر عليها في «تانيس»، وتمثل كل منها وجه الفرعون «أمنمحات الثالث». والواقع أن هذه التماثيل قد نُحتت لتصوِّر أمامنا بكل شدة بأس الحيوان الملكي المفترس وبطشه، فهذا الوجه المفترس الذي تحيط به معرفة هائلة وملامح غاية في الشجاعة وعضلات مفتولة لا يمثل لنا الفرعون بجسم أسد، بل يمثل الأسد بوجه إنسان، فالفرعون إذن عدو مخيف رهيب، يقبض على عدوه ويمزقه إربًا إربًا، (انظر شكل ٤د).

تماثيل الأفراد

أما تماثيل الأفراد فإن السائد في جودة فنها لا يتعدى الحد المتوسط في الإتقان، ويلاحظ في صناعة هذا النوع من التماثيل أنها متصلة بصناعة تماثيل الدولة القديمة، ومنتسبة إليها أيضًا، وهي تلك التماثيل التي كانت قد نُحتت بخاصة لتوضع مع المُتوفَّى في مقبرته. ومع ذلك فقد عثرنا على بعض التماثيل في عهد الأسرة الحادية عشرة تكاد تشبه في خشونتها فن تمثال «منتو حتب»، بل وغلظته أيضًا؛ غير أن هذا النوع من النحت قد انمحى فيما بعد تمامًا، وكذلك نجد بجانب كثير من التماثيل التي نُحتت في الحجر نحتًا مختصرًا لا تظهر فيه التفاصيل، تماثيل أخرى قد أُخرجت إخراجًا فنيًّا مختارًا، وتعد فريدة في نوعها تمامًا، غير أنها لا تُقاس في تعبيرها عن تقاسيم الوجه بتماثيل الملوك؛ لأنها بدل من أن تُنحت بالحجم الطبعي، وتجعل مرتبطة بالحياة الحقيقية، قد اجتهد المثَّال في أن يجعلها تتخطى الحقيقة، وتسير بعيدًا عن تقلبات حياتها الدنيوية، ونرى ذلك التناقض قد انتُهج حتى في تمثيل صور الملكات، فالنحات قد نحت للملكة جسمًا ممشوق القوام فتِي الطلعة وفي الوقت نفسه قد حلى رأسها بشعر الإلهة «حتحور» الغزير، على أن ملامح وجهها تنم عن شخصيتها المحضة، وإن كان لا يظهر بها التقاسيم الدقيقة الجميلة كإظهار عظام الوجه مما يبرز تفاصيله.

ومع ذلك فإن ما مثل أمامنا ملكات ولَسن نساء عابرات. وعلى النقيض من ذلك؛ قد ظهر بعض تماثيل ساحرة لكبار الموظفين في هذا العصر؛ إذ يندر في الفن المصري أن يرى الإنسان موظفًا مصريًّا عظيمًا يشعر بشخصيته ورفعة مركزه واحترام مكانته منحوتًا في الحجر مثل تمثال «خرتي حتب»٢ الجالس، وهو المحفوظ الآن في متحف برلين، أو مثل تمثال «سبك امساف»٣ الواقف، وهو من طرائف متحف فينا؛ على أن بحثنا وراء النماذج الروحية في التماثيل لا ينعكس في تقاسيم هذه التماثيل، بما توحي به من وجاهة واحترام، كما نشاهد في تماثيل عظماء الدولة القديمة، بل بما يرتسم على محياها من الوداعة ونبذ الكبرياء ظهريًّا، وليس من الصعب أن نحلل نفسيًّا الفرق بين فكرة نحت تماثيل الملوك، ونحت تماثيل عظماء الدولة الوسطى. ويتلخص ذلك في أن الفرعون كان يعلم أنه لا يزال يحتفظ بالكثير من هيبته وجلالته الموروثة، على الرغم من أنه أخذ يظهر بمظهر البشر، في حين أن الموظف الكبير كان لا يزال في حاجة إلى الظهور بمظهر محاط بالاحترام والوقار؛ ولذلك كان لا بد من إبراز صورته بما يشعر بمركزه الاجتماعي بين مرءوسيه، وفي أعين عامة الشعب.

ومما تجدر ملاحظته في هذا الصدد أنه يوجد بين تماثيل الدولة الوسطى أحيانًا طراز ابتُدع في هذا العهد لأول مرة؛ وذلك مثل التماثيل الجالسة مرتدية ثوبًا فضفاضًا يلف كل الجسم، وبجانب هذه تشاهد كذلك تماثيل واقفة مرتدية قميصًا بارزًا، وأخرى جالسة على الأرض أو راكعة وأطرافها مغطاة بثوب طويل.

تماثيل العمال

أما التماثيل المصنوعة من الخشب، وهي التي كانت توضع في المقابر لتقوم مقام الخباز والطحان والعجان والجندي والراعي، فقد عثر منها على جيش بأكمله، ولكن لا بد من تمييزها عن التماثيل الفنية؛ لأن الأولى كانت على وجه عام تصنع بكميات وفيرة وتورد حسب ما يطلب منها.

١  أما تمثاله الضخم الذي عثر عليه في «تانيس» فتدل ملامحه على العنف والصلابة في الأخلاق؛ ولذلك يعتقد أنه قد كانت توجد مدرسة خاصة للنحت في «تانيس» بعيدة في فنها عن المدرسة القديمة (A. S., Vol. XXXVII, P. 81, Pl. I).
٢  Steindorff, “Kunst der Agypter”, P. 295.
٣  Ibid.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤