الفصل الحادي عشر

مدن القوافل

أكثر غوامض التاريخ يخلقها المؤرخون؛ لأنهم ينظرون إلى التاريخ كأنه حسبة أرقام لإحصاء السنين والأيام، أو كأنه أطلس مواقع ومعالم، أو كأنه سجل حوادث وأنباء، ولو أنهم واجهوه على قاعدة واحدة، وهي أنه وصف نفوس إنسانية، وأن حوادثه وأنباءه ومعالمه ومواقعه، وكل ما يحسب فيه من السنين والأيام إنما هو تبع لوصف النفوس الإنسانية، لما بقي فيه غموض، أو بقي فيه الغموض الذي يغمض علينا لسبب مجهول.

وقد غمض على المؤرخين شيء كثير من أحوال الرسالات النبوية؛ لأنهم لم يرقبوا حالة مشتركة في جميع هذه الرسالات، وهي الحالة النفسية التي تكون عليها الأمم في طور واحد، وذلك هو طورها حيث تتصل البداوة والحضارة، فلم تتهيأ النفوس للرسالة النبوية في حالة قط كما تهيأت لها وهي قائمة بين البداوة والحضارة، ولم يعرف التاريخ رسالة نبوية في الحضارة دون غيرها، أو في الصحراء المنعزلة دون غيرها، وإنما عُرفت هذه الرسالات على الدوام في مدينة حولها صحراء، أو في صحراء على مقربة من مدينة؛ ولهذا كانت مدن القوافل وما في حكمها أحق الأماكن بالدراسة من جانبها هذا الذي يرشحها لقيام الدعوات الدينية.

لِمَ اختصَّ الله الأمم السامية بالرسالات النبوية؟ لِمَ لَمْ تظهر هذه الرسالات في الهند أو في الصين أو في القارة الأوروبية؟ لِمَ كانت هذه الرسالات هي الدور الذي تهيأت له أمة واحدة في وسط العالم؛ أمة وسطًا كما نعتها القرآن الكريم؟

تلك أسئلة غامضة تظل في غموضها حتى ننظر في الأحوال النفسية التي يكون عليها الإنسان بين الحضارة والبداوة، ولا تهيئه لها الحضارة على انفراد، ولا البداوة على انفراد، بل لا بد فيها من التقاء الشعورين، وامتزاج المجتمعين، ولم يحدث قط أنهما التقيا وامتزجا على هذا النحو في غير البلاد التي قامت عليها الحضارات الأولى، وظلت زمنًا طويلًا جامعة بين الصحراء والمدينة والأقطار المتحضرة، كأنها خُلقت للنهوض بهذه الأمانة، ثم نهضت بها ونشرتها في جميع أنحاء العالم، فهي دورها الأكبر بين سائر الأدوار التي توزعتها الأمم والعصور.

لماذا كانت مدن القوافل أو المدن القريبة من الصحراء أصلح البلاد للرسالة النبوية؟

إنها صلحت لذلك لأن الأحوال النفسية التي تتوافر فيها لا تتوافر في حضارة العمران المتصل، ولا تتوافر في الصحراء المنعزلة، ولا تتم أسبابها الحسنة ولا أسبابها السيئة في بيئة أخرى كما تتم في المدينة حولها الصحراء، فأما القطر الذي يتصل عليه العمران فهو مختلف من هذه الناحية، وأما الصحراء التي تنعزل عن العمران فهي من هذه الناحية مختلفة كذلك. وسنرى أوجه هذا الاختلاف في عرض موجز لهذين الطرفين المتقابلين، ثم نعود إلى الوسط الذي يلتقيان لديه.

إن القطر الذي تتصل فيه الحضارة، وتتلاحق فيه مظاهر العمران يعطينا المشترعين والكهَّان، ولا يعطينا الأنبياء المرسلين أو الرسل.

ففي هذا القطر يسري العُرف، وترتقي العادات الاجتماعية، ويستقر نظام القانون والمعاملة، وقد يتقدم أهله في إدراك العقائد الدينية من طريق تقدم المجتمع، وتقدم الثقافة ومعاهد التعليم.

بل هو قد يتقدم قبل البداوة إلى إدراك عقيدة الوحدانية؛ لأن الدول الكبار تنشأ في مبدأ أمرها من قبيلة تتسلط على قبائل أصغر منها، ثم يجتمع من القبائل شعب كبير يتسلط على شعوب أصغر منه، فتقوم دولة الحضارة من امتزاج هذه القبائل والشعوب، وتتقدم إلى الإيمان بالوحدانية كلما اشتركت في عبادة واحدة يفرضها الشعب الذي سادت عبادته على مختلف العبادات.

فالقبيلة القوية تفرض على القبائل الصغيرة أن تطيع ربها، كما تفرض عليها أن تطيع أميرها، ثم يجتمع من هذه القبائل شعب كبير يفرض على الشعوب التي دخلت في حوزته أن تطيع ربه، وأن تدين بديانته، ولا تزال كذلك حتى يتوحدَّ لها رب معبود تدين له جميعًا، وتؤمن بوحدانيته، وتؤمن بسيادته على جميع الأرباب زمنًا حتى يبطل التعدد، ويستقر التوحيد.

إن دولة الحضارة التي تقوم على هذه الأسس قد تسبق البداوة إلى الإيمان بالوحدانية، ولكن مسألة الدين فيها تئول إلى سلطان الكهان، وهم أعداء الأنبياء، وعداوتهم لهم تتكشف للعيان حتى في الأمم التي تعودت أن تتلقى الرسالات النبوية منذ عهد بعيد.

فلما توطد سلطان الكهنوت في بني إسرائيل، خرج من الكهان أنفسهم من يتنبأ وينكر دعوة النبوة على غير أصحاب الكهانة، وقال زكريا صاحب آخر كتاب — قبل الأخير — من كتب العهد القديم:

… يقول رب الجنود: إني أقطع أسماء الأصنام من الأرض فلا تُذكر بعدُ، وأزيل الأنبياء أيضًا والروح النجس من الأرض، ويكون إذا تنبأ أحد بعدُ أن أباه وأمه — والديه — يقولان له: لا تعيش لأنك تكلمت بالكذب باسم الرب، فيطعنه أبوه وأمه — والداه — عندما يتنبأ، ولا يلبسون ثوب شعر لأجل الغش، بل يقول: لست أنا نبيًّا، أنا إنسان فالح الأرض؛ لأن إنسانًا اقتناني من صباي، فيقول له: ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول: هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي.

ويحدث أحيانًا أن يتصدى الكاهن للنبي حماية لعرش الملك، كما فعل الكاهن أمصيا حين وبخ النبي عاموس وأنذره بالرحيل من بيت إيل: «فأرسل أمصيا كاهن بيت إيل إلى يربعام ملك إسرائيل قائلًا: قد فتن عليك عاموس في وسط بيت إسرائيل، لا تقدر الأرض أن تطيق كل أقواله؛ لأنه هكذا قال عاموس: يموت يربعام بالسيف ويسبى إسرائيل عن أرضه، فقال أمصيا لعاموس: أيها الرائي، اذهب، اهرب إلى أرض يهوذا، وكُل هناك خبزًا، وهناك تنبَّأ، وأما بيت إيل فلا تعد تتنبَّأ فيها بعدُ؛ لأنها مقدس الملك، وبيت الملك.

فأجاب عاموس وقال لأمصيا: لست أنا نبيًّا ولا أنا ابن نبي، بل أنا راعٍ وجاني جميزة، فأخذني الرب من وراء الضأن، وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل.»

وقد ينقسم الكهان والأنبياء إلى معسكرين عند الاختلاف على ولاية العهد، كما حدث عندما وثب «أدونيا» بن داود لاغتصاب العرش … «وأعد لنفسه عجلاتٍ وفرسانًا وخمسين رجلًا يجرون أمامه، ولم يغضبه أبوه قط قائلًا: لِمَ فعلت هذا؟ وهو أيضًا جميل الصورة جدًّا، وكان كلامه مع أبياثار الكاهن، وأما ناثان النبي فلم يدعه.»

وحدث في أوقات شتى أن مساومة السياسة وصلت إلى الإيمان بالإله المختار، فترك الملوك عبادته وعبدوا «البعل» وصنعوا له التماثيل، فتزوج آخاب، ملك إسرائيل، بنت ملك صيدا «وسار وعبد البعل وسجد له، وأقام مذبحًا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة.»

وحدث هذا من أحد أبناء داود، فلم يستقم آحاز في عيني الرب كداود أبيه، «بل سار في طريق ملوك إسرائيل، وعمل أيضًا تماثيل مسبوكة للبعليم.»١

وكان النبي أرميا ينعى على الأنبياء أنهم يتواطئون على نسيان اسم الإله «كما نسي آباؤهم اسمي لأجل البعل». واستمرت هذه المساومات إلى عهد النبي هوشع الذي تخيل أمة إسرائيل مزفوفة إلى «يهوا»، لا تدعوه باسم البعل، وتنزع أسماء البعليم من فمها.

حدث هذا بين بني إسرائيل، ولم يطل بهم عهد الملك والاستقرار، ولم يزل أكثرهم رعاة يتنقلون في البادية، ولم يزل من هؤلاء الرعاة أناس يجهرون بالنبوة بين حين وحين، فليست دعوة النبوة بالدعوة التي تشيع وتجتذب إليها الأسماع في مواطن الحضارة القديمة، بعد استقرار العمران فيها بعاداته وآفاته مئات السنين أو ألوف السنين، وليس بالنادر في هذه المواطن أن يعلم الكهان حقيقة الوحدانية ويتركوا الشعب وشأنه يعبد الأصنام والأرباب المتعددة، ويتخذ له في كل إقليم ربًّا مقصورًا عليه، ويستبقون إله الدولة الأكبر لمراسم الدولة الكبرى في الأعياد والمواكب التي يشهدها أصحاب التيجان ورؤساء الكهان.

وإذا شاع الفساد في مواطن الحضارة، فالمسألة في هذه الحالة مسألة تشريع وقانون، أو مسألة تنظيم وتدبير، وربما حالت ألفة العادات الفاسدة دون التنبه لإصلاحها بالتشريع أو بالتنظيم.

وأوضح الأمثلة على موقف الحضارة بالنسبة للدعوات الدينية هو مثل الملك إخناتون بالديار المصرية، فإن دعوة إخناتون بلغت بالتوحيد أعلى مرتقاه في تلك العصور، وبلغت بتنزيه الإله غاية لم تدركها حتى اليوم بعض الأمم في البلاد الشرقية أو الغربية، ولكنها دعوة جاءت من طريق الأوامر والقوانين، ولم تلبث أن ذهبت بذهاب الملك الذي أصدر تلك الأوامر والقوانين، ثم عادت الحضارة إلى مجراها كأنها لم تنحرف عنه في عهد الملك الراحل طرفة عين.

فليست بلاد العمران المتصل مهدًا صالحًا للرسالة والنبوة، فما حال الصحراء التي انقطع ما بينها وبين العمران كل الانقطاع؟

إن لم يكن شأنها في أمر الرسالة النبوية شأن العمران المتصل فما هو بأصلح منه ولا أيسر.

فليس في الصحراء التي انقطع ما بينها وبين العمران من شريعة غير شريعة العدوان، ولا عمل للقبائل فيها غير الإغارة والاستعداد لدفع الغارات من الآخرين، وربما تفاهموا على آداب الجوار والمهادنة كأنها من التدبيرات العملية التي لا ترتقي إلى طبقة الفضيلة والعقيدة، وربما تحلى بعض الناس فيها بمناقب الشجاعة والسخاء وما إليها من مناقب الميادين، وشمائل السيادة والرئاسة. أما أن يتعارف المقاتلون المنقطعون عن العمران على الحقوق والفضائل، وخلائق الصلاح والاستقامة التي ينشرونها باسم الإله، ويستمعون وحيها من نذر السماء، فذلك من وراء التخيُّل فضلًا عن التفكير.

وقد عرفت في البداوة حالات قريبة من عقيدة التوحيد، ولكنها لم تُعرف حتى كان أصحابها معروفين لأهل العمران في المدن المجاورة، ولولا ذلك لما اتَّصل خبرُها بالتاريخ.

فحالة البداوة التي ترشح أصحابها لعقيدة التوحيد هي حالة البدوي المترقي من عبادة الجن والعفاريت، الذين ينتشرون في كل موطن، إلى عبادة رب كريم يرعاه حيث سار وحيث أقام، فهذه الحالة من البداوة ترشح صاحبها للإيمان بالإله الموجود في كل مكان؛ لأن الإيمان بإله «محلي» محصور في مكان واحد عبث ينفر منه طبعه، ولا يلائم مطالب عيشه، ولا يتكفل له بالأمان الذي يتطلع إليه في حله وترحاله.

وكثير من أهل البادية الأقدمين من يجمعون بين عقيدة التوحيد وبين الوثنية على نحو يوافقهم في حالتي المقام والمسير، فيتخذون لهم تماثيل يحملونها معهم، ويرمزون بها إلى الإله، وقد بقيت هذه التماثيل عند قبائل بني إسرائيل إلى ما بعد أيام داود عليه السلام، وهي التماثيل التي كانوا يسمونها بالطرافين، ويقتنيها أصحاب كل بيت كما يقتنون اللوازم المنزلية

ولكن هذا التوحيد كتوحيد أهل الحضارة الذي تقدم ذكره، كلاهما لا يخلق الجو الذي يلائم الرسالة النبوية، ولا بد لهذا الجو من شيء يأخذه من البداوة، وشيء يأخذه من الحضارة، ولم يتحقق ذلك في غير مدينة القافلة وما إليها.

لا بد من النخوة الحية التي تتوقد بما تعتقد، وتحس في أعماقها أن العقيدة حياة تحياها، وليس قصاراها أنها تدبير من المجتمع، أو قانون من الدولة.

لا بد من بساطة التصديق الذي لا يعرف التردد، ولا يحسن اللف والدوران، وتخريج الكلمات، وتزييف الشعائر والأحكام.

لا بد من الاستغراق في الإيمان على وجهة واحدة لا تتحمل، ولا تتأول، ولا تجعل العقيدة أجزاء مفرقة تتوزعها النصوص والفتاوى، وتتعاورها٢ المتون والشروح.
لا بد من الجمع بين سهولة التغيير وصعوبة التغيير في وقت واحد، وهذه خصلة تتيسر للبداوة ولا تتيسر في الحضارة، فليس أكثر من التغيير في حياة البدوي؛ لأنه أبدًا على عزم السفر والانتقال، وليس أكثر من الثبات في حياة البدوي؛ لأنه محافظ على عهد الآباء والأجداد ينوط٣ الفخر كله بما بقي له من التراث القديم.

وهذه هي حصة البداوة في تهيئة الجو للرسالة النبوية.

أما حصة الحضارة، فهي أصول الاستقرار، وقواعد الشريعة، وحماية المعاملة، وأسباب السخط والثورة والدعوة إلى التغيير.

وهذه الأسباب موفورة في مدينة القافلة من جوانبها الحسنة ومن جوانبها السيئة على سواء، وعندها حصتها وافية لقيام الدعوة النبوية في زمان بعد زمان.

فمن الأسباب الحسنة التي تهيأت بها مدينة القوافل للرسالة النبوية: «شقة الحرام» أو الحرم المقدس، أي المكان الذي تبطل فيه العداوات، ويتلاقى فيه الناس من كل ملة ونحلة على سلام.

فهذا الحرم المأمون من مأثورات المدائن المطروقة بحكم موقعها، وتشعب الموارد منها وإليها.

وقديمًا نشأت مدائن كهذه بين دولتين متناظرتين على عداء دائم لا يهدأ إلا في تلك المدائن المطروقة، كمدينة تدمر أو بعلبك في موقعها بين دولة القياصرة من الغرب، ودولة الأكاسرة من الشرق، ويتبع هؤلاء وهؤلاء أخلاط من كل قوم، وكل لغة، وكل عقيدة، وبينهم ما لا بد أن يكون بين هذه الأخلاط من التنافر، أو من الخصومة، أو من التراث والدخول، أو من التزاحم في المصالح والتجارات، فإن لم يكن هنالك ملاذ يأمنه الجميع، وحرم يتسع لعبادة كل عابد، وولاء كل حاكم، تقطعت العلاقات، وأحجم الوارد، وبارت التجارة، وكسدت الأسواق.

ومن المدائن ما يقوم في أمة واحدة متفرقة القبائل والبطون يتربص بعضها لبعض في كل موقع وكل موسم، ولا غنى لها عن موقع واحد في موسم معلوم تُنسى فيه هذه الفوارق، ويتلاقى الناس فيه للمعاملة والمعاونة لا للقتال والانتقام.

فهذه الشقة الحرام أحد الأسباب الحسنة التي تتهيأ بها المدائن على حافة الصحراء لرعاية الحرمات، وفهم القداسة في البيع والمناسك، وكفى بكلمة «البيعة» نفسها دليلًا على فضل المدائن المطروقة في رعاية حرم العبادة من أقدم العصور، وكفى بكلمة «الاحترام» دليلًا على الصلة بين هذه المحرمات وبين شعور التوقير والرعاية.

ومن الأسباب الحسنة تقرير الحقوق، وإقامة القواعد في المعاملات، وتواضع المختلفين والمؤتلفين على مبادئ الأخذ والعطاء، والذمة والوفاء، وعمل الحاضر للغائب والقريب للبعيد على ثقة واطمئنان.

وليس في وسع أحد أن يزعم أن الحقوق والقواعد التي يتعارف عليها الناس في مدن القوافل تُصان في كل صفقة، وتُحفظ في كل علاقة، فقد يكون الغش فيها أكثر من الصدق، والخداع فيها أكثر من الأمانة، ولكنها على أسوأ الأحوال مُلزِمة للمشتركين فيها، لا يجترئ القوي على الجهر بنكرانها والعدوان عليها، سواء كان العدوان على قوي مثله، أو على ضعيف غير مرهوب الذمار.

ومن الأمثلة التاريخية على ذلك حرب الفجار وحلف الفضول في مكة المكرمة، وهي من أكبر مدن القوافل، ومن أعظم النماذج لها في جميع ما ذكرناه.

ففي حرب الفجار أجاز زعيم من هوازن قافلة للنعمان بن المنذر على غير العرف المتفق عليه، اعتزازًا بعزته ومنعته، ومكانة النعمان بن المنذر في الأمم العربية، فهاجت لها حرب استمات فيها الفريقان حتى شد بعضهم نفسه بالحبال لكيلا يفر من القتال.

وفي حلف الفضول كان سبب الحلف أن رجلًا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصي بن وائل، وحبس عنه حقه، فاستعان عليه الزبيدي جماعة من الرؤساء فلم يعينوه، فوقف الرجل على جبل أبي قبيس عند طلوع الشمس، وصاح يطلب الغوث، فمن جراء ذلك اجتمعت هاشم وزهرة وتيم بن مرة في دار ابن جدعان، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليُكوننَّ يدًا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه، ثم مشوا إلى العاصي بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه، وقال أحدهم:

سيعلم من حوالي البيت أنَّا
أباة الضيم نمنع كل عار

وقال ابن قتيبة: إن قريشًا قد سبقها إلى مثل هذا الحلف قبيلة جرهم، فتحالف منهم ثلاثة؛ هم: الفضل بن فضالة، والفضل بن وداعة، وفضل بن الحارث، فسُمي لهذا حلف الفضول، وجاءت قريش فسمت حلفها بهذا الاسم؛ لأنه مقصود لما قصده الأحلاف الأولون.

وليس بالقليل ما تعلمته الأمم من إقامة «الحوزة» التي يدين لها الجميع بالرعاية، ويتعودون عندها أن يجعلوا الذمم والعهود في حماية الإله المعبود، ومن الجائز أن تعدد الأرباب، وتناقض الدعاوى في موطن واحد يجاور فيه كل دير نقيضه، قد فتح الأعين على ما وراء ذلك من السخرية والتهافت، ولا سيما أعين الطارئين العابرين من أهل البادية الدارجين على البساطة واجتناب المتناقضات.

أما الأسباب السيئة التي أوجبت قيام الدعوات النبوية في تلك المدن، فهي أسباب قوية كثيرة لم تكن توجد يومئذ في غيرها بهذه القوة وبهذه الكثرة.

وأقوى تلك الأسباب مساوئ الاحتكار والاستغلال؛ فإن تجارة العالم إذا توقفت على مدينة هنا ومدينة هناك؛ صارت في كل مدينة إلى فئة قليلة من السادة وأصحاب اليسار يحتكرون المقايضة والنقل، ويبرعون في أساليب المماسكة، ورفع الأسعار، وزيادة الضرائب والأجور على الرجال والمطايا وجند الحراسة، ويغتنم هؤلاء المحتكرون فرصتهم، فيخدعون البسطاء، ويحتالون على الأصول والشرائع، ويأخذون باليمين والشمال من الوارد والصادر، والغادي والرائح، ولا حيلة للتجار فيهم ولا لناقلي التجارة؛ لأنهم قابضون على الزمام، وليس في قدرة دولة أن تحاربهم إلا بالاشتباك في الحرب مع دولة أخرى، أو بإنفاق أموال في الغزو والحصار تزيد على الأموال التي يغتصبها المحتكرون أو يختلسونها، وقد يغلو هؤلاء المحتكرون في الجشع والتحكم حتى يدفعوا الدول إلى المجازفة بالغارة مرة تريحها من مرات.

كذلك صنع أنتيجون خليفة الإسكندر مع أهم هذه المدن في زمانه، وهي سلع «أو البتراء»، فجرد عليها حملتين ولم يفلح في غزوها، وهاجمها تراجان بقوة كبيرة فدمرها، وحوَّل الطريق منها إلى بصرى، ولم يبق من حولها غير مُدنٍ صغار.

واشتهرت سدوم بين هذه المدن بالظلم وسوء المعاملة، وسلب الغرباء، وتدليس٤ القضاء، وفي قضائها يقول المعري:
وأي امرئ في الناس ألفى قاضيًا
ولم يمض أحكامًا كحكم سدوم

ومن أمثلة هذا القضاء في احتياله على الشريعة: أن رجلًا اسمه حضور رأى طارئًا غريبًا أعجبه، في رَحْله بساط ملون، فدعاه إلى منزله ليبيت فيه، وسرق منه البساط، فلما طلبه الرجل قال له: إنك حالم، وإن تفسير البساط الملون في الرؤيا أنك تزرع أرضًا ينمو فيها النبت من كل لون، ثم ساقه إلى القاضي ليعطيه أجره على تفسير رؤياه، فقضى له بالأجر المطلوب.

ومن أمثلتها أنهم سرقوا اليعازر خادم إبراهيم عليه السلام، فلما أخذ بتلابيبهم ضربوه، ورماه أحدهم بحجر وساقه إلى القاضي يطلب منه أجره على فصده، ولم يُخلِّصه من حكم القاضي إلا أنه ضربه بحجر وأسال دمه، ثم قال له: إنني نزلت عن أجري كي تعطيه لغريمي!

وفي المشنا أسماء يزعمون أن اليعازر هذا أطلقها على قضاة سدوم، وهي شقارة أي الكاذب، وشقرورة أي المحتال، وكذبان أي المزور، ومضل دين أي المتجانف في دينونته وقضائه، وليس أكثر من حكايات التدليس التي تروى عنهم في كتب المشنا والمدراش.

ولا ينسى القارئ أن الجريمة الكبرى التي أحصاها القرآن الكريم على أهل مدين — ومدائن الحجر عامة — أنهم يختلسون ويطففون الكيل: وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (هود: ٨٤-٨٥).

ولا يلبث الترف أن يجني جنايته على هؤلاء المحتكرين فيغريهم بكل مفسدة، ويجلب على بلادهم كل فاسد، وشر هذه المفاسد في أعين أبناء الفطرة من قبائل البادية رذائل الشذوذ، وتدنيس غريزة النسل التي تصونها تلك القبائل على فطرتها، ولم توجد مدينة من مدائن القوافل سلمت من هذه الرذائل، حتى قالت كتب المدراش: إن طوفان نوح إنما كان من جرائر هذا الشذوذ في قومه، وإنه كان فاشيًا في بيت المقدس يوم أنذر النبي حزقيال قومه بالنفي، أو بالسبي والتشريد.٥

هذه الأسباب جميعًا هي التي هيَّأت مدن القوافل للدعوات الدينية؛ لأنها دعوة تتهيأ أسبابها بين الحاضرة والبادية، ولا بد لها من التقاء هذه وتلك، ولا غنى لها عن صفات المدينة وصفات الصحراء، ولحكمة بالغة قال النبي صلوات الله عليه: «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم.» ولحكمة بالغة قامت مدينة القوافل بدورها في تاريخ بني الإنسان، فنشأ الحكماء والنساك في الصين والهند على مثال كنفشيوس وبوذا، ولم ينشأ فيهم الأنبياء المرسلون والرسل المجاهدون؛ إذ كانت أمانة النبوة المجاهدة شيئًا غير أمانة الإصلاح والتعليم، وما عهدنا سورة العقيدة تملأ الوجدان كله، وتشغل الحياة كلها كما عهدناها في المرسلين إلى الأقوام الذين عاشوا على هذه الرقعة الوسطى من العالم، وتلقوا عقائدهم كأنهم يصلون الأرض بالسماء صلة اللحم والدم، ولا يحسبونها سمة من سمات الأدب والمعرفة وكفى، أو نصًّا من نصوص الشريعة والنظام وحسب، أو نهجًا من مناهج السلوك ولا زيادة.

وأحسب لو أننا بدأنا دراسة التواريخ الدينية في الشرق العربي على ضوء هذه الحقيقة، منذ بداءة النظر في هذه التواريخ؛ لما تسرع المتسرعون بالنفي والإنكار تارة، والفهاهة وسوء الفهم تارة أخرى، بل كان من الميسور لهم أن يربطوا الدعوات الدينية كما ترتبط الحلقات في السلسلة الواحدة، وأن يملئوا فراغ التاريخ بما يسده، بدلًا من خلق الفراغ حيث لا فراغ.

إن بعض الفلكيين قد عرفوا أماكن الكواكب المجهولة قبل اختراع المجاهر المكبرة؛ لأنهم قدروا موقعها من الفلك بحساب المدارات والأحجام.

وقد عرف بعض الكيميين أماكن عناصر لم يشهدوها في الطبيعة؛ لأنهم قدروا نسبة الكهارب والنواة فيها إلى العناصر المشهودة.

ولو أننا تتبعنا سلسلة الدعوات في مواقعها وتواريخها لما قال المشككون: إن إبراهيم لم يوجد، بل قالوا: هنا مكان لإبراهيم لا بد أن يُشغل، واستطاعوا بالبحث والمقارنة وتعليق النتائج بمقدماتها أن يربطوا بين أور وآشور، وبيت المقدس وجاشان، والبتراء ومكة؛ لأنها نسق واحد يدل الأخير منه على الأول، كما يتقدم الأول منه في زمانه ووضعه على الأخير، فكلها دعوات لا بد فيها من شخص الرسول، ولا بد فيها من عنصري الحضارة والبداوة، ولا بد فيها من تمام المجزوء، ووصل المقطوع، واطِّراد مراحل التطور على نهجه الوحيد، وليس له نهج وحيد أصلح من نهجه الذي هيَّأته أسباب الدعوات موقعًا بعد موقع، كما تعينت مواقع الكواكب في دراسة الفلك، ومواقع العناصر في دراسة الكيمياء.

أو لعلنا نصل إلى النتيجة من درب قريب إذا اعتمدنا على قياس التاريخ بمقياسه الذي لا يقبل الخطأ، وهو تصور الحوادث كما يرسمها الواقع والعقل.

فإن هذا المقياس شبيه بمقياس العمليات الحسابية في التمييز بين الخطأ والصواب، وما علينا إذا أردنا أن نمتحن حادثة تاريخية أو سلسلة من الحوادث التاريخية، إلا أن نسأل أنفسنا: كيف ينبغي أن تحدث؟ فإذا ارتسمت لنا على الترتيب الذي يقبله العقل ويطابق الواقع؛ فذلك هو الامتحان الصادق، وما نستخلصه منه هو الصواب كأصدق ما يمكن أن يصوره تاريخ الحوادث لمن لم يشهدها شهادة العيان.

إذا كانت دعوات النبوة متصلة بمدائن القوافل، فليس أولى من بلاد النهرين في العصر القديم أن تبدأ منها الدعوة الأولى، ثم تتلوها المدن الأخرى على حسب مكانتها ومكانها من حيث النظر إلى الطرق العالمية، ومظاهر الحضارات المختلفة.

فالدول القديمة بين النهرين لم يكن لها نظام غير النظام الذي اشتهر في علم السياسة باسم نظام «حكومات المدائن»؛ لأنه يقوم على مدن أربع أو خمس من العواصم العظمى تحيط بها البادية، التي تزرع مرعاها، أو ترعى ماشيتها في المزارع الطبيعية، وتسافر بالقوافل على حسب مراحلها، ويجوز أن تتغلب دولة واحدة على جميع هذه المدن إلى فترة قصيرة، كما يجوز أن تتفرق وأن تنفرد كل منها بحكومتها، ولكنها على الحالتين مدائن تحيط بها البادية، وتعتمد على نقل التجارة من أقصى العالم المعمور إلى أقصاه في الأزمنة القديمة.

وترتيبها على حسب مكانتها ومكانها في وادي النهرين، وفي العالم كله، يبدأ من مدينة «أور» في الجنوب، وينتهي إلى مدينة «آشور» شمالًا، ثم يتجه غربًا وجنوبًا إلى فلسطين ومدن خليج العقبة فالحجاز، حيث تلتقي قوافل الشمال وقوافل الجنوب.

فمدينة «أور» أهم هذه المدائن؛ لأنها تتلقى التجارة من البحر ومن البر، وتنقلها من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، كما تنقلها بين الجنوب والشمال.

ويليها في مكانها ومكانتها مدينة آشور؛ لأنها تأخذ من الجنوب وتوزع على ما حولها، وقد تصل قوافلها إلى أقصى الشمال من القارة الأوروبية كما تصل إلى آسيا الصغرى وأوروبة الشرقية.

وفي مدينة «أور» بدأت دعوة إبراهيم، وإلى مدينة «آشور» انتقلت، ولم يطل بها القرار في هذه النقلة العاجلة.

وهنا كان مبدأ الدعوة النبوية التي لم يكن لها نظير في غير هذه البقاع من أوطان الأمم العربية الأولى.

ويطرد الترتيب بزمانه كما يطرد بمكانه، فمن آشور إلى حبرون أو بيت المقدس، إلى مدن خليج العقبة، إلى مدينة الحجاز المقدسة، وعندها نهاية المطاف.

جاء في تاريخ مكة قبل أيام إسماعيل أن مضاض بن عمرو كان يعشر «أي يفرض ضريبة العشر» على من دخل مكة من شمالها، وأن السميدع كان يعشر على من دخل مكة من أسفلها.

وجاء في العهد القديم أن الخليل قدم العشر لصاحب بيت المقدس «ملكي صادق»؛ لأنه سادن الإله العلي في محرابها الأعلى.

نظام واحد في مدن القوافل يدل عليه هذان التاريخان المنفصلان.

وتتوالى الدعوات النبوية بعد ذلك على حسب المكانة بين مدن القوافل، وعلى حسب المكان من بقاع الهلال الخصيب والجزيرة العربية.

فلما بدأ تاريخ الدعوة النبوية من أور إلى آشور، إلى بيت المقدس، إلى مدن الجنوب، كانت هذه المدن الجنوبية على غايتها من الازدهار، وعلى غايتها من الفساد، وكان لها دورها الذي انتهى بكوارث الزلازل أو الهزيمة.

وبقيت شواهدها في خرائبها تنطق بما كان بينها من صلات ومعاملات.

ففي البتراء محاريب الحجارة السود التي تساقطت من السماء، وفيها هيكل البنت أو الربة المصرية «إيزيس»، وما إيزيس؟ أتكون هي العزى التي عُبدت زمنًّا في الجنوب؟

تكون أو لا تكون؛ فالرواة الذين أرَّخوا ظهور الأصنام في الكعبة المقدسة بمكة لم يدرسوا الآثار المصرية، ولم يدرسوا الأحافير التي درسها العصريون في القرن العشرين، ولكنهم أرخوا الأصنام فقالوا: إن سيد مكة في زمانه «عمرو بن لحي» سافر إلى الشام وعاد منها بطائفة من الأصنام، وإن أبناء إسماعيل بالحجاز تعودوا عبادة الأنصاب؛ لأنهم كانوا يحملون معهم الحجارة المقدسة للتبرك بها كلما ابتعدوا من الحرم، ثم انتقلوا من التبرك بها إلى عبادتها مع طول الزمن، وكانت روايتهم هذه مصدقة لما فعله أتباع إبراهيم وموسى وسائر الأنبياء في الأماكن الأخرى، فهكذا تحولوا من عبادة الإله الواحد إلى عبادة الأنصاب والتعاويذ والتماثيل والطرافين.

•••

وسواء صح هذا كله أو لم يصح، فالصحيح الذي لا شك فيه أن الصلة الدينية والثقافية واللغوية والتجارية لم تنقطع قط بين النبطيين والمكيين، وأننا لو سلكنا التاريخ الديني طردًا وعكسًا، ثم سلكناه عكسًا وطردًا، لما كان له من مسلك أقوم وأثبت من بدايته ونهايته بين «أور» في جنوب العراق ومكة في وسط الحجاز!

وإذا كان التاريخ يرتسم على هذه الصورة معقولًا موافقًا للواقع، أو ما ينبغي أن يقع، فلا وجه للشك فيه، بل الوجه كل الوجه أن نلتمس من طريقه هذا أسباب اليقين.

١  الإصحاح السادس عشر من سفر الملوك الأول.
٢  تتعاورها: تعاور القوم الشيء: تداولوه وتعاطوه.
٣  ينوط: يعلق.
٤  تدليس: دلس الرجل: كتم عيب الشيء عن الآخر، ومنه التدليس في السلع.
٥  صفحة ٢٤٦ من المجلد الأول، وصفحة ٤٢٠ من المجلد السادس من أساطير اليهود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤