الفصل العاشر

الإعجام في القرآن

المراد بالإعجام تمييز الحروف المتشابهة بوضع نقط لمنع اللبس، فالهمزة في الإعجام للسلب أي إزالة العجمة كما في قولك: شَكَوْتُ إليه فأشكاني، أي أزال شكواي. المشهور أنَّ اختراع الإعجام كان في عصر عبد الملك بن مروان، والتحقيق يُفيد أنه كان قبل الإسلام؛ لأنه عُثِرَ على كتابات قديمة مُحَرَّرة قبل خلافة عبد الملك بن مروان فيها إعجامُ بعض الحروف كالباء والياء وشِبْهِهِما، على أنه مع تَشَابُه صُور حروف كثيرة كالباء والتاء والثاء بعيد جدًّا عدم الإعجام وعدم مُمَيِّز يميزها. فالحق أن الإعجام موضوع قبل الإسلام، ولكن تَسَاهَلُوا في شأنه شيئًا فشيئًا حتى تُنُوسِي ولم يَبْقَ منه إلَّا النادر، إلى أن جاء زمن عبد الملك فحتَّم على كُتَّاب دَوْلَتِه رِعَايَتَه، وبيان ذلك: أن الناس مكثوا يقرءون في مصاحف عثمان نيفًا وأربعين سنة، وقلنا إن مصاحف عثمان — رضي الله عنه — كانت مجرَّدة عن النقط والشكل.١

ومكث القارئ يقرأ ولا يَعْلَم هل القراءة الصحيحةُ والقرآن المُنْزَل هو قوله (نُنْشِزُها) بالراء المعجمة أو (نَنْشُرُها) بالراء المهملة، أو (لتكون آية لمن خلفك) بالفاء أو (لمن خَلَقَكَ) بالقاف؛ ولذلك كَثُرَ التصحيف في العراق، ففزع الحجاج أميرُ العراق إلى كُتَّابه في زمن عبد الملك، وسألهم أن يضعوا علامات لتمييز الحروف المتشابِهَة، ودعا نصر بن عاصم الليثي ويحيى بن يعمر العدواني تلميذَيْ أبي الأسود الدؤلي لهذا الأمر، وكانت عامة المسلمين تَكْرَه أن يزيد أحدٌ شيئًا على ما في مصحف عثمان ولو للإصلاح خشية الابتداع، وتردد كثيرٌ منهم في قبول الإصلاح الذي أدخله أبو الأسود، فبعد البحث والتروي قرر نصر ويحيي — وكان من التقوى بحيث لا يُتَّهمان في دينهما — إدخال الإصلاح الثاني، وهو أن توضع النقط أفرادًا وأزواجًا لتمييز الأحرف المتشابهة بالأسلوب الموجود الآن بيدنا، ولكن سبق القول أن الحركات والسكنات كانت بطريق النقط، وكذلك الإعجام أيضًا كان بطريق النقط، فمنعًا للَّبس بعض الحركات والسكنات والإعجام كان رسم كتابة المصحف مثلًا يكتب الحركة بلون أحمر والإعجام بلون يخالف الأحمر. قال أبو عمرو: ولا أستجيز النقط بالسواد لما فيه من التغيير لصور الرسم — يعني رسم مصاحف عثمان — وأرى أن يُكتب الهمزات بالصفرة، وعلى ذلك مصاحف أهل المدينة.

وقال عثمان بن سعيد الداني في كتابه المقنع: «وإذا اسْتُعْمِلَت الخضرة لألِفات الوصل على ما أَحْدَثَه أهل بلدنا قديمًا فلا أرى بذلك بأسًا»، وبلده «دانية» بالأندلس، وجرى أهل الأندلس على استعمال أربعة ألوان في المصاحف: السواد للحروف، والحمرة للشكل بطريقة النقط، والصفرة للهمزات، والخضرة لألفات الوصل، ولم تشتهر طريقة أبي الأسود إلَّا في المصاحف حفظًا لقواعد القرآن.

١  النقط للشكل والإعجام لم يكن مستعْمَلًا في زمن عثمان، والنقط كان في زمنه عبارةً عن علامات خاصة باللغات التي كان الصحابة يقرءون بها. وكانت الصحف التي عند حفصة مبيَّنة فيها اللغات الأخرى بنقطٍ على الحروف اصْطَلَحوا على وضْعها للدلالة على الإمالة وضم ميم الجمع والإشمام والهمز والتسهيل، وغيرها من القراءات التي رَوَاها أهل القبائل عن النبي ، فأَمَرَ عثمان — رضي الله عنه — الكتبة أن يجرِّدوا القرآن من هذه النقط، وآثر أن يُكتب القرآن بلغة قريش لأنه نزل بلسانهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤