كيف كان الشباب يُزَوَّجون (١)

أسوق حديثي هذه المرة للخطبة والزواج في مصر إلى مؤخرات الجيل الماضي، ولقد أعرض عليك صورًا ما برح بعضها قائمًا إلى الآن، وبعضها وإن اختفى فإنه ما زال متمثلًا للأذهان، وذلك أنني أحب أن أعرض مجموعة كاملة واضحة من صورة الخطبة والزواج قبل أن تحول، أو تعتريها الأيام بالنصول.

وتراني في ترجمة هذا الحديث قد عبرت بصيغة البناء للمفعول، فقلت: «كيف كان الشباب يُزوجون»، ولم أقل: «كيف كانوا يتزوجون»، وإنني لأقصد هذا وأعنيه؛ لأن الشباب لم يكونوا يتزوجون، وإنما كانوا يُزوجون لا رأي للشاب أو للفتى في متى يتزوج ولا كيف يتزوج ولا بمن يتزوج، وإنما يزوجه أولياؤه فيتزوج «وكان الله يحب المحسنين!»

كان الزواج مرحلة من مراحل الحياة لا بد للشباب منها مهما تكن الأحوال، كان شيئًا لا بد منه ولا محيص عنه، اللهم إلا لنقص داخل على الخلقة، وهذا من النادر الذي لا يجري على سياقه الحكم العام.

فإذا ترعرع الفتى وبلغ الحلم، جعل أهله يفكرون في أمر تزويجه وأكثر هؤلاء همًّا بذلك وحديثًا فيه وتدبيرًا له هو أمه، تبادي به أباه ولا تني عن مراجعته فيه، والإلحاح عليه في التعجيل به، وكلما «اعتل عليها بعلة»، أو أنهض لها في التأخير عذرًا، هونت عليه الصعب ويسرت له العسير، فإذا كان العذر في قلة المال، وكان هذا هو أبلغ الأعذار وأشيعها، عرضت بيع أعلاقها وحليها، فإذا لم يكن فيها غناء ففي بيع «حصة» من البيت، أو في الاقتراض غناء!

تريد الأم أن «تفرح» بولدها وتزوجه من أي سبيل، وهنا ينبغي أن تعلم على جهة اليقين أن تعلُّم الولد أو انقطاعه عن الدرس، أو نجاحه في أي ميدان من ميادين الحياة أو فشله، أو اشتغاله بأي عمل من الأعمال، أو تفرغه أو تبطله؛ اعلم أن شيئًا من هذا لا يدخل، ولا يجوز أن يدخل في حساب تزويجه، أو يقام له أي وزن في هذا الباب، ذلك بأن تزويج الشاب أو الفتى — كما أسلفت عليك — مرحلة لا بد منها في اجتياز مراحل الحياة!

ولعل أهم ما كان يسهل أمر زواجه على والديه أن الزوجة لا تكاد تجشم أولياءه شيئًا من النفقة، فهي تسكن في دارهم وتأكل مما يأكلون منه وتشرب مما يشربون، فإذا كانت مطالع الأعياد جيئت بكسوة لا تعيي على رب الدار في كثير ولا في قليل!

وكيفما كان الأمر فإننا إذا استثنينا مهر العروس وما إليه من الهدايا والألطاف، وإذا استثنينا معه نفقات العرس وأسبابه، فإن هذا الضيف الجديد لا يجشم وظيفة دائمة، ولا نفقة راتبة أو على التعبير الإفرنجي، لا يكلف أي consommalion.

ولا ننسى — مع ذلك — أنها ستقوم بنصيب جليل في خدمة الدار إن لم تستقل بها جميعًا: كالعجن والخبز، والطبخ، وغسل الثياب، وجندرتها، وكنس الدار، ونفض الأثاث، وصنع القهوة وتقديمها للضيفات … إلخ.

وقد يكون من قسمها أيضًا القيام على خدمة الصغار من إخوة الزوج وأخواته، إذا كان له إخوة أو أخوات صغار!

الخطبة

وفي النهاية سيرضى الأب بتزوج ابنه وأنفه في السحاب، أو أنفه في التراب! وسرعان ما تذكي الأم الخاطبات محترفات أو صديقات في التماس العروسة الحلوة في بيوت الأكفاء، حتى إذا عدن إليها بالخبر أرسلت إلى أم العروس من تعين معها موعدًا لرؤية فتاتها، وفي هذا الوعد تمضي الأم وبنتها المتزوجة وأختها، وقد تستصحب بعض جاراتها من الصاحبات والمواليات، ولا تسقط من عدة الوافدات الخاطبة المحترفة إذا كانت الريادة لخاطبة محترفة يمضي كل هؤلاء إلى دار العروس، وقد أخذن زينتهن وتحلين بأغلى حليهن وأضفين عليهن برود الحبر، فإذا لم يكن لهن شيء من ذلك استعرنه من بعض الصديقات المترفات.

ويحسن بنا وقد بلغنا هذا الموضوع أن نسلخ بعض الحديث للفتاة المخطوبة، قبل أن ينالها الوافدات بالتوسم والتصفح والقياس والتقليب.

قل من كانوا يدفعون بناتهم للتعليم في المدارس، بل لم يكن هناك تعليم مدرسي للبنات البتة قبل خمسين عامًا؛ أي قبل قيام المدرسة السنية، فالطبقة الأرستقراطية كانت تعلم بناتها في القصور، أما الطبقة الوسطى وهي الطبقة التي ندير عليها الكلام في هذا الحديث، فأكثر أهليها كانوا يشخصون بناتهم الصغار إلى «المعلمة»، وهذه «المعلمة» امرأة تخيط الثياب لمن شاء من أهل الطبقتين الوسطى والدنيا، وتتخذ من دارها شبه مدرسة تعلم البنات فيها هذه الصناعة بقدر، فإذا ربت الفتاة وبلغت سن المراهقة كفها أولياؤها في الخدر تعالج فيه مع أمها شئون البيت، ولا تزال كذلك في انتظار «العَدَل»، و«العَدَل» بفتحتين، يعني به النساء الزوج الكفء، الذي يكفل ويغني ويسعد ويهني، ومن هذا الوادي قولهم: «ربنا ما يعطي القحف عدل.» يدعون على الجلف الوضيع الفظ بألا يمكنه الله من جاه ولا سلطان؛ لأنه إنما يتخذهما أداة للسلاطة والعدوان!

يتلقى أهل البيت الواردات بأحسن مظاهر التأهيل والترحيب، وقد سبقوا فنظفوا الدار وأحسنوا تنضيض الأثاث، ودفعوا فتاتهم إلى الحمام فأحسنوا جلاءها وصقلوا عارضيها، وقلموا أظافرها ورتلوا شعر رأسها ومشطوه، ونضدوا على الجبين مقدمه، وضفروا سائره ضفيرتين ثم ألبسوها أجمل الثياب، وحلوها ما أسابوا من لبَّات وأساور وأقراط وخواتم.

ويبدأ بتقديم «الشربات» تطوف به امرأة أو شابة أو فتاة من فتيات الدار، أو خادم من خدمة البيت، أو من خدم الجار.

ثم لا تزال الأنظار تطلع إلى ناحية الباب ترقبًا لطلعة العروس، ثم إذا هي مقبلة تمشي على استحياء وقد أسبلت جفنيها، وهي تحمل فنجان القهوة تقدمه إلى السيدة الكبيرة أولًا، ثم تعود بالثاني إلى الثانية وهكذا. والأنظار تتناهبها من كل جانب؛ هذه تتوسم وجهها وهذه تتفقد عنقها وصدرها، وأخرى تسرح النظر في شعرها ورابعة تلاحظ خطوها لعل فيها ظلعًا أو شكا،١ لا يدعن في جسمها رقعة إلا أوسعنها تفقدًا وتصفحًا وتأملًا، ولا يفوتهن — مع هذا — أن يلاحظن مبلغ مهارتها في حمل فنجان القهوة، وكان كما تعلم يعتمد على ظرف دقيق القاعدة، فإذا أبلغته ولم تسل منه على امتلائه قطرة كان دليلًا على المبارة وحسن الخدمة أي دليل!

فإذا فرغن من هذا دعونها إلى الجلوس، فجلست على طرف كرسي في طرف الغرفة في خفر بعضه متكلف مصنوع، ثم رحن يستدرجنها إلى الحديث، لعل في لسانها حبسة أو عقدة أو رُمَّةَ، أو لعل في بعض لفظها لثغة، فإذا اطمأنن على سلامة اللسان ونصاعة الأسنان ظللن برهة يسيرة يمدحن فهيا جمال الفتاة وحسنها، ويشدن بأدبها ولطف موردها، ثم استأذن في الانصراف وأقبلن على أمها وسائر من حضرن مسلمات مودعات مقبلات، وأذكين على الفتاة أدقهن حسًّا وأنفذهن أنفًا، فانفلتت إليها تحييها وتبالغ في تدليلها وإعزازها وإظهار الحب لها والكلف بها، وراحت تواليها — تحت هذا العنوان — تقبيلًا وضمًّا والتزامًا وشمًّا، وهي إنما تفعل في تمهر لا يخفى زيفه على أحد؛ قصدًا إلى تشمم فيها لعل فيه بخرًا، وإبطها لعله يفوح دفرًا، ولا تألوها لمسًا ومسًّا، وغمزًا وجسًّا، طائفة باليد على جوارح الجسد، لعل منها ما عراه الرهل أو أصابه الأود!

ولربما طفن من غدهن ببيت فلان وبيت فلان، ثم بعد غد ببيت فلان وبيت فلان، حتى يستعرضن السوق كلها وينثلن الكنانة نثلًا، ما يدعن فيها سهمًا ولا نصلًا!

ولربما رجعن إلى بعض من وردن لإعادة النظر، أو على الأصح لإعادة الفحص والتنقيب، والإمعان في الفر والتقليب، ما يرى أولياء الفتاة بذلك بأسًا ولا يجدون في أنفسهم منهم حرجًا!

فإذا أذن الله واجتمع الرأي على فتاة من هؤلاء خطبت إلى الأم أولًا، فإذا اتفقت الأُمَّان على المهر وإلا صار الأمر إلى الأبوين ومن إليهما من الأولياء، ولربما استعان ولي الزوج بعض الظاهرين من الجهة على ولي العروس في سبيل الحظ من مقدار الصداق المطلوب، فإذا لم يبقَ موضع لخلاف من هذه الناحية، قرأ الجماعة فاتحة الكتاب في خفوت تبركًا واستكمالًا لفضل الله العظيم، وكذلك يشيع بين نساء الحي وفتياته أن فلانة قد قرئت فاتحتها، وليس وراء الفاتحة إلا قبض مقدم الصداق، فالعقد في الأعراس يتخلل هذه الفترة ألوان من الهدايا تساق الفينة بعد الفينة إلى دار العروس، وتدعى هذه الهدايا بالنفقة وعلى قدر هذه النفقة يعلق النساء أبلغ الأحكام، ومثلتهن السائرة في هذا الباب «العريس يبان من نفقته» وهذه الهدايا لا تعدو النقل والحلوى، والسمك، والشياه، إذا طلع العيد الكبير.

ولقد جهد بي — يا سيدي القارئ — ولعله قد جهد بك أيضًا، فلقد طال المقام وتجاوز القدر المقسوم له، فلنرجئ الحديث في حفلات العرس إلى يوم آخر إن شاء الله.

١  الظلع: الشك الخفيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤