عباقرة الفن

قبل أن نقص ما هيأناه لهذا المقال من القصص، نعيد ما سبق لنا أن ذكرنا في مثل هذا المقام من أن الكذبة الفنيين ليسوا جميعًا على غرار واحد، ولا يلزمون موضوعًا مشتركًا، بل إن منهم لأخصائيين تجرد كل منهم في مطلب، وحبس سعيه وجده عليه لا يعدوه إلى غيره، أما رأيت الأطباء كيف يتخصصون، هذا للأمراض الباطنية، أو لأمراض المعدة منها، أو لأمراض الصدر دون غيرها، وهذا للأعصاب وهذا للجراحة، وهذا للحنجرة والأنف، وهذا للعيون … إلخ. وكذلك عباقرة الفن منهم من اختصت عبقريته بالحديث في الطعام، ومنهم اختص بالبطولة والفروسية في القتال والصدام، ومنهم لا يعدل وَلَهُ النساء عليه وغرامهن به أي غرام، وهو يضن على الآلاف منهن بالنظرة، ولا يبرح يقدم في صدورهن نار الغيرة ويذيب كبودهن من شدة الوجد والحسرة، والمسكين وخمسة من سكرتيرية قد استهلك نهارهم وليلهم، ففي الرسائل الغرامية يسطع أريجها ويتضوع في الحي والأحياء المجاورة عبيرها، حتى لو صبت أوعية أكبر «فابريقات» الروائح العطرية في العالم ما فعلت في الجو فعله، ولا نشرت في الأفق العريض مثل شذاها وطيبها، وهذه الرسائل كلها قد جادها الشغف والولوع، بالعارض الهتان من سخين الدموع، حتى إذا فرغ المسكين المرهق بإلحاح ربات الحجال المضني بمطاردة جميع ملكات الجمال، تراه قد أرخى حفنة، ورمى بنظرة ساحرة تسلك أعصى الكبود وتذيب الحجر الجلمود!

وهنا لا أخصائيون في غير هذا أو ذاك، على أن هذا لا ينفي أن هناك من عباقرة الفن من لم يلتزموا موضوعًا، ولم يتخصصوا في أمر فهم كبعض أطباء الريف المصري، يعالجون كل مرض ويطيبون كل علة، فمن رمديين إلى التهاب جلد إلى شق دمل إلى تجبير عظم إلى توليد حامل إلى انسداد أنف، إلى تمدد كبد، إلى التهاب صدر، إلى وجع بطن! فهؤلاء الفنانون العموميون — إن صح هذا التعبير الشائع — يضربون في كل مجال، ويأتون في كل مقام بأبدع المقال، فهم أغنى الناس إذا ذكر الغنى وهم أشجعهم إذا دار الحديث في الشجاعة، وهم الأجزل سائدة والأشهى طعامًا إذا مال القول إلى الطعام والدسم، وما يحدث الكظة ويدعو إلى البشم، وهم أشغل الناس لقلوب النساء إذا جرى ذكر الهوى وما تفعل الفرقة والنوى، وكيف تصنع بالعاشقات تباريح الهوى، فإذا جاء حديث أولياء الأمور وكبار الحكام فخذ ما شئت من تهافتهم عليه، وتباريهم في الزلفى إليهم واستنارتهم برأيه في المهمات، واتباعهم لنصحه في الأحداث الملمات وهكذا …

والعجيب في أمر هؤلاء جميعًا أنك تجدهم حاضري الذهن، حافلي الخاطر، مستيقظي الذاكرة، لا يند عنهم كبير ولا صغير، ولا تنشز عليهم شاردة ولا واردة، ولا يغيب عن ذاكرتهم شيء مما وقع لهم في الماضي الطويل، مهما دق أمره وهان قدره، فما يكاد أحدهم يسمع في المجلس الكلمة يهتف فيها هاتف بتقدم أحد في باب من هذه الأبواب، إلا انبرى من فوره يشيد بما له من السبق والتقدم، ويستشهد على هذا بالقصص المسبوكة المحبوكة، يرويها متدفقًا غير متحبس ولا متوقف ولا متلجلج ولا متتعتع، ولا مستعين متنحنح ولا يتعسل، كأنما يصدر حديثه عن المؤنس — موسيقى القرب — لشدة اتصاله، وعدم الشعور بانقطاعه ولوحدة جرم النفس!

وكان لي صديق — رحمة الله عليه — يتمالح بهذا الكذب، وما برح من نشأته يوالي هذا ويدأب عليه حتى صار له عادة وجبلة، وكثيرًا ما سمعت أنه إذا لم يكذب لا يستريح عامة يومه! على أن كذبه كان حلوًا عذبًا يشعر من فوره بأنه كذب.

كنت أتمشى معه في صدر إحدى الليالي وقت الغلس والجو أدنى إلى الظلمة، وكان وقتئذ طالبًا في إحدى المدارس العليا، إذا نصب عليه رجل لا أدري ولا يدري هو من أين طلع ولا من أين هبط، بادره بطلب دين عليه وقبل أن يتم الرجل مسألته، عاجله صاحبي مقسمًا على أنه ليس معه إلا الريال مسحة الجزمة، فانصرف الرجل عنا وهو يضرب كفًّا بكف! يا لطيف!

واشترى ذات يوم قميصًا وأرانيه، وجعل يدلني على جودة قماشه وحسن تفصيله، فقلت له: بكم اشتريته؟ قال: بجنيه مصري! ولكنني رأيت مكتوبًا على عنقه: P.T. 50، فقلت له: يا أخي إن الثمن خمسون قرشًا، فأجاب فورًا: بل هي خمسون نصف فرنك.

وسافر في بعض السنين إلى أوروبا يقضي أشهر الصيف وسلخ أكثر المدة في إنجلترا، ثم عاد سالمًا وجعل يروي ما وقع له من طرائف الحوادث، وهي كثيرة جدًّا تثقل العد والحساب، وكان أطرفها حقًّا أن إحدى نجوم السينما في لندن — وهي ممثلة زائعة الشهرة بالجمال والفن معًا — أحبته وكلفت به كلفًا شديدًا، فكانت تقصر عليه كل أوقات فراغها، تصاحبه في نزهاته وفي غشيانه لدور الملاهي، وتمضي معه لشهود ما يجتمع لشهوده من المعاهد والمعابد والمكتبات ونحو ذلك، حتى لقد تركت قصرها الفخم لتبيت معه في نزله، فلما آذن الصيف بالإدبار طالعها بنية السفر والقفول إلى بلاده، فتعلقت به وجعلت تبكي وتستعير، وتنشج أشد النشيج وأوجعه وتضرع إليه أن يبقى، على أن تعوضه مما يخسر من ترك عمله في مصر عشرات الأضعاف، وهو يتأبى ويتجنى حتى إذا يئست من مقامه، صممت على ترك عملها في إنجلترا والشخوص إلى مصر، رجلها مع رجله!

وما زال بها يدفعها عن هذه النية الخطيرة فلا تتقلقل ولا تتململ إلى أن خوفها نقض التزامها للشركة التي تعاقدت معها، وما يلزمها من تعويضات جسيمة، ثم سكتت على أن تلحق به إلى مصر بمجرد انتهائها من عملها، وكذلك استطاع أن ينفلت من بين يديها، وكذلك خلا له وجه الطريق إلى مصر.

انتظروا يا معشر القراء، فإن الرواية لم تتم فصولًا.

بعد قدومه ببضعة أشهر لقيته ذات يوم فقال: ألم أحدثك حديث ممثلة السينما الإنجليزية؟ فجمعت ذاكرتي ثم قلت: بلى. قال: لقد ذهبت ليلة أمس في جماعة من صحبي إلى دار سينما «كذا» فإذا صاحبتنا تمثل في إحدى الروايات المعروضة، وما أن رأتني حتى انفلتت من موقفها في الرواية، وأقبلت نحوي حتى ملأت وحدها وجه الشاشة، وحجبت كل ما يليها وانحنت انحناءة بديعة وهي تبتسم ابتسامة أبدع، ثم جمعت أطراف بنانها ولثمتها لثمة طويلة ثم فرقتها مومئة إلي بها ما تبالي النظارة ولا أصحاب الدار، ولا أولياء الشركة في سبيل الغرام، أرأيت يا فلان إخلاصًا كهذا الإخلاص وغرامًا كهذا الغرام؟

فحلفت له بكل مؤثمة من الأيمان بأنه كان من يوم أرسل آدم وحواء إلى الأرض إلى اليوم، ولا يكون من اليوم إلى ساعة ينفخ في الصور إخلاص يداني هذا الإخلاص، ولا غرام يبلغ عشر هذا الغرام!

ولندخل الآن في البطولات الاختصاصية — إذا صح هذا التعبير — ولتجعل حديثنا الأول منها في البطولة العسكرية، فهي الأشكال بحال العالم في هذه الأيام:

فلان بك — رحمة الله عليه — انحدر من ناحيتيه من أصل تركي، أو تركي وشركسي، وكان أبوه الباشا ممن حكموا في مصر، واقتنوا الضياع وشيدوا القصور، وتركوا لورثتهم فوق ذلك جلائل الأموال، وحصل صاحبنا من العلم في أول نشأته ما لا أظنه يزيد على ما تلقته المدارس الابتدائية، اللهم إلا ما حصله من اللغة التركية فلقد كان يحذقها كدأب أمثاله من أولاد الذوات في ذلك العهد بحكم بيئتهم وكثرة حديثهم بهذه اللغة مع آبائهم، وأمهاتهم، وجواريهم وأغواتهم.

وقضى أبوه وأزل له بالإرث ما قضى الشرع من تلك الضياع والبيوت والمجوهرات والدنانير، وكان ذلك شيئًا كثيرًا،١ وكان كلفًا شديد الكلف بالدولة التركية، لا يرى جيشًا أقوى من جيشها، ولا أسطولًا أضخم من أسطولها — وإن كان محجوبًا عن الأنظار الآن — ولا سياسة أحكم من سياستها، أما الحديث في «المايين» ورجال «المايين» والسلطان وما أدراك ما السلطان، فذلك شيء لا تتطاول إلى وصفه الأقلام.

شغل هذا ذهن الرجل حتى استغرقه وملك عليه جميع حواسه، واستهلكها استهلاكًا فلا يحتويه مجلس في داره أو في دار غيره، أو في المقهى، أو في قطار السكة الحديد، إلا تحدث في هذا وأسرف في وصف ما رأى من عظمة تركيا، ودهاء ساستها، وقوة جيشها، وضخامة أسطولها أيضًا!

ثم بدا له فجمع نحو أربعين غلامًا أفرغ عليهم ثيابًا عسكرية تركية، ودعا برجل من أساتذة الموسيقى، فقام على تعليمهم وتمرينهم في فنون الموسيقى التركية، وجاءهم بأحسن الآلات، وزودهم بأكثر ما دون من «النوتات» وأقام لهم دارًا واسعة في إحدى ضياعه، فإذا أقبل عيد جلوس السلطان أو عيد ميلاده أو غير ذلك من المناسبات، دعا بالموسيقى إلى القاهرة فجعلت تطوف عازفة بشوارعها الكبرى، وهو يتقدمها وعليه الحلة العسكرية التركية على أنه كان متواضعًا؛ فلا يضع على كتفه إلا شارة أمير اللواء «ميرالاي» التي نالها بكل استحقاق في أثناء خدمته في الجيش العثماني، وما أبلى في حروبه الكثيرة بعد تخرجه من المدرسة الحربية هناك، متفوقًا على الأقران في الامتحان!

وهنا أرجوك يا سيدي القارئ ألا تكون فضوليًّا فتسأل: متى كان سعادته في القسطنطينية، ومتى انتظم في المدرسة الحربية ومتى غزا وقاتل إذ هو لم يغب عن عيون أهل مصر في يوم من الأيام؟ لا تكن بالله فضوليًّا، فتوجه إلى نفسك أو إلى غيرك مثل هذه الأسئلة، وأنت على كل حال حر في تقبل الحديث وفي رده، ولا ضير في هذا الرد على أحد، ولله در العامة إذ يقولون في مثل هذا المقام: «البايرة على بيت أبوها!»

وبعد، فقد عرفت أن صاحبنا قائد عسكري من أمهر قادة الجيش التركي، وما عرض أحد بين يدي مجلسه لذكر موقعة حربية حديثة، إلا هتف بما أبلى فيها وجاهد، ونازل وجالد، وما نصب للعدو من كمين، وما أوقع بهم من الشمال ومن اليمين.

على أن من واجب الإنصاف أن نقرر أن الرجل لم يكن قائدًا عسكريًّا بريًّا فحسب، بل لقد كان في بعض الأحيان قائدًا بحريًّا من أمهر أمراء البحر، ولقد أذكر أنه ضمنا به مجلس في قيام الحرب الكبرى الماضية، وجرى ذكرى الغواصات وكيف يعصف «تربيدها» بالسفن عصفًا؟ فقال: اسمعوا: لقد كنت أقود ذات يوم طرادًا تركيًّا في الدردنيل، فرمته إحدى غواصات الحلفاء «بتربيد» فنسف وغرق من فيه في الحال، ولم يبقَ منه إلا أنا ونرجيلتي — الشيشة — يحملنا لوح من الخشب، ولبثنا على هذه الحال اثنتي عشرة ساعة حتى أنقذتنا سفينة عابرة، وكانت الشيشة هي سلوتي في هذه الساعة المهولة!

فقال له خبيث من الحاضرين: ألم تنطفئ الشيشة يا فلان بك في كل هذه المدة؟ فأجاب من فوره، ما أنا كنت بكركر فيها!

ومن أروع عبقرياته التي لا تلحق أبدًا والتي تعز على طول الزمان، وتعصى، أننا كنا في بعض الأمسية نسمر في دار قريب له، وكان معه أكبر أولاده، وكان ذلك في أثناء حرب البلقان سنة ١٩١٣ على ما أذكر، وجعل الحاضرون يهتفون بفضل رءوف بك قائد الطرادة حميدية، ويشيدون بجرأته ومهارته وفعله الأفاعيل بطرادته، فقال: ألا تعرفون أن رءوفًا هذا هو ابني؟ فلم يتداخلنا شك في أنه يعني أنه تلميذه، تخرج عليه في مدرسة البحرية فلعله كان أستاذًا فيها أيضًا ومن يدري؟ فلما قلنا له في ذلك، قال: بل ابني من صلبي لا تلميذي، فقال ابنه: وكانت سنه تبلغ نحو الثامنة عشرة: وهل سبق لك يا أبي أن تزوجت غير «نينتي»؟ فأجابه في عنف وغضب بل هو ابني من أمك، اخرس بقى واخرج من هنا فتولى الفتى ساكتًا مبهوتًا؟

وأظن أن هذا أيسر جزاء لمن لا يعرف شقيقه الأكبر!

رحمه الله ومن مات من رصفائه الأجلاء، وبسط في أعمار تلاميذهم من الأحياء، حتى يبلغ الفن على ألسنتهم ما هو مقدور له من القوة والنماء.

١  لقد أضاع الرجل كل هذا، ولم يبقَ له ما يساوي درهمًا واحدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤