الكتاب ومؤلفه

بقلم الدكتور مهدي علام عميد كلية الآداب بجامعة عين شمس

في كل علم من العلوم كتبٌ تحتفظ بقيمتِها العلمية (إلى جانب قيمتها التاريخية) بعد تأليفها بزمن طويل؛ ذلك لأنها تعالج أمَّهاتِ المسائل في عموم حذِر، داخل نطاقٍ من المعرفة الشاملة الخاضعة لمنهج قويم. ولقد تُضيف البحوث الجديدة، والكُشوف الحديثة، إلى موضوعات تلك الكُتب، ولكنها قلَّما تتعارض معها تعارضًا يُلغيها. ومن هذه الكتب هذا الكتابُ الذي قضيتُ في قراءته وفي مراجعةِ ترجمته إلى العربية أيامًا من أمتع أيَّامي.

فهذا الكتاب «علم الاجتماع» للأستاذ موريس جِنزبِرج، كما سيرى القارئ في هذه الترجمة، يُعالج المشكلاتِ الكبرى لعلم الاجتماع، بعَرضها عرضًا مركَّزًا دون تعرُّض، إلا في القليل النادر، للأمثلة الجزئيَّة والشرح التفصيلي، بل إنه، في أمانةٍ علمية، كثيرًا ما يترك بعضَ المسائل التي يثيرها دون إجابةٍ حاسمة لها؛ لأنَّ البحوث العلميَّة في الفروع المتعلقة بهذه المسائل لم تكن تقدمتْ تقدُّمًا كافيًا يدعو إلى الاطمئنانِ في الاعتماد على نتائجِها.

وهذا الكتاب، في منهجه، مزيجٌ من الرُّوح التجريبية ونزعة التَّعميم العقلي؛ فهو لم يستسلمْ لما يمليه المنهج التجريبي من استقصاءِ الجزئيات والتحقُّق منها، متجنبًا الخوض في المشكلات العامة؛ كما أنه لم يقيِّدْ نفسه بقيود المنزعِ العقلي، فيتجاوز الجزئيات مُؤْثرًا معالجة المشكلات ذات الصيغة الفلسفية، بل اتخذ لنفسه منهجًا وسطًا بين هذا وذاك، فاستخدم المنهجَ التجريبي في شكِّه في الأحكام التي وصل إليها بعض علماء الاجتماع قبله، إذا لم تكن التجربة قد أثبتتها إثباتًا قاطعًا، كشكِّه في الآراء والمعتقدات الشَّائعة، مثل فكرة «الجنس النقي»، أو التفاوت بين الأجناسِ في الصفات الجسمية أو القدرات العقلية، أو الاعتقاد بوجودِ طابع قومي ثابت، كما أنه لم يحرِم نفسه (ولم يحرمنا كذلك) ثمرةَ النزعة العقلية والمنهج الفلسفي في التفكير؛ فقد عرَض في كثير من فصوله لمشكلات عامة بطريقة أميَلَ إلى التجريد وإلى تجاوز نطاق الجزئيات، كبحثه في العلاقة بين الأخلاق وعلم الاجتماع، ومدى تأثُّر كلٍّ منهما بالنظرة الوضعية والنظرة المعيارية، بطريقة فلسفية خالصة؛ وكذلك بحثه في مظاهر التطوُّر العقلي من أخلاق وعقيدة وفكر، محاولًا أن يصلَ إلى الخيوط التي تربطُ بين مختلِف مراحل هذا التطور، وهو موضوعٌ فلسفي خالص.

إن القارئ الذكي المتطلِّع لروح البحثِ النزيه لا بدَّ أن يطمئنَّ إلى الكاتب الذي لا يتعصَّب لرأي، ولا يتطرف في الدفاع عن مذهبٍ، شأنَ الفيلسوف الحق، والعالم النزيه. ففي موضوع شائكٍ، كموضوع الدين، لا يتردَّد مؤلفُنا أن يقول في «الفصل السابع»:

«وكثيرًا ما حدث حين أكَّدَت الأديان أولوية العنصر الروحي أنه إما أن انفصلتِ الأديان عن الاتصال بالعالَم الواقعي، وإما أنها أسلمت مقاليدَ أمورها إلى سلطات دنيوية، مما أدَّى بها إلى التسليم في أمور تخالف أُسس تعاليمها ذاتها، ويشهد بذلك موقفُ الكنائس من الحرب والعبودية ورقِّ الإقطاع. وفضلًا عن ذلك فإن ادِّعاء الدين بأن له بصيرةً تعلو على المعتاد، قد استُغلَّ كثيرًا في الماضي للوقوف في سبيل البحثِ العقلي، وأثار ادعاءً مضادًّا له، من جانب الفكر العلمي، بأن هذا الفكر العلمي كافٍ لتفسير كل شيء، وهو ادِّعاء قد لا يقلُّ تطرفًا عن الادعاء الأول.»

ويزيد الموقف إنصافًا وإيضاحًا حينما يقولُ في موضع آخر من الفصل نفسه:

«ولنضف إلى ذلك أن الاعتراف يزدادُ دوامًا بأن موقف العلم، في إنكاره أو إقلاله من أهمية التجربة التي لم تقع بعدُ في نطاقه، أو يمكن أن تبحث بمناهجه الخاصة، هذا الموقف ليس له ما يبرِّره. بل لقد ذهب بعض المفكِّرين إلى أن هناك تجاربَ معينة، كالتجربة الجمالية أو الدِّينية، تقدِّم إلينا تبصرًا بالعالم الحقيقي أكثرَ دقة وعمقًا من ذلك الذي تقدمه العلوم الطبيعية. أما أن هذه التجارب يمكن أن يُعالجها العلم أو الميتافيزيقا فذلك أمرٌ يتوقف، في ضمن ما يتوقف عليه، على الطريقة التي يُعرف بها كل من العلم والميتافيزيقا.»

•••

ومؤلف الكتاب هو الأستاذ «موريس جِنزبِرج Morris Ginsberg» ولد في ٢٤ مايو سنة ١٨٩٩م، وتلقَّى دراسته الجامعية في (University College) بجامعة لندن، وواصل بحوثَه الفلسفية حتى حصلَ على درجةِ الماجستير والدكتوراه. وكان بين سنتي ١٩١٤ و١٩٢٣م مدرسًا للفلسفة بهذه الكلية، ثم أصبح أستاذًا لعلم الاجتماع بجامعة لندن في سنة ١٩٢٩م، وأحلَّتْه شهرته العلمية في مركز رئيس الجمعية الأرستطاليسية (١٩٤٢–١٤٩٣م)، كما عُين رئيسًا للجمعية البريطانية لعلم الاجتماع، ومنذ سنة ١٩٥٣م أصبح عضوًا في الأكاديمية البريطانية.

وأهم مؤلفاته هي، بترتيب ظهورها الزمني:

  • (1)
    The Material Culture and Social Institutions of the Simple Peoples.

الحضارة الماديَّة والنظم الاجتماعية للشعوب البسيطة.

(ألفه بالاشتراك مع L. T Hobhouse & G. C. Wheeler لندن ١٩١٥م.)
  • (2)
    The Psychology of Society.

علم النفس في المجتمع، لندن ١٩٢١م.

  • (3)
    Studies in Sociology.

دراسات في علم الاجتماع، لندن ١٩٣٢م.

  • (4)
    Sociology.

علم الاجتماع، لندن ١٩٣٤م (وهو هذا الكتاب الذي نقدم هنا ترجمته).

  • (5)
    Moral Progress.

التقدم الأخلاقي، لندن ١٩٤٤م.

  • (6)
    Reason and Unreason in Society.

العقل واللاعقل في المجتمع، لندن ١٩٤٧م.

  • (7)
    The Idea of Progress.

فكرة التقدم، لندن ١٩٥٣م.

وله، إلى جانب هذه الكتب، عددٌ كبير من المقالات العلمية التي نشرها في المجالات الاجتماعية والنفسية، وفي منشورات الجمعية الأرستطاليسية على الخصوص.

لم يبقَ إلا أن أُقدِّم هذه الترجمة التي بذل فيها مترجمها الدكتور فؤاد زكريا، وبذلتُ في مراجعتها، كلَّ ما أملَتْه علينا الأمانة العلمية في ألا يَجنح تعبيرٌ من تعبيراتنا العربية عن الفكرة الأصلية التي قصدها المؤلف. وفي سبيل ذلك طوَّعنا بعض التعبيرات العربية لتؤدِّي بعض المعاني التي لم يسبقْ أن تناولَتْها الكتابة العربية. ويسعدني أن أقرِّرَ هنا أن جهد زميلي المترجم يستحق كلَّ تقدير؛ لما تضمَّنه من علم وثيق بمادته، وفهمٍ مشكور للغة الإنجليزية، ومقدرة ممتازة على البيان العربي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤