الفصل السادس

الطبقات الاجتماعية والتنظيم الاقتصادي

يمكننا أن نصف الطبقات الاجتماعية بأنها أجزاء من المجتمع، أو مجموعات من أفراد يقف كلٌّ منهم على قدم المساواة مع الآخر، ويتميز عن أجزاء المجتمع الأخرى، بمعايير لارتفاع المكانة أو انخفاضها، يقبلها المجتمع أو يجيزها.

ففي داخل كل طبقة مساواة أساسية، تعلو على الفوارق الصغرى وعلى المراتب التي تنقسم إليها الطبقة، ولكن بين الطبقات ذاتها هوة لا يمكن أن تعبر إلا بصعوبة. وفي وُسعنا أن ننظر إلى علاقات المساواة والعلو والانخفاض أولًا من الناحية الموضوعية، أي من وجهة نظر المشاهد الخارجي. وثانيًا من وجهة نظر العوامل النفسية التي تكمن من ورائها؛ ففي نظر المشاهد الخارجي تكون الطبقة قبل كل شيء، مسألة طريقة في السلوك، والكلام، والملبس، والتعليم، وعادات التعامل الاجتماعي بوجه خاص؛ إذ يتعامل الأفراد الذين ينتمون إلى طبقة واحدة على قدم المساواة، ولكنهم عندما يتَّصلون بأفراد ينتمون إلى طبقات أخرى، نجدهم يسلكون مسلكًا ينطوي على الاحترام أو الخضوع من جهة، وعلى الثقة والاعتداد بالنفس من جهة أخرى. أما في الحدود الفاصلة بين الطبقتين فإنا نلاحظ سلوكًا يحرص بوجهٍ خاص على حفظ المسافة. على أن وراء عادات السلوك هذه أمورًا أهم؛ فهي تعبر عن القِيم التي تضفيها المجتمعات على مختلف أساليب الحياة، وهي وسائل حفظ وحماية للامتيازات المرتبطة بمختلف أساليب الحياة؛ فالأفراد الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية معينة، ينتظر منهم أن يظلوا على مستويات معينة في الحياة، وأن يكون لديهم نوع معين من التعليم، وأن يختاروا مهمَّتهم في حدود نطاق محدود. وهكذا تُستخدم الطبقة أداة لإبقاء كل في مكانه، سواء أتم ذلك عن طريق امتيازات قانونية أو عن طريق ما تقره الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؛ فالفروق في السلوك هي، بمعنًى ما، جزء من الوسائل التي تحفظ الحواجز الاجتماعية، ولكنها بمعنًى آخر نتيجة لهذه الحواجز؛ فالأفراد يكتسبون عاداتهم السلوكية من الطبقة التي يُولدون فيها، ويساعد سلوكهم على حفظ الفروق بينهم، وإبقائها على ما هي عليه.

أما إذا تأملنا الفروق بين الطبقات من وجهة النظر الذاتية، فإننا نجدها ترتكز على نمو المشاعر أو مجموعات الاستعدادات الوجدانية. وهذه على ثلاثة أنواع؛ فهناك أولًا: شعور بالمساواة بالنسبة إلى أفراد الطبقة التي ينتمي إليها المرء؛ شعور بأن المرء يكون معهم على سجيَّته، وإحساس بأن طريقة سلوكه سوف تنسجم مع سلوك الآخرين. وهناك ثانيًا: شعور بالنقص بالنسبة إلى من هم أعلى في التدرج الاجتماعي. وثالثًا: شعور بالرفعة بالنسبة إلى من هم أدنى. وإلى هذا المجال تنتمي بوجه خاص الرغبة في حفظ المظاهر، والخوف من فقدان المكانة، وهو الخوف الذي يتميز به خاصة أولئك الذين لا يكون مركزهم مستقرًّا في طبقة معينة، وإليه تنتمي من جهة أخرى الرغبة في الصعود إلى أعلى أو الارتقاء في المركز، على الأقل بالنسبة إلى الأبناء، وهو الشعور الذي يتملك أولئك الذين يقفون في الدرجات العُليا من طبَقتهم. وبين هذه المشاعر للمساواة والنقص والترفع تداخل وثيق؛ نظرًا لوجود كثير من المراتب في التسلسل الاجتماعي، وما يستتبعه ذلك من سنوح فرص لامتزاج الطموح والتنازل. وفضلًا عن ذلك، فهذه المشاعر تقبل التشكل في صور متنوعة يظهر فيها الشعور على عكس حقيقته، وتبدو فيه الرغبة في التعويض، كما يتمثل بوضوح في الروح العدوانية المفرطة التي يتصف بها محدَثو النعمة، والتواضع الظاهري المترفع الذي تبدو به الطبقات العليا، إذا اتصلت بما هي أدنى منها من الطبقات.

ولا جدال في أن أهم العوامل الحاسمة التي تؤدي إلى التفاوت الاجتماعي في الجماعات الحديثة هو العامل الاقتصادي؛ فالأحوال الاقتصادية، في الأغلب، هي التي تحدِّد نوع التعليم الذي يمكن أن يتلقاه المرء، كما تحدد، تبعًا لذلك، نطاق المهن الميسورة له. والمهنة بدورها دليل بين على أسلوب المرء في الحياة، ومركزه الاجتماعي العام. بل إن الغنى والفقر هو بمعنًى معين، حكم نسبي متوقِّف على الطبقة؛ فنحن نحكم على الشخص بأنه فقير إذا لم يكن يستطيع أن يعيش في مستوى طبقته، وبأنه غني إذا كان مستوى معيشته أرفع منها. ومع ذلك فللدخل أهميته، من حيث إنه يتحكم في اختيار المهنة، ومن الممكن أن تميز مجموعات المهن على أساس درجة الاستقلال فيها، وضمان الثبات فيها، والمركز التعليمي والاجتماعي الذي تقتضيه. وهي كلها أمور تقترب كثيرًا من خط الفوارق الطبقية، ولا تتوقف المنزلة التي ترتبط بمختلف أنواع العمل توقفًا كاملًا على ما تدره هذه الأعمال من دَخْل، بل تتوقف أيضًا على ما تتضمنه من مهارة، وما تستلزمه من خبرة وتعليم، وعلى قيمة ندرتها، وكمية الاستقلال الشخصي الذي تجلبه لصاحبها، وتتوقف أيضًا، بلا شك، على كثير من العوامل غير المعقولة التي تدخل في تقدير الناس لمختلف أنواع العمل، والتي تختلف، على ما يبدو، اختلافًا غير قليل باختلاف المجتمعات والعصور. وهكذا تكون الطبقات الاجتماعية، بالمعنى الذي استخدمناه هنا، ناتجة عن عوامل عدَّة، وبخاصة التعليم، والأسلوب العام في الحياة، والمهنة، والمركز الاقتصادي. أما السؤال عن مدى تماسك الجماعات التي تكونها الطبقات الاجتماعية، فليس مهمًّا في تعريف الطبقة الاجتماعية من حيث هي طبقة اجتماعية، بقدر ما هو مهم في الاعتبارات السياسية والاقتصادية؛ فالطبقات ليست جماعات قائمة بالفعل، بل هي جماعات ممكنة الوجود؛ وهي ليست في ذاتها هيئات ذات وظائف محددة، ولكنها قد تكون المادة التي تُبنى عليها الهيئات، كالأحزاب السياسية مثلًا.

ولننتقل الآن إلى بحث الشروط التي تؤدي إلى تكوين وعي طبقي لدى أفراد الطبقة. وأول هذه الشروط في رأيي هو مدى قابلية المجتمع للتغير، ومقدار سهولة هذا التغير. فقوام الوعي الطبقي هو شعور المرء بأنه في موقفه العام، وفي سلوكه، متشابه لأفراد طبقته، ومختلف عن أفراد الطبقات الأخرى. ومن السهل أن ندرك أنه إذا كانت الحركة إلى أعلى وإلى أسفل سهلة وسريعة، كان لا بد للفروق في أسلوب الحياة أن تتجه إلى الاختفاء، أو تفقد أهميتها. أما إذا كانت الحركة مستحيلة، كما في المجتمعات القائمة على طبقات الحسَب والأصل؛ فإن نظرة الأفراد الذين ينتمون إلى مراتب مختلفة كل إلى الآخر، تتجه إلى أن تصبح عادة ثابتة شبه آلية. وأخيرًا، إذا كانت الحركة ممكنة ولكنها ليست هيِّنة، فأثر ذلك هو زيادة الإحساس بالفروق، وخاصة على الحدود بين الطبقات، ما دام الأفراد يستشعرون عندئذٍ رغبة قوية في النهوض، أو خوفًا من الهبوط في سلم المجتمع. والشرط الثاني للوعي الطبقي هو المنافسة والصراع، فأفراد الطبقة يتوافر لديهم الوعي بوجود مصالح مشتركة بينهم عن طريق الحاجة إلى الدفاع ضد عدو مشترك، وهمي أو حقيقي. وهذا الوعي يقوى بوجه خاص إذا وقع التصادُم مع طبقة كان لديها من قبل وعي طبقي. فعندئذٍ تتجه الطبقات إلى تنظيم نفسها في جماعات متماسكة، ليصبح لها طابع الهيئات. وهناك عامل ثالث له نصيبه في تكوين هذا الوعي، وهو نمو تراث مشترك تتجسد فيه التجارب والمعايير التقويمية المشتركة. وطبيعي أن يكون لهذا العامل أيضًا قيمته الكبرى في المرحلة التي يصِل فيها تطور الطبقات إلى الوعي بذاتها؛ إذ يعين عندئذٍ عونًا عظيمًا على رسم سياسة مشتركة للمستقبل.

(١) درجات التفاوت الاجتماعي

رأينا أن الطبقات الاجتماعية تتكوَّن بفعل مجموعة من عوامل متعددة، يكون العنصر الأساسي فيها هو القيمة التي تُعزى إلى مختلف أساليب الحياة. وهذا العنصر الأساسي، على ما يبدو، ماثِل في كل صور التفاوت الاجتماعي، على الرغم من أن التعبير عنه قد يتخذ صورًا مختلفة، وعلى الرغم من أنه قد يؤدي إلى أنواع مختلفة من التدرج. فإذا ما تأملنا المشكلة بصورة عامة، أمكننا أن نميِّز بين أنماط الطبقات الاجتماعية على أسس ثلاثة، وهي: جمود الدرجات، ونوع الإقرار، أو الإجازة التي تعتمد عليها الفوارق، ودرجة التماسك والتميز الوظيفي للطبقات التي تنشأ على هذا النحو. تلك هي المعايير التي تبدو متضمَّنة في ذلك التميز الذي يقوم به علماء الاجتماع عادة بين نظام المراتب Estates،١ ونظام الأجناس Caste،٢ والطبقات الاجتماعية بمعناها الأخص.
فنظام المراتب «وتسمى بالألمانية Stande» هو نظام من المراتب الاجتماعية التي يحدد القانون والعرف مكانتها. وهي توجد، ببعض الفروق، في كل أنحاء القارة الأوربية التي يسودها النظام القديم، كما كانت توجد أيضًا في العالم القديم. ويكاد التدرج في المراتب يكون متماثلًا في البلاد التي توجد فيها هذه المراتب؛ ففي المرتبة العليا نجد النبلاء، الذين هم حكام الدولة وحُماتها، ثم الكهنة، ثم يأتي التجار، والصناع اليدويون، ولكل فئة منهم واجباتهم ووظائفهم التي تتفاوت في دقة تحديدها، وأخيرًا الراسفون في الأغلال، بأنواعهم المختلفة. وتحتفظ الطبقات العليا بميزات كثيرة، كخضوعها لقانون خاص، وتمتعها بحصانات عدة أيضًا، كالإعفاء من دفع الضرائب. والمولد هو الذي يحدد الرتبة والمكانة، وقد يحدث أحيانًا أن يرتفع بعض الأفراد عن طريق منحهم الألقاب النبيلة، كما أن الكنيسة قد تختار أفرادها أحيانًا من الطبقات الدنيا، ثم إن الراسفين في الأغلال قد يحررون. غير أن الأغلب هو أن تتناسل كل طبقة مع نفسها، ويتوقف الانتقال من طبقة إلى أخرى على مشيئة ذوي المراتب العليا. وفي معظم الأحيان كان ظهور نظام المراتب في أوروبا ناشئًا تدريجيًّا عن النظام الإقطاعي، وظلت له حتى القرن الثامن عشر كثير من سمات العصر الإقطاعي، وخاصة في تسلسل المراتب وخضوع كل مرتبة لما يعلو عليها، واعتمادها عليها.
أما نظام الأجناس Caste، كما يتمثل في الهند الحديثة، فيختلف عن نظام المراتب في نواحٍ هامة معينة؛ فمن الممكن أن يوصف نظام الأجناس بأنه جماعة تتزاوج داخليًّا، ويعمل أفرادها، بحكم العرف، في مهنةٍ واحدة، أو مهن معينة مترابطة، وتجمعهم سويًّا قواعد اجتماعية معينة في السلوك، وطقوس أو شعائر مشتركة يحرصون على أدائها. وهذا النظام متحجِّر، فلا يستطيع الفرد فيه أن يرتفع عن المركز الذي ولد فيه، على الرغم من أن الجماعات قد ترتفع، أو تهبط أحيانًا نتيجة للانفصام أو الاندماج. ويختلف نظام الأجناس عن نظام المراتب في طابعه الديني، وفي تحجره العظيم، وربما كان يختلف أيضًا في أن الفروق في الملكية لا تكاد تكون لها أهمية في نظام الأجناس. فهذا النظام هو قبل كل شيء تجمعات وظيفية أو مهنية، تتأثر تأثرًا عميقًا بالفروق في الطقوس أو الشعائر، وهو يقدم إلينا مثلًا بارزًا يبين مدَى تأثير العوامل غير المعقولة على التقويمات الاجتماعية للمهن وأساليب الحياة.
أما الطبقات الاجتماعية الحديثة؛ فتختلف عن المراتب أساسًا في أنها لا تقوم على فروقٍ في الوضع القانوني. فهناك من الناحية النظرية مساواة أمام القانون، والمفروض نظريًّا أن أبواب المهن وغيرها من الوظائف الاجتماعية مفتوحة لكل الأفراد، وليست هناك قيود تشريعية على اكتساب الملكية. وفضلًا عن ذلك، فليس للطبقات الاجتماعية ذلك التحجر الذي تتصف به المراتب أو الأجناس؛ ففيها قدر غير قليل من الحركة إلى أعلى السلم الاجتماعي وأسفله، والتدرجات الاجتماعية بين الطبقات كثيرة إلى حد يتعذَّر معه رسم حدودها بدقة. ولقد رأينا من قبلُ أن الطبقات الاجتماعية الحديثة يمكن أن يُنظر إليها من زاوية أسلوب الحياة، وبخاصة سلوك كل طبقة نحو الأخرى؛ فالطبقات التي يُتوصل إليها على هذا النحو تناظر على وجه العموم المكانة الاقتصادية، إذا حكمنا على المكانة الاقتصادية لا من حيث مقدار الدخل ومصدره فحسب، بل من حيث درجة الأمان والاستقلال الشخصي فيها، وما تخوله للفرد من قدرة على الابتكار والتصرف والتحكم. ويبدو أن هذا هو أصل الفروق الأساسية التي تميز بها الطبقة المتوسطة أو البورجوازية عن الطبقة العاملة. فالطبقة العاملة تشتمل على كل أولئك الذين يقتصر اعتمادهم في كسب عيشهم على عرض عملهم نظير أجورهم، والذين يعوقهم دخلهم، وعدم ثبات مركزهم عن تغيير منزلتهم أو منزلة أطفالهم. وهذه الطبقة تتكوَّن أساسًا من فئة الأُجراء اليدويين عامة، ولو أنها قد تضم أيضًا حالات تقف على الحدود (أي ما يسمى بأشباه العمال Proletaroid)، وهم أولئك الذين لا يُعدُّون أُجراء بالمعنى الدقيق، بل يشتغلون لحسابهم الخاص، ولكن يقوم استقلالهم وضمانهم لمركزهم، على أساسٍ بلغ من الضعف حدًّا يجعلهم دائمًا مهدَّدين بالاندماج في الطبقة العاملة. ولهذه الطبقة خصائص متميزة واضحة؛ فأفرادها يكتسبون قوتهم ببذل عملهم لقاء أجر، وكمية ممتلكاتهم ضئيلة جدًّا، إذا قورنت بما تملكه الطبقات الأخرى في المجتمع، وتكون هذه الممتلكات جزءًا يكاد يكون معدوم الأهمية في دخلهم الكلي، وليس لهم، من حيث هم أفراد، إلا نصيب ضئيل في رسم خطوط السياسة الاقتصادية أو توجيهها.

أما التمييز بين الطبقات الاقتصادية الأخرى ففيه صعوبة أكبر. فبين مجموعة الأجراء من جهة، والجماعة الصغيرة من أصحاب الملكيات الكبيرة من جهة أخرى، درجات متوسطة عدَّة، ليس لها حدود فاصلة دقيقة. والواقع أن لفظ الطبقة العليا ليس له اليوم أي مفهوم واضح؛ فهو يُستخدم للإشارة إلى كل أولئك الذي يتمتعون بمستوًى عالٍ نسبيًّا في الحياة، ويُستمد معظم دخلهم من الثروة المكدسة، كأصحاب الأراضي الواسعة، وذوي الأرباح من الأموال المستغلة، وكبار الرأسماليين، وكبار الموظفين، وعلية أصحاب المهن. غير أن من الصعب رسم الحدود بين هذه الطبقة، وبين الطبقات الوسطى، أو البورجوازية الصغيرة، كما أن على الحدود بين هذه الأخيرة وبين الطبقة العاملة جماعات عدة ليس لها تصنيف ثابت. ومن الشائع اليوم التمييز بين الطبقة الوسطى الجديدة والطبقة الوسطى القديمة؛ فالجديدة تشتمل على وكلاء الأعمال الذين يعملون على نطاق صغير أو متوسط، وصغار حملة الأسهم، وذوي الأرباح من الأموال المستغلة وصغار الفنِّيين والإداريين وذوي المرتبات (الماهيات) من الموظفين بمختلف أنواعهم، وطبقات أصحاب المهن في مستواها الأدنى والمتوسط. وهي جديدة بمعنى أنها تشتمل أساسًا على أناس ظهروا منذ نمو الصناعة ذات النطاق الواسع، فيرتبطون بها ارتباطًا وثيقًا، ويعتمدون عليها اعتمادًا تامًّا. أما الطبقة الوسطى القديمة، التي تسير الطبقة الوسطى الجديدة إلى الاندماج فيها، فتشتمل على البقية الباقية ممن يزاولون الوسائل القديمة في الإنتاج والتجارة، وأصحاب الحوانيت، والمنتجين والمشتغلين بالتجارة على نطاق ضيِّق وغيرهم ممن ظهروا بعد هؤلاء، ولكن يستخدمون أساليب مماثلة للقديمة. والمشكلة في هذا الموضوع هي: هل تكون كتلة غير متجانسة كهذه طبقة واحدة؟

الواقع أن التحيز السياسي قد أدى إلى بعث الاضطراب في هذه المسألة؛ فأولئك الذين لا يرغبون في اختفاء الرأسمالية، ينظرون إلى الطبقة الوسطى على أنها نوع من الحاجز بين العمال وكبار الرأسماليين، لها في ذاتها وظائفها المتميزة الثابتة. أما الاشتراكيون، فينظرون إلى الطبقة الوسطى على أنها في أساسها عابرة. وفي كلتا الحالتين تجد الفكرة وليدة الرغبة، فلم يثبت حتى الآن أن للطبقات الوسطى وحدة كافية، واشتراكًا في المصالح يجعل منها جماعة متميزة، كما لم يثبت أيضًا أن مصالحهم من التعارض والتنافر، بحيث يكون لزامًا عليهم أن ينضموا إلى صفوف الطبقة العاملة، أو يصبحوا تابعين للبورجوازية العليا؛ فالموقف يختلف باختلاف الدولة، وتبعًا للمستوى الذي بلغه التصنيع فيها، والدور الذي تقوم به الزراعة. ولكن ليس للطبقات الوسطى في أي مكان سياسة متماسكة بالنسبة إلى الجماعات الأخرى؛ فهناك قدر معين من العداء بين الطبقة الوسطى القديمة، التي يهدد مركزها نمو وسائل الإنتاج والتوزيع على نطاق واسع، وبين الطبقة الوسطى الجديدة، التي تفتح أمامها التطورات الحديثة آفاقًا تتجدد على الدوام. وكل من الطبقة الوسطى القديمة والجديدة منقسمة على نفسها، في موقفها من إلحاح الطبقات العاملة المتزايد في الإشراف على الصناعة، ولكن على الرغم من أن الطبقات الوسطى منقسمة من الناحية الاقتصادية والسياسية، إلا أن بينها نوعًا من التقارب في المركز الاجتماعي، يميزها — على الرغم من وجود درجات عدة بينها — عن الطبقات العاملة. ولا جدال في أنه قد ظهر في الأوقات الأخيرة ميل معين إلى الإقلال من الفوارق في أسلوب الحياة، وفي الفرص الثقافية والاجتماعية، غير أن المجتمع لا زالت له في مجموعه مراتب متميزة بوضوح، ولا زال يحتفظ بطابعه المتدرج، ولا زال الانتقال من طبقة إلى طبقة أمرًا عسيرًا؛ فإذا ما ظهر من آنٍ لآخر أفراد أمكنهم الانتقال من طبقتهم، فإن المجموع يظل في أساسه على ما هو عليه، نظرًا لنفوذ ذوي المراتب العليا، وميل أولئك الذين ارتقوا إلى اندماجهم في بيئتهم الجديدة. بل إن وجود بعض حالات الانتقال من أدنى إلى أعلى هو أمر لا بد منه لبقاء المراتب العليا. ولقد ذهب بعض الباحثين إلى حد القول بأن هذه هي الوظيفة الحقيقية التي تؤديها الطبقات الوسطى في المجتمع. فهذه الطبقات، عند أصحاب هذا الرأي، تقدِّم المادة التي يتم منها الانتقاء الاجتماعي؛ إذ إنها تضم في كيانها أصلح أفراد الطبقة العاملة وأنشطهم أو أكثرهم إقدامًا، وهي بدورها تُستخدم مستودعًا للمواهب، تُنتقى منه المراتب العليا. وسواء أكانت هذه هي وظيفتها أم لم تكن (والحق أن لنا أن نتساءل جديًّا: هل هناك مثل هذا الارتباط الوثيق بين المركز الاجتماعي والقدرة، وهو الارتباط الذي ينطوي عليه هذا الرأي؟) فإن الحواجز التي تحول دون الانتقال لا زالت باقية، ولا زالت الطبقات العليا في المجتمع تنتقي أفرادها في الأغلب من داخلها.٣ ولا زالت أبواب المهن العليا موصدة، غالبًا، في وجوه أبناء الفقراء. وهناك بعض الدلائل التي توحي بأن كبار أصحاب الأعمال قد أصبحوا يُستمدون، بنسبة متزايدة، من بين الطبقات الموسرة. بل إن هذه هي الحال في أمريكا ذاتها، إذ يتضح من بحث أجري أخيرًا أنه، على الرغم من أن كبار أصحاب الأعمال لا يكوِّنون طبقة مقفلة على نفسها بالمعنى الصحيح؛ فإن النصيب الذي يساهم به الأغنياء يزداد بسرعة، ومن المرجِّح أنه، بنسبة التزايد الحاصل الآن، سيصبح العنصر الأساسي.٤
ومن الصعب أن نحصل على بيان دقيق مقارن، عن نسب الطبقات الاجتماعية المختلفة في المجموع العام للسكان، ولكن في وُسعنا أن نذكر على سبيل التوضيح تقديرًا أو اثنين. فالمسجل العام في إنجلترا يميز خمس مراتب، يصفها بأنها:
  • (١)

    العليا والوسطى.

  • (٢)

    المتوسطة.

  • (٣)

    العمال الفنيون.

  • (٤)

    العمال المتوسطون.

  • (٥)

    العمال غير الفنيين.

وقد أورد في سنة ١٩٢١م التقدير الآتي للنسب المئوية لعدد كل من هذه الطبقات بالقياس، إلى مجموعة الذكور المشتغلين والمتقاعدين:

كل الطبقات الطبقة (١) الطبقة (٢) الطبقة (٣) الطبقة (٤) الطبقة (٥)
١٠٠ ٢٫٩٣ ٢٠٫٣٥ ٤٣٫٤٧ ٢٠٫٤٥ ١٣٫٤٠
وبالنسبة إلى ألمانيا، يستخدم الدكتور «جيجر Geiger» تصنيفًا آخر، فيقدم الأرقام الآتية:
الرأسماليون الطبقة الوسطى القديمة الطبقة الوسطى الجديدة أشباه العمال العمال
٠٫٨٤ ١٨٫٣٣ ١٦٫٠٤ ١٣٫٧٦ ٥١٫٠٣

(٢) مصادر التمييز الطبقي

اقتُرحت عدة نظريات لتفسير أصل التدرج الاجتماعي، فأُرجِعت الطبقات الاجتماعية إلى الغزو العسكري، وإلى الفروق في الثروة، وإلى التخصص الوظيفي أو تقسيم العمل. ويبدو أن كلًّا من هذه العوامل قد ساهم بنصيبٍ ما في التمييز الطبقي، غير أن أهمية كل عامل تتفاوت في مختلف العصور وبين مختلف الشعوب. فبين الشعوب الأدنى إلى السذاجة نجد أمثلة عدة للمكانة الوراثية التي ترجع إلى الحرب، كما هو الحال في إفريقية، غير أنا نجد حالات يرجع فيها علو المكانة إلى الثروة، كما هو الحال عند بعض هنود أمريكا الشمالية.٥ ولقد ظهر نظام المراتب Estates في القارة الأوربية على أنحاء عدَّة؛ فهو قد ظهر أولًا كتحوير للإقطاع، وارتبط خاصة بظهور المدن؛ وظهر ثانية نتيجة للغزو، كما هو الحال في هنجاريا، حيث كان النبلاء والتجار عنصرًا أجنبيًّا، وظهر ثالثًا بعملية تفرع داخلي من علاقات طبقية بسيطة، ليست مرتبطة بالحرب مباشرة، كما في حالة السويد.٦ وأثر الحرب كان يتمثل، كما لاحظ سبنسر، ليس في إظهار فروق طبقية، بقدر ما كان يتمثل في زيادة تعقيد هذه الفروق. فعندما تغزو جماعة، كانت فيها بالفعل فروق طبقية، جماعة أخرى، ينتج عن ذلك إضافة مراتب جديدة، وزيادة تعدد الأقسام في المجتمع الأكبر الذي يتكون باندماجهما معًا. أما عند بحث الطبقات الاجتماعية الحديثة؛ فإن العامل الاقتصادي يغدو ذا أهمية عظيمة. فكما رأينا من قبل، هناك تطابق عام بين المكانة الاجتماعية والمكانة الاقتصادية، إذا نظرنا إلى الأخيرة على أنها لا تعني كمية الدخل ومصدره فحسب، بل أيضًا الاستقلال الشخصي، وثبات المركز، واعتياد القيادة أو الانقياد. وإن التغيرات في العلاقات الصناعية لتنعكس عاجلًا أو آجلًا، في تغيرات التقويم الاجتماعي والنفوذ الاجتماعي.

(٣) الفروق الفردية والطبقات الاجتماعية

لقد لاحظ سبنسر، على أساس إثنوجرا في (أي مستمد من علم السلالات وأخلاقها) أن هناك فروقًا في التركيب الجسمي بين مختلف الطبقات الاجتماعية؛ فالنبلاء والقادة مثلًا هم في الغالب أطول قامة وأصلح في تركيبهم الجسمي العام من الفلاحين. على أنه كان يعتقد أن هذه الفروق راجعة إلى تباين ظروف الحياة، ولكن ما إن تقوم هذه الفروق حتى تتجه إلى أن تجعل التميز ثابتًا، بل تتجه إلى زيادة هذا التمييز. وأضاف سبنسر أن هذا لا ينطبق على السمات الجسمية وحدها، بل على السمات العقلية أيضًا. فممارسة إحدى الطبقتين لسطوتها يوميًّا، وخضوع الأخرى لتلك السطوة يوميًّا، يولِّد في الأولى قدرة وراثية على الأمر، وفي الأخرى قدرة وراثية على الطاعة، ويؤدي بمضي الزمن إلى الاعتقاد بأن العلاقات القائمة بين الطبقات هي العلاقات «الطبيعية». ولنلاحظ أن رأي سبنسر يفترض توارث الصفات المكتسبة، وهو رأي غير سائد بين علماء البيولوجيا الآن. ومنذ الوقت الذي كتب فيه سبنسر، تراكمت كمية كبيرة من المواد، في أوروبا وأمريكا معًا، تبين وجود فروق بين الجماعات الاجتماعية المختلفة، في الصفات الجسمية، وفي تعرضهم للأمراض، ونسبة الوفيات. وقد أثبت استخدام الاختبارات العقلية أخيرًا وجود فروق في الذكاء بين الجماعات المهنية. وهناك طريقة أخرى هي تقدير ما ساهمت به مختلف الطبقات الاجتماعية في الزعامة في مجال العلم والفن وإدارة الأعمال. والواقع أن من أصعب الأمور أن نضع للشواهد الموجودة تقديرًا، وليس في وسعنا هنا أن نناقش تفاصيل هذا الموضوع.٧
ومع ذلك فالنقاط الآتية جديرة بالملاحظة:
  • (أ)

    أن الصعوبة في كل هذه الأبحاث إنما تكون في الفصل بين العوامل الوراثية وعوامل البيئة، والطريقة التي استُخدمت حتى الآن تبدو من البعد عن الدقة، بحيث لا تسمح إلا بتحليل سطحي إلى أبعد حد.

    ففيما يتعلق باختبارات الذكاء مثلًا، ينعقد اجتماع الباحثين المدققين اليوم، على أنه بينما تنجح الاختبارات في قياس الفروق في القدرة الموروثة بين الأطفال الذين يختارون من بيئات عظيمة التشابه، فلا بد لنا أن نحذَر استخلاص نتائج متعلقة بالتغيرات الوراثية بين الأطفال الذين يشبُّون في ظروف اجتماعية عظيمة التباين. وعلى أيه حال فالفروق في الذكاء بين الجماعات المهنية المختلفة قليلة بالنسبة إلى الفروق الفردية داخل كل جماعة. وإذا تذكرنا أن معاملات الذكاء للأطفال يمكن — بناء على ما دلت عليه الشواهد الأخيرة — أن تتأثر بالتغير في البيئة إذا تم ذلك التغير في سن مبكرة، فإن ما لوحظ حتى الآن من فروق بين الأطفال الذين ينتمون إلى مراتب اجتماعية مختلفة، يبدو أتفهَ من أن يعد شاهدًا أكيدًا على الاختلافات الوراثية.

  • (ب)

    في ضوء ما في متناول أيدينا من شواهد، لا يوجد ما يدعو إلى الشك في حقيقة الفروق الفردية في القدرة، أو إلى إنكار أن لهذه الفروق أساسًا وراثيًّا. ولكن المشكلة هي في معرفة مدى ارتباط هذه الفروق بالمكانة الاقتصادية أو الاجتماعية؛ فالثروة والمكانة الاجتماعية تتحدد أساسًا تبعًا للوراثة الاجتماعية، لا المادية. ولا بدَّ أن التميز بالتفوق في الثروة الموروثة يخفي، أو يعوض، قدرًا كبيرًا من النقص الطبيعي في الطبقات الموسرة، على حين لا تجد كثير من قدرات الطبقات الدنيا مجالًا للتعبير عن نفسها، نتيجة للافتقار إلى الحافز وإلى الفرصة؛ فمثلًا: لا يؤدي الإخفاق في التأهل لمهنة معينة، في حالة الطبقات الموسرة، إلى تغير في المركز الاجتماعي، وإنما إلى مجرد انتقال إلى مهنة أخرى، داخلة في نطاق الطبقة الاجتماعية نفسها. فالطبقة الاجتماعية في الواقع هي التي تتحكم في المهنة، أكثر مما تتحكَّم المهنة في الطبقة. والمهن العليا لا زالت أبوابها في الأغلب موصدة في وجوه أبناء الفقراء، والفرص التي تكفل لهم للتنافس في هذا المضمار لا يمكن أن تؤثِّر إلا في عدد قليل نسبيًّا من الأفراد. ولقد استغلت تلك الحقيقة القائلة بأنه قد تبيَّن أن نسبة كبيرة من الرجال الممتازين في مختلف مجالات الحياة، يرجعون إلى المراتب الاجتماعية العُليا، ولكن لا جدال في أن هذا هو ما ينبغي أن نتوقعه في أحوال تكون فيها المرونة الاجتماعية محدودة، والفرص المبدئية للتقدم الثقافي عظيمة التفاوت. ولا شك في أن الفروق الفردية لا بد أن تكون لها أهميتها، وخاصة في داخل كل جماعة اجتماعية، ولكنها لا تكون لها إلا أهمية ثانوية في تحديد الأقسام الرئيسية داخل المجتمع، وهي على أية حال لا يمكن أن تكون مناظِرةً لصور التجمع في المجتمعات الحديثة، أو تبرر التفاوت الهائل الذي لا يزال يميزها.

  • (جـ)
    يمكننا أن ندعم هذه النتيجة العامة إذا تأملنا الاختلافات في التركيب الاجتماعي والتدرج الاجتماعي بين مختلف المجتمعات، وما طرأ على هذا التركيب والتدرج من تغيرات داخل المجتمع الواحد. فليس لدينا ما يدعونا إلى أن نفترض أن الانتقال من العبودية إلى رق الإقطاع،٨ ومن نظام المراتب Estates إلى الطبقات الاجتماعية، أو التعديل العميق الذي يطرأ الآن على كل المجتمعات الصناعية ومجتمعات المدن، ليس لدينا ما يدعونا إلى أن نفترض أن هذا الانتقال له أي ارتباط محدد بالتغيرات في صفات الجنس، أو في النسب التي تتمثل بها في الشعب تلك العوامل التي تحدد مختلف أنماط القدرة والمزاج (Charaeter)، بل إن هناك على العكس من ذلك، سببًا قويًّا يدعو إلى الأخذ بالرأي القائل بأن التركيب الوراثي للجنس ثابت ثبوتًا قويًّا، ولا يتأثر تأثرًا جوهريًّا بالتغيرات التي تطرأ على التركيب الاجتماعي، على حين نجد من جهة أخرى أن التغيرات في التركيب الاجتماعي تؤدِّي في كثير من الأحيان إلى الكشف عن مواهب كانت غير متوقعة، أو كانت خامدة. ومثال ذلك، أن معظم رجال الصناعة في شمال فرنسا قبل سنة ١٨٣٦م كانوا، كما يقول ميشيل Michels، يرجعون في أصلهم إلى الطبقة العاملة، على حين ضاقت بعد هذا التاريخ مباشرة فرصة الترقي أمام هذه الطبقة. وفي إنجلترا ظهر كثير من مُلَّاك المصانع والمخترعين في المراحل الأولى للانقلاب الصناعي من بين صفوف الطبقات الدنيا، ولكن في أواسط القرن التاسع عشر، أصبحت الحركة إلى أعلى محدودة أكثر فأكثر. ومثل هذا الرأي ينطبق على ألمانيا، وفي أمريكا، أوضحت الدراسة التي أشرنا إليها من قبل أن الرجل العصامي قد أصبح أكثر ندرة، وازداد بالتدريج انتماءُ كبار رجال الأعمال إلى الطبقات الثرية؛ فكل الاحتمالات تدل على أن مثل هذه التغيرات، في طبيعة التدرج الاجتماعي، ترتبط بالتغيرات في التركيب الاقتصادي والأحوال الاقتصادية أكثر مما ترتبط بالتغيرات في القدرة الوراثية التي تتوافر في كل حالة؛ فهنا، كما في سائر الظواهر، يكون العامل الاجتماعي أهم من العامل العنصري أو الوراثي. ومثل هذه الملاحظات تنطبق على التغيرات الواضحة كل الوضوح، التي نلمسها الآن في النِّسَب العددية للطبقات الاجتماعية المختلفة، وخصوصًا للطبقات الاجتماعية في الأقطار المختلفة؛ فهذه لا يمكن بأية حال أن تتمشى مع توزيع مراتب المقدرة في مختلف الشعوب.
ولنلخص الآن بإيجاز الاتجاهات العامة للتفرُّع الاجتماعي، كما تكشف عنها الدراسة المقارنة. ففي المجتمعات البدائية، لا نجد فروقًا في المكانة، فيما عدا التمييز بين أفراد الجماعات وبين الأجانب، والتمييزات المبنية على فئات السن أو الجنس أو الزواج. ولكن حتى في العالم البدائي، تقضى بنا هذه المساواة الأولية إلى فروق في المرتبة، كلما اتسع المجال أو التنظيم. فعندئذٍ تظهر الزعامات الموروثة، وتتجمع حول هذه الزعامات طبقة رفيعة وراثية، وخاصة إذا كان المجتمع قد تكون نتيجة للغزو. وفي الطرف الآخر من السُّلَّم، نجد العبيد وأرقَّاء الإقطاع٩ الذين قُضي عليهم بهذا المصير نتيجة للغزو، وتجارة الرقيق، ونذْر النفس والمولد. وهذا التفرع، كما لاحظنا من قبل، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتقدم الاقتصادي. فإذا صُنفت المجتمعات البدائية إلى مراتب اقتصادية مختلفة، تبين لنا أننا إذا انتقلنا من الصيَّادين إلى من هم أرقى منهم من الرُّعاة والزراع، ازدادت باطِّراد، في كل مرتبة من هذه المراتب، نسبة الشعوب التي تنطوي على طبقات متميِّزة من النبلاء والعبيد وأرقَّاء الإقطاع.١٠
ويزداد التفرع شدة في المدنيات الفرعية وفي الفترات الوسطى للمدنيات الحديثة؛ فهنا تصبح الفروق أعمق وأوسع، ونصادف صورًا كثيرة لنظام المراتب estates بما فيه من درجات يحددها القانون. وفي الفترة الحديثة يتحول نظام المراتب إلى طبقات اجتماعية. ويرتبط هذا الانتقال بالصراع السياسي بين الملكية وطبقة النبلاء، كما يرتبط بوجه خاص بظهور الصناعة في المدن، وهنا يعوق هذا الانتقال بصورة قوية القيود القانونية والاحتكارات والامتيازات الموروثة. ويساهم انتشار المعرفة بين طبقات أوسع، بنصيبٍ هامٍّ في القضاء على احتكار الكنيسة، ويؤدي بالتدريج إلى ظهور جماعات جديدة من العلماء المدنيين. وفي جميع أرجاء المجتمعات الحديثة، يؤدي الصراع السياسي والاقتصادي إلى إرساء دعائم المساواة أمام القانون، كما يؤدي بوجهٍ عام إلى ذيوع الأحوال الأساسية التي تكفل للجماهير رغَدَ العيش على نطاق أوسع. غير أنه على الرغم من إلغاء الرُّتب الوراثية، فإن الفروق في المكانة تظل قائمة، تساندها القوى الاقتصادية، وتظل هذه الفروق محتفظةً بكثير من صفات المبدأ الوراثي، نتيجة للقيود التي تقف في وجه المرونة الاجتماعية، ولنظام التوريث والوصية بوجهٍ خاص. فلا يزال المجتمع متدرجًا في تركيبه. ولا زالت هناك فوارق هائلة في القدرة الاقتصادية والفرص الثقافية؛ بل إن الفروق التي توجد هي أعظم بكثير مما قد يبدو لازمًا من أجل صالح تقسيم العمل والتخصص في الوظائف، وهذه الفروق — وقد ظهرت هي ذاتها نتيجة للصراع بين طبقات متعارضة — تخلق على الدوام مجالًا لصراع أكبر وعلى نطاق أوسع.

(٤) التنظيم الاقتصادي

بعد ما قلناه عن التدرج الاجتماعي ننتقل إلى بحثٍ موجز للتركيب الاقتصادي للمجتمع. والواقع أن تشعُّب هذا الموضوع وتعقُّده لا يسمح لنا إلا بأن نعالج منه بضعَ مسائل هامة فحسب. وسوف نقصر اهتمامنا على الأشكال الأساسية لنظام الملكية، وعلى أساسها النفسي ووظيفتها في حياة المجتمع.

يمكننا أن نصف الملكية بأنها مجموعة من الحقوق والواجبات، تحدد العلاقة بين الأفراد أو الجماعات فيما يتعلق بتحكُّمهم في الأشياء المادية (أو في الأشخاص منظورًا إليهم على أنهم أشياء). وأهم ما تتميز به فكرة الملكية، هو وجود حقٍّ معترف به في التحكم في الأشياء، يُضفي على شخص معين، أو أشخاص معينين، ويستبعد تدخُّل الآخرين، داخل حدود متفاوتة. وحين نقول إن هناك حقًّا معترفًا به، نعني أن هناك جزاءات منظمة مرتبطة به، أي طرقًا متفقًا عليها لمعاملة كل من يعتدي عليه.

ويختلف مقدارًا وطبيعةً التحكمُ الذي يكتسبه المالكون اختلافًا غير قليل في النظم التشريعية المختلفة، وليس هناك دائمًا تطابق دقيق بين النظرية القانونية، وما جرى عليه العرف الاقتصادي. وليس الوصول إلى تصنيف واضح لهذه الاختلافات بالأمر الهيِّن. ولكنا سنتخذ أساسنا في التصنيف الهيئة التي يكون بيدها هذا التحكم. وفي وسعنا أن نميز بين الصور الآتية، وإن كان علينا أن نذكر أن الاصطلاحات المستخدمة مستمدة من مجتمعات راقية، وليس لنا أن نفترض أنها تظل تحمل نفس المعاني إذا ما استُخدمت بالنسبة إلى مجتمعات ذات مستوًى حضاري مغاير لما نتكلم عنه مغايرة كبيرة.

يمكننا بوجهٍ عام أن نميز بين الملكية العامة، والملكية الجماعية، والملكية الفردية.

فالملكية العامة هي تلك التي يكون حق حيازتها لعدة أفراد، ولكنهم إذا ما نُظر إليهم متجمعين كانوا يمتلكونها جماعيًّا امتلاكًا يُقصي من عداهم من العالم. وهذا النوع يشتمل على الحالات التي يكون من الممكن فيها لكل أفراد الجماعة أن يستخدموا الشيء الممتلك، وعلى حالات أخرى أهم، يكون للأفراد فيها حق الاقتسام، الذي تحدده قواعد التوزيع المتعارف عليها، ويشرف عليه المجتمع. أما الملكية، فلها صُور عدة، تبعًا لكون الشيء الجماعي:
  • (أ)

    شركة خاصة.

  • (ب)

    شركة شبه عامة.

  • (جـ)

    شركة عامة.

وأخيرًا ففي الملكية الفردية أو الخاصة، يُمنح الإشراف لفرد، رغم أن هذا الإشراف يتعرض بطبيعة الحال لتحديدات مختلفة، يفرضها القانون أو العُرف، كما في حالة الحجر أو التوريث. ولا يخلو هذا التقسيم من غموضٍ راجع إلى صعوبةِ رَسْم حدود فاصلة بين الإشراف الفردي والإشراف العام، ولكن له بعض الفائدة بالنسبة إلى هذا العرض العام الذي نحن بصدده.

ففي الشعوب البدائية، يعترف بالملكية الخاصة بالنسبة إلى أشياء خاصة كالملبس وأدوات العمل، وبوجه عام بالنسبة إلى الأكواخ أو الأجزاء الخاصة من كوخ مشترك، على الرغم من أن هذه تتأثر بعادات التقاسم وبنوع من تبادل الهدايا يكون إجباريًّا. أما ملكية الأرض فتختلف صورها اختلافًا كبيرًا؛ فبين شعوب الصيادين تكون الوحدة الأساسية للمجتمع هي مجموعة من الأقارب تربطهم علاقات مفكَّكة ببقية الجماعات التي يكونون معها قبيلة. ويمكن القول بوجهٍ عام إن الأرض تكون مشتركة بين الجماعة أو القبيلة أو كليهما معًا، أي إن الأعضاء يشغلون مساحة محدودة، أو يتنقلون خلالها، ويدافعون عنها ضد كل دخيل. ومع ذلك، فإننا نصادف أحيانًا جماعة تنعزل عن الآخرين، حتى في داخل القبيلة. وتحصل الشعوب البدائية على طعامها بالتعاون، ويُقسم بينهم تبعًا للعرف، ومع ذلك لا يقسم بينهم بالتساوي دائمًا. وفي حالات قليلة نجد شواهد للملكية الخاصة للأرض، حتى بين الشعوب التي تعيش على الصيد (مثل قبائل الفيدا وبعض القبائل الأسترالية)، ولكن إذا اعتبرنا جميع الأحوال، نجد أن المبدأ المشاعي يسود في استخدام الجماعة للأرض، واستغلالهم إياها استغلالًا مشتركًا.

وبين الشعوب الزراعية نجد فروقًا ملحوظة في مسألة ملكية الأرض. فقد تكون الأرض ملكًا للقبيلة، أو لجماعة منها، كبطنٍ من بطونها، أو جماعة محلية، أو قرية. كما نجد أيضًا حيازة في يد أُسر، أو أفراد، ولو أنه يصعب في حالات عدة أن نحدد أن الأرض تنتمي إلى فرد معين على حدة، أو أنه يشرف عليها بوصفه قائمًا بالأعمال عن الأسرة مجتمعة. وقد يحدث جمع بين أنواع مختلفة من الامتلاك، فتظل الجماعة محتفظة بحقٍّ «أعلى» على الأرض، ولكن يكون للأسر أو الأفراد «حقوق وضع اليد» على قِطَع مختارة من الأرض يظلون محتفظين بها ما داموا يزرعونها. وفي حالات أخرى نجد جزءًا من الأرض مملوكًا للأفراد، على حين تحتفظ القبيلة بأجزاء أخرى من أجل أغراض مشتركة أو دينية. وبجانب ذلك في الأحوال التي تكاد فيها الجماعات الزراعية تكون أكثر استقرارًا، نجد أن حقوق وضع اليد الفردية أو الأسرية تقوى فتصبح ملكية دائمة، ولكن قد تظل الأرض البور، وربما المراعي كذلك ملكًا مشاعًا. وهناك مبدأ آخر يتمثل في الحالات الكثيرة التي تنتمي فيها الأرض إلى الزُّعماء أو النبلاء. على أن دلالة هذه الملكية تختلف من حالة إلى أخرى؛ فربما لا يزيد معناها على أن الزعماء يعملون بوصفهم مُشرفين على الإدارة، فيمارسون الحقوق الباقية للجماعة، وقد تعني إنزال عامة الشعب إلى مرتبة العبودية والخضوع في صور مختلفة.

وقد دلت الدراسة المقارنة للأُسس التي جمعها علماء الأنثروبولوجيا.١١ على أن الملكية المشاعة، سواء بواسطة القبيلة أو البطن أو الجماعة المحلية تسود بوجه عام بين الجماعات التي تعيش على الصَّيد، وبين الزُّرَّاع الأوائل والرعاة. أما في المراحل العليا فإن مبدأ الشيوع يقل إلى حدٍّ بعيد، غير أنه لا ينتهي إلى الصورة الفردية الخالصة أو الصورة «الانفصالية» للملكية؛ إذ إن الرابحين هم الزعماء والنبلاء، وتتزايد على الدوام الحالات التي يغدو فيها عامة الشعب زُرَّاعًا تابعين، أي عبيدًا، أو أرقَّاء إقطاع، أو مستأجرين للأرض من أثرياء الملاك. ففي المراحل العليا للزراعة تتجه الملكية الخاصة إلى الازدياد، ولكن يصحبها أحيانًا المبدأ المشاعي، وتتصف أحيانًا أخرى بالخضوع للزعيم، بل لشيء مماثل للتملك الإقطاعي. ويتمثل مبدأ الملكية الخاصة بصورة أوضح بين الشعوب الزراعية؛ حيث يحتمل أن تكون القيود المشاعية أقلَّ قيمة، وحيث تزداد فرص جمع الأفراد للثروة. وفي المرحلة التي تبدأ فيها «الهمجية» Barbarian في الانتقال إلى «المدنية» Civilization نجد المبادئ المختلفة متداخلة، ويقوم توازن معقول بين مبدئي ملكية النبيل والتملك المشاع. وبعد هذه الفترة يتجه التطور إلى زيادة انتقال القوة إلى يد النبلاء، وترك العامة في حال من الخضوع المتزايد.
أما التطور التالي لمختلف صور الملكية والتنظيم الاقتصادي في المدنيات المختلفة؛ فمن الواضح أنه لا يمكن أن يُعرض في عبارة موجزة، وعلينا أن نحيل القارئ إلى مؤلفات مؤرِّخي الاقتصاد لدراسة مختلف الصور للتملك الإقطاعي، وللوقوف على انهيار الإقطاع، ونهضة الصناعة وانتشار التجارة، والتنوع الهائل في المهن والطبقات، الذي يميِّز النظم الاقتصادية الحديثة. ولكن ينبغي أن نقول كلمة عن العلامات المميِّزة لذلك النظام، الذي يطلق عليه اسم «النظام الرأسمالي»؛ فالرأي السائد الآن أن الرأسمالية لها معانٍ مختلفة في الفترات التاريخية المختلفة، وأن طبيعتها كانت تتغير تبعًا للظروف التاريخية، مثلها في ذلك مثل جميع نظم الملكية بأسرها. ويمكننا بعد أن نضع هذا الأمر نصب أعيننا، أن نقتبس بضعةَ تعريفات للرأسمالية الحديثة؛ فمثلًا يقول سدني وب Sidney Webb إنها «هي تلك المرحلة الخاصة في تطور الصناعة والنظم التشريعية، التي يجد فيها مجموع العمال أنفسهم منفصلين عن تملُّك أدوات الإنتاج، على نحوٍ يجعلهم ينتقلون من مركز الأُجراء الذين يبدو أن رزقهم وأمنهم وحريتهم الشخصية تعتمد على جزء ضئيل نسبيًّا من الأمة، وأعني به أولئك الذين يملكون الأرض والآلات وقوة العمل في المجتمع، ويتحكَّمون في تنظيمها بحكم ملكيتهم لها، ويفعلون ذلك بغية الوصول لأنفسهم على أرباح فردية شخصية». ويعرفها هبهوس بأنها: «هي أن يُستخدم في إنتاج السلع المباعة أولئك الذين لا يملكون وسائل للإنتاج، بواسطة أولئك الذين يملكون هذه الوسائل أو يمكنهم السيطرة عليها.»١٢ ويرى هبسون J. A. Hobson أنها: «هي تنظيم العمل على نطاقٍ واسع بواسطة صاحب للعمل، أو مجموعة من أصحاب الأعمال، يمتلكون من المال المختزن المتراكم ما يمكِّنهم من الحصول على المواد الغُفل والأدوات واستئجار العمل؛ لكي ينتجوا كمية زائدة من الثروة التي تثمر لهم ربحًا.» وأعتقد أن هذه التعريفات تمثل التعريفات الكثيرة التي عُرفت بها الرأسمالية تمثيلًا صادقًا. وهي لا تتفق فيما بينها اتفاقًا تامًّا. فهوبسون ووب يؤكِّدان باعث الربح الفردي، ولكن من الممكن الاعتراض على رأيهم هذا، ما دام يقتضي اختبارًا ذاتيًّا يصعب التحقق من صحته. كما أن هبهوس ووب لا يوضحان أهمية النطاق الذي تتم عليه العمليات بالنسبة إلى نمو الرأسمالية. مع أنه يبدو أن اتساع النطاق، كما يرى معظم الباحثين، هو أمر رئيسي في فكرة الرأسمالية الصناعية، ويرتبط به كون أغلبية العمال لا يمكنهم أن يصلوا إلى الاستقلال في النظام الرأسمالي.

وإن أهمية الرأسمالية، من وجهة نظر علم الاجتماع، إنما تكون في العلاقات بين أولئك الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج، وبين عامَّة الشعب الذين لا تتوافر لهم هذه السيطرة. ولقد حدثت في هذا الصدَد تغيرات هامة في الأزمنة الحديثة، من الصور الأولى للرأسمالية، التي كانت حرة نسبيًّا، تقوم على المنافسة وعلى الروح الفردية، إلى الجمع بين أنواع متعددة لها من جهة، وإلى امتداد للسيطرة المشاعية من جهة أخرى. عن طريق تنظيم تشريعي وإداري، يتجه إلى الإقلال من التفاوت الهائل في الثروة والقوة. كما حدث امتداد للأنماط الجماعية للملكية، واتخذ صورًا عدة؛ منها النظم التعاونية والملكية العامة، وخصوصًا ملكية البلديات لمرافقها، ومنها ازدياد السيطرة العامة على المؤسسات شبه الأهلية، وربما كان من مظاهرها أيضًا الاتجاه إلى تعميم ملكية «الاحتكارات الطبيعية». والواقع أن مشكلة التطور التالي للإشراف الاجتماعي هي من المشاكل التي تُثير اليوم أمر الخلافات. ولنلخِّص بإيجازٍ الحلول المتعارضة التي تكشف عنها هذه الخلافات؛ فهناك أولًا: الصور المختلفة للرأسمالية التي تشرف عليها الدولة وترسم خططها، وهي تتسم بتعصب قومي شديد. وعلى الرغم من أن هذه النظم قد تسمي نفسها اشتراكية؛ فإن القصد منها هو الإبقاء على نظام الملكية الخاصة في وسائل الإنتاج. وهناك ثانيًا: الشيوعية الثورية التي تتضمن في الواقع سيطرة أقلية متماسكة واعية بذاتها على السلطة، وتدَّعي أنها تعبر عن إرادة الطبقات العاملة، ولكنها مثل الجماعة الأولى تتبع سياسة أتوقراطية. وهناك ثالثًا: الاشتراكية الديمقراطية التي تؤمِن بالتعاون الواعي بين الطبقات، وبين الأمم، بوصفه طريقة للوصول السريع إلى المساواة الاقتصادية داخل الدولة، وإلى التضامن بين الدول. ورغم أن التنبُّؤ ليس من مهمتنا في هذا المجال، ففي وسعنا أن نؤكد — بدون أن نخشى الوقوع في خطأ كبير — أن بقاء الديمقراطية الحديثة يتوقَّف إلى حد بعيد على مدى إمكان وصولها إلى وسيلة؛ للتوفيق بين المساواة الاقتصادية والقدرة الإنتاجية الضخمة.

ولنُشر، في ختام هذا الفصل، إلى بعض المحاولات التي بُذلت لتوضيح الاتجاهات الرئيسية في تطور الملكية. فباحث مثل فينوجرادوف Vinogradoff يميز، على ما يبدو، بين أربع مراحل رئيسية:
أولًا: مرحلة تكوُّن الملكية في بيئات قبلية وموطنية، وثانيًا: تطبيق فكرة الحيازة Tenure على ملكية الأرض، وثالثًا: نمو التملك الشخصي، ورابعًا: الحدود التي تفرضها الاتجاهات الجمعية في الأزمنة الحديثة على مثل هذا التملك.
ويلاحظ زومبارت Sombart في تاريخ الاقتصاد الأوروبي تناوبًا منتظمًا بين الديمقراطية والأرستقراطية. وهو يوضح هذا التناوب المنتظم بالكلام عن الانتقال: (١) من الديمقراطية الاقتصادية في الاقتصاد الأوربي البدائي إلى أرستقراطية الرعاة الرُّحَّل، (٢) من نظام القرية إلى نظام «الضيعة» Manorial System. (٣) من الديمقراطية الاقتصادية في الصناعة اليدوية إلى الأرستقراطية الاقتصادية في العهد الرأسمالي. ولذا يُعتقد أن هذا العهد الرأسمالي ستتلوه بدوره صورة ديمقراطية، كما يتضح من نمو تأثير النقابات وتقدم الجمعيات التعاونية، والآراء الجديدة عن التأميم والتشريع الذي يحُد من حرية صاحب رأس المال. ويميز الماركسيون ثلاث مراحل رئيسية؛ المجتمع اللاطبقي، الذي لا درجات فيه. وينتقل هذا إلى مختلف صور التمييز الطبقي، ويعود في النهاية إلى المجتمع اللاطبقي. ويميز هبهوس في عرضه للتطور الاجتماعي ثلاث مراحل. في الأولى: يكون التباين الاقتصادي ضئيلًا للغاية؛ إذ تكون وسائل الإنتاج في متناول يد الجميع. ثم ينتقل هذا إلى نظام ذي تباين، فيه الغني وفيه الفقير، قائم على مبدأ الخضوع والتبعية. ويتصف هذا النظام باتساع نطاقه إلى حد بعيد. ومع أنه يقوم نظريًّا على التعاقد الحر؛ فإن الأحوال تبلغ فيه من التفاوت حدًّا يجعل الخضوع والتبعية باقيَين على ما هما عليه. وفي المرحلة الثالثة يمكننا أن نلاحظ تأثير مبادئ سوف ينتج عنها، إذا بلغت حد النضج، الجمع بين التنظيم الصناعي الرفيع وبين حاجات الحرية الاجتماعية وتبادل الخدمات. والواقع أن لكلِّ هذه الأحكام العامة قيمتها بالنسبة إلى عالم الاجتماع؛ إذ تمكنه من تبين سمات بارزة معينة وسط حركة هائلة معقَّدة، وعلى الرغم من اختلاف كل منها في نظرته العامة ومنهجه، ففيها من العناصر المشتركة قدر يدعو إلى الدهشة. على أنها تظل، على أحسن الفروض، ما أسميناه «مبادئ وسيطة» Middle Principles، وقيمتها التنبؤية ضئيلة، وذلك حتى يحين الوقت الذي نعرف فيه قدرًا يفوق كثيرًا ما نعرفه اليوم عن القوى الكامنة، التي تؤثر في التطور الاقتصادي والاجتماعي.

(٥) الوجه النفساني والوجه الاجتماعي للملكية

من المسائل التي لا تزال مثارًا للجدل بين علماء النفس، وجود ميل غريزي إلى الاكتساب والتملك عند الإنسان،١٣ ولكن الميل إلى التملك هو على أيةِ حال ميلٌ عظيم التعقيد. وترجع جذوره إلى حاجات أساسية عدة، فالأشياء تغدو ذات «قيمة»، عندما تُشبع أو ترضى الحاجات أو الرغبات إما بطريق مباشر، أو عن طريق عملية «تكيُّف» أو تلاؤم. ومن المعروف أن هناك أشياء قد لا تهم المرء في بداية الأمر، ثم تُشحن أو تطعم بالاهتمام؛ إذ ترتبط بسلسلة من الحوادث التي تنتهي إلى الإشباع والإرضاء. وعلى هذا النحو قد تكون عادات التعلق بالنسبة إلى أشياء لا تكون لها جاذبية كامنة تدرك للوهلة الأولى. وفي كثير من الحالات يكون قوام اهتمامنا بالملكية هو عادات التعلق هذه، وفي حالات أخرى تتدخل مشاعر معقَّدة. فالأشياء التي ترتبط، بطريق مباشر أو غير مباشر، بإشباع حاجات هامة، تجمع حولها مجموعة من الاستعدادات الانفعالية، تشتمل بوجهٍ خاص على انفعالات مُقبلة ومدبرة كالرغبة، والأمل، والخوف، والقلق، وخيبة الأمل، فضلًا عن التمتع بالاكتساب والتلذُّذ بالسيطرة. فجميع الحاجات الأولية، والجنس، والغذاء، والميول الجمالية، والرغبة في المعرفة، قد تُستخدم كلها نواة لمشاعر التملك، يعينها على ذلك الميلُ إلى الخلط بين الوسائل والغايات. وللحاجات الدائمة أو المترددة أهمية خاصة؛ إذ تُضفي على الأشياء التي ترتبط بها قيمة باقية. كل هذه المشاعر تتشابك تشابكًا وثيقًا بشعور الاعتداد بالنفس؛ نظرًا لأن السيطرة على الأشياء، التي تتجاوز نطاق التمتع المباشر، هي أمر لا بد منه في تنظيم الحياة، وإشباع المرء لميوله الخاصة. وهكذا يكون التملك كامنًا في حاجة الذات إلى ممارسة السيطرة على الأشياء، والإحساس بالحرية في التمتع. والواقع أن دراسة الفقه المقارن تكشف لنا عن وجود ثلاث صور أصلية لاكتساب الملكية؛ فقد تؤخذ الأشياء التي تُمتلك من الطبيعة مباشرة، أو تكون ناتجة عن العمل أو الجهد، أو قد يحصل عليها بفرض المرء لقوته على غيره من الناس. وفي كل حالات الاكتساب هذه، وفي الأخيرة منها على الأخص، تتكشف ميول الإنسان إلى تأكيد ذاته؛ فالناس يتجهون إلى حب أشياء معينة، إذا كانوا قد بذلوا فيها جهدهم، وإذا كانت هذه الأشياء وسائل لإرضائهم بوجهٍ عام، وأهم من ذلك كله إذا كانت تكسبهم قوة على الطبيعة وعلى غيرهم من الناس؛ فليس ما يُضفي على التملك ذلك الاندفاع الهائل، ويجعله أحد جذور الطموح، هو النفع المباشر للأشياء، بقدر ما هو ممارسة القوة، وهي الممارسة التي تتمثل في هذه الأشياء، والتي تعين هذه الأشياء على تحقيقها.

فالتملك، إذا نُظر إليه من الناحية النفسية، ليس ناشئًا عن حاجة مباشرة إلى الاكتساب والحيازة، وإنما هو ناشئ عن تداخل ميول أخرى أساسية مع الاعتداد بالنفس، وتأكيد الذات. ووظيفة الملكية من الوجهة الأخلاقية هي أن تهيِّئ الظروف المادية لحياة حرة، آمنة، ذات غاية. ولكن إذا نظرنا إلى الأمر الواقع وجَدنا أن معظم النظم الاقتصادية، فيما عدا القليل منها، تخفق في تحقيق هذا الهدف. وأسباب هذا الإخفاق تكمن بعمق في تاريخ الملكية وأساسها النفسي. والملكية بوصفها نظامًا اجتماعيًّا، تكسب قوة ليس على الأشياء وحدها، بل على الأشخاص أيضًا عن طريق الأشياء. وهي قد أصبحت بوجهٍ خاص أداة يستطيع بها من يمتلكونها أن يتحكَّموا في حياة مَن لا يمتلكونها وفي عملهم؛ ففي النظام الواسع النطاق في العالم الحديث حدث تركز كبير للتملك، مما نجم عنه اتساع المجال كثيرًا أمام عنصر القوة أو السيطرة. كما أدى هذا النظام إلى المغالاة في تقدير قيمة الإنتاج، واتجه، بتشجيعه للتخصص، إلى أن يسلب عمل معظم الناس تلك القيمةَ التي له، من حيث هو وسيلة للتعبير عن أنفسهم ولتحقيق ذاتيتهم. ونتيجة ذلك هي أنه، فيما يتعلق بجموع العمال، لا يمكن القول بأن الملكية قد أدَّت وظائفها الاجتماعية الأساسية، وهي إشعارهم بالطمأنينة والاستقرار، وإرساء أسس الحرية والابتكار، وخلق فرص التعبير الإيجابي عن القدرات. والمشكلة هنا، كما هي في كثير من أوجه الحياة الاجتماعية، هي وضع خُطط للحد من ميل الطبيعة البشرية إلى تأكيد ذاتها وإلى السيطرة، وتنسيق للجمع بين مقتضيات التنظيم الواسع النطاق، وبين مطالب الحرية الاجتماعية.

١  آثرنا استعمال كلمة المراتب للفظة الإنجليزية Estate التي تدل في التاريخ السياسي والاجتماعي في أوروبا على طبقات أو مراتب من الناس كانت الفوارق بينهم واضحة، وكان يُشار إليهم باسم المراتب الثلاث للدولة، أصحاب السلطة الروحية، وأصحاب السلطة الزمنية (أي الدنيوية)، والشعب أو الدهماء. (المراجع)
٢  استعملنا كلمة جنس ترجمة لكلمة Caste التي تؤدي معنى جنس من الناس يتناسل دون اختلاطه بجنس آخر، ويكون فئة متميزة من المجتمع كما هو الشأن في المجتمع الهندي. (المراجع)
٣  عن بحث المرونة الاجتماعية، انظر كتاب Studies in Sociology (الفصل التاسع) للمؤلف.
٤  American Business Leaders, by Taussing & Joslyn.
٥  Lowie: The Origin of the State. p. 39.
٦  Fahlbeck: Die Klassen und die Gesellchaft.
٧  انظر في كتاب Studies in Sociology (المؤلف) الفصل العاشر وعنوانه The Claims of Eugenies.
٨  المقصود من العبودية هنا حالة العبيد الذين كانوا ملكًا شخصيًّا، وليس لهم حرية مطلقًا، وقد ترجمنا بها كلمة Slavery، والمقصود برق الإقطاع: حالة الفلاحين في العصور الوسطى حينما كانوا، مع الأرض التي يزرعونها، ملكًا لأصحاب هذه الأراضي. (المراجع)
٩  انظر الهامش السابق. (المراجع)
١٠  انظر كتاب The Simpler Peoples, p. 237.
١١  انظر كتاب: The Material Culture and Social Institutions of the Simpler Peoples Ch. IV, Sec. IV.
١٢  Social Development. p. 290.
١٣  انظر كتاب Beaglehole: Property. A Study in Social Psychology.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤