سلطان الحب

سألنا حضرة الشيخ محمد علي الخالدي عن الحب: اختياري هو أم اضطراري وهل المحب مضطر أم مختار؟ وقد اختلف الناس من قبل في هذه المسألة، وأوضحها ابن أبي حجلة في كتاب «ديوان الصبابة» وأنا ناقل هنا نبذة من ذلك الكتاب الذي انتهى منه مؤلفه في منتصف القرن الثامن الهجري، لأنه يمثل لنا رأي علماء ذلك العصر في مثل هذه الشئون. قال ابن أبي حجلة في سذاجة غريبة ما نصه:

هذا فصل عقدناه لما تقدم ذكره، وأسفر كالصباح أمره، إذ للناس فيه كلام من الطرفين، وتبختر من الصفين، فقائل بأنه اضطراري، وقائل بأنه اختياري، ولكل من القولين وجه مليح، وقدر رجيح، ونحن نذكر من ذلك ما يعم به الانتفاع، ونتكلم في طوله وعرضه بالباع والذراع! فمن ذلك ما قاله القاضي أبو عمرو النوناني في كتابه تحفة الظراف: العشاق معذورون على كل حال: مغفور لهم في جميع الأقوال والأفعال؛ إذ العشق إنما دعاهم على غير اختيار، بل اعتراهم على جبر واضطرار، والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور، لا في المقضي عليه والمقدور. وقد جاءَ في الحديث عن النبي أن الحامل كانت ترى يوسف عليه السلام فتضع حملها. فكيف تراها وضعته؟ أباختيار منها كان ذلك أم باضطرار؟ لا، بل باضطرار، وفقد اقتدار. وهذا مما لا يشك فيه ذو لبٍّ، ولا يختلج خلافه في قلب.

ثم نقل عن الفُضَيْلِ بن عِيَاضٍ أنه قال: لو رزقني الله دعوة مجابة لدعوت الله بها أن يغفر للعشاق لأن حركاتهم اضطرارية. ونقل عن أبي محمد بن حزم أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، إني رأيت امرأة فعشقتها. فقال عمر: ذلك مما لا يملك. قال: وما أحسن قول بعض بني عذرة وقد قال له بعض العرب: ما لأحدكم يموت عشقًا في هوى امرأة يألفها؟ إنما ذلك ضعف نفس، ورقة، وخور، تجدونه فيكم يا بني عذرة. فقال: أما والله لو رأيتم الحواجب الزج، فوق النواظر الدعج، تحتها المباسم الفلج، لاتخذتموها اللات والعزى!

ثم قال بعد كلام طويل: إن العشق يختلف باختلاف بني آدم وما جبلوا عليه من اللطافة ورقة الحاشية، وغلظ الكبد، وقساوة القلب، ونفور الطباع، وغير ذلك. فمنهم من إذا رأى الصورة الحسنة مات من شدة ما يرد على قلبه من الدهش، ومنهم من إذا رأى المليح سقط من قامته، ولم يعرف نعله من عمامته — العاقبة عندكم يا شيخ محمد! ثم قال: فهذا وأمثاله عشقه اضطراري، والمخالفة فيه مكابرة في المحسوس.

والذي أراه أن المحب مضطر غير مختار، وما ذكرت هذه التفاصيل إلا ترويحًا للنفس. أما الشعر في سلطان الحب فكثير. فمن الشعراءِ من يجعله سحرًا كالطغرائي حين يقول:

إن لم يكن سحرًا هواك فإنه
والسحر قُدَّا من أديم واحد
ما زلت أزهد في مودة راغب
حتى ابتليت برغبة في زاهد
ولربما نال المراد مرفَّه
لم يسع فيه وخاب سعي الجاهد
هذا هو الداء الذي ضاقت به
حيل الطبيب وطال يأس العائد

ومنهم من يذكر أنه قتل نفسه غير متعمد كقول مهيار:

وعنفني سعد على فرط ما أرى
فقلت أتعنيف ولم تك مسعدي
وما ذاك إلا أن عجلت بنظرة
قتلت بها نفسي ولم أتعمد

ومنهم من يرى الحب يصب على القلب كالقضاء المحتوم لا مرد له كقول المتنبي:

أيدري الربع أي دم أراقا
وأي قلوب هذا الركب شاقا
لنا ولأهله أبدًا قلوب
تلاقى في جسوم ما تلاقى
فليت هوى الأحبة كان عدلا
فحمل كل قلب ما أطاقا

ومنهم من يجعله قضاء من الله، كقول عمرو بن ربيعة الرقاشي:

تضيق جفون العين عن عبراتها
فتسفحها بعد التجلد والصبر
وغصة صدر أظهرتها فرفهت
حزازة حرٍّ في الجوانح والصدر
ألا ليقل من شاءَ ما شاءَ إنما
يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
قضى الله حب المالكية فاصطبر
عليه فقد تجري الأمور على قدر

ويدخل في هذا الباب خلود الحب. فمن الشعراءِ من يجعل سببه خلود المحاسن في الحبيب، كقول ابن الرومي:

هل الملالة إلا منقضى وطر
من متعة يطبَّى من غيرها وطر
وفيك أحسن ما تسمو النفوس له
فأين يرغب عنك السمع والبصر

وكما قال ابن عنين:

خبروها بأنه ما تصدى
لسلو عنها ولو مات صدا
واسألوها في زورة من خيال
إن تكن لم تجد من الهجر بدا
ظبية تخجل الغزالة وجهًا
وبهاءً وتفضح الغصن قدا

وكما قال أبو الأسود الدؤلي:

أبى القلب إلا أم عمرو وحبها
عجوزًا ومن يحبب عجوزًا يفند
كبرد اليماني قد تقادم عهده
ورقعته ما شئت في العين واليد

وهو رأي منتقد: فكل زهر إلى ذبول، وكل جمر إلى خمود، وكل حسن إلى فناء، ولا خلود للحب إذا كان داعيه الحسن الفاني والجمال الزائل.

ومنهم من يجعل السبب في خلود الحب كثرة دواعيه، كقول صردر:

ولقد عرضت على السلو جوانحي الـ
ـحرى فلم يرهن دار مقام
كيف السلو وليس يسلك مسمعي
إلا حنين أو بكاء حمام

وكما قال ابن الزيات:

لم يزدني العذل إلا ولعا
ضرني أكثر مما نفعا
ذهبت بالقلب عين نظرت
ليتها كانت وإياه معا
كل يوم لي منها آفة
تركتني للهوى متبعا

وكما قال ابن التعاويذي:

يلوم عليك خال من غرامي
رويدك أين سمعي والملام
سلو مثل عطفك لا يرجى
وصبر مثل وصلك لا يرام
فكيف أطيع عذالي وعندي
هموم قد سهرت لها وناموا

وهذا أيضًا منتقد، فإن أمثال هؤلاء الشعراء ينسون الحب إذا نفدت دواعيه!

ومنهم من يجعل السبب في خلود الحب تغلغل الوجد في الأحشاء، كما قال الأبيوردي:

أرى كل حب غير حبك زائلا
وكل فؤاد غير قلبي ساليا
إذا استخبر الواشون عما أسره
حمدت سلوي أو ذممت التصابيا
أيذهل قلب أنت سر ضميره
فلا كان يومًا عنك يا علو ساليا

وكما قال الغزي:

يا خليلي لو ملكت فؤادي
جاز أن يملك الصواب عناني
ظالمي من أراد إنصاف نفسي
من هواها وآمري من نهاني
قد تورطت في تعسف شوقي
حيث لا يعرف السلو مكاني

وكما قال الطغرائي:

خليلي هل من مسعد أو معالج
فؤادًا به داء من الحب ناكسُ
وهل ترجوان البرءَ مما أكنه
فإني وبيت الله منه لآيس
هوى لا يديل القرب منه ولا النوى
ولا هو من طول التقادم دارس
سرى حيث لا يدري الضمير مكانه
ولا تهتدي يومًا إليه الهواجس
إذا قلت هذا يوم أسلو تراجعت
عقابيل من استقامه ووساوس

وأرجو أن لا يغفل القارئ عما في هذا الشعر من فنون الجمال.

هناك مذهب رابع يجعل خلود الحب مُواتاةً للطبع، ونزولًا عند حكم الخليقة، وهو أجمل المذاهب، ومنه قول التعاويذي:

من بات ذا قلب سليـ
ـم من جوى فأنا السليم١
مالي إذا رمت السلو
تلوم القلب المليم٢
وإذا كتمت الحب با
ح بسره دمع نموم
عيني وقلبي في الهوى
عون علي فمن ألوم
figure

وأظهر منه قول المتنبي:

إلام طماعية العاذل
ولا رأي في الحب للعاقل
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
وهبت السلو لمن لامني
وبت من الشوق في شاغل

ولا أنكر أن من الشعراء من يرى غير ما ذهبت إليه في هذا الحديث، ولكني أرى الحب الصادق حليف الخلود، وقد أوضحت هذه المسألة في كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره» فليرجع إليه من شاء.

١  السليم هو الملدوغ.
٢  اللئيم: الجاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤