أدبٌ وفنٌّ

من هو الأديب؟

كان جماعة من «الأدباء» يتحدثون عن وظيفة الأدب الاجتماعية، فاختلفوا في الفرق بين وظيفة الأديب في المجتمعات القديمة ووظيفته في مجتمعاتنا العصرية، فخطر لي أن أسألهم: ومن هو الأديب في المجتمعات القديمة؟

إننا نتكلم عن الأدب في المجتمعات قديمها وحديثها، كأن الأدب بمعناه الذي نعرفه اليوم قد كان معروفًا هكذا بين جميع الأمم وفي جميع الأزمنة، وهو ولا شك خطأ لا يصمد لأول سؤال.

فأنت إذا نزلت اليوم ببلد من بلدان الحضارة، وقلت لهم: دلوني على رجل من أدبائكم لم يجهلوا ما تريد، ودلوك على واحد ممن يصح أن يطلق عليهم وصف الأديب كما تعنيه …

ولكن على من يدلك أهل الجاهلية مثلًا إذا نزلت بينهم، وقلت لهم: دلوني على واحد من أدبائكم؟

إنهم لا يدلونك على الشاعر، ولا على الراوية، ولا على النسابة، ولا على الخطيب، وإن كان العلم بالشعر والتاريخ والخطب مما يدخل في نطاق صناعة الأدب في الأزمنة الحديثة، ولو أنك سألت عن أديب في صدر الإسلام لفهموا أنك تقصد إنسانًا بريئًا من العنجهية البدوية واللوثة الأعرابية:

وإني على ما فيَّ من عنجهية
ولوثة أعرابيتي لأديب

وقد تتحدث إلى هذا الأديب الذي يدلونك عليه، فيخوض معك في سمر شائق وطرائف شتى من أطايب الحديث، ولكنه قد يرضيك من هذه الوجهة، ولا يحسب في زمنه من أهل العلم، ولا يحسب في الزمن الحديث من زمرة الأدباء.

ولعلهم يدلونك على مثله في أنس محضره وظرف معشره لو أنك نزلت بمصر أو بقطر من أقطار العربية في أواخر القرن التاسع عشر، وسألتهم أن يجمعوك بأديب من الأدباء.

أما معنى الأديب كما نفهمه اليوم، فهو من المعاني المستحدثة التي تطورت فترة بعد فترة في العصور الأخيرة، فكان الأوروبيون يفهمون من مقابل هذه الكلمة Man of letters أنه رجل مطلع على الكتب دارس للعلوم؛ لأن دراسة الكتب على اختلافها كانت هي الفارق بين العلماء والجهلاء، ثم شاعت الدراسة وتنوعت، فعرفوا الفرق بين عشرات من الموضوعات التي يطلع عليها الدارسون، ومنها الموضوع الذي خصص لمعنى الأدب بمدلوله المصطلح عليه في هذه الأيام …

ولكن ما هو هذا المدلول؟ ومرة أخرى من هو الأديب؟

أهو الشاعر؟ أهو القصاص؟ أهو ناقد الشعر؟ أهو المطلع على سير الأدباء والقصاصين والنقاد؟

إنك إذا قلت: «فلان شاعر.» فقد وصفته بغير حاجة إلى وصف الأدب بعد ذلك، وكذلك تصف «القصاص» … سواء كتب القصة المطولة أو النادرة القصيرة …

فإذا قلت عن العارف بالشعر والقصاص: إنه أديب، قيل لك: حسن.

ولكن ما الفرق بين مؤرخ الأدب وناقد الأدب وبين الأديب؟

حينئذ يلوح لك أن دليلك القديم لم يكن على ضلال بعيد …

ونعني بالدليل القديم ذلك المرشد الذي كنت تسأله في العصور الأولى أن يرشدك إلى أديب، فيذهب بك إلى رجل حسن الحديث …

فالأديب بكلمة واحدة هو «المحدث» في جميع العصور، وقيمته في كل عصر تختلف باختلاف حديثه ومن يحدثه، ومن يتطلب منه الحديث، سواء أكان حديثه مما تسمعه الآذان أم تعبره الأعين في صفحات الأوراق.

وبهذه الصفة وحدها يمكن أن تميزه من الشاعر، ومن القصصي، ومن الناقد، ومن مؤرخ الآداب … أيكون الأديب شاعرًا؟ أيكون قصاصًا؟ أيكون ناقدًا للشعر والقصة؟ … أيكون عالمًا مطلعًا على تاريخ هؤلاء وتواريخ غيرهم ممن يحفل بهم التاريخ؟

نعم، ولكنه في هذه الحالة يكون شاعرًا وأديبًا، أو قصاصًا وأديبًا، أو ناقدًا وأديبًا، أو مؤرخًا وأديبًا … ولا يلزم حتمًا أن يكون واحدًا من هؤلاء ليقال: إنه أديب، فهو محدث حسن الحديث أيًّا كان موضوع الحديث، وأية كانت صفاته الأخرى التي تقترن بحسن الحديث.

وبهذا المعنى كان أديب الزمن القديم محدثًا في مجلس الصحب، أو محدثًا في مجلس الأمير … وبهذا المعنى أصبح أديب الزمن الحاضر محدثًا لقرائه ومستمعيه، ولو لم يجمعه بهم مجلس أو مقام.

ولم ننزل بوظيفة الأديب لأننا جعلناه «محدثًا» في العصور الأولى أو في هذه العصور … فإنما العبرة بما يقال وبمن يقال لهم في جميع الأحاديث.

فمن الناس من يحدث ليعلم ويهذب، ومنهم من يحدث ليضرب للناس أمثال البطولة والشرف، ومنهم من يحدث ليروح عن النفس، ومن يحدث ليكشف للنفس سريرتها، ومن يحدث ليسلي ويلهي، ومن يسلي ويلهي كرام الناس، ومن يقصد بالتسلية واللهو غير هؤلاء الكرام.

وكلهم على هذا المعنى أديب، ولكن شتان شتان بين أديبٍ وأديب …

فلا ينزل الأدب لأنه حديث …

وإنما ينزل الأدب إذا نزل موضوعه ومن يستمع إليه …

وقد نزل الأدب في عصرنا هذا، وصعد على جميع هذه الدرجات، فكان من أدباء العربية في أوائل القرن العشرين من يوصف بالأدب لأنه سمير مجلس، ثم شهدنا من أدباء العربية في أيامنا هذه من يحدث قراءه جميعًا كما يشاء فيجد من يصغى إليه، وكل ما تغير بين أمس واليوم أن الحديث كان بالأمس موقوفًا على سامع واحد أو سامعين قلائل، فأصبح اليوم موجهًا إلى مئات وألوف، لعلهم لا يجتمعون بالمتحدث في مكان.

وربما صح أن شيئًا آخر قد تغير بهذا الصدد، وهو أن الأدب — حيثما كان بضاعة تنتظر الجزاء — لم يكن ينتظر جزاءه فيما مضى من غير الآحاد القلائل، وأن الأديب كان يدون أحاديثه في الورق ليقرأه كل من حصل عليه، ولكنه لا ينتظر الجزاء الذي يغنيه في عيشه من هؤلاء القراء، وإنما ينتظره من فرد يتصل به ويعول عليه.

أما اليوم فالأديب على نقيض ما كان بالأمس، إنه ينتظر هذا الجزاء ممن يوجه إليهم حديثه على يد المطبعة أو المذياع، وهم مئات وألوف في وطنه وفي غير وطنه وفي زمنه وغير زمنه، لا يلقاهم ولا يلقونه في أغلب الأحوال.

وذلك هو باب الخير الكثير … وذلك أيضًا هو باب الشر المستطير …

لأن استغناء الأديب عن هذا السيد أو ذاك قد فتح له باب الاستقلال في المعيشة، والاستقلال بالرأي، والاستقلال بالشعور.

إلا أنه قد يغني عن هذا السيد أو ذاك، ثم يتقيد بهذه الجماعة أو تلك، واستعباد الجماعة شر من استعباد الآحاد.

وليس من الحتم أن تستعبد الجماعة محدثها؛ لأن الجماعة طوائف شتى من الناس، ولمن يحدث هذه الطوائف أن ينص الحديث لمن شاء منها ويضن به على غيره، وأن يقنع بالمهذب الكريم من سامعيه ويطوي كشحه عن سواه، فله ولا شك أن يختار وإن صعبت عليه الموازنة بين أسباب الاختيار.

وهناك باب من أبواب الحرية يطرقه من يستطيع حين يشاء، فيتحدث «المحدث» العصري وحده، كأنما يتحدث لنفسه … ويسمعه من يريدون أن يسمعوه، وهو لا يأخذ نفسه بكلفة الجليس في محضر الأمير أو أشباه الأمير.

وهو على كل حال «محدث» على نمط العصر وأسلوبه، وخليفة للمحدث القديم على ما كان لعصره من نمط وأسلوب.

وليس لوظيفة الأدب في اعتقادنا تعريف أصدق من هذا التعريف، فإنه هو التعريف الوحيد الذي يزيل اللبس بينه وبين الشاعر والراوية، والناقد والمؤرخ، ولا يمنعه مع ذلك أن يأخذ بسهم أو سهوم من جميع هذه الفنون، على اعتبار أنه مادة من مواد الحديث.

فمن هو الأديب في كل عصر من العصور؟ هو المحدث في كل مجتمع، على اختلاف العصور … وتسأل مرة أخرى: هل الأدب إذن وظيفة اجتماعية؟

فإن أردت أن الحديث يجري بين متحدث ومستمع أو مستمعين، فالأدب ولا شك وظيفة اجتماعية …

ولكنك خليق أن لا تنسى بعد هذا أن الملكة الشخصية شرط لا معدى عنه في كل حديث كائنًا ما كان قائله ومستمعوه، فإن الناس جميعًا أعضاء في بنية جماعة، ولا يحسن التحدث منهم إلا الآحاد المعدودون …

كذلك لا تنس أن الأديب في مجتمع هذا العصر يستطيع أن يكلم نفسه ولا يحسب من المجانين، بل من صفوة العقلاء … أو يضمن المستمعين إليه كلما كان حديثه لنفسه جديرًا بالإصغاء …

الفن بين الصدق والكذب

ما الصدق؟ هو كما عرفوه مطابقة للواقع …

ولكن ما هو الواقع؟ وكيف نطابقه؟ هل نطابقه بإدراك الحواس؟ أو نطابقه بألفاظ اللسان؟ … أو نطابقه بوعي القريحة والخيال؟

كل أولئك مطابقة … وكل مطابقة من هذه المطابقات صدق على حسب ذلك التعريف، ولكنها على هذا تختلف فيما بينها أوسع اختلاف في التعبير والتمثيل.

فإذا رأيت مرجًا من مروج الربيع صدقت في وصفه حين أقول: إنه رقعة من الأرض ذرعها ألف ذراع، يتخللها جدول ماء، وفيها ثمر من فصيلة كذا وكذا وزهر من فصيلة كذا وكذا في علم النبات …

وصدقت في وصفه حين أقول: إنه جميل مريح …

وصدقت في وصفه حين أقول: إنه يتألق كما تتألق العيون، ويزدهر كما تزدهر الوجنات، ويفتر كما تفتر الثغور، وتمرح فيه النضرة كما يمرح صفو الشباب في الصبايا الحسان، وتتغنى فيه العصافير كما تتغنى الوصائف الثملات في الأعراس …

أما إذا قلت: إنني رأيت فيه ثغورًا ووجنات، ولمحت فيه أحداقًا مؤتلفات، واستخفني المرح من قدود حسانه، واستطارني الطرب من ألحان عيدانه، فما أنا بكاذب، وما أنا بمخالف لما قلته في تلك العبارة التي أوردتها مورد التشبيه، وكل ما هنالك أنني حذفت الكافات والكأنَّات، واعتمدت على فطنة السامع مع فهم هذه التشبيهات … فعبرت عن الواقع بأسلوب يختلف في اللفظ ولا يختلف في المدلول.

إن كان هذا هو الكذب الذي أرادوه حين قالوا: إن «أعذب الشعر أكذبه»، فهذا هو الواقع بعينه فيما نراه.

وغاية ما في الأمر أننا نطابق الواقع هنا بوعي القريحة والخيال، ولا نحب أن نطابقه بلغة الحس، أو بلغة الحساب والإحصاء …

وأيًّا كان نوع المطابقة فهو صدق على أية حال …

•••

مثل آخر قريب من هذا المثل …

أعرابي غمر يغرب في رحلة مهلكة في مفازة موحشة …

تسأله فيقول لك: إنها عامرة بالغيلان والسعالي، متجاوبة بأصداء الجن والعفاريت، من يسلكها لا يسلم من شر سكانها هؤلاء، ومن سلم منهم فقد كتب له عمر جديد …

هذا الأعرابي الغمر كاذب إن شئت، ولكن في حساب واحد، هو حساب الرحلات الجغرافية والمباحث العلمية.

فإن الرحالين والباحثين يجوبون تلك الصحراء، ويعودون منها فيقولون وهم صادقون: ما عثرنا في تلك الصحراء بسعلاة، وما السعلاة التي ذكرها الأعرابي مما يمكن العثور عليه …

ولكنه إذا كذب في حساب الجغرافيين أفما من حسابٍ آخر هو صادق فيه، أو مطابق للواقع فيما يدعيه؟

بلى! هناك حساب هو صادق فيه كل الصدق، مطابق للواقع كل المطابقة، وهو حساب الشعور والخيال؛ لأنه وصف الخوف من الهلاك، ولا فرق بين الهلاك من الغول والسعلاة، والهلاك من الوحشة والانقطاع، وغاية ما في الأمر أنه وصف الخوف محذوفًا منه الكافات والكأنات، ولا يزال صادقًا حين قال لنا: إن من يسلم من شر تلك المفازة، فقد كتب له عمر جديد …

وكذلك قل في عرائس البحار …

وكذلك قل في كنوز الأرض، وما يحرسها من المردة والشياطين …

وكذلك قل في همسات النسيم ونجوى الأنفاس …

وكذلك قل في كل واقع نطابقه بالشعور والخيال، ولا نقصر المطابقة فيه على اللمس والعيان …

•••

وننتقل إلى الشعر الذي يتمثل فيه هذا الضرب من الواقع، فنذكر بيت أبي الطيب في وصف الأسد.

وردٌ إذا ورد البحيرة شاربًا
ورد الفرات زئيره والنيلا

فعلماء الطبيعة يقولون لك: إنه كذب … لأنهم يقيسون سرعة الصوت في الهواء وسرعة الصوت في الماء، ويقيسون المسافة بين البحيرة ومصر والعراق، ويقدرون النسبة التي يتخافت بها الصوت فيجدون أن زئير الأسد الذي وصفه أبو الطيب لا يصل إلى النيل، ولا يصل إلى الفرات …

أفكاذب أبو الطيب فيما وصف؟

إن قلت: نعم مع علماء الطبيعة، قلت: لا على الأثر مع سامع ذلك الزئير …

لأن زئير الأسد ملأ جوانب نفسه وشاع في منافذ حسه، فلم يدع فيها فراغًا لغير الرهبة والحذر …

ورهبة تملأ كل مكان في دنياه، خليقة أن تملأ كل مكان على وجه الأرض، ولو في الساعة التي ملأته الرهبة فيها، وذلك حسبه من مطابقة الواقع كما وقع في لحظة من اللحظات …

ولو أن أبا الطيب قال يومئذ في وصف شعوره بزئير الأسد: إنه وصل في الدقيقة إلى بعد كذا من الأميال لما خالف الواقع في حساب العلم الطبيعي، ولكنه لا يذكر لنا شيئًا عن الواقع في طبيعة الشعور.

وهذا هو الواقع الذي يعنينا ويعنيه من وصف الأسد وزئيره …

كذلك يقول البحتري في وصف البناء السامق:

ذعر الحمام وقد ترنم فوقه
من منظرٍ خطر المزلة هائل

فيصيب في تمثيل الذعر كما يحسبه الواقف على شرفات ذلك الصرح، ولا يخطئ إلا من ناحية بعيدة من هذه الناحية؛ لأنه يقول عن الحمام المذعور: إنه يترنم، وللترنم حال لا تشبه حال مذعور …

ويقول أبو العلاء في سخرية الموت والحياة:

رُبَّ لحد قد صار لحدًا مرارًا
ضاحكٍ من تزاحم الأضدادِ

والواقع أن اللحد لا يسخر، ولكنه من حقه أن يسخر إذا استطاع، وأن هناك سخرية في تعاقب الموتى على مكان واحد يكرهونه، ويتزاحمون عليه كأنهم يشتهونه، فإذا أعرنا اللحد سخريتنا فنحن لم نعر من السخرية ولا من الواقع، ولكنها «استعارة» لا تضيع معها الحقوق!

هذه خلاصة القول عن الفن بين الصدق والكذب …

فلن يكون الفن جميلًا إذا كان فنًّا كاذبًا لا يطابق الواقع، ولكن أي واقع؟ وأي مطابقة؟ …

الواقع في الشعور، والمطابقة لذلك الشعور، وهي مطابقة لا ريب فيها، ومطابقة أصدق من كل مطابقة أخرى، إذا كانت المطابقات الأخرى خلوًا من تمثيل ما نشعر به ونؤديه في فن من الفنون، سواء أديناه بالقلم أو بالريشة أو بالإزميل أو بالوتر والمزمار …

ويصدق على الواقع التاريخي ما يصدق على الواقع الحاضر أمامنا …

فمن مثَّل لنا بطلًا في غير عصره فأحسن تمثيله، فهو صادق في الفن كاذب في التاريخ، أو هو شاعر حسن ومؤرخ رديء، نلومه على كسله وجهله، ولا ننكر عليه الصدق في حسه وخياله، ولا القدرة على حسن تعبيره وتمثيله، فنمنحه درجة النجاح في الشعر، ونضن عليه بها في التاريخ …

وكل فن جميل فلن يكون كاذبًا أبدًا؛ لأنه لا بد له من مطابقة الواقع، على اختلاف صور المطابقة في الشعور …

ولقد قيل عن أراوح شكسبير وعفاريته: إنها لو برزت إلى عالم الحياة لما برزت في غير الصورة التي تصورها … وما قيل عن المخلوقات الخيالية في شعر شكسبير يقال عن كل مخلوق خيالي يمثل لنا حالة نفسية نشعر بها ونتصورها فيه؛ لأنه ولد من شعورنا، فإن لم يطابقه فلا صلة بيننا وبينه في عالم الحس ولا في عالم الخيال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤