الكاهن الأكبر بيعنخي

تدل شواهد الأحوال على أنه على أثر وفاة «حريحور»، لم يكن في مقدور أسرته أن تحافظ على تاج الملك. ويظهر أن «سمندس»، الذي كان يحكم في «الدلتا» قد أصبح ملكًا على البلاد جميعها، كما سنرى بعد. غير أننا نجد أن وظيفة الكاهن الأكبر «لآمون» كانت في يد «بيعنخي»، ولم يكن يحمل لقب الملك مثل والده، ومع ذلك تدل النقوش على أنه كان هناك شبه رابطة بين شطري المملكة، كما سيتضح لنا هذا بعد؛ وكما قلنا من قبل: لا نعرف إلا النزر اليسير عن ملوك «تانيس»، وإلا ما كُشف عنه حديثًا وهو قليل في ذاته؛ وذلك لأن الآثار لم تكشف لنا عن كل أسماء ملوكها، ونجد صعوبة في ترتيب الملوك الذين عرفناهم فعلًا. وقد كانت دائرة نفوذهم تمتد جنوبًا حتى «أسيوط»، ولكن سيادتهم كان معترفًا بها في جنوب الوادي حتى «بلاد النوبة»، وقد كان ملوك «تانيس» يحافظون على بقاء سلطانهم بقوة وشدة، حتى إنه كان في مقدورهم — في حالات كثيرة — طرد كهنة «آمون» وإعادة سلطانهم — ولو إلى زمن قصير — في كل البلاد وجمع شملها. وكان يكفيهم للحصول على ذلك أن يستولوا على رياسة الكهانة في «طيبة» بتعيين فرد من أسرتهم، وهذا هو نفس ما كان يحدث أحيانًا، عندما يخلو كرسي رياسة الكهنة، ولكن ذلك كان لا يمكث إلا فترة قصيرة. وقد كان ملوك «تانيس» يتخلون عن كرسي الكهانة بعد زمن قصير مفضلين أن يُملأ بأحد أعضاء أسرة «حريحور»، الذين كان لهم حق وراثته.

والظاهر أن العادات والشعائر الدينية قد جعلت من الضروري وجود وظيفة الملك والكاهن معًا جنبًا لجنب. ويحتوى الكتاب الأول من مؤلف «ديدور» على صورة عن حياة الملوك (Didoros I, 70, 71) وهي بالإضافة إلى المعلومات التي جاءت في كتاب «هكاته الأبدري» الذي فُقد، والأسطورة التاريخية التي كتبها الأخير في هذا الصدد، وقد بقيت لنا، يظهر أنها قد أُلفت من معلومات أخذت عن مصادر طيبية. وإذا قرنت ما جاء فيها بالنقوش التي على الآثار وشعائر الأحفال الخاصة «بآمون»، دلت على أن الوصف المثالي الذي جاء في هذا المؤلف الخاص بحياة الملوك هو تكرار الخصائص الهامة بحياة الكهنة العظام الطيبيين والنوبيين. وعلى ذلك فإن معظم التفاصيل الدقيقة التي نجدها هناك تنطبق على الكهنة العظام لا على الفراعنة بالمعنى الحقيقي.
fig20
شكل ١: لوحة الكاهن الأكبر «بيعنخي» (من العرابة المدفونة).

والواقع أن واجبات الكهنة العظام قد أصبحت معقدة جدًّا في عهد سيادة «طيبة»، وقد كانت التفاصيل الدقيقة التي لا بد من مراعاتها عند أدائها تشغل كل حياة الأشخاص الذين وهبوا حياتهم لإنجازها والقيام بأدائها. فقد كان عليهم أن يؤدوا شعائر يومية عديدة موزعة على ساعات النهار والليل المختلفة بطريقة لا تترك مجالًا للقيام بأي عمل آخر جديد دون أن يُغير على الوقت المخصص لراحة الجسم وحاجياته. فقد كان الكاهن الأكبر يستيقظ كل صباح في ساعة معينة، وكانت له أوقات خاصة لتناول طعامه ورياضته، وللمقابلات، ولإقامة العدل، ولمباشرة الأمور الدنيوية، وللراحة مع زوجاته وأولاده. وفي أثناء الليل كان يظل مستيقظًا أو يقوم في فترات؛ ليحضر الأحفال المختلفة التي كانت لا تؤدَّى إلا عند شروق الشمس. فقد كان مكلفًا بملاحظة كهنة «آمون» في الأعياد التي يخطئها العدُّ، وهي التي كانت تقام للآلهة، وكان لزامًا عليه أن يحضرها إلا إذا كان ثمة عذر شرعي قهري. ومن كل ذلك يتضح أنه كان من المستحيل على ملك غير ديني مثل ملك «تانيس» أن يخضع لمثل هذه القيود إلا إلى حد معلوم. ولا غرابة إذا نفد صبره أحيانًا، كما أن عدم التمرُّن كان يؤدِّي إلى ارتكاب أخطاء أو ترك أشياء؛ مما يجعل الشعائر تفقد قيمتها. ولا شك في أن الأمور الدنيوية الخاصة بملكه — وبخاصة الإدارة الداخلية، والعدالة، والمالية، والتجارة، وشئون الحرب — كانت كلها تتطلب منه وقتًا كبيرًا حتى إنه كان يضطر — بأسرع ما يمكن — إلى أن يجد لنفسه نائبًا يؤدي واجباته الدينية. ومن ثم نرى أن مقتضيات الأحوال حتمت بقاء الكهنة العظام الطيبيين بجانب ملوكهم فراعنة «تانيس».

والواقع أنهم كانوا مناهضين خطرين بما لديهم من ثروة وإقطاعات، وبسلطانهم الشاسع الذي كانوا يتمتعون به في مصر وبلاد النوبة، وفي كل المقاطعات التي كانت ميولها الدينية مع الإله «آمون»؛ ولذلك فإن «سمندس» لم يقف في وجه «حريحور»، عندما استولى على وظيفة الكاهن الأكبر، وأعلن نفسه فرعونًا على البلاد، بل على العكس أظهر له الولاء والودَّ.

وتدل شواهد الأحوال على أن هذا النزول كان شخصيًّا «لحريحور»؛ إذ نرى أن ابنه «بيعنخي» لم يرث الملك، بل اكتفى بلقب «الكاهن الأكبر». وليس لدينا من آثاره غير ما ذكرنا من قبل إلا لوحة عُثر عليها في العرابة المدفونة١ (انظر الشكل ١). وقد لقب فيها: حامل المروحة، والكاتب، والقائد، وأمير «كوش»، ورئيس الأراضي الجنوبية، والكاهن الأكبر «لآمون»، ورئيس الغلال، ورئيس الرماة. وقد مثل «بيعنخي» على هذه اللوحة جالسًا على كرسيه وفي يده زهرة يشمها، وعلى رأسه أخرى، وقد وضع أمامه مائدة عليها قربان وأزهار. وأمام وجهه نُقشت ألقابه السالفة الذكر. وفي الجزء المستدير من اللوحة رسم قارب الشمس، ونصب في وسطه محراب فيه صورة إله الشمس.
وقد جاء ذكره في معبد «خنسو» بوصفه رئيس كهنة «آمون» ملك الآلهة.٢ وذكر في معبد «الأقصر» في ردهة التماثيل بوصفه الكاهن الأول «لآمون» ملك الآلهة، ومبعوث الأرضين، والمقدم «بيعنخي».٣

والظاهر أنه لم يمارس وظائفه الدينية التي منحها إياه والده إلا مدة قصيرة، والآثار التي وصلت إلينا من عهده قليلة جدًّا. على أننا نجد اسمه بوجه خاص على آثار ابنه الأكبر الكاهن الأكبر «بينوزم» الذي أصبح ملكًا فيما بعد، وهو لا يحمل في هذه كذلك إلا لقب «الكاهن الأكبر».

ولم نجد له آثارًا قام بإنشائها في معبد «خنسو» أو غيره، ولم يذكر إلا بوصفه والد «بينوزم» الكاهن الأكبر والملك.

وقد وجد اسمه على كفن «رعمسيس الثالث» مما يدل على أنه قد أصلحه.٤
ووجد اسمه على تمثال من البازلت في خبيئة «الكرنك» باسم «بينوزم» ابن «بيعنخي».٥
الورقة رقم (١٠٤١٧) بالمتحف البريطاني (وهي خاصة بالوحي): (راجع J. E. A. Vol. 12 p. 184 ff). ولدينا ورقة من عصر هذا الكاهن الأكبر ذُكر فيها بوصفه قائدًا. وقد كتبت في صورة خطاب جاء فيه: كاتب الجبانة العظيم الفاخر «تحتمس» (يكتب) إلى الكاهن الملك (المؤله) «أمنحتب» — له الحياة والفلاح والصحة «أمنحتب» — في حياة وفلاح وصحة! إني أقول «لآمون رع-حوراختي» عندما يشرق، وعندما يغيب، و«لآمون نست-تاوي»، وإلى «أمنحتب» له الحياة والفلاح والصحة. وإلى «نفرتاري» لها الحياة والفلاح والصحة، وإلى «آمون خنم حح» وتاسوعه، ليمنحوك الحياة والفلاح والصحة، وشيخوخة عظيمة وخطوات عديدة جدًّا في حضرة «آمون رع» ملك الآلهة، وفي حضرة القائد سيدك، ويعيدك «آمون نست-تاوي» بسلام، وأن نضمك إلى حضننا كل يوم.

وبعد: إني أفهم كل الأمور التي كتبت لي عنها، أما قولك: اعتن بالكاتب «بوتهاي آمون» ومغنية «آمون» ملك الآلهة «شد متي» والصبية، هكذا تقول أنت فإن كل شيء طيب من جهتهم، وإنهم أحياء اليوم، أما الغد ففي يد الله، وإنك أنت الذي تشتاق إلى رؤيته، وإني أقول «لآمون رع» ملك الآلهة: ليته يمنحك حظوة في حضرة القائد سيدك، وأن يرجعك «آمون» سالمًا، وأن أضمك سالمًا في حضني.

تأمل … «آمون نست-تاوي» ينجيك، وإنك خادمه، وإني أضعك أمام «أمنحتب» له الحياة والفلاح والصحة عند كل احتفال به. وإني سأحميك وإني سأرجعك سالمًا، وستملأ عينك بالردهة (أي المعبد الذي فيه «أمنحتب»). هكذا تكلم (أي الإله) وقد أرسلت إليك لأعلمك. أرجو أن تكون صحتك طيبة، ولا تقطع أخبارك عني بأحوالك بوساطة أي شخص يكون آتيًا إلى الجنوب حتى يصير قلبنا (مطمئنًّا) (؟).

حاشية لكاتب الجبانة «ثارري»: «لا تنشغل على «بنت حمشري» فهي في صحة، ولم يصبها أي ضرر.»

وهذا الخطاب على ما يظهر هو أحد عدة خطابات من عهد الأسرة الواحدة والعشرين، ولا بد أنها وجدت كلها معًا ضمن لقية واحدة.

وهذه الخطابات مبعثرة في متاحف أوروبا، وقد قام الأستاذ «سبيجلبرج» بنشر عدد منها في كتاب خاص سماه «مراسلات خاصة بزمن الكهنة الملوك»٦ وتشمل أربعة خطابات كتبها الكاتب «تحتمس» الذي نحن بصدده الآن. وقد جاء في هذه الخطابات وغيرها من التي في هذه المجموعة ذكر أسماء الأشخاص الذين جاءوا في هذه الخطابات. إلا اسم الكاهن «أمنحتب» الذي وجه إليه الخطاب، والذي كان في الدلتا وقتئذ، كما هو مشار إليه في السطر ٦ و٧، أو كان على الحدود الشمالية الشرقية لمصر. ومن المحتمل أنه كان على سفر من «طيبة» لعمل خاص بممتلكات المعبد، أو كان في حملة حربية يحمل رمزًا مقدَّسًا، ويحتمل أن يكون ذلك تمثالًا صغيرًا للإله «أمنحتب». وذكر كلمة قائد تجعل هذا الرأي الأخير محتملًا.

والقائد الذي ذكر في السطرين ٦، ٧ هو الأمير «بيعنخي» بن الملك «حريحور»، وهذا الخطاب له أهمية من حيث الوحي، وبخاصة العبارة التالية: «إني أضعك أمام «أمنحتب» عند كل احتفال له، وإني سأحميك، وإني سأرجعك سالمًا، وإنك ستملأ عينك بالردهة.» هكذا يقول. وهذه الكلمات لا تعني إلا أنه عندما كان يحمل تمثال عبادة هذا الإله في حفل خلال أعياده أحضر «تحتمس» بطريقة ما صاحبه الغائب إلى ملاحظة الإله، وبخاصة أنه كاهنه، وأن الإله عندئذ كان يجيب على لسان أحد المستخدمين من أتباعه. وقد لاحظنا من قبل أن «أمنحتب» صاحب الردهة هو اسم شكل خاص لهذا الإله. وبدهي أن تمثال العبادة هذا كان يقوم على خدمته صاحب «تحتمس» الذي كان كاهنه.

وإنه لمن المهم أن نعرف الطريقة التي كانت متبعة في تقديم هذا الملتمس للإله، واستعمال كلمة «يضع تحت» توحي بأن «تحتمس» قد وضع شيئًا أمام التمثال بدلًا من أنه خاطب الإله بالكلام. ومن المحتمل أنه كتب شكوى قصيرة تحوي اسم صاحبه على إستراكون، أو على قطعة بردي صغيرة كانت تقدم لهذا الإله بمناسبة وقوفه في محطة خلال الاحتفال بالعيد، ومن الجائز أن هذه كانت عادة متبعة، وأن عددًا كبيرًا من هذه الشكاوى كانت تقدم له معًا في خلال ذلك (راجع عن الوحي A. S. XLII p. 239 ff; & lbid XXXVI p. 187).

أسرة «بيعنخي»

لم نعرف حتى الآن اسم زوج «بيعنخي»، ويعتقد الأستاذ «بتري» أن زوجه هي الملكة «حنت تاوي» التي نعرف آثارها الكثيرة (راجع Petrie, Hist lll, 203–205). غير أن براهينه على ذلك غير مقنعة، كما يقول «جوتييه». (L. R. lll, p. 242 Note 1) الذي يعتقد مثل «مسبرو» أن «حنت تاوي» كانت زوج «بينوزم الأول». ويقول: إنه من الصعب أن كاهنًا أكبر لم يحمل قط الألقاب الملكية يتزوَّج من ملكة.
  • (١)

    وأكبر أولاد «بيعنخي» هو «بينوزم» الذي تولى رياسة الكهانة أولًا ثم عرش الملك فيما بعد.

    والآثار التي تحدثنا عن نسبة «بينوزم» لأبيه كثيرة جدًّا نذكر منها واحدًا بمعبد «الأقصر»: الأمير رئيس الأرضين، الكاهن الأول «لآمون» ملك الآلهة «بينوزم» المرحوم (راجع Daressy Rec. Trav. XIN (1892) p. 32).
  • (٢)
    «حقا-نفر»: ويلقب: ابنه الكاهن الثاني «حقا-نفر» (Daressy Ibid).
  • (٣)
    «حقا-عا»: ويلقب: ابنه الكاهن «ستم» في معبد الملك (lbid).
  • (٤)
    «عنخف (ني) موت»: ويلقب: ابنه مدير الماشية، والمدير العظيم لبيت «آمون»، وكاهن الإلهة «موت» (Ibid).

ولا نعرف «لبيعنخي» إلا ابنة واحدة، وهي ربة البيت، ومغنية «آمون رع» ملك الآلهة.

«فايت عات-ني موت»: وقد وجد اسمها هذا على لفائف الفرعون «رعمسيس الثالث»، كما سنرى بعد (راجع Br. A. R. IV § 641).
١  راجع: Maspero Guide 47, Mariette, Abydos II, 57, L. DIII. p. 247; Petrie Hist. III p. 203.
٢  راجع: L. D. III, 251 a, b, e; Ibid 250 a & c.
٣  راجع: Rec. Trav. XIV (1892) p. 32.
٤  راجع: Momies Royales p. 565, 679.
٥  راجع: Legrain, Cat. Gen. Stat. & Statuettes des Rois et Particuliers, II p. 60 N. 42191.
٦  راجع: Spiegelberg, Correspondence du Temps des roi-pretres.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤